رئيس التحرير:
الفكر العلمي والتجديد الثقافي" ليست نافذة تقنية، ولا زاوية نُخبوية…
بل مساحة مفتوحة أمام كل من يرى أن الإنسان لا يُكرَّم إلا إذا فُعّل عقله، وأن الثقافة لا تُثمر إلا إذا تنفّست هواء العلم والتجديد.
مسؤولة تحرير الصفحة: صافي محمد مظهر أحمد.
في عصر يتغيّر كل يوم، لا مكان لنُظم تعليمية جامدة تتجاهل عجلة التطور المتسارعة
صافي محمد مظهر أحمد - كاتبة صحفية
6 تموز/يوليو 2025
يجدر القول بدايةً إنَّ التطوير في العملية التعليمية لا يجب أن يتوقف في مرحلة معينة أو حالٍ مخصوص أو ظرفٍ عابر، فكما نرى جميعًا أن عجلة التطور العلمي والتقني والتكنولوجي تتسارع بشكل مذهل؛ وأي تلكّؤ أو توقف للعملية التربوية والتعليمية عن مواكبة هذا التسارع سيخلق فجوةً بين الدارس من جهة، والمادة المدروسة من جهة أخرى.
الركض خلف المجهول: حين يسبق التطور التعليم..
فعلى سبيل المثال لا الحصر، الكشوفات العلمية تزداد كل يوم؛ وإن لم تُدرج هذه الزيادات في المناهج ستبقي الطلاب والدارسين في مؤخرة الركب، ولن يدركوا مكانهم في سياق هذه الكشوفات أو كيفية الإسهام فيها. سيبقى الطالب دائمًا في موقع المتلقي، يتلقف ما سبقه إليه غيره، ويستمر هذا «الشسع» بالاتساع حتى نجد أن العالم منقسم إلى شقين: دولٌ في المقدمة، أصحاب اختراعات واكتشافات وتنظير وريادة في كل مجال، ودولٌ متأخرة مستهلكة تنتظر ما يُتجاوز عنه لتستهلكه مبهورةً به، بينما يكون قد بات قديمًا متجاوزًا لدى صانعيه.
بين التحديث والهوية: كيف نطوّر المناهج دون أن نفقد أنفسنا؟
تطوير المناهج بطريقة مدروسة وموازاة بالدول المتقدمة ضرورةٌ حتمية، لكن مع ضرورة مراعاة خصوصية المواد المرتبطة بالدين والقيم والأخلاق وعلم الاجتماع، فهي ذات صلة وثيقة بهوية كل منطقة وكل بلد. فالاستيراد الكامل للمناهج دون تكييفٍ ثقافي وفكريّ يُعرّض أبناءنا لخطر التغريب والغزو الأخلاقي في عصرٍ تتهاوى فيه الحواجز الثقافية.
تعليم الحاسوب: من الترف إلى الضرورة..
من الضروري أن يُدرج تدريس الحاسوب كجزءٍ لا يتجزأ من كل مسارٍ تعليمي، فهو لم يعد خيارًا، بل ضرورةٌ حتمية لكل طالب. الحاسوب اليوم بات بديلًا عن الكتاب، إن لم يكن بشكل كلي ففي معظم الأحيان، إذ يُسهّل العمليات التواصلية، والبحثية، والكتابية، والتفاعلية، خصوصًا في حال الأزمات كما شهدنا في فترات الحجر خلال جائحة كورونا. لقد استمر التعليم والعمل عبر الحواسيب حتى بعد زوال الجائحة، حين لمست الجهات المختصة حجم التوفير الناتج عن «العمل من المنزل» والتجربة الرقمية في التعليم.
التربية القانونية المبكرة: تأسيس المواطن لا تأديبه..
أما تدريس القوانين، مثل قوانين المرور وسواها، فهو أمر بالغ النفع؛ إذ ينشأ الفرد على معرفة حقوقه وواجباته وحدود ما له وما عليه. التأسيس القانوني المبكر يُسهم في خلق مصالحة مع المسموح والممنوع، فينشأ الفرد متفهمًا لها لا مستثقلًا إياها، ولا متجاوزًا لها جهلًا.
الفن في قلب المنهج: الجمال تربية لا ترف..
وكذلك الحال بالنسبة لتدريس الموسيقى، والمسرح، والرسم، والتصوير الفوتوغرافي، وغيرها من الفنون المرتبطة بالتربية النفسية والمعنوية والذوقية. أضع خطًّا تحت مفهوم "التربية الذوقية"، فهي التي ترتقي بالمجتمع والمستوى الثقافي العام، وتدرب ذائقة الأفراد على اختيار ما يليق، وما يسمو بالروح، ويهذب أساليب الحياة، انطلاقًا من تراكم معرفي يُبنى في المدرسة، وينعكس أثره في السلوك العام.
اللغة جسرك إلى العالم: لا عزلة بعد اليوم..
وإلى جانب علوم الحاسوب واستخداماته، فإنّ الاهتمام باللغات الأخرى وجعلها مواد أساسية ذات حضور فعّال في الخطة التعليمية أمر لا غنى عنه. فاللغات باتت ضرورةً عصريةً للتبادل العلمي والثقافي، والانغلاق اللغوي هو انغلاقٌ فكري وانقطاع عن التبادل المعرفي العالمي. تعلم لغات الشعوب هو، بحد ذاته، مشاركة في علومها وثقافاتها.
مناهج تخدم السلطة أم الطالب؟ سؤال يستحق الجرأة
ولا بد من القول إن التأخر في تطوير المناهج والعملية التعليمية لا ينعكس على الطالب فقط، بل يتعداه إلى جميع مناحي الحياة: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. إنَّ القعود عن مواكبة التطور العلمي والتربوي ينتج عنه تأخرٌ في الإنتاج الفكري، والإبداعي، والعملي.
وما يزيد الطين بلّة، أن بعض المناهج العربية مصممة لا لصالح الطالب أو العلم، بل لصالح حكومات بعينها، تسعى لتكريس فكرها، وضمان بقائها، وبث خطابها في أذهان الطلاب منذ الطفولة. فترى في المناهج تضليلًا في الحقائق التاريخية، ورسمًا لصورٍ مثالية للأنظمة القائمة، تُثبّت في وجدان الطالب، ليهتف لاحقًا بشعارات تقدّس تلك الأنظمة، وتغيب تمامًا أدوات التفكير النقدي، والتحليل، وبناء الشخصية المستقلة.
من الفصول إلى المستقبل: كيف نصنع تعليمًا يصمد أمام الزمن
ومما يُوصى به أيضًا: العناية بفنون الكتابة، والخط العربي، والآداب، عبر ورشات تفاعلية ولقاءات مع رموز هذه الفنون. مثل هذه المبادرات تُعيد إحياء روح الإبداع لدى الطلاب، وتفتح نوافذ لاكتشاف المواهب، وتمهّد السبيل لصناعة مبدعين قادرين على رفد الإنسانية بالجمال، والابتكار، والرقي.
كل ذلك يحتاج إلى خطة مدروسة واتساق بين المواد المطروحة في كل مرحلة تعليمية، بحيث تكون جميعها على مستوى واحد من حيث القيمة، والمحتوى، وأسلوب الطرح، وخطة التعليم، وآليات التفاعل. فلا تفاوت بين مادة وأخرى، ولا تضارب، ولا شرخ.
المعلم المتجدد: مفتاح نجاح كل خطة تعليمية..
وقبل كل شيء، لا بد من تقديم التدريب المتواصل للكوادر التعليمية، على أساليب التدريس الحديثة، ومواكبة المستجدات في عالم التعليم، ليكون بيدهم مفتاح التطبيق الحقيقي لأي خطة، وبما يتناسب مع عقلية طالب اليوم، وخصائص مرحلته، وتغيرات شخصيته، وعصرنة لغة الحوار والتعامل والتعاطي مع هذا الجيل .
وأخيرا يمكن القول إن: إصلاح التعليم يبدأ من العقل الواعي فالمنهج فالطلاب، وينتقل من خلالهم إلى المجتمع كله؛ فإما أن نكون منتجين للمعرفة... أو نكتفي بالاستهلاك الأبدي لها.