رئيس التحرير:
📚 الصفحة الثقافية – منصة التحليل الإخباري | رؤية خاصة
لأننا نؤمن أن الثقافة ليست ترفًا، بل روح الأمة وعنوان هويتها، استحدثنا الصفحة الثقافية لتكون نافذة ثالثة إلى جوار الخبر والتحليل.
هي مساحة فكرية حرّة تنقل القارئ من صخب السياسة إلى عمق المعنى، ومن الأحداث المتسارعة إلى ثوابت الوجدان.
هنا نكتب عن الإنسان، وعن القيم، وعن اللغة التي تحفظ الفكر، والشريعة التي تصنع الحياة، والفنون التي تُرمّم الروح.
وهم التتريك: كيف حافظت العربية على مكانتها تحت الحكم العثماني؟
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
السبت 20 أيلول/سبتمبر 2025
تُطرح بين الحين والآخر مقولة أن العثمانيين مارسوا سياسة “التتريك” ضد العرب طوال قرون حكمهم. والحقيقة أن هذه المقولة أقرب إلى الأسطورة السياسية منها إلى القراءة التاريخية الرصينة. ولو كان التتريك سياسةً ممنهجة بالفعل، لرأينا أثره اللغوي والثقافي في مجتمعاتنا العربية اليوم، كما نراه بوضوح في المستعمرات الفرنسية أو البريطانية.
الدولة العثمانية لم تكن دولة قومية ضيقة، بل إمبراطورية إسلامية جامعة. حكمت المشرق والمغرب العربي لأربعة قرون عبر نظام “المِلّة”، الذي ترك لكل جماعة دينية وثقافية حق إدارة شؤونها بلغتها وطقوسها. بقي القضاء والتعليم والدين بالعربية، وبقيت العربية لغة الحياة العامة والأدب والفقه. أما التركية العثمانية فكانت لغة الإدارة المركزية في إسطنبول والجيش، لكنها لم تُفرض على المجتمعات العربية.
حتى النخب التي خدمت في الدولة، من قضاة وعلماء ووجهاء، استمرت تكتب بالعربية وتُدرّس بها، ولم تتحول إلى التركية. ولو كان التتريك سياسة رسمية ممتدة، لرأينا العربية قد تراجعت في الشام أو العراق أو الحجاز، لكننا نجدها حاضرة وقوية حتى لحظة الانفصال.
الحقيقة التاريخية أن “التتريك” لم يظهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر مع صعود جمعية الاتحاد والترقي (1908)، حين حاولت أن تعيد تعريف الدولة العثمانية على أساس قومي تركي. لكن ذلك كان في العقدين الأخيرين فقط من عمر الدولة، أي في مرحلة ضعفها وتراجعها، وليس طيلة القرون الأربعة السابقة.
المفارقة أن الاستعمار الأوروبي بعد سقوط العثمانيين ترك بصماته اللغوية الواضحة على بلاد العرب: الفرنسية ما تزال حاضرة بقوة في الجزائر والمغرب وتونس ولبنان، والإنجليزية طاغية في الخليج ومصر والأردن. أما التركية، فلا نجد لها أثرًا في الشارع العربي، سوى كلمات محدودة دخلت المطبخ الشعبي أو الحياة اليومية. وهذا وحده يكفي لإبطال مزاعم “التتريك”.
إن الخطاب القومي العربي في مطلع القرن العشرين ضخّم هذه الفكرة ليبرر مشروع الانفصال عن الدولة العثمانية، مستندًا إلى لحظة متأخرة من حكم حزب سياسي محدود، وليس إلى مسار أربعة قرون كاملة. والحقيقة أن التجربة العثمانية، بما لها وما عليها، لم تسعَ إلى إذابة العرب لغويًا وثقافيًا، بل أبقت العربية في موقعها الطبيعي كلغة قرآن وحضارة وهوية.
رؤية خاصة
إن إحياء مقولة “التتريك” على نحو مبالغ فيه ليس إلا استخدامًا أيديولوجيًا للتاريخ. الواقع يثبت أن العربية صمدت تحت الحكم العثماني، بينما أضعفتها الاستعمارات الأوروبية اللاحقة. والدرس هنا أن حماية الهوية ليست في اتهام الآخر، بل في امتلاك قوة الثقافة واللغة داخل مجتمعاتنا.