رئيس التحرير:
استراتيجيات السيطرة والردع: نافذة تُحلل الأدوات التي تستخدمها الدول الكبرى والفاعلون الدوليون للسيطرة على الساحات الحيوية عبر الردع، أو الحرب النفسية، أو التحكم بالموارد، أو الشرعية القانونية والدبلوماسية.
تشمل هذه النافذة:
القوة الناعمة والذكية
أدوات العقوبات، المقاطعات، التشريعات الدولية
الإعلام كأداة للهيمنة
الاقتصاد كسلاح (التحكم بالدولار، المنظمات المالية...)
الردع المتدرج (عقوبات، تهديد، تدخل جزئي، غزو)
خان يونس وميزان القوى المتغير: كيف تُعيد غزة رسم معادلة الحرب والمفاوضات؟
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الاثنين 28 يوليو/تموز 2025
في لحظة فارقة من حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تتكثف مؤشرات التحول الميداني والسياسي في آن واحد. خان يونس، المدينة التي تحولت إلى بؤرة الاشتباك الأشد، تقدم نموذجًا حيًا لكيفية قدرة المقاومة الفلسطينية على قلب موازين القوة رغم الفارق الهائل في الإمكانات. العمليات الأخيرة التي نفذتها كتائب القسام، باستهداف ناقلات جند إسرائيلية بعبوات وقذائف في منطقة عبسان الكبيرة، لم تكن مجرد رد فعل تكتيكي، بل تجسيد لنهج استراتيجي يقوم على استثمار ثغرات الخصم وتحويل نقاط ضعفه إلى أوراق تفاوضية.
تُظهر الكمائن الأخيرة أن المقاومة لا تزال تحتفظ بقوة قتالية فاعلة بعد تسعة أشهر من القصف المتواصل والعمليات البرية الإسرائيلية. هذا الثبات يتناقض جذريًا مع التصورات الإسرائيلية التي روّجت منذ بداية الحرب عن انهيار بنية المقاومة وانتهاء قدراتها. فبدلاً من الانهيار، برزت مرونة عالية في التكيف الميداني، وظهرت تكتيكات مباغتة مثل تنفيذ عمليات خلف خطوط التوغل باستخدام مقاتلين أفراد أو خلايا صغيرة تتحرك بدقة في بيئة مأهولة ومعقدة. هذه القدرة على التسلل إلى النقاط التي تعتبرها إسرائيل "آمنة" تعكس فشلًا بنيويًا في عقيدة "التخطي" التي تتبناها القيادة العسكرية الإسرائيلية منذ بداية الحرب.
التحول الميداني لا ينفصل عن السياق السياسي. مفاوضات الدوحة غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، برعاية أميركية وقطرية ومصرية، دخلت مرحلة دقيقة. واشنطن تتحدث عن "تقدم ملموس"، فيما تصر حماس على ربط أي اتفاق بوقف شامل للعدوان وانسحاب كامل من القطاع، بينما تحاول إسرائيل استخدام مقترح الهدنة المؤقتة لمدة ستين يومًا لإعادة التموضع عسكريًا وربح الوقت سياسيًا. هذا التباين في الأهداف يجعل أي تقدم هشًا وقابلًا للانهيار عند أول اختبار ميداني، خاصة إذا استمرت المقاومة في عملياتها النوعية التي ترفع كلفة الاحتلال وتُحبط روايته عن الحسم.
من زاوية أعمق، تكشف العمليات الأخيرة عن تصدع داخلي متنامٍ في إسرائيل. تصريحات وزراء اليمين المتطرف مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الرافضة لأي تفاوض أو صفقة تبادل، تضع حكومة نتنياهو في مأزق مزدوج: ضغط عائلات الأسرى الإسرائيليين التي تريد صفقة شاملة، مقابل تهديد حلفائه في الائتلاف الذين يلوحون بإسقاط الحكومة إذا مضى نحو تسوية تُبقي حماس قائمة. هذا الانقسام الداخلي يضعف الموقف التفاوضي الإسرائيلي، ويمنح المقاومة فسحة للمناورة عبر استثمار الخلافات داخل معسكر العدو نفسه.
الجانب الإنساني يضيف طبقة أخرى من الضغط. مع كل مجزرة جديدة –مثل مجزرة دير البلح الأخيرة التي استهدفت بوابة مركز طبي وأسفرت عن خمسة عشر شهيدًا– تتعمق الفجوة الأخلاقية بين الخطاب الإسرائيلي حول "محاربة الإرهاب" والواقع المتمثل في قتل المدنيين وتجويع الأطفال. هذه الفجوة لم تعد قضية أخلاقية فحسب، بل باتت ورقة سياسية تستخدمها حماس لتعزيز روايتها في المحافل الدولية، ولحشد الرأي العام العالمي الذي بات أكثر انتقادًا لإسرائيل من أي وقت مضى منذ بداية الحرب.
إقليمياً، تراقب دول مثل مصر وقطر وتركيا التطورات عن كثب، مدركة أن أي اختراق سياسي في غزة ستكون له انعكاسات مباشرة على ملفات أخرى، من معبر رفح إلى التوازنات في البحر الأحمر وشرق المتوسط. أما إيران، التي تواجه بدورها ضغوطًا متزايدة بعد استهداف منشآتها النووية في نطنز وأصفهان، فتسعى لاستثمار الصمود الغزّي لتعزيز خطابها الإقليمي المناهض لإسرائيل، دون الانخراط المباشر الذي قد يجرها إلى مواجهة مفتوحة.
دوليًا، لا يمكن تجاهل الدور الأميركي الذي يبدو في هذه المرحلة أكثر براغماتية من أي وقت مضى. إدارة دونالد ترامب الثانية تتعامل مع الملف الغزّي من زاوية إعادة ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط: تأمين إسرائيل، منع توسع النفوذ الإيراني، وتحييد الساحات المشتعلة قبل الانتخابات الأميركية المقبلة. هذا المزيج من الأهداف يجعل واشنطن حريصة على إنجاز اتفاق يُسوّق كنجاح سياسي داخلي، حتى لو كان مؤقتًا أو هشًا.
السيناريوهات المحتملة تظل مفتوحة. استمرار العمليات النوعية للمقاومة سيزيد من الضغوط على نتنياهو، وقد يدفعه إما إلى قبول هدنة بشروط أقرب لمطالب حماس أو إلى تصعيد أشد يهدف إلى تحسين شروط التفاوض. في المقابل، نجاح المفاوضات قد يفضي إلى هدنة هشة تُختبر بسرعة إذا لم تُرفق بضمانات دولية قوية. وفي كلا الحالتين، يبقى العامل الحاسم هو قدرة المقاومة على الصمود ميدانيًا وقدرة إسرائيل على تحمل كلفة الحرب سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
في النهاية، ما يجري في خان يونس ليس مجرد معركة على قطعة أرض، بل معركة على معنى القوة نفسها في الشرق الأوسط الجديد. إسرائيل التي لطالما اعتمدت على تفوقها العسكري تجد نفسها اليوم أمام خصم يحارب بعقيدة الصمود لا بعقيدة التفوق. والولايات المتحدة التي راهنت على تسويات سريعة تدرك أن الميدان يفرض إيقاعه على السياسة، لا العكس. أما غزة، فقد صارت رمزًا لإرادة شعب يرفض الانكسار مهما طال الحصار وتعددت المجازر.
تصعيد فوق دمشق: استراتيجية إسرائيل الجديدة بين حماية الدروز وإعادة ترسيم النفوذ
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الثلاثاء 16 تموز/يوليو 2025
يشكل التصعيد الإسرائيلي الأخير على العاصمة السورية دمشق تحولًا لافتًا في طبيعة الاشتباك بين الجانبين. فعلى عكس الضربات التقليدية التي كانت تستهدف مواقع عسكرية محدودة أو شحنات يُعتقد أنها إيرانية، جاءت الضربات الجديدة أكثر جرأة، مستهدفة مقار سيادية مثل وزارة الدفاع وهيئة الأركان ومحيط القصر الرئاسي. هذا التطور لا يمكن قراءته فقط في إطار تكتيك الردع المعتاد، بل يعكس انتقالًا نحو سياسة تدخل مفتوح، يحمل في طياته إشارات استراتيجية متعددة.
توقيت الغارات تزامن مع تحركات الجيش السوري في محافظة السويداء جنوب البلاد، بعد اشتباكات مسلحة دامية بين مجموعات درزية وأخرى عشائرية، وهي تطورات ميدانية قرأتها تل أبيب باعتبارها تهديدًا مباشرًا لمعادلة الاستقرار الهش في الجنوب، والتي استفادت منها إسرائيل لسنوات لضمان "جبهة هادئة". فحين بادرت دمشق إلى إرسال قوات نظامية إلى المحافظة، وتحقيق تهدئة سريعة، بدا واضحًا أن الدولة المركزية تعيد تموضعها، حتى وإن كان بشكل محدود. ومن هنا، جاء الرد الإسرائيلي على شكل ضربات مركزة، مصحوبة ببيانات علنية وتلويح بتوسيع العمليات، وبنقل تعزيزات عسكرية نحو الجولان المحتل، في مؤشر واضح على نوايا فرض واقع جديد.
تبرير إسرائيل للضربات بحماية الدروز في جنوب سوريا يشكل غطاءً إنسانيًا لتدخل عسكري مباشر، ويمثل استخدامًا ناعمًا لورقة الأقليات في إعادة تشكيل موازين القوى المحلية. في العمق، تسعى إسرائيل إلى تحييد الجنوب السوري من النفوذ الرسمي لدمشق، وقطع الطريق أمام أي تقارب بين الدولة ومكونات المجتمع المحلي، وهو تكتيك يشبه إلى حد بعيد استراتيجية "المناطق الآمنة" التي روجت لها قوى خارجية في مناطق أخرى من سوريا. لذلك، لا يمكن اعتبار الغارات مجرد رد فعل، بل هي جزء من محاولة إسرائيلية أوسع لرسم خطوط فصل أمنية جديدة، تمتد من الجولان إلى ريف دمشق، وتعيد تعريف حدود الردع والسيطرة.
من جهة أخرى، تُعد هذه الضربات أيضًا رسالة واضحة إلى إيران، بأن الوجود العسكري أو النفوذ السياسي في سوريا لم يعد محميًا، لا بغطاء روسي ولا باتفاقات خفية. وبالنظر إلى الانكفاء الروسي النسبي بفعل الحرب في أوكرانيا، والانشغال الأميركي بملفات دولية معقدة، فإن إسرائيل وجدت في هذا الفراغ فرصة مثالية لتوسيع نطاق عملياتها، دون القلق من ردود أفعال دولية حادة. ويُرجّح أن الضربات جاءت بعد تنسيق واسع مع واشنطن، التي تسعى بدورها لإضعاف كل من دمشق وطهران، دون انخراط مباشر.
في مقابل ذلك، يبدو أن خيارات دمشق محدودة في الوقت الحالي. فمن غير المرجّح أن تقدم على رد عسكري مباشر، بالنظر إلى التفاوت الكبير في موازين القوة الجوية، وتعقيد المشهد الإقليمي. لكن هذا لا يعني أن الدولة السورية عاجزة عن الرد، بل يُتوقع أن تسلك مسارات غير مباشرة، عبر التحرك السياسي والدبلوماسي، أو تفعيل أدوات الضغط عبر الحلفاء في الجنوب السوري، وربما السماح بتحرك مجموعات مقاومة محلية خارج الإطار الرسمي.
المفارقة أن إسرائيل، بقدر ما تسعى لفرض تهدئة عبر القوة، فإنها تُدخل نفسها في معادلة متفجرة. فكلما توسعت ضرباتها على الجنوب، كلما دفعت المجتمعات المحلية، وخاصة الدروز، إلى إعادة النظر في خياراتهم، وربما تعزيز ارتباطهم بالدولة السورية، خاصة بعد أن رأوا كيف تتحول المطالبات بالحماية إلى غطاء لغارات جوية تقتل المدنيين وتدمر البنية التحتية. ومن هنا، فإن الرهان الإسرائيلي على تفكيك الجنوب عبر التدخل قد ينقلب، على المدى المتوسط، إلى حافز لإعادة لُحمة الدولة والمجتمع.
في المجمل، تشير التطورات إلى أن إسرائيل تتبنى الآن مقاربة جديدة تقوم على الجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة: الضربات الجوية من جهة، وتحريك روافع اجتماعية داخلية من جهة أخرى. لكن نجاح هذا النهج يظل مشروطًا بعدة عوامل، أبرزها الموقف الروسي في الجنوب، وحجم التضامن الإقليمي مع سوريا، وردود الفعل من القوى الداعمة للدولة السورية، مثل إيران. وفي حال فشل المشروع الإسرائيلي في خلق منطقة نفوذ منفصلة في الجنوب، فقد تجد تل أبيب نفسها أمام بيئة مقاومة أوسع مما تتوقع، وأقرب إلى حدودها مما تحتمل.
الموت جوعًا كسلاح: كيف تُوظف إسرائيل المجاعة في غزة ضمن إستراتيجية الانهيار البطيء؟
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
السبت 28 يونيو/حزيران 2025
في الحروب التقليدية، تُستخدم الجيوش لإسقاط الأنظمة، تُسقط القنابل لتدمير البنى التحتية، ويُستهدف السلاح كي يُشلّ الطرف المقابل. أما حين تتحول المجاعة إلى وسيلة للقتل، فإننا نكون أمام هندسة مختلفة للصراع، وأكثر دهاءً من الحرب نفسها. فماذا يعني أن يموت عشرات الأطفال جوعًا في غزة، في القرن الحادي والعشرين، تحت أنظار المجتمع الدولي، في حرب ترفع إسرائيل شعار "حق الدفاع عن النفس"؟ وما الذي تسعى إليه إسرائيل من خلال استخدام الحصار الغذائي كأداة ردع وكسر إرادة؟
منذ استئناف الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023، وحتى اليوم، لم تتوقف إسرائيل عن استخدام القوة العسكرية المفرطة ضد المدنيين. لكن تصعيدًا مختلفًا ظهر خلال الشهور الأخيرة: سياسة التجويع المنهجية التي استهدفت الأطفال والفئات الأضعف، لا عن طريق نقص موارد داخلي، بل بقرار مباشر من الاحتلال عبر إغلاق المعابر ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية. وهو ما يعكس تحولا جوهريا في أدوات السيطرة المستخدمة، من الردع العسكري إلى الإبادة البطيئة.
تدل المعطيات الميدانية الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية على أن 66 طفلًا ماتوا جوعًا حتى الآن، وآلاف آخرين يعانون من سوء تغذية حاد يهدد حياتهم. أكثر من مليون فلسطيني يعانون من انعدام الأمن الغذائي. المشهد ليس فقط رقمًا صادمًا، بل يعكس إستراتيجية عسكرية نفسية تُدرّس في مراكز القرار: إنهاك المقاومة عبر إرهاق البيئة الحاضنة، ودفع المجتمع المدني إلى الانهيار من الداخل.
الفرضية المركزية هنا أن إسرائيل لم تعد تراهن فقط على القضاء على البنية التحتية لحماس أو سرايا القدس، بل تسعى إلى تفكيك التماسك المجتمعي الغزّي. فحين يتجه الجائع إلى لوم المقاومة بدلًا من الاحتلال، تبدأ استراتيجية الانهيار البطيء في تحقيق أهدافها. وهو ما يفسّر استهداف طوابير المنتظرين للمساعدات كما حدث مؤخرًا شمالي رفح، وإطلاق النار على المدنيين قرب نقاط التوزيع.
غير أن المفارقة تكمن في أن هذه السياسة لم تثمر، حتى اللحظة، عن انهيار المقاومة أو المجتمع. بل على العكس، ما زالت كتائب القسام وسرايا القدس تنفذ عمليات نوعية داخل مناطق التوغل، وتوقع القتلى والجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي. وتشير تسريبات عبرية إلى وجود تململ واسع داخل الوحدات القتالية، وارتفاع حالات العصيان، ونفاد الإمدادات داخل بعض الكتائب. وهذا بدوره يعكس خللًا في تقدير فاعلية التجويع كسلاح استراتيجي.
التحولات النفسية داخل الجيش الإسرائيلي أصبحت مؤشرا مهما في ميزان الصراع. الجنود الإسرائيليون اليوم يشاركون في عشرات الجنائز، ويرون أشلاء رفاقهم تُنتشل من تحت ركام الدبابات التي فجّرتها العبوات الناسفة. وتُشير إفادات الجنود وأمهاتهم – بحسب القنوات العبرية – إلى تعب ذهني وانهيار في المعنويات. في هذه الحالة، يصبح السؤال: من الذي ينهار فعليًا؟ الغزّي الجائع أم الجندي المجهد؟
ثمّة أبعاد قانونية دولية أكثر خطورة يجب التوقف عندها: إذ يُعد استخدام التجويع كأداة حرب ضد المدنيين جريمة حرب موصوفة بموجب المادة (8-2-ب-25) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، لم تُفتح أي مرافعة دولية جدية ضد إسرائيل في هذا الملف، رغم توفّر الشهادات والأدلة. هذا الصمت لا يُفسّر فقط بالتواطؤ السياسي، بل أيضًا بإفلاس النظام القانوني الدولي في حماية أضعف الفئات البشرية: الأطفال المرضى والجياع.
تسعى إسرائيل عبر هذا النهج إلى ترسيخ فكرة "ردع مجتمعي" يُكسر فيه الحاضن الشعبي للمقاومة، فيتحول الأهالي إلى عبء على الفصائل المسلحة. وهو منطق سبق أن استخدمته في حصار بيروت 1982، وغزة 2014، لكنها تعيد تصعيده اليوم ضمن نسق أكثر تنظيمًا وعلنية.
لكن ما لم تحتسبه إسرائيل هو أن غريزة النجاة حين تبلغ أقصى مداها، لا تُنتج الخضوع بل المقاومة. الموت جوعًا قد يصنع يأسًا، لكنه في حالات مثل غزة يولد أيضًا وعيًا جماعيًا يُدرك أن لا خيار سوى المواجهة. الطفل الذي يموت اليوم جوعًا في غزة سيُخلّد في ذاكرة شعبه كسبب إضافي لحمل السلاح، لا لإلقائه.
وعلى المقلب الآخر، فإن المقاومة باتت تدرك أن المعركة اليوم لم تعد فقط على الأرض، بل في الذاكرة الجمعية العالمية. توثيق المجازر، تصوير الأطفال قبل وفاتهم بساعات، بث مشاهد المرضى الذين يُحتضرون بسبب نقص الدواء، كلها أدوات مقاومة بصرية–إعلامية جديدة، تستهدف كسر الرواية الإسرائيلية، وإعادة تموضع سردية الضحية على المستوى العالمي.
السؤال الاستراتيجي المطروح الآن: هل المجاعة ستُسقط غزة أم ستُسقط قناع إسرائيل؟ إذا واصلت المجاعة حصادها، فإن تداعياتها لن تقتصر على الحاضر، بل ستمتد إلى أجيال قادمة في الوعي الفلسطيني، وتُعمّق مبدأ أن "العدو لا يرحم"، وهو ما يزيد من جذرية أي مشروع مقاوم قادم.
ثمّة مخاطرة في استراتيجية إسرائيل الحالية: أنها تحوّل المجاعة إلى أداة توثيق دائم لجرائمها، ما يخلق سندًا قانونيًا وأخلاقيًا لإجراءات لاحقة، سواء في المحافل القضائية، أو في تحولات الرأي العام العالمي. ومع تصاعد الحملة الإعلامية التي تقودها جهات حقوقية دولية، يصبح الاستمرار في هذه السياسة خيارًا مكلفًا على المدى البعيد.
أمام هذا المشهد، يقف المجتمع الدولي بلا دور حقيقي. بيانات الأمم المتحدة باتت مكررة ومفرغة من المعنى، والدول الكبرى تتعامل مع غزة كأنها ملف مؤجل، لا أولوية إنسانية. ومع ذلك، فإن دور الأطراف الإقليمية والعربية قد يكون حاسمًا، لو أُحسن استخدامه. الضغط السياسي، قطع العلاقات، رفع دعاوى قانونية جماعية، كلها أدوات ممكنة لوقف هذا الانهيار المنهجي.
إن إسرائيل تستخدم المجاعة سلاحًا لأنها تدرك أن الحروب الحديثة لا تُحسم بالصواريخ وحدها. ولكنها تغفل أن الشعوب لا تموت بالجوع فقط، بل قد يولد من موت أطفالها جوعًا جيل جديد من المقاومين الذين لن ينسوا أبدًا أن العالم صمت، وأن الاحتلال قرر أن يجعل الحليب جريمة.
بهذا، تكون المجاعة في غزة – كما يقول التاريخ – ليست نهاية شعب، بل بداية مرحلة جديدة من الوعي، والذاكرة، والمقاومة.
رؤية خاصة
المجاعة في غزة ليست خطأ إغاثيًا، بل قرار استراتيجي يُراد به إسقاط الإرادة. لكنها تنقلب على صاحبها، إذ تصنع وعياً جديداً، ومقاومة شرسة لا تعرف التراجع.
غزة بين المجازر والكمائن: غزة الحقيقة الوحيدة دون وهم
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الثلاثاء، 24 يونيو/حزيران 2025
تتجدد حلقات الصراع في غزة، ولكن بنمط مختلف هذه المرة، حيث لا تدور المعركة فقط على مساحات الخراب التي تخلّفها الطائرات الإسرائيلية، بل على مشهدية الردع الذي يبدو أن إسرائيل تفقده تدريجيًا، أمام أداء ميداني يزداد إتقانًا من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية. وبينما كان يفترض أن يكون التفوق التكنولوجي والاستخباري الإسرائيلي كافيًا لحسم الجولة، تبيّن أن الميدان أكثر تعقيدًا من توقعات المراكز العسكرية في تل أبيب.
ففي يوم واحد فقط، قتلت المقاومة ثلاثة جنود إسرائيليين وجرحت سبعة آخرين في كمين مزدوج، نُفذ بتكتيك احترافي جمع بين التفخيخ والكمائن النارية في خان يونس. هذا النوع من العمليات لم يعد استثناءً، بل أصبح جزءًا من الاستراتيجية المضادة التي تتبناها غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة. وتأتي هذه التطورات بالتزامن مع استهداف متكرر لمواقع الجنود وآلياتهم باستخدام العبوات شديدة الانفجار، والطائرات المسيّرة المضادة، بل والاستيلاء أحيانًا على مسيّرات إسرائيلية كما حدث شرق غزة.
الرد الإسرائيلي، كعادته، اتجه إلى القوة المفرطة، مركّزًا على استهداف المدنيين، وتحديدًا المنتظرين للحصول على المساعدات في مراكز التوزيع. ففي مجزرة جديدة، قُتل 56 فلسطينيًا أثناء انتظارهم المساعدات، ضمن حصيلة يومية بلغت 80 شهيدًا منذ فجر الثلاثاء. هذه المقاربة القائمة على "العقوبة الجماعية" لم تعد تؤتي ثمارها السياسية أو العسكرية، بل على العكس، تؤسس لمعادلات مقلقة لصنّاع القرار الإسرائيلي، الذين باتوا عاجزين عن تحقيق صورة النصر رغم استباحة الأرض والدم.
المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تدرك أنها تخسر زمام المبادرة في الجوهر، رغم التفوق في الشكل. فالهجوم على قوافل الإغاثة، واستمرار استهداف البنية التحتية في غزة، يقابل بردّ عسكري نوعي من المقاومة. هذه المعادلة لا تترك لإسرائيل هامشًا آمنًا. بل يمكن القول إن مفهوم الردع الذي كانت تتغنّى به إسرائيل منذ "عمود السحاب" وحتى "السور الواقي"، أصبح اليوم مهددًا بالسقوط على أبواب الشجاعية وخان يونس.
في المقابل، تحرص فصائل المقاومة على توجيه رسائل مزدوجة: فنية وعقائدية. فنية من حيث تطوير أدواتها القتالية، واستخدام التخفي والتلغيم والمناورة؛ وعقائدية من حيث الإصرار على فرض المعادلة الإنسانية: "لن يمر القتل من دون كلفة". وهذه الرسائل هي التي باتت تقلق الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أكثر من صواريخ غزة.
وفي خلفية المشهد، تتفاعل ساحات أخرى. الضفة الغربية تشهد عمليات قتل بدم بارد، وهدم للمخيمات، وطفل يُغتال لمجرّد الاشتباه. وهنا تكمن دلالة أوسع: فالمعركة لم تعد معزولة في قطاع غزة، بل تمتد إلى الضفة، وتشكّل في مجملها تحديًا استراتيجيًا لحالة "الردع المتعدّد الاتجاهات" التي كانت إسرائيل تعتمد عليها.
الدعم الدولي لإسرائيل، حتى وإن استمر سياسيًا، بدأ يتآكل أخلاقيًا، خاصة مع تراكم المجازر الموثقة بالصورة والدم. أما على مستوى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فإن تزايد عدد القتلى والجرحى، وسط تعتيم إعلامي واضح، يثير تساؤلات عن جدوى العمليات في نظر عائلات الجنود.
رؤية خاصة:
المجزرة لا تردع. والكمائن لا تُطفئها الحمم الجوية. هذه معركة "عقيدة" ضد "آلة"، ومن يملك الإيمان بالثمن سيكسر من لا يملك إلا وهم التفوق. الردع يُصنع بالوعي والقدرة، لا بالطيران وحده.
الردع المنضبط: باكستان تتبنّى استراتيجية "الرد المتناسب" في مواجهة التصعيد الهندي
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
السبت 10 مايو/أيار 2025
تمثل التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الباكستاني محمد إسحق دار، والتي قال فيها إن باكستان ستتوقف عن الرد إذا ما أوقفت الهند هجماتها، تحوّلًا استراتيجيًا في خطاب الردع الباكستاني. فبدلًا من الانزلاق نحو تصعيد مفتوح، تحاول إسلام آباد تكريس نموذج "الرد المتناسب المنضبط" كآلية للردع المضاد، في ظل خلل واضح في ميزان القوى التقليدي، وتطور عسكري هندي متسارع، يغري بنيودلهي باستخدام أدوات الضربات المحدودة تحت مظلة الردع النووي.
التحول في ديناميات الردع:
منذ اختبارات 1998 النووية، ساد اعتقاد بأن التوازن الاستراتيجي بين الهند وباكستان سيمنع أي انزلاق نحو حرب مفتوحة. إلا أن الهند، منذ عام 2016، طورت ما يُعرف بعقيدة "الهجوم الجراحي المحدود"، والتي تتيح تنفيذ ضربات سريعة ضد أهداف باكستانية، بحجة مكافحة الإرهاب، دون الوصول إلى عتبة الحرب الشاملة. وهذا ما حدث الأسبوع الماضي حين استهدفت الهند 9 مواقع داخل باكستان، تبعها رد باكستاني صاروخي محدود استهدف 3 مطارات.
جوهر التصريح الباكستاني:
يُفهم من تصريحات دار أن باكستان تدرك أنها لا تستطيع مجاراة الهند في سباق الردود التقليدية طويل الأمد، لكنها تسعى لتثبيت مبدأ "الردع الكافي"، أي: القدرة على الرد المحدود الذي يرفع الكلفة على نيودلهي دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. الوزير الباكستاني نقل الكرة إلى ملعب الهند، ملمحًا إلى أن إنهاء التصعيد بيد الطرف الذي بدأه.
الردع النفسي والإعلامي:
تركيز التصريح على رفض الهيمنة والسعي للسلام دون "إهدار الأموال"، يعكس أيضًا استراتيجية إعلامية باكستانية قائمة على تقويض شرعية السردية الهندية دوليًا. وهذا يتقاطع مع جهود بكين وواشنطن لاحتواء الموقف، في ظل رغبة أمريكية بتهدئة الجبهة الباكستانية للحفاظ على توازن القوى الإقليمي، ورغبة صينية بعدم فتح جبهة جديدة قرب حدودها.
استراتيجية السيطرة المقيدة:
من الناحية العسكرية، تتبنى باكستان ما يمكن تسميته "استراتيجية السيطرة المقيدة"، أي الانخراط في رد محدود مدروس، مصحوب برسائل سياسية تؤكد الرغبة في التهدئة. هذه الاستراتيجية لا تعني الضعف، بل هي تكتيك ردع نفسي هدفه احتواء التصعيد ومنع تآكل الردع النووي، الذي بدأ يتآكل مع اعتياد الهند على استخدام القوة دون ردع كامل.
السيناريوهات المقبلة:
إذا استمرت الهند في تنفيذ ضربات مشابهة، فقد تجد باكستان نفسها مضطرة لتوسيع نطاق الرد دون بلوغ العتبة النووية، وهو ما يرفع مخاطر الخطأ الحسابي والانزلاق إلى مواجهة واسعة. أما إذا تجاوبت نيودلهي مع المساعي الصينية-الأمريكية للتهدئة، فإن الفرصة ستتاح لبناء بروتوكول مشترك جديد حول "إدارة التصعيد"، يحاكي نموذج الخطوط الحمراء بين روسيا والولايات المتحدة خلال الحرب الباردة.
خلاصة استراتيجية:
تصريحات وزير الخارجية الباكستاني لا تُقرأ كدعوة مباشرة للتهدئة فقط، بل كمحاولة لإعادة ضبط معادلة الردع، عبر ترسيخ مبدأ "الردع الكافي وغير المتصاعد"، وهي صيغة قد تمثل نموذجًا مستقبليًا في مناطق الصراع المشابهة. التحدي الأكبر الآن هو منع تحوّل الردع النووي من ضمان للسلام إلى مظلة تسمح بالحرب المحدودة، وهو ما يُهدد ليس فقط الأمن الإقليمي، بل بنية الردع الاستراتيجي العالمي بأسره.
غزة تحت الحصار: التجويع كأداة ردع إستراتيجية بديلاً عن الحسم العسكري
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
السبت 10 مايو 2025
في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل حربها الممتدة على قطاع غزة منذ أكثر من 19 شهرًا، وبينما تتوالى الأخبار عن استشهاد عائلات كاملة تحت الأنقاض وتفشي المجاعة بين الأطفال، يتكشف نمط جديد من أنماط الحرب والسيطرة. فقد استشهد، صباح اليوم السبت، سبعة فلسطينيين بينهم خمسة من عائلة واحدة، إثر قصف جوي استهدف خيامًا للنازحين ومناطق مدنية متفرقة. وفي الخلفية، يتسارع التحذير من مجاعة تتهدد حياة عشرات آلاف الأطفال، وسط منع تام لدخول المساعدات منذ أكثر من شهرين.
بعيدًا عن مشهد الدمار اللحظي، تبرز أداة جديدة في استراتيجية الردع والسيطرة الإسرائيلية، تتمثل في استخدام الجوع كسلاح سياسي وميداني، وهو تحول جوهري في فلسفة الردع من الطابع العسكري المباشر إلى الهندسة البيولوجية للمجتمع المدني. لم تعد إسرائيل تكتفي بعمليات "الردع بالقوة"، بل تسعى إلى السيطرة من خلال "الردع بالمعاناة"، أي إنهاك المجتمع الغزي نفسيًا وغذائيًا بهدف كسر إرادة البقاء قبل إرادة القتال.
السيطرة عبر المعابر: الحصار كمعركة إستراتيجية مستقلة
إن إغلاق معابر قطاع غزة –التي كانت طوق حياة لمليوني إنسان– لم يعد مجرد إجراء أمني أو ضغط مؤقت، بل تحول إلى أداة إدارة حرب كاملة. تُدير إسرائيل المعابر بوصفها صمام الحياة والموت، وتوظفها كجزء من استراتيجية مركبة للتحكم في إيقاع الأزمة، بدءًا من إدخال المساعدات إلى تعطيل أي محاولات للإنعاش المؤقت.
منذ أكثر من شهرين، تم إغلاق كل معابر القطاع تقريبًا، ومنع إدخال نحو 39 ألف شاحنة مساعدات، بما فيها المواد الغذائية والوقود والدواء. ومع توقف كل المخابز في القطاع منذ 40 يومًا، بات السكان يواجهون تجويعًا منهجيًا. وهذا التجويع، وإن كان يُبرَّر أمنيًا، إلا أنه يُستخدم الآن بوضوح كأداة ردع مستدامة، تفرض على المقاومة ثمناً باهظاً لأي استمرارية في القتال، وتجعل المجتمع المدني نفسه ضاغطًا باتجاه إنهاء المواجهة بأي ثمن.
الردع من الداخل: سياسة نزع القدرة الحيوية
ترتكز هذه السياسة على فكرة مفادها أن الردع لم يعد يُبنى على تحطيم القدرة العسكرية وحدها، بل على نزع القدرة الحيوية للمجتمع المدني، أي تفريغ السكان من أدوات الاستمرار: الغذاء، الماء، الدواء، الخبز، وحتى الهواء الآمن. وبالاعتماد على هذه الفرضية، تتحرك إسرائيل لتنفيذ ما يُعرف في النظريات الحديثة بـ"الردع المجتمعي–الوظيفي"، حيث تُجبر المجتمعات على التخلي عن دعم المقاومة عبر دفعها إلى حافة الانهيار المعيشي.
تستخدم إسرائيل هذا الأسلوب في غزة بشكل متدرج، مدروس، ومدعوم استخباراتيًا، بحيث لا تُطلق المجاعة دفعة واحدة، بل تبقيها في مستوى "الاحتضار الطويل"، على أمل أن تنكسر إرادة المقاومة من داخل الحاضنة الشعبية.
تكلفة التجاوب الإنساني: موازنة الردع الإقليمي والدولي
تعرف إسرائيل جيدًا أن تجاوبها مع المطالب الدولية بفتح المعابر وإدخال المساعدات سيُضعف أثر الردع المتراكم، لذا تمارس مناورة دقيقة: تُبقي الضغط الإنساني على حافة الانفجار، دون تجاوزه، حتى تُرضي حلفاءها الغربيين شكليًا، دون أن تُعطل مفاعيل الاستراتيجية.
في هذا الإطار، تأتي بعض عمليات إدخال المساعدات الجزئية أو المشروطة، لا كإجراءات إنسانية، بل كجزء من لعبة محسوبة لتخفيف الضغط الدبلوماسي، دون منح الفلسطينيين قدرة حقيقية على الصمود. ويشبه هذا الوضع ما عرفه قطاع غزة خلال العدوان الإسرائيلي عام 2014، لكن اليوم مع فارق نوعي في شدة الإغلاق واستمراريته واتساع رقعته الجغرافية.
الغطاء الأميركي: الردع بالنيابة عن النظام الدولي
الولايات المتحدة، بوصفها الحليف الأساسي لإسرائيل، تلعب دورًا محوريًا في منع تحويل الأزمة الإنسانية في غزة إلى ملف مساءلة دولية. وبتوفيرها الغطاء السياسي والدبلوماسي الكامل، تمنح واشنطن إسرائيل حرية استخدام أدوات الردع الطويلة، من دون القلق من تدخلات فاعلة.
ومع تراجع فعالية الأمم المتحدة ومحدودية أداة محكمة العدل الدولية، باتت غزة مختبرًا مفتوحًا لتجريب أدوات الردع منخفضة التكلفة عالية التأثير، في بيئة جيوسياسية مُغلقة، تحكمها القوى العظمى لا القانون الدولي.
مآلات إستراتيجية الردع: انهيار داخلي أم انفجار خارجي؟
المشهد القائم الآن يقود إلى مفترق خطير: فإما أن تنجح إسرائيل في تحقيق ردع طويل الأمد عبر إنهاك الحاضنة الشعبية وإجبار المقاومة على الانكفاء، أو أن يُسفر الضغط الإنساني المتراكم عن انفجار شامل للمجتمع الفلسطيني، بما يُنتج وضعًا أكثر اضطرابًا قد يُهدد استقرار الإقليم بأكمله.
وفي الحالتين، تبقى إسرائيل تُراهن على الزمن: مزيد من التجويع، مزيد من الضغط، حتى اللحظة التي تُكسر فيها إرادة المواجهة. لكن المشكلة أن الردع بالجوع يخلق كراهيات عميقة لا تنتهي بانتهاء الحرب، بل تتجذر وتتحول إلى طاقات مقاومة مؤجلة، قد تنفجر في دورات لاحقة.
سلاح التجويع في عصر الحروب الرمادية
ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد حرب تقليدية، بل تجسيد لحرب رمادية يستخدم فيها التجويع والإغلاق كأدوات بديلة عن الجيوش والدبابات. ويبدو أن إسرائيل تعيد صياغة مفاهيم الردع الكلاسيكي إلى نماذج جديدة تتقاطع فيها المأساة مع السياسة، والكارثة مع الحسابات العسكرية الباردة.
لكن، يبقى السؤال الأهم: هل ينجح الردع عبر المجاعة في فرض إرادة سياسية على شعبٍ يعيش تحت القصف منذ عقود؟ أم أن السيطرة عبر الألم ستفشل كما فشلت السيطرة عبر القتل؟
تبدو الإجابة رهن الزمن، لكن المؤكد أن ما يُزرع اليوم في غزة من جوع وقهر، سيُثمر في الذاكرة الجمعية أجيالًا لا تنسى.
بين الردع والتعطيل: سياسة الكماشة ومصير العرب في قبضة الهيمنة
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
3 مايو 2025
لم يعد العالم العربي يتعامل مع الهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية بمنطق الصراع التقليدي. فالمرحلة الحالية لم تُبْنَ على الحرب المباشرة، بل على فلسفة مزدوجة تقوم على الردع والتعطيل في آنٍ واحد. هكذا يجد العرب أنفسهم بين فكي كماشة: الأول يُهدد الإرادة إن حاولت الفعل، والثاني يُقيّد القدرة قبل أن تتشكل.
الردع هنا يعني أن تُخيف الخصم من التفكير بفعلٍ عدائي أو مستقل، بإشعاره أن أي تحرّك سيقابل بعقابٍ ساحق. أما التعطيل فهو أعمق وأخطر: لا ينتظر الخصم حتى يُفكر أو يتحرك، بل يمنعه من امتلاك الأدوات التي تسمح له بالتفكير أو الفعل أصلًا. وهكذا تتعامل القوى الكبرى، وعلى رأسها واشنطن وتل أبيب، مع المحيط العربي.
فالردع يُستخدم مثلاً مع بعض الأنظمة العربية القابلة للتفاوض، لكنه يُترجم بلغة التحذير والعقوبات الاقتصادية أو العسكرية. أما التعطيل فيُطبَّق على الدول التي قد تملك بنية قادرة على الاستقلال لاحقًا، حتى وإن كانت صامتة الآن، كما يحدث مع سوريا الجديدة، أو مع العراق إن حاول النهوض، أو حتى مع ليبيا لو فكرت في مشروع استراتيجي مستقل.
وهذا ما يفسّر كيف أن دولًا لم تُعلن عداءً لإسرائيل ولا للولايات المتحدة، ولا حتى خرجت عن الصف الأمريكي، تُستهدف سياسيًا أو عسكريًا أو اقتصاديًا بوسائل خفية. لا لأنها فعلت، بل لأنها قد تفعل. لا لأنها خرجت، بل لأنها قد تخرج. إنها معادلة استباقية تُديرها القوى الكبرى على قاعدة "لا أمن لأحد إلا من خلالي".
العالم العربي اليوم لا يعيش فقط في دائرة النفوذ، بل في دائرة تقييد السيادة تحت غطاء الردع، وشلّ الممكنات تحت ستار التعطيل. ما يجعل أي مشروع نهضة أو وحدة أو استقلال أو حتى إصلاح داخلي يُنظر إليه كخطر محتمل.
الأنظمة التي قبلت بالردع حافظت على بقائها المؤقت، لكنها خضعت لصفقات طويلة الأمد تقلّص سيادتها. والأنظمة التي حاولت مقاومة التعطيل سقطت أو أُنهكت أو جُرّت إلى فوضى دائمة. وبين هذين الخيارين، يبدو المواطن العربي مسجونًا بين جدران لا يراها: جدار الردع السياسي وجدار التعطيل الاستراتيجي.
الردع يطال النوايا. التعطيل يضرب الإمكانيات. والسيطرة الكاملة تتطلب الجمع بين الاثنين. هذا هو جوهر الهيمنة الحديثة.
رؤية خاصة: ما لم يفهمه كثيرون أن الهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية لم تعد تُدار بالاحتلال العسكري ولا حتى بالحرب الإعلامية وحدها، بل بنظام ذكي يُحوّل العالم العربي إلى فضاء محايد ومُقيَّد في آنٍ واحد. الفضاء المحايد لا يهدد إسرائيل، والمُقيَّد لا يزعج أمريكا. بين الردع والتعطيل، فُرض على العرب مستقبل بلا أدوات، وبلا خيار سوى أن يكونوا جيرانًا للطاعة أو ضحايا للفوضى.
حين تُقصف النوايا: الضربات الإسرائيلية على سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
3 مايو 2025
لا يبدو أن الضربات الإسرائيلية التي استهدفت محيط القصر الجمهوري ومطارات سوريا الجديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد ترتبط بأي هجوم مباشر على إسرائيل، ولا حتى بتصريحات عدائية صادرة عن حكومة "الشرع". بل على العكس، فقد التزمت الحكومة السورية الجديدة خطابًا متوازنًا ومحايدًا، وامتنعت عن أي مواجهة لفظية أو سياسية مع تل أبيب. فما الذي يدفع إسرائيل إذًا إلى هذا السلوك الصاروخي المبكر؟ وما وراء هذا التوتر الذي لم يُعلن عنه رسميًا؟
إن قراءة هذه الضربات لا يمكن أن تتم ضمن سياق الردّ العسكري التقليدي، لأن ما يُستهدف هنا ليس الفعل السوري، بل نية الفعل. إسرائيل، وفق عقيدتها الأمنية الممتدة منذ 2006، تعمل وفق فلسفة "الضربة الوقائية الممتدة"، أي استهداف أي بنية أو موقع قد يُشكل تهديدًا مستقبليًا، حتى لو لم يتحول إلى تهديد بعد. وعليه، فإن سوريا الجديدة، في نظر الاستراتيجية الإسرائيلية، لا تزال أرضًا خطرة، لا بسبب ما فيها، بل بسبب ما يمكن أن يكون فيها لاحقًا.
اللافت أن الضربات طالت مواقع حساسة ذات طابع رمزي، كمحيط القصر الجمهوري. هذا بحد ذاته يكشف رسالة مزدوجة: من جهة، "لا مكان محصن"، ومن جهة أخرى، "السيادة السورية الجديدة تحت الرقابة، وستُضرب إن خرجت عن المسار المتوقع لها". فإسرائيل لا تنتظر سلوكًا عدائيًا، بل تكفيها مؤشرات الاستقلال أو امتناع دمشق عن الالتحاق بتحالفات واضحة.
ثمّة بُعد آخر في هذه المعادلة يتعلق بـ "ترويض السيادة". الضربات ليست فقط تكتيكًا عسكريًا، بل تمثّل نمطًا من أنماط "التدريب السياسي" لحكومة الشرع، التي تُعدّ أول تجربة حكم خارج محور طهران–الكرملين منذ عقود. والرسالة هنا قاطعة: حتى الخطاب المحايد، إن لم يتحول إلى خضوع كامل أو تطبيع مباشر، فلن يُعفيك من العقاب.
ويُضاف إلى ذلك أن إسرائيل لا تُسقط من حسابها البنية التحتية التي في سوريا قبل سقوط النظام. فالمستودعات والممرات الجوية والعناصر المتفرقة، قد تكون تحت سلطة النظام الجديد، ولذلك ستبقى ضمن بنك الأهداف. والحياد في هذه الحالة لا يُلغي الشبهة، بل قد يعمّقها.
الخطر الأكبر من منظور تل أبيب ليس بعودة التهديد العسكري، بل بعودة سوريا إلى الحالة الطبيعية: أي دولة مستقلة، تُعيد بناء نفسها، وتنسج علاقاتها الإقليمية بهويتها السيادية. ذلك يعني تلقائيًا أنها قد تُصبح جسرًا بين الشرق العربي وتركيا، أو بين الخليج وبلاد الشام، بما لا يرضي المخطط الاستراتيجي الإسرائيلي.
وهنا نصل إلى جوهر المسألة: إن ما يُقصف في الحقيقة هو "الاحتمال"، لا "الحدث". إسرائيل تضرب كي لا تسمح للاحتمال السوري الجديد أن يُزهر. وهي إذ تقصف المطارات والمقار العسكرية، فإنها في الواقع تُحاصر العقل السياسي السوري الجديد، وتفرض عليه خطوطًا حمراء لا تتصل بالمواجهة، بل بالتحالف.
رؤية خاصة: الضربات الإسرائيلية لسوريا الجديدة تكشف أن مرحلة ما بعد الأسد لم تُمنح حق الاختبار الذاتي. لقد بدأت سوريا الجديدة رحلتها تحت النيران، لا لأنها أخطأت، بل لأنها أظهرت نية ألا تُخطئ في الاتجاه المرسوم لها. هذه ليست رسائل ردع، بل رسائل تعطيل، وهي تؤشر إلى أن أمن المنطقة يُراد له أن يبقى محكومًا بالفوضى الوقائية لا بالاستقرار السيادي
الملكيون الجدد: تحالف الردع العابر للقارات وسيطرة الوصول
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
2 أيار/مايو2025
في الظل العميق لنظام ما بعد الحداثة، لم تعد مراكز القرار العالمية تعتمد على الجيوش وحدها، بل على ما يُعرف بـ"تحالف الردع العابر للقارات" الذي تقوده الولايات المتحدة، لا بصفتها دولة، بل كمنصة شاملة للتحكم العالمي. هذا التحالف الجديد لا يحمل علمًا ولا يُعلن مقرًا، لكنه موجود في كل قرار، وكل صفقة، وكل واجهة تكنولوجية. إنه التحالف الذي يحمل "أختام الملك"، أي سلطة التأشير على من يدخل التاريخ، ومن يُنفى منه.
بُني هذا التحالف على تقاطع ثلاث قوى: البنتاغون كمحرّك أمني وعقائدي، وشركات الذكاء الاصطناعي كمصمّمي الآلة الفكرية التي تُدير البشر، وشركات الطاقة والموارد السيادية التي تُعيد تعريف مفاهيم السوق والاحتكار. هؤلاء ليسوا أصحاب نفوذ تقليدي، بل نخبة السيادة الكاملة التي تُدير الردع من خلال مفاتيح الوصول: لا يُمنع العدو من الهجوم فقط، بل يُمنع من الوصول إلى أدوات الفعل أصلًا.
في هذا السياق، تُصبح السيطرة على البيانات أهم من السيطرة على الأراضي، ويُصبح قطع الإنترنت أشد فتكًا من قصف الطائرات، وتُصبح برمجيات الشراء والدفع أقوى من البنوك المركزية. الردع هنا لا يعني تهديدًا مباشرًا، بل خلق بنية تُغلق أبواب التقدّم أمام الخصوم دون إطلاق رصاصة.
في العقيدة الجديدة لهذا التحالف، لم تعد الحروب ضرورة، بل التلويح بالحرمان. من لا يدخل في المنظومة يُحرم من التكنولوجيا، ومن لا يُطيع يُحرم من التمويل، ومن يرفض يُحرم من الشرعية الدولية. أنت لا تُقصف… بل تُترك خارج العصر.
أخطر ما في هذه المنظومة أنها لا تُدار من دولة فقط، بل من منصات سيادية – كشبكات الذكاء الاصطناعي، والبورصات المالية المترابطة، ومراكز الحوسبة السحابية الكبرى – وكلها تخضع ضمنًا لحراسة البنتاغون أو لشراكات أمنية أمريكية. وهنا تتجلى عبقرية الردع: أن تكون السيطرة تقنية لكنها سياسية، اقتصادية لكنها عسكرية، قانونية لكنها هيمنة.
الملكيون الجدد – كما يمكن تسميتهم – ليسوا قادة سياسيين، بل مجالس إدارة، وصناديق استثمار، وشركات ناشئة مرتبطة بغرف القرار في واشنطن. هم من يُحدّد من هو "الدولة الفاشلة"، ومن هو "الشريك المسؤول"، وهم من يُصنّف الشعوب بناءً على "قابلية الامتثال"، تمامًا كما يُصنَّف السوق بناءً على جاذبيته للاستثمار.
الردع الكلاسيكي كان يقوم على توازن القوة. أما الردع الجديد، فهو يقوم على تفاوت الوصول. ومن هنا، فإن مواجهة هذا التحالف لا تكون بالصراخ ولا بالشكاوى، بل بإعادة بناء أدوات الوصول المستقل: من الغذاء إلى الخوارزميات، من التمويل إلى السيادة الرقمية، من الكهرباء إلى السردية.
هذه المعركة لم تبدأ اليوم، لكنها دخلت الآن مرحلتها المكشوفة، و"غزة" كانت أول البوابات. فإن سُمح للردع الجديد أن يُكمل مساره بلا تحدٍّ، فالعالم مقبل على عصر يُقاس فيه وزن الأمم بعدد مخدماتها السحابية، ومخزونها من الذكاء الاصطناعي، ومدى اندماجها في الاقتصاد الأميركي العميق.
الردع الحديث لا يُشهر سلاحًا، بل يغلق نافذة. فإذا أُغلقت كل النوافذ، لم يبقَ للإنسان إلا العتمة.
في الظل العميق لنظام ما بعد الحداثة، لم تعد مراكز القرار العالمية تعتمد على الجيوش وحدها، بل على ما يُعرف بـ"تحالف الردع العابر للقارات" الذي تقوده الولايات المتحدة، لا بصفتها دولة، بل كمنصة شاملة للتحكم العالمي. هذا التحالف الجديد لا يحمل علمًا ولا يُعلن مقرًا، لكنه موجود في كل قرار، وكل صفقة، وكل واجهة تكنولوجية. إنه التحالف الذي يحمل "أختام الملك"، أي سلطة التأشير على من يدخل التاريخ، ومن يُنفى منه.
بُني هذا التحالف على تقاطع ثلاث قوى: البنتاغون كمحرّك أمني وعقائدي، وشركات الذكاء الاصطناعي كمصمّمي الآلة الفكرية التي تُدير البشر، وشركات الطاقة والموارد السيادية التي تُعيد تعريف مفاهيم السوق والاحتكار. هؤلاء ليسوا أصحاب نفوذ تقليدي، بل نخبة السيادة الكاملة التي تُدير الردع من خلال مفاتيح الوصول: لا يُمنع العدو من الهجوم فقط، بل يُمنع من الوصول إلى أدوات الفعل أصلًا.
في هذا السياق، تُصبح السيطرة على البيانات أهم من السيطرة على الأراضي، ويُصبح قطع الإنترنت أشد فتكًا من قصف الطائرات، وتُصبح برمجيات الشراء والدفع أقوى من البنوك المركزية. الردع هنا لا يعني تهديدًا مباشرًا، بل خلق بنية تُغلق أبواب التقدّم أمام الخصوم دون إطلاق رصاصة.
في العقيدة الجديدة لهذا التحالف، لم تعد الحروب ضرورة، بل التلويح بالحرمان. من لا يدخل في المنظومة يُحرم من التكنولوجيا، ومن لا يُطيع يُحرم من التمويل، ومن يرفض يُحرم من الشرعية الدولية. أنت لا تُقصف… بل تُترك خارج العصر.
أخطر ما في هذه المنظومة أنها لا تُدار من دولة فقط، بل من منصات سيادية – كشبكات الذكاء الاصطناعي، والبورصات المالية المترابطة، ومراكز الحوسبة السحابية الكبرى – وكلها تخضع ضمنًا لحراسة البنتاغون أو لشراكات أمنية أمريكية. وهنا تتجلى عبقرية الردع: أن تكون السيطرة تقنية لكنها سياسية، اقتصادية لكنها عسكرية، قانونية لكنها هيمنة.
الملكيون الجدد – كما يمكن تسميتهم – ليسوا قادة سياسيين، بل مجالس إدارة، وصناديق استثمار، وشركات ناشئة مرتبطة بغرف القرار في واشنطن. هم من يُحدّد من هو "الدولة الفاشلة"، ومن هو "الشريك المسؤول"، وهم من يُصنّف الشعوب بناءً على "قابلية الامتثال"، تمامًا كما يُصنَّف السوق بناءً على جاذبيته للاستثمار.
الردع الكلاسيكي كان يقوم على توازن القوة. أما الردع الجديد، فهو يقوم على تفاوت الوصول. ومن هنا، فإن مواجهة هذا التحالف لا تكون بالصراخ ولا بالشكاوى، بل بإعادة بناء أدوات الوصول المستقل: من الغذاء إلى الخوارزميات، من التمويل إلى السيادة الرقمية، من الكهرباء إلى السردية.
هذه المعركة لم تبدأ اليوم، لكنها دخلت الآن مرحلتها المكشوفة، و"غزة" كانت أول البوابات. فإن سُمح للردع الجديد أن يُكمل مساره بلا تحدٍّ، فالعالم مقبل على عصر يُقاس فيه وزن الأمم بعدد مخدماتها السحابية، ومخزونها من الذكاء الاصطناعي، ومدى اندماجها في الاقتصاد الأميركي العميق.
الردع الحديث لا يُشهر سلاحًا، بل يغلق نافذة. فإذا أُغلقت كل النوافذ، لم يبقَ للإنسان إلا العتمة.
"انقلاب الجغرافيا في الشرق السوري: تركيا تصوغ التوازن وواشنطن تعيد هندسة النفوذ"
مارية ايمن – باحثة في العلاقات الدولية
19:25:52 – 18 أبريل 2025
يتحرك المشهد السوري بوتيرة متسارعة نحو لحظة إعادة تشكيل كبرى، ليس فقط في جغرافيا الشمال الشرقي من البلاد، بل في مجمل معادلات النفوذ والتحالفات داخل سوريا والمنطقة. في هذه اللحظة، لا يُعاد رسم خرائط السيطرة فحسب، بل تُصاغ هندسة أمنية وسياسية جديدة، تتجاوز الصراع التقليدي إلى بناء ترتيبات نهائية أكثر تعقيدًا وشمولًا.
زيارة السيناتور الأميركي البارز إلى دمشق اليوم، 19 أبريل 2025، ولقاؤه المباشر مع الرئيس السوري أحمد الشرع، لم تكن حدثًا اعتياديًا في أجندة العلاقات الدولية، بل مثلت تحوّلًا استراتيجيًا في موقف واشنطن، لا سيما مع وجود الرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية، والذي سبق أن أعلن بوضوح عن دعمه الكامل للمساعدة التركية في إدارة الملف السوري، مؤكدًا أن أنقرة لعبت دورًا محوريًا في ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي من بعض مناطق الشمال الشرقي.
الانسحاب الأميركي الأخير من مناطق محددة في الحسكة والرقة، والذي شمل نحو 1000 جندي، لم يُترك فراغًا عشوائيًا، بل بدا وكأنه خطوة محسوبة ضمن استراتيجية تسليم مؤسساتي غير مباشر لحلفاء واشنطن الإقليميين. هنا دخلت تركيا بثقلها، مستفيدة من علاقتها المعززة مع دمشق الجديدة بقيادة الشرع، ومن علاقاتها العملياتية على الأرض مع الفصائل الكردية، خاصة قوات سوريا الديمقراطية، وزعيمها مظلوم عبدي، الذي بات منفتحًا على تسوية واقعية تضمن حقوق المكون الكردي في إطار الدولة السورية الموحدة، مقابل انسحاب آمن من التبعية الأميركية.
تركيا لا تتصرف كقوة احتلال، بل كفاعل إقليمي يسعى لصياغة استقرار دائم في خاصرته الجنوبية، عبر دعم بنية سياسية تضمن بقاء سوريا موحدة، مع لامركزية إدارية، وتأمين شراكة أمنية جديدة مع الحكومة الشرعية بقيادة أحمد الشرع. هذا التحول في العلاقة بين أنقرة ودمشق لم يكن ليحدث لولا الانهيار الكامل للنظام السابق، وخروج إيران من المعادلة بعد هزيمتها الميدانية والسياسية، وانسحاب روسيا بسبب أزماتها الداخلية وانشغالاتها العالمية. أما حزب الله، الذراع الإيرانية الأخطر، فقد انتهى عمليًا بعد مقتل قائده وتفكك بنيته في لبنان، ما أدى إلى تفريغ الساحة من أي حضور عسكري طهراني فاعل.
الملف السوري لا يُدار الآن من العواصم التقليدية، بل من محور جديد تشكل بين أنقرة ودمشق الجديدة، بدعم مباشر من واشنطن، وبدفع إضافي من القوى الخليجية، خاصة في ضوء التوجه لاستئناف تصدير الغاز القطري نحو البحر المتوسط عبر السعودية والأردن وسوريا. هذا التطور لا يحمل دلالة اقتصادية فقط، بل سياسية بامتياز؛ إذ يمثل اعترافًا ضمنيًا بشرعية حكومة أحمد الشرع، ويعطي دمشق الجديدة دورًا استراتيجيًا كممر للطاقة، وشريكًا محوريًا في إعادة بناء الأمن الإقليمي.
ما يجري اليوم في شمال شرق سوريا ليس مجرد إعادة انتشار لقوات أو ترتيب مناطق نفوذ، بل هو تحول جذري في فلسفة إدارة الأزمة، من خلال استبدال منطق الهيمنة بالاحتواء، والسلاح بالاقتصاد، والخصومة بالاندماج. الأطراف التي ستتحكم بنهاية هذا الملف هي تلك التي تفهم تركيبة المنطقة، وتملك علاقات متوازنة مع الفاعلين المحليين، وتحظى بغطاء دولي صلب. تركيا، في هذا السياق، باتت المرشح الأبرز لهذا الدور، لكنها لا تسعى للتفرد، بل لتقاسم عبء الاستقرار مع شركائها الجدد، لا سيما أن دمشق الجديدة تعتبر أنقرة شريكًا استراتيجيًا ومصدرًا رئيسيًا للدعم والاستقرار.
واشنطن، من جانبها، تمارس الآن دور "المهندس الصامت"، الذي يعيد ترتيب رقعة الشطرنج من دون أن يمد يده مباشرة إلى القطع. لكنها، من خلال دعمها للتحالف التركي – الشرعي السوري – الخليجي، تضمن استمرار مصالحها الحيوية في المنطقة، وتمنع عودة خصومها التاريخيين إلى الساحة. أما القوى الخليجية، فهي ترى في هذا التحول فرصة لإعادة النفوذ الناعم من خلال الاستثمار في البنية التحتية، وربط الأمن الإقليمي بطرق الطاقة الحديثة، بعد أن أصبحت سوريا، مجددًا، قلبًا جغرافيًا نابضًا في الشرق الأوسط.
في الخلاصة، فإن المشهد في شمال شرق سوريا يتجه إلى لحظة حسم تاريخية، لا تُبنى بالسلاح وحده، بل عبر توازن دقيق بين الأمن والسياسة والاقتصاد. ما يجري اليوم هو تأسيس لنظام إقليمي جديد، تُدار فيه سوريا من الداخل بتوافق خارجي غير مباشر، وتُنهي فيه قوى الاحتلال والتدخل مشروعها، لتحل محلها ترتيبات عقلانية، تقودها تركيا، ودمشق الجديدة، والخليج، وواشنطن، في معادلة يبدو أن لا مكان فيها بعد الآن لطهران أو موسكو أو وكلائهما.
الغاز الإيراني إلى سوريا… شريان الهيمنة الذي انقطع
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
19:25:52 – 18 أبريل 2025
لم تكن أنابيب الغاز التي رُسمت على الورق بين طهران ودمشق مجرد مشروع اقتصادي، بل كانت أداة جيواستراتيجية من الطراز الأول، تحمل في جوفها حلمًا إيرانيًا بربط المشرق بالمصالح الإيرانية بشكل غير قابل للفك. فإيران، التي كانت تدرك محدودية نفوذها الدبلوماسي، لجأت إلى الغاز كأداة ناعمة للهيمنة، تمزج بين الحاجة الاقتصادية والانخراط السياسي القسري.
بدأت الفكرة فعليًا في العقد الأول من الألفية الثالثة، حين طُرحت مبادرة لمدّ خط غاز يُعرف باسم "خط الصداقة الإسلامية"، يمتد من حقل بارس الجنوبي في إيران مرورًا بالعراق، ليصل إلى الأراضي السورية، ويكون له منفذ محتمل إلى المتوسط. في ظاهر الأمر، بدا المشروع فرصة لإنعاش اقتصادات الدول الثلاث، لكنه في جوهره كان محاولة إيرانية لربط هذه العواصم بخيطٍ طاقوي واحد، يجعل الفكاك من النفوذ الإيراني شبه مستحيل.
كانت دمشق في ذلك الوقت، وتحت حكم بشار الأسد، قد فتحت أبوابها لكل أشكال الدعم الإيراني: اقتصادي، عسكري، أمني، وطائفي. وكان الغاز أحد أدوات هذه العلاقة. ففي ذروة الحرب السورية، وبالرغم من أن المشروع لم يكتمل فعليًا، استُخدمت الاتفاقيات المتعلقة بالغاز كغطاء سياسي لشرعنة الوجود الإيراني، وكأن إيران تقول للعالم: "نحن هنا لنساعد سوريا على البقاء، وليس فقط لفرض الهيمنة".
لم تكن دمشق تتلقى الغاز فعليًا بكميات مؤثرة، لكن مجرد التفاهمات والتعهدات المستقبلية أعطت طهران مبررًا للاستثمار طويل الأمد في البنية التحتية والوجود الميداني. وبحسب ما تكشفه الوثائق الخلفية، فقد كان هناك تصور إيراني لاستنساخ نموذج الغاز الروسي مع أوروبا: أن تظل سوريا رهينة للطاقة الإيرانية كما ظلت برلين رهينة للغاز الروسي.
لكن كل شيء تغير بعد عام 2022، حين بدأت موازين الحرب تميل لصالح قوى إقليمية جديدة، وبدأت روسيا تنكفئ بسبب حرب أوكرانيا، وواجهت إيران موجات احتجاج داخلية أضعفت مركزها المالي والدبلوماسي. ومع تصاعد التفاهمات التركية-العراقية-الخليجية، أصبح المشروع الإيراني يُنظر إليه كعبء لا كفرصة، وبدأت بغداد، ومن ثم دمشق، تبحثان عن مصادر بديلة للطاقة لا تحمل شروطًا سياسية.
في ظل انهيار النظام السوري القديم، لم تعد دمشق مضطرة لمجاراة الخطاب الإيراني. ومع بروز قيادات أكثر براغماتية في سوريا الجديدة، بات واضحًا أن الأولوية ستكون لإعادة الإعمار عبر الشراكة مع قوى تمتلك تمويلًا حقيقيًا لا أيديولوجيا مشروطة. وهنا دخل الغاز القطري، وربما في المستقبل الغاز العراقي أو التركي، كمصادر بديلة تفتح للسوريين نافذة على الاقتصاد دون أن تغلق عليهم نوافذ السيادة.
أما طهران، ففقدت برهانها الأساسي: لقد كانت سوريا هي المعبر الاستراتيجي نحو المتوسط، ومن خلالها كانت تحلم إيران بأن تصبح جزءًا من منظومة الطاقة العالمية. لكن هذا الحلم انهار، ليس فقط بفعل فقدان النفوذ العسكري، بل لأن السوق لم يعد بحاجة لما تُقدمه إيران.
الخسائر التي تكبّدتها إيران جراء انقطاع هذا المشروع لا تُقاس فقط بالدولار، بل بتفكك شبكة المصالح الإقليمية التي بنتها حول فكرة التمدد. كانت سوريا الركن الجنوبي الغربي لمحور المقاومة، ومجرد فقدان هذا الركن يجعل من كل محور طهران مجرد أشلاء جغرافية متناثرة، لا رابط بينها سوى الحنين الأيديولوجي.
الردع الإيراني عبر الغاز سقط، والسيطرة بالأنابيب انهارت. وباتت طهران كمن يحمل المفتاح دون أن يعرف أين الباب. فالعراق يتحرر تدريجيًا، وسوريا خرجت من العباءة، ولبنان غارق في أزمة بلا مخرج. لم يبقَ لإيران إلا ذكرى مشروع كان يومًا ما يُوصف بأنه "أنبوب الثورة".
في عالم الطاقة، لا يكفي أن تمتلك الغاز، بل أن تعرف كيف تربطه بسياسة ناعمة وقادرة على البقاء. وإيران أخفقت في ذلك، لأنها ظنت أن اللهيب المذهبي يمكن أن يمرّ داخل الأنابيب دون أن يُشعل الأرض من تحته.
اليوم، تبحث سوريا عن البدائل، وتعلم أن من يتحكم بخطوط الطاقة يتحكم بخياراتها. لكن هذه المرة، القرار سيكون مختلفًا. لن يُبنى على الولاء، بل على المصلحة. ولن يكون الغاز أداة للهيمنة، بل وسيلة للتوازن. وهنا، تبدأ سوريا فعليًا بالخروج من تحت الرماد.
وفيما تحصي إيران خسائرها من فقدان الشام، تدرك أن السيطرة على بغداد لم تعد كما كانت، وأن كل ما تبقى من مشروع الهيمنة الغازية هو سردية مهزومة… تُروى داخل حدودها، وتُبكَى بصمت.
النظام الدولي لا ينهار… بل يُعاد تنصيبه بنسخة أميركية محدثة
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
02:06:21 – 18 أبريل 2025
حين يتحدث العالم عن نهاية النظام الدولي، غالبًا ما يُصوّر المشهد وكأنه انهيار شامل للقواعد، وتفكك في التحالفات، وصعود لقوى جديدة تُزيح القديمة. لكن الحقيقة أن النظام لا ينهار بالصورة الدرامية التي يتخيلها البعض، بل يُعاد تنصيبه بهدوء، على هيئة تحديث للنسخة السابقة، دون تغيير كامل في هوية من يدير الخوادم العالمية. تمامًا كما يُحدّث نظام التشغيل في غرفة تحكم مركزية، يُعاد تحميل النظام الدولي بإصدار جديد، دون أن يشعر أغلب المستخدمين إلا بتغييرات طفيفة… لكنها تغييرات عميقة في جوهر التحكم.
الولايات المتحدة، ورغم ما يُقال عن تراجعها، هي من يُشرف على هذا "التنصيب الجديد". لم تغادر مركز القيادة، لكنها سمحت للفوضى أن تتقدم قليلًا حتى تُبرر عودتها بنظام أفضل. حرب أوكرانيا، وتفكك النفوذ الروسي، وانكشاف الصين في جبهات التكنولوجيا والطاقة، كلها ليست مشاهد عرضية، بل مراحل متفق عليها ضمنيًا لتفكيك النظام القديم، ثم إعادة بنائه ضمن منطق استيعابي جديد، يُبقي واشنطن في المركز، ويمنح الآخرين مساحات تشغيل… دون منحهم صلاحيات الجذر root privileges.
التحول الأبرز في هذا "التنصيب الجديد" ليس في شكل التحالفات، بل في طبيعة الوظائف.
لم يعد يُطلب من أوروبا أن تكون درعًا عسكريًا فقط، بل أن تُعيد ترتيب أسواق الطاقة، وتتحول إلى لاعب رقمي قادر على إزاحة الصين من بعض مجالات التقنية الدقيقة. ولم يُطلب من اليابان وكوريا حماية الممرات فقط، بل تحمل جزء من العبء الاقتصادي لحلف المحيطين.
أما الشرق الأوسط، فدوره أُعيد ضبطه: من ساحة صراعات إلى نقطة وصل في ممرات الطاقة والغذاء والتقنية، بشرط أن تُبقي على استقرار نسبي دون إثارة زوابع استراتيجية خارج السيطرة.
هذا "النظام المحدَّث" لا يعتمد على القواعد القانونية فقط، بل على شبكة أعراف مرنة، يتم التحكم بها من خلال أدوات جديدة:
العقوبات الذكية، التحكّم في المنصات الرقمية، إدارة سلاسل الإمداد، النفوذ عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، والتدخل في البنية الأخلاقية للرأي العام العالمي.
لم تعد القواعد تُكتب فقط في مجلس الأمن، بل في وادي السيليكون، وصالات "وول ستريت"، وخوادم أمازون ومايكروسوفت، وبين حروف اللغة الإنجليزية حين تُفرض كممر إجباري لفهم البيانات والمعرفة.
والأهم أن هذا النظام لا يُدار من موقع واحد، بل من "سحابة سيادية"، تُمكّن الولايات المتحدة من التحكم في توقيت أي دولة، لا بقوة الجيوش، بل بقوة التعطيل.
الدولة التي تخرج عن المسار، تُعزل رقميًا. والتي تُفكر في بديل للهيمنة، يُعاد تصنيفها ضمن "القائمة الرمادية"،
وتلك التي تفكر في بناء تحالف مضاد، تُستدعى إلى الطاولة لإعادة برمجة علاقتها تحت بند "المصلحة المشتركة"، لكن دون امتلاك حق التعديل في بنية النظام.
أما الصين، رغم صعودها، فهي حتى الآن لم تُنتج نظامًا بديلًا، بل تُعيد إنتاج النظام الأميركي بلهجة آسيوية.
والدول الأوروبية، رغم تنوعها، ما تزال تبحث عن نسخة من التبعية "ذات الكرامة".
أما روسيا، فبعد أن كادت أن تكون "المشاغب الذي يغير قواعد اللعبة"، أُجبرت على العودة إلى دائرة الضبط، وتوقفت عند حدود الانهاك دون امتلاك القدرة على التغيير البنيوي.
وهكذا تُعاد تنصيب النسخة الجديدة من النظام الدولي، بإشراف من واشنطن، وموافقة جزئية من الحلفاء، ورضوخ محسوب من المنافسين.
ليست هذه النسخة نسخة هيمنة خشنة، بل هيمنة ناعمة ذات بنية معلوماتية، تُبقي الجميع على اتصال بالمركز، وتُخضع كل دولة لشروط تشغيلها الخاصة.
وكلما حاولت دولة أن تُحدث اختراقًا حقيقيًا، قوبلت بسؤال غير معلن:
هل أنت تملك نظامك الخاص… أم مجرد واجهة تشغيل على نظام آخر؟
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
النظام الدولي لا ينهار كما يظنّ الطوباويون…
بل يُعاد تشغيله كمنصة رقمية،
تُحدّث صيغتها، وتُحذف بعض وظائفها القديمة،
لكن يظل "المالك الحقيقي" يعرف كلمة المرور.
وفي عالم اليوم، لا ينجو من الهيمنة من يرفع صوته،
بل من ينجح في كتابة كود بديل… قبل أن يتم إغلاق النافذة.
روسيا في لحظة الرد المتأخر… كيف تستخدم الذرة لتأخير هزيمتها؟
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
16 أبريل 2025
حين تتأخر في المعركة، لا تملك رفاهية المبادرة… لكنك قد تملك القدرة على التعطيل.
هذه هي روسيا اليوم: قوة كبرى فقدت مراكزها التقليدية في الشرق الأوسط، تراجعت عن أطراف أوروبا، وخرجت من سوريا دون استعراض، وتقلصت هوامش تحركها في آسيا الوسطى، لكنها لم تُعلن الانسحاب… بل قررت أن تُقاوم عبر آخر ما تبقّى لها: الطاقة النووية.
في عالم يحاول التحرر من الغاز والنفط، بقي للكرملين سلاح لم يُستنزف بعد، لم يُعاقَب، ولم يُستبدَل بسهولة: وقود المفاعلات النووية.
سلاح بارد لا يقتل، لكنه يُجمّد. لا يُطلق شررًا، لكنه يُعطّل أجهزة بكاملها.
حين لوّحت موسكو في منتصف أبريل 2025 بوقف تصدير الوقود النووي إلى عدد من الدول الأوروبية، لم تكن تُهدد أوروبا فحسب، بل كانت تُعلن للعالم أن معركة الردع لم تنتهِ، بل فقط انتقلت من الميدان إلى المختبر.
الذرة هنا ليست سلاحًا عسكريًا، بل أداة تأخير سياسي واقتصادي ونفسي.
ففي الوقت الذي بدأت فيه أوروبا تُبني استراتيجياتها الجديدة على الطاقة النظيفة والتقنيات البديلة، تُذكّرهم روسيا بأن نصف مفاعلاتهم لا تزال تحتاج توقيعها، ومفاعلًا واحدًا متوقفًا كافٍ ليُربك شبكة كهرباء كاملة.
إنه الرد المتأخر… لكنه مؤلم.
الكرملين لا يراهن على الفوز، بل على إطالة أمد الخسارة، وتأجيل سقوط الهيبة، وإجبار الخصوم على الاستمرار في التفاوض ولو من موقع أعلى.
هذا النوع من الردود ليس ناتجًا عن عبقرية لحظية، بل عن فهم عميق لما تبقى من أوراق روسيا في عالم يتحرك بعيدًا عنها.
لقد أدركت موسكو أن الغاز لم يعد كافيًا، وأن النفط يخضع لعقوبات وحصص وأسواق تُدار بأدوات غربية، فقررت أن تفتح درج الطاقة النووية، حيث ما زالت تملك ميزة نسبية تُرعب الأوروبيين: الاعتمادية التقنية.
الخطورة في الأمر أن هذه الورقة النووية ليست مؤقتة، بل تحتاج سنوات لتجاوزها.
فالدول الأوروبية التي تعتمد على وقود روسي، تحتاج إلى بنية تحتية كاملة لإعادة هيكلة التزود، ويكاد يكون من المستحيل الاستغناء السريع عن روسيا دون تكاليف هائلة.
ومَن يُراهن على كندا أو كازاخستان، يدرك أن "الجاهزية" هناك أقل بكثير، والإمداد أكثر حساسية.
هذا يعني أن روسيا تُخاطب الغرب من مكان مختلف:
أنتم تربحون المعارك… لكنكم ما زلتم متصلين بي كي تعمل مصانعكم، وتبقى مفاعلاتكم مضيئة.
تلك هي الرسالة الصامتة التي يُطلقها بوتين، بلا خطاب، وبلا رصاصة.
إنها مرحلة الانتقال من السيطرة إلى الإرباك، ومن التوسع إلى التخريب الهادئ، ومن الهيمنة إلى سياسة الألغام المؤجلة. فكل صفقة وقود نووي روسي تتحول اليوم إلى عبوة زمنية، إن لم تنفجر على شكل توقف مفاجئ في الكهرباء، فستنفجر على شكل حساب سياسي تراكمي… يجعل أوروبا أكثر حذرًا، وأكثر اضطرارًا لإبقاء روسيا على الطاولة.
وما يُثير الانتباه أكثر، أن روسيا في هذا السياق لم تستخدم ورقة "السلاح النووي العسكري" كما يفترض البعض، بل استخدمت الشكل "المدني" للطاقة النووية كأداة ضغط أخلاقي وقانوني. فالعالم لا يستطيع أن يُدين موسكو إذا قررت وقف بيع الوقود، لأن البيع قرار سيادي، لكن التبعات قد تكون فادحة… وموسكو تعرف ذلك تمامًا.
ومع دخول العالم مرحلة ما بعد الهيمنة الأحادية، تُحاول روسيا أن تبقى حاضرًا لا من خلال موقعها الجغرافي، ولا بترسانتها العسكرية، بل بشبكة مصالح تقنية معقدة يصعب تفكيكها سريعًا.
إنها تتنفس من رئة الذرة… لا لكي تنتصر، بل لكي تبقى.