رئيس التحرير:
في هذه الصفحة نناقش قضايا الحريات والديمقراطية باعتبارها جوهر الإنسان الحر، ونرصد التحديات التي تواجه الحقوق السياسية والمدنية، ونحلل واقع الأنظمة بين الشعارات والممارسات، دفاعًا عن الكرامة والاختيار وحق الشعوب في تقرير مصيرها، مع التركيز على الانتهاكات، وتحوّلات الحكم، وأثر الرقابة والتضليل الإعلامي في صناعة الوعي الزائف.
مأساة المعتقلين في العراق: الميليشيات الحاكمة وخرق حقوق الإنسان في زمن أفول الهيمنة الطائفية
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الخميس 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2025
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، ومع تراجع النفوذ الإيراني وسقوط أبرز أذرعه الإقليمية كالنظام السوري وحزب الله والحوثيين، بدأت القوى الطائفية الحاكمة في العراق تشعر بأن هيمنتها التاريخية في طريقها إلى الانحسار. هذا القلق الوجودي جعلها تتشبث بمصادر قوتها غير المشروعة، وفي مقدمتها الميليشيات المسلحة التي تمارس سلطتها خارج إطار الدولة والقانون، وتضرب عرض الحائط بمبادئ حقوق الإنسان، والأعراف القانونية المحلية والدولية.
إن من أخطر مظاهر هذا الانفلات هو ملف المعتقلين والمغيبين قسريًا، حيث تُحتجز الآلاف من الأرواح خلف الجدران المظلمة دون تهم رسمية، ولا محاكمات عادلة، ولا إمكانية للتواصل مع ذويهم أو محاميهم. هؤلاء السجناء هم ضحايا منظومة أمنية تتغذى على منطق الانتقام الطائفي، وتحتمي بغطاء سياسي حزبي، في مخالفة صارخة لكل الأعراف القانونية التي تضمن كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية في العدالة والمساءلة.
ورغم مرور سنوات على تلك الانتهاكات، لم تُتخذ أية خطوات جادة لكشف مصير هؤلاء، أو مراجعة ملفاتهم، أو محاسبة الجناة. فالمعتقلون والمغيبون يعيشون خارج دائرة الزمن، وكأنهم لم يكونوا يومًا مواطنين لهم حقوق دستورية وإنسانية، بل مجرد أرقام غائبة في دفاتر الميليشيات، تُستعمل للمساومة أو التهديد أو كأدوات في معادلات النفوذ الداخلي.
تُظهر تقارير العديد من المنظمات الحقوقية العراقية والدولية أن عمليات الاعتقال التي جرت بعد سنوات الحرب على داعش – وخصوصًا في المناطق ذات الأغلبية السنية – لم تكن تُبنى على قرائن جنائية أو أحكام قضائية، بل جاءت غالبًا وفق نمط عشوائي يُراد منه إذلال المجتمع، وتكريس سياسة العقاب الجماعي. بل أن الكثير من الشهادات تشير إلى وجود سجون سرية تديرها فصائل ميليشياوية خارجة عن سيطرة الحكومة، وتمنع الجهات الرقابية من الدخول إليها.
ومما يزيد من خطورة الوضع، أن السلطات القضائية الرسمية باتت عاجزة أو متواطئة في كثير من الأحيان، بسبب اختراق الأحزاب الطائفية للمؤسسة القضائية، وتحويلها إلى أداة تنفيذية بيد السلطة لا ضامنًا للعدالة. وبذلك أصبح القانون في العراق مجرد غطاء شكلي يخفي تحته دولة عميقة تحكمها الميليشيات والسلاح المنفلت.
إن كل ما يجري يُعد انتهاكًا مباشرًا لعدة مواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقيات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين وقت النزاع، وغيرها من المواثيق التي وقّع عليها العراق كدولة ذات سيادة يفترض بها احترام التزاماتها الدولية.
وبموجب المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، فإن "لكل فرد الحق في الحرية والأمن على شخصه، ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفًا، ولا يجوز حرمانه من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقًا للإجراء المقرر فيه". كما تنص المادة 14 على ضمان حق كل فرد بمحاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مختصة، مستقلة، وحيادية.
لكن الواقع العراقي يشي بانهيار شبه كامل لهذه المبادئ، حيث يُمنع المحامون من زيارة موكّليهم في كثير من الحالات، وتُنتزع الاعترافات تحت التعذيب، وتُستخدم الاعتقالات كسلاح سياسي لإخضاع المعارضين أو خصوم الميليشيات.
وحتى المؤسسات الوطنية مثل "مفوضية حقوق الإنسان العراقية" فقدت الكثير من دورها وتأثيرها، في ظل الضغوط الحزبية والتهديدات المباشرة التي تتلقاها من القوى المسيطرة. أما مجلس النواب، فغالبًا ما يقف عاجزًا أمام قوة الميليشيات، أو يفضّل التواطؤ الصامت حفاظًا على توازنات الحكم الطائفي.
من هنا، فإن واجب المجتمع الدولي بات ملحًا في ممارسة الضغط على الحكومة العراقية لفتح هذا الملف الخطير، وضمان مراجعة حقيقية لجميع حالات الاعتقال والتغييب القسري، وتفكيك السجون السرية، وتقديم الجناة – من أي جهة كانوا – إلى العدالة.
إن صمت المجتمع الدولي، وتقاعس المنظمات الأممية، والاكتفاء بإصدار تقارير دورية بلا نتائج ملموسة، يُسهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، ويحوّل القانون الدولي إلى مجرد حبر على ورق. وهو ما قد يُنتج نموذجًا مكرسًا لدولة تنهش أبناءها باسم "الشرعية" المزيفة.
لقد حان الوقت لتجاوز الإدانة اللفظية، والتحرك الفعلي من خلال:
تشكيل لجان دولية محايدة للتحقيق في ملف المعتقلين والمغيبين.
ربط الدعم الدولي للحكومة العراقية بشروط واضحة تتعلق بإصلاح القضاء وإغلاق السجون السرية.
فرض عقوبات على قادة الميليشيات المتورطين بانتهاكات حقوق الإنسان.
فتح المجال أمام المنظمات الدولية للدخول دون عوائق إلى أماكن الاحتجاز.
أما الداخل العراقي، فهو مدعو بدوره إلى رفع صوته والمطالبة بحقوقه، وإنهاء عهد الصمت والخوف. فالحفاظ على الكرامة لا يتم إلا بمواجهة الظلم، واستعادة القانون المختطَف من بين أنياب السلاح والميليشيا.
في الختام، فإن ما يجري في العراق لا يمكن تصنيفه إلا كجريمة ممنهجة ضد العدالة والحرية، يجب أن تتوقف قبل أن يتحول العراق كله إلى سجنٍ كبير، تحكمه الميليشيات، وتُغيّب فيه العدالة إلى الأبد.