رئيس التحرير:
في هذه الصفحة، نُسلّط الضوء على الوجه الآخر للعالم: حيث يُكشَف الستار عن الانتهاكات، ويُستنطق الصمت الطويل أمام الألم البشري. هنا تُروى قصص القمع والسجون والتعذيب والتجويع والإخفاء القسري، ليس كأحداث منعزلة، بل كدلائل على فشل منظومة الحماية الدولية، أو على صراعات الإرادات بين القانون والسلطة.
إهمال الأزمات الإنسانية في أفريقيا: انتهاك مستمر لحقوق الإنسان
الثلاثاء 3 يونيو 2025
تشهد القارة الأفريقية منذ سنوات أزمات إنسانية متعددة الأوجه، من حروب أهلية ونزاعات عرقية إلى تأثيرات كارثية لتغير المناخ، مما يهدد حقوق الملايين من السكان في الأمن الغذائي، والحياة الآمنة، والحصول على المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، تبرز ظاهرة إهمال هذه الأزمات من قبل المجتمع الدولي والمانحين الدوليين، ما يعمّق معاناة شعوب القارة، ويطرح تساؤلات جدية حول التزام العالم بمبادئ حقوق الإنسان الأساسية.
حسب تقرير المجلس النرويجي للاجئين لعام 2024، تصدّرت عدة دول أفريقية قائمة الأزمات الإنسانية الأكثر تهميشًا، منها الكاميرون، إثيوبيا، موزمبيق، بوركينا فاسو، ومالي. تعاني هذه الدول من نزاعات مسلحة مستمرة ونزوح داخلي وخارجي هائل، حيث يعاني الملايين من انعدام الأمن الغذائي، وفقدان المأوى، وغياب الخدمات الأساسية. إلا أن الاستجابة الدولية تبقى متواضعة بسبب عوامل عدة، منها "إرهاق المانحين" وتراجع الدعم المالي، خاصة بعد تقليص الولايات المتحدة التمويلات التنموية والإنسانية بشكل كبير، بالإضافة إلى ضعف التغطية الإعلامية لهذه الأزمات، مما يجعلها غير ذات أولوية في أجندات المانحين والسياسات الدولية.
هذه التهميش المتعمد يحمل أبعادًا واضحة على صعيد حقوق الإنسان. فالحق في الحياة، والحصول على الغذاء، والرعاية الصحية، والتعليم، والحماية من العنف تعتبر حقوقًا أساسية مكفولة دوليًا، لكن انعدام التمويل وتراجع المساعدات الإنسانية يعني أن ملايين البشر يُتركون عرضة للموت جوعًا، وللأمراض، والشتات، دون قدرة على تأمين حاجاتهم الأساسية. وهو انتهاك صارخ لهذه الحقوق، وتعميق لمعاناة الفئات الأشد ضعفًا، مثل النساء والأطفال واللاجئين والنازحين.
وفي الكاميرون، على سبيل المثال، الحرب الأهلية المستمرة منذ 2017 بين الحكومة والفصائل الانفصالية في الشمال الغربي والجنوب الغربي أدت إلى مقتل المئات، ونزوح أكثر من مليون نازح داخلي، مع وجود نصف مليون لاجئ في دول مجاورة. ورغم هذه الأزمة الإنسانية الحادة، فإن التمويل المخصص للمساعدات بلغ أقل من نصف ما هو مطلوب، ولا تلقى الكاميرون الاهتمام الإعلامي الكافي مقارنة بأزمات أخرى مثل أوكرانيا. هذا التباين في التغطية والتضامن الدولي يطرح سؤالًا عن معايير العدالة والمساواة في الاستجابة للأزمات الإنسانية.
أما في إثيوبيا، فقد أدت الحرب في منطقة تيغراي وتفاقم النزاعات العرقية في مناطق أوروميا وأمهرة إلى نزوح نحو 10 ملايين شخص داخل البلاد، مع تسجيل انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل والتشريد والعنف ضد المدنيين. مجددًا، النقص في التمويل الدولي وصعوبة الوصول إلى المناطق المتضررة تعيق تقديم الدعم اللازم، ما يزيد من معاناة السكان ويُعرّضهم لأخطار جسيمة.
موزمبيق وبوركينا فاسو ومالي مثال آخر على الأزمات الإنسانية التي يغلب عليها العنف المسلح والتطرف، حيث يستمر النازحون والمشردون في العيش في ظروف صعبة وسط تراجع الدعم الدولي. فضلاً عن ذلك، تؤثر الكوارث الطبيعية مثل إعصار تشيدو في موزمبيق على قدرة المجتمعات على الصمود، مما يتطلب استجابات إنسانية عاجلة ومستمرة.
إن تقليص التمويل الخارجي، الذي شهدته السنوات الأخيرة وخاصة مع سياسات تخفيض المساعدات الخارجية الأميركية والأوروبية، يضعف قدرة المنظمات الإنسانية على العمل الفعّال، ويعني ترك ملايين البشر في أتون أزمات متفاقمة. ويعكس هذا الموقف تجاه الأزمات في أفريقيا قصورًا واضحًا في الالتزام الدولي بميثاق حقوق الإنسان، الذي ينص على مسؤولية المجتمع الدولي في حماية حقوق الشعوب في أوقات الأزمات والنزاعات.
في هذا السياق، يقع على عاتق الاتحاد الأفريقي مسؤولية تاريخية ووطنية في قيادة جهود الحل السياسي للأزمات، والعمل على تحسين ظروف النازحين واللاجئين، وتعزيز التنسيق مع المجتمع الدولي لتوفير الدعم اللازم. كما أن تقليل العقبات الإدارية التي تعرقل عمل المنظمات الإنسانية وتحسين آليات التمويل والتوزيع يمكن أن يخفف من حدة الأزمة.
كما يجب أن يرتكز الاهتمام الدولي على العدالة الإنسانية، بعيدًا عن المصالح الجيوسياسية والاعتبارات الاقتصادية، لتوفير دعم متساوٍ وعادل لجميع الدول والشعوب التي تواجه أزمات إنسانية، خصوصًا في أفريقيا التي تعاني إهمالًا واضحًا.
ختامًا، لا يمكن فصل حقوق الإنسان عن الأزمات الإنسانية المتفاقمة في أفريقيا، فالتجاهل الدولي لهذه الأزمات يكرّس معاناة الملايين، وينتهك أبسط حقوق الإنسان في الحياة والكرامة. ويتطلب الأمر تحركًا جادًا وفاعلًا من المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي معًا، لضمان وصول المساعدات الإنسانية وتحقيق الحلول السياسية المستدامة، وحماية حقوق الإنسان الأساسية التي هي جوهر السلام والاستقرار والتنمية.
التجويع كسلاح حرب: الإبادة الصامتة ومأزق الضمير الدولي
الأربعاء 7 أيار – مايو 2025
حين تقرر الأمم قتل شعب ببطء، لا ترسل طائراتها ولا تُطلق صواريخها، بل تغلق الأبواب في وجه الخبز والماء والدواء. هكذا يبدأ الموت الجماعي الصامت، حيث تتجمد الحياة في عيون الأطفال وتختفي الألوان من وجوه الأمهات. في غزة، كما في سراييفو، تيغراي، واليمن، يبدو أن التجويع ليس مجرد سلاح حرب، بل هو فلسفة قديمة لإخضاع الشعوب، تُمارس بصمت يُخيف أكثر من القنابل.
ليس هناك أسوأ من أن تُمزق جسد إنسان، إلا أن تتركه يذبل ببطء، يموت ألف مرة وهو ينتظر كسرة خبز أو رشفة ماء. حين أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى قطاع غزة "منطقة مجاعة"، لم يكن يصف حالة طارئة، بل كان يوثّق جريمة تُرتكب على مرأى ومسمع العالم.
فما الذي يجعل التجويع أكثر فتكًا من الرصاص؟ ولماذا يصبح الصمت الدولي جريمة شريكة في المذبحة؟
التجويع… فلسفة القهر القديمة
استخدمت الجيوش القديمة سياسة التجويع لكسر شوكة خصومها.
في القرون الوسطى، كان الحصار وسيلة لإخضاع المدن الرافضة، حيث تُقطع إمدادات الغذاء والماء، وتُمنع القوافل التجارية من الوصول، حتى يستسلم السكان أو يموتون جوعًا.
كان نابليون بونابرت يُطبق هذه الاستراتيجية بصرامة في معاركه، كما فعل في حصار مدينة سرقسطة الإسبانية عام 1808، حيث مات الآلاف من المدنيين جوعًا قبل سقوط المدينة.
وفي الحرب العالمية الثانية، حاصر النازيون مدينة لينينغراد (سانت بطرسبورغ اليوم) لمدة 872 يومًا، مما أدى إلى موت أكثر من مليون شخص جوعًا وبردًا.
اليوم، تُمارس نفس الفلسفة في غزة، لكن بأدوات أكثر تعقيدًا وأمام شاشات تنقل المأساة مباشرة للعالم.
القانون الدولي… بين النص والواقع
رغم كل هذه الفظائع التاريخية، لا تزال المعاهدات الدولية عاجزة عن منع هذه الجرائم بشكل فعّال.
اتفاقيات جنيف، التي تُعتبر أحد أهم الأسس القانونية للنظام الدولي الإنساني، تنص بوضوح على حظر استخدام التجويع كسلاح حرب.
تنص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على أنه "يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب حرب، ويُحظر أيضًا تدمير المواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين".
لكن، ما الفائدة من النصوص إذا كانت تُترك على رفوف الأمم المتحدة دون تطبيق؟
من سراييفو إلى غزة… الصمت يقتل
حين حاصرت القوات الصربية سراييفو في تسعينيات القرن الماضي، مات أكثر من 11,000 شخص جوعًا وقنصًا، في ظل صمت دولي مشين.
في اليمن، تُوفي الآلاف بسبب نقص الغذاء والدواء، وتحول الأطفال إلى هياكل عظمية بسبب سوء التغذية.
وفي تيغراي، وُثّقت جرائم تجويع ممنهج، حيث يُحرم السكان من المساعدات الإنسانية ويُمنعون من الزراعة أو الوصول إلى الأسواق.
لكن غزة، التي تُعاقب منذ أكثر من 20 شهرًا بحصار مشدد، تبدو وكأنها أصبحت "مختبرًا" لاختبار حدود الصمت الدولي.
التجويع كسلاح تطهير عرقي
حين يُستخدم التجويع كجزء من حملة أوسع لترحيل السكان قسرًا أو تغيير التركيبة السكانية، فإن الجريمة تصبح أكثر تعقيدًا.
اليوم، يحذر خبراء الأمم المتحدة من أن سياسة التجويع التي تُمارس ضد الفلسطينيين في غزة تُشكل جريمة تطهير عرقي، وليس مجرد انتهاك للقانون الدولي.
فالتجويع ليس فقط حرمانًا من الطعام، بل هو محاولة لمحو هوية شعب، ودفعه للرحيل أو الموت بصمت.
إنها سياسة تسعى لتغيير الخريطة البشرية، تمامًا كما فعلت القوات الصربية في البوسنة وكما تفعل الميليشيات في إثيوبيا اليوم.
مستقبل غزة… جوع أم انتفاضة؟
لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح الآن: إلى متى سيصمد الفلسطينيون؟
هل يصبح الجوع سلاحًا مزدوجًا يُحرر الإرادة بدلًا من أن يُخضعها؟
هل يُدرك العالم أن ترك غزة تموت جوعًا يعني فتح الباب أمام انتفاضة جديدة، أو ربما انفجار أكبر يُعيد خلط الأوراق في الشرق الأوسط؟
الخاتمة: إرادة الحياة في مواجهة الموت البطيء
مهما كانت أدوات القمع متقدمة، ومهما كانت الحصارات مُحكمة، تبقى إرادة الحياة أقوى من كل آلات الموت.
الفلسطينيون في غزة يواجهون اليوم جريمة حرب بكل المقاييس، لكنهم يُثبتون يومًا بعد يوم أن الجوع لا يكسر الإرادة، وأن الضمير الإنساني قد يستيقظ يومًا، وإن كان بعد فوات الأوان.