رئيس التحرير:
هندسة الأمن الدولي: نافذة متخصصة في دراسة بنية النظام الأمني العالمي، وآليات حفظ أو خرق الأمن الجماعي، مع التركيز على المنظمات الأمنية، العقائد العسكرية، الردع النووي، وأمن المضائق والممرات المائية الحيوية.
تشمل هذه النافذة:
الناتو، مجلس الأمن، الأمن الجماعي
سباق التسلح، التوازن النووي
التهديدات الأمنية العابرة للقارات (الإرهاب – الأمن السيبراني)
النقاش حول مشروعية التدخل العسكري وأمن الدول الصغيرة
تركيا وسياسة النوافذ المفتوحة: هل تُهندس أنقرة الأمن الأوروبي من إسطنبول؟
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الاثنين 2 حزيران/يونيو 2025
ليس اللقاء بين الروس والأوكرانيين في إسطنبول حدثًا عابرًا. ما يجري في قصر تشيراغان لا يُختزل في تبادل وثائق أو صور دبلوماسية. بل هو، عمليًا، تمرين أولي على ما يمكن أن يُصبح نموذجًا بديلًا لإدارة الصراعات الكبرى في زمن ما بعد فشل النظام العالمي التقليدي. تركيا تعرف جيدًا أن المشهد الدولي يمر بفترة انتقالية معقدة، وأن ثقل واشنطن يتراجع عن إدارة التفاصيل، مقابل بروز قوى إقليمية تطمح لاحتلال موقع "المُيسّر" لا المُهيمن. ولهذا تبدو أنقرة في موقع مثالي للعب هذا الدور، إن أحسنت ضبط إيقاع التوازنات.
ما يجري في الميدان الأوكراني لم يعد كافيًا للحسم العسكري، ولا كافيًا للرضا السياسي. موسكو لا تملك تفويضًا دوليًا للاستمرار، وكييف لا تملك قدرات كافية للتقدم. أما أوروبا، فهي تستنزف ذاتها سياسيًا وماليًا، في حرب لا تملك أدوات حسمها. وحدها تركيا وجدت ثغرة في هذا المشهد؛ لم تعد طرفًا مؤيدًا أو معارضًا، بل أصبحت منصّة تفاوض حيّة، يستمع فيها الجميع إلى الجميع، دون وساطة غربية مُلوّثة بثقل التاريخ.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تُمسك فيها أنقرة بخيوط نزاع دولي. لكنها المرّة الأولى التي تكون فيها قادرة على تصدير موقعها كبديل مؤسسي للوساطة. فهي ليست دولة محايدة فقط، بل دولة جُربت ولم تُخن. لم تقطع علاقاتها بروسيا، ولم تمنع تسليح أوكرانيا. لم تشارك في عقوبات، ولم تهادن بوتين. بل حافظت على خطوط اتصال متوازية. هذه الهندسة السياسية الدقيقة لا تُبنى خلال أسابيع، بل هي ثمرة مشروع طويل بدأ منذ سنوات، يعيد تعريف موقع تركيا بين الشرق والغرب، بين الحرب والدبلوماسية.
دعوة أوكرانيا لعقد قمة ثلاثية تشمل ترامب، زيلينسكي، وبوتين، لم تأتِ من فراغ. ثمة إدراك في كييف أن النمط الأوروبي أثبت فشله. وأن تركيا قادرة على إقناع واشنطن، أو على الأقل جناحها الترامبي، بدور مختلف. لكن هذا المسار لن يُكتب له النجاح ما لم يُستثمر في لحظة التوازن القائم: فلا نصر ساحق لأي طرف، ولا انهيار وشيك لأي طرف، بل لحظة تجمّد استراتيجي تحتاج إلى كسر ذكي. وهنا يبرز "العقل التركي" الذي يقرأ الصراعات من بوابة المصالح لا العواطف.
أهمية الجولة الأخيرة لا تكمن في نتائجها فقط، بل في شكلها الزمني. الجولات التي تُعقد كل شهر تقريبًا، تعني أن هناك جدولًا زمنيًا غير معلن، تقوده أنقرة بهدوء. كل لقاء يُنتج بندًا إنسانيًا جديدًا. تبادل رفات، قائمة أطفال، تخفيف تصعيد. وكأن تركيا تعيد "تقطيع الحرب" إلى ملفات إنسانية وأمنية يمكن تفكيكها واحدة تلو الأخرى. إنها ليست خطة سلام شاملة، لكنها خطة تفكيك ذكي للأزمة، من الأطراف لا من المركز.
إذا استمرت تركيا على هذا النهج، فإننا أمام مشهد يتغير: من نظام عالمي مهيمن إلى نظام إقليمي مُيسّر. ستكون تركيا حينها دولة تؤسّس لصيغة وساطة مبنية على الخبرة الميدانية، والمرونة الاستراتيجية، والشرعية الإقليمية. صيغة تستبدل مراكز القوى التقليدية بمراكز نفوذ مرنة.
لكن هذا السيناريو، رغم جاذبيته، يواجه تحديات خطيرة. أولها أن روسيا لا تزال تنظر إلى تركيا بعين الريبة؛ وثانيها أن الغرب قد لا يسمح بأن تستحوذ أنقرة على هذا الدور دون ثمن سياسي باهظ. وثالثها، أن الداخل التركي نفسه قد لا يحتمل هذا الضغط الاستراتيجي إن لم تُترجم الوساطات إلى مكاسب اقتصادية واضحة.
في النهاية، لا تُقاس نجاحات الوساطة بعدد اللقاءات، بل بقدرتها على خفض التوتر وترسيخ النية السياسية. ما فعلته تركيا حتى الآن يُثبت أن الإرادة موجودة، والخبرة متراكمة، لكن بقاء النافذة مفتوحة لن يتحقق إلا إذا آمنت الأطراف بأن إسطنبول ليست فقط عاصمة الجمال، بل مدينة السلام القاسي أيضًا.
أردوغان بين جبهتين: كيف تُهندس تركيا أمنها من غزة إلى الشمال السوري؟
د. أيمن خالد - رئيس الحرير
الاثنين – 5 أيار 2025
في عالم تتآكل فيه مراكز الضبط الدولية، وتختلط فيه مشاهد الحرب بالإغاثة، يبرز الاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب بوصفه مؤشرًا دقيقًا على تحوّل تركيا إلى مركز هندسة أمن ميداني مزدوج، يُمسك بخيوط جبهتين بالغتي التعقيد: غزة وسوريا.
في غزة، لم يكن حديث أردوغان عن الوضع الإنساني مجرّد تسجيل موقف أخلاقي، بل كان تأطيرًا لدور تركي في إدارة بوابة الحصار والمعابر والمساعدات، بالتوازي مع تصعيد المواجهة ضد إسرائيل في حقل الخطاب السياسي، لا الميدان العسكري. أنقرة تُدرك أن مجرد الدخول على خط "التمثيل الإنساني" في غزة يمنحها موطئ قدم في صياغة المرحلة التالية من الحرب، أي مرحلة إعادة الإعمار أو إعادة التموضع.
أما في سوريا، فإن إشارات أردوغان إلى "حماية وحدة الأراضي السورية" تعكس تحوّلًا في الخطاب التركي من التدخل العسكري إلى الضمان الجيوسياسي. فأنقرة الآن تتحدث إلى واشنطن ليس بوصفها طرفًا إقليميًا فقط، بل بوصفها "الجهة الوحيدة التي تملك احتكاكًا مشروعًا ومتواصلًا مع الأرض السورية"، في وقت تنكفئ فيه روسيا، ويُعاد رسم شكل النفوذ الإيراني.
المعادلة التركية المعروضة على البيت الأبيض واضحة: نحن نحمي استقرار جنوب سوريا عبر ضبط الفوضى، ونبقي شمال سوريا في منطقة أمان نسبي، ونستطيع فتح قنوات مع الحكومة الجديدة دون أن نُغضب المعارضة. أي أننا بوابة أمن وشرعية في وقتٍ انهارت فيه بوابات كثيرة.
الهندسة الأمنية التركية تستند إلى خبرة ميدانية طويلة، ومرونة سياسية واضحة، وقدرة على إدارة التناقضات. فأنقرة حاليًا تُنسّق مع قطر في غزة، ومع حكومة بغداد في الملف الحدودي، ومع حكومة أحمد الشرع في سوريا، ومع حلف الناتو في ظل عضويتها الفعلية، ومع واشنطن رغم التصادمات السابقة.
السؤال الكبير هو: هل تقبل الولايات المتحدة بدور تركي مركزي في صياغة أمن الإقليم؟ الإجابة لا تتوقف على الاتصال الهاتفي، بل على حدود التفاهمات المقبلة: هل سيسمح البنتاغون لتركيا بتوسيع هامش المبادرة في ظل انشغال واشنطن بالمسرحين الإيراني والصيني؟ وهل ستصمت إسرائيل على نفوذ تركي يتعاظم في غزة تحت غطاء إنساني؟
التحليل البارد للمشهد يُظهر أن أنقرة لا تُراهن فقط على الموقف الأميركي، بل تُراهن على لحظة الاضطراب العالمي لتُقدّم نفسها كعامل استقرار لا يمكن تجاوزه. وبذلك، تصبح الحملة التركية في غزة "تسويقًا للضمير"، والحضور التركي في سوريا "تسويقًا للقدرة"، وبين الضمير والقدرة تُهندس تركيا أمنها الوطني وتفرض وجودها كقوة مركزية صاعدة في نظام إقليمي يتشكل من تحت الركام.
سقوط النظام الإيراني: هندسة الخريطة الجديدة للأمن العالمي
التوقيت: السبت 26 أبريل 2025 – 01:20:30
يتصدر سؤال "إلى أين يتجه النظام الإيراني؟" واجهة التفكير الاستراتيجي العالمي، في وقت يواصل فيه النظام في طهران ترنحه بين أزمات داخلية خانقة وعزلة دولية متفاقمة. وعلى الرغم من محاولات التماسك عبر سياسة التصعيد الإقليمي وتكثيف أوراق الضغط على الساحات العربية، إلا أن الشواهد تشير إلى أن النظام بات يواجه لحظة الحقيقة الكبرى التي لا تتسامح مع أنصاف الحلول.
يتعرض النظام الإيراني اليوم لضغوط مركبة: اقتصادية، اجتماعية، ديمغرافية، وإقليمية، مع تآكل داخلي واضح في ثقة القاعدة الشعبية، وتصاعد نقمة الطبقات الوسطى والفقيرة. لم تعد محاولات تصدير الأزمات إلى الخارج كافية لاحتواء الانفجار الداخلي. كما أن لعبة الاستثمار في الانقسامات الطائفية الإقليمية وصلت إلى طريق مسدود، وسط موجة متسارعة من التحولات الجيوسياسية.
في هذا السياق، تبرز تساؤلات استراتيجية خطيرة: من سيدافع عن النظام الإيراني إذا بلغ نقطة الانهيار؟ ومن سيدفع به إلى السقوط؟
تبدو روسيا، الغارقة في تداعيات حرب أوكرانيا، أقل قدرة على حماية حليفها الإيراني. أما الصين، فترى في إيران ساحة مصالح، وليست قضية وجودية تستحق المغامرة بمكانتها الدولية من أجلها. أوروبا، المنشغلة بتداعيات الانقسام الداخلي، ليست معنية بإنقاذ نظام متهالك، بل قد تجد فيه ورقة مساومة جديدة مع الولايات المتحدة. وفي النهاية، تقف واشنطن – بهدوء مريب – تراقب تصدع العمق الإيراني كما راقبت سابقًا انهيار الاتحاد السوفيتي.
الوجود الأمريكي القوي في العراق، الخليج، تركيا، الهند، وحتى في فضاءات آسيا الوسطى عبر قواعد غير معلنة، لا يبدو مجرد تموضع دفاعي. بل هو هندسة إستراتيجية مدروسة تتيح للأمريكيين التدخل الحاسم في اللحظة المناسبة، سواء بضربة عسكرية ذكية أو عبر دعم انتفاضة داخلية "مؤطرة" بمشروع تغيير سياسي كامل.
السؤال الأعمق: إذا سقط النظام الإيراني، هل تمتلك الولايات المتحدة خطة جاهزة لإدارة إيران الجديدة؟
تشير المعطيات إلى أن الإجابة على هذا السؤال هي نعم. بل ربما تكون إيران هي "الجائزة الكبرى" التي ظلت الولايات المتحدة تنتظر لحظة قطفها منذ غزو العراق 2003. ومع سيطرة أمريكية ناعمة أو مباشرة على إيران، سيكتمل الطوق الجيواستراتيجي حول روسيا والصين.
من جهة الغرب العراق.
من جهة الشرق أفغانستان (حتى مع التعقيدات الحالية).
من جهة الجنوب: الخليج وقواعده العملاقة.
ومن الشمال الشرقي: إيران الجديدة المستقرة أمريكيًا.
بهذه الخريطة، تتحول آسيا إلى ساحة مغلقة تحت النفوذ الأمريكي، مما يمنح واشنطن سيطرة استثنائية على مفاتيح الطاقة العالمية (نفط الخليج + نفط وغاز بحر قزوين)، ويفتح لها ممرات برية وجوية استراتيجية تربط آسيا الوسطى بالشرق الأوسط دون الحاجة للمرور بروسيا أو الصين.
أكثر من ذلك، وجود قواعد أمريكية دائمة في إيران سيغيّر معادلات الردع النووي والانتشار العسكري في المنطقة بأكملها.
سيتضاعف الضغط على روسيا من خاصرتها الجنوبية.
ستُحاصر الصين جيوسياسيًا عبر تطويق تدريجي لطريق الحرير الجديد.
أما إسرائيل، فستجد في سقوط النظام الإيراني تتويجًا لأحلامها الأمنية الكبرى، مع انحسار تهديدات أذرع إيران الإقليمية (حزب الله، الحوثيون، بعض المليشيات العراقية والسورية).
وفي المقابل، قد تحاول بعض القوى الإقليمية (مثل تركيا والخليج) استثمار لحظة ما بعد السقوط لبناء ترتيبات توازن جديدة، تحمي مصالحها من تحول إيران إلى مجرد قاعدة أمريكية عملاقة. لذا قد نشهد صراعًا إقليميًا دبلوماسيًا محمومًا حول من يشارك في إعادة بناء إيران الجديدة ومن يحظى بنفوذ فيها.
رؤية خاصة:
سقوط النظام الإيراني، إن حدث، لن يكون مجرد نهاية فصل سياسي قديم، بل بداية هندسة جديدة للأمن الدولي ستعيد رسم موازين القوى لعقود قادمة. لا يتعلق الأمر بإيران وحدها، بل بنقطة تحول جيوسياسية كبرى قد تطيح بالنسق الأوراسي القديم وتؤسس لعصر أمريكي جديد أكثر صرامة في إدارة العالم. المسألة تتجاوز سقوط نظام... إلى إعادة برمجة للكرة الأرضية ذاتها.
هناك المزيد من التحليلات الإستراتيجية المتعلقة بالنظام العالمي والتحالفات والأمن الدولي.
العراق وسوريا: حين تعيد الجغرافيا ترسيم موازين الأمن العالمي
د. أيمن خالد
خبير إستراتيجي وقانوني
السبت 26 أبريل 2025 – 17:56:45
تشهد الساحة الإقليمية اليوم تحوّلاً نوعيًا يعيد العراق وسوريا إلى صدارة المسرح الاستراتيجي الدولي، ليس بوصفهما مجرد ساحات صراع، بل باعتبارهما حجر الأساس في هندسة الأمن العالمي الجديدة. ليست الزيارات الأمنية ولا الاتفاقات الثنائية سوى انعكاس ظاهر لتحول عميق تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، التي قررت حسم تموضعها النهائي في هذا الملف عبر تحالف متكامل الأبعاد، ترتكز أضلاعه على بغداد ودمشق، وتُدير مفاصله أنقرة والخليج وفق أدوار مدروسة بدقة.
يمكن القول بثقة إن القرار الأمريكي هذه المرة لا يتعامل مع العراق وسوريا كملف عسكري منفصل، بل كمسألة أمن قومي دولي متداخلة مع منظومة التوازنات العالمية التي أعيد بناؤها بعد التغيرات الجيوسياسية الكبرى. تدرك واشنطن أن إخفاقها في تثبيت الاستقرار الهيكلي في هذين البلدين سيفتح المجال أمام قوى دولية منافسة لاستثمار الفوضى لفرض وقائع جديدة على الأرض، مما يدفعها إلى تبني نهج أكثر شمولية، يقوم على ثلاثية الإدارة العسكرية الناعمة، الاستثمار الاقتصادي المستهدف، والدبلوماسية الوقائية متعددة المسارات.
في هذا السياق، برزت تركيا كلاعب محوري لا غنى عنه، بفضل موقعها الجيوسياسي كصلة وصل طبيعية بين الخليج والعراق وسوريا. أنقرة تتحرك الآن باعتبارها الذراع الإقليمي التنفيذية للسياسات الغربية في هذه المنطقة، لكنها تفعل ذلك بدافع مصالحها الاستراتيجية أيضًا، لا فقط بدافع الشراكة الأطلسية. هي تدرك أن استقرار حدودها الجنوبية مع العراق وسوريا هو صمام الأمان لأمنها القومي، وأنها كلما عمّقت دورها الوسيط والفاصل بين الكتل المتصارعة، كلما عززت من مكانتها الإقليمية المستقلة في وجه الضغطين الروسي والإيراني.
بالموازاة مع ذلك، يتقدم المال الخليجي إلى الواجهة بوصفه "الطاقة المحركة" لمرحلة إعادة الإعمار المنتظرة في العراق وسوريا. دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات وقطر، تتحرك ضمن رؤية استراتيجية مزدوجة: الاستثمار في إعادة بناء المنظومة الاقتصادية للدولتين، والمساهمة في إعادة تشكيل البيئة الاجتماعية والسياسية بطريقة تمنع عودة الفوضى أو تغلغل القوى المنافسة. وهكذا تتبلور شراكة أمريكية – تركية – خليجية حول العراق وسوريا، هدفها النهائي خلق فضاء آمن مستقر متكامل مع منظومة الأمن العالمي الجديد.
غير أن الطريق إلى تحقيق هذا الهدف ليس معبّداً بالورود. العراق يعيش حالة احتقان داخلي بفعل التنافس بين الولاءات المتعددة، والشارع العراقي المأزوم نتيجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية قد يُستخدم أداة لعرقلة التقارب مع دمشق إذا لم يتم احتواء الغضب الشعبي عبر سياسات ذكية قادرة على شرح التحولات الإقليمية ومصالح العراق فيها. أما سوريا، فإنها تخوض معركة مزدوجة: إعادة بناء الدولة بعد الحرب، وإعادة بناء الشرعية الشعبية والسياسية في الداخل والخارج.
الخطير هنا أن أي اختلال في أحد طرفي المعادلة سينعكس على الآخر. فإذا أخفقت الحكومة العراقية في احتواء الغليان الداخلي، قد تتعرض خطط التقارب مع سوريا للتجمد أو حتى الانهيار. وإذا فشلت سوريا في تحقيق اختراق دبلوماسي أوسع في المجتمع الدولي، فقد تجد نفسها مجرد تابع هش داخل ترتيبات أمنية لا تتحكم في مسارها. لذلك يعتمد نجاح المشروع برمته على سرعة الحسم السياسي الداخلي في العراق وسوريا معًا، وسرعة إحراز مكاسب ميدانية تحسن المزاج الشعبي، وتُعيد الثقة بإمكانية بناء شرق أوسط أكثر استقرارًا.
في الجانب الآخر، تبدو القوى المعطِّلة للمشروع في حالة ارتباك استراتيجي. إيران، التي كانت تراهن على بقاء العراق وسوريا ضمن معسكرها التقليدي، تجد نفسها اليوم أمام واقع يتجاوز قدراتها على المناورة. موسكو، المنهمكة في أزماتها مع الغرب، تراقب المشهد من بعيد دون قدرة حقيقية على التأثير. أما الصين، فإنها تنظر إلى العراق وسوريا من زاوية اقتصادية بحتة دون نية للتورط في معارك إعادة هندسة النفوذ السياسي.
من هنا، يتضح أن المشهد لم يعد يحتمل الحياد أو التردد. الأطراف الإقليمية مدعوة إما للانخراط في مشروع بناء الاستقرار عبر التكيف مع السياسات الدولية الجديدة، أو مواجهة سيناريوهات العزل والاستنزاف البطيء. لا مجال للعودة إلى أنصاف الحلول أو التحالفات الفضفاضة التي لا تنتج إلا الفوضى. لقد دخل الإقليم عصر "التعاقدات الكبرى" التي تُبنى على أساس صفقات صريحة واضحة الأهداف والأدوار، وليس على مجرد أمنيات أو شعارات سياسية جوفاء.
ختامًا، يمكن القول إن ملف العراق وسوريا اليوم لم يعد مجرد تفصيل في لعبة الأمم، بل تحول إلى مقياس رئيسي لنجاح أو إخفاق إعادة بناء النظام العالمي بعد الزلازل الجيوسياسية الكبرى. من هنا، فإن الطريقة التي ستُدار بها هذه الملفات سترسم ملامح القرن الحادي والعشرين بأكمله. وفي قلب هذه اللعبة الكبرى، سيكون الأمن، والاقتصاد، والسياسة، أدوات متشابكة لرسم الخريطة الجديدة. ومن يملك القدرة على التحكم بخطوط التماس بين بغداد ودمشق، يملك بالتبعية مفاتيح البوابة الشرقية للأمن العالمي الجديد.
الولايات المتحدة لا تقود العالم… بل تُوزّع مهامه
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
01:03:26 – 18 أبريل 2025
في النظام الدولي الحديث، لم تعد القيادة تعني التواجد العسكري المباشر أو السيطرة الخشنة، بل أصبحت ترتكز على إدارة الدور وتوزيع المهام بما يضمن استمرار المركزية في القرار دون الحاجة إلى الاستنزاف في الحضور. الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ ما بعد الحرب الباردة، لم تعد تُمارس القيادة بالصورة التقليدية، بل تحولت إلى عقل مركزي يوزّع المهام وفق تصور يتجاوز مفهوم الهيمنة إلى مفهوم "الهيكلة التشغيلية" للنظام العالمي.
هذا التحول لم يكن اعتباطيًا، بل نتيجة تطور أدوات القوة الأميركية، من السلاح إلى المعرفة، ومن الوجود إلى التأثير. فبدلًا من خوض كل الحروب، أصبحت الولايات المتحدة تُدير التوازنات عبر قوى وسيطة، وأحلاف مرنة، ودول محورية تُمنح صلاحيات مؤقتة لتنفيذ وظائف محددة ضمن هندسة صممتها واشنطن مسبقًا. وفي هذا النموذج، لا تتحرك الدول بحرّيتها الكاملة، بل ضمن الأدوار التي تُرسم لها، سواء كانت حليفة أو خصمًا.
الوظيفة السياسية للدول باتت تُحدد وفق موقعها في هذه الخريطة الوظيفية، فهناك دول تُكلَّف بإثارة التوتر في مناطق معينة لتبرير الحضور الأميركي، ودول أخرى تُمنح صفة الاستقرار ليُعاد إنتاج الشرعية من خلالها، وأخرى تُستخدم كأدوات تفاوض أو أوراق ضغط في ملفات أوسع. هذا التوزيع لا يُعلن رسميًا، لكنه يُدار ضمن منظومة استخبارية واقتصادية وإعلامية دقيقة تجعل من أمريكا "مهندس الظل" لكل معادلة صاخبة في السطح.
في الشرق الأوسط، تُظهر الولايات المتحدة نفسها كمراقب أكثر من كونها فاعلًا مباشرًا، لكنها في الحقيقة لا تخرج من أي مشهد. من العراق إلى سوريا إلى الخليج، هي من تقرر متى يُعاد تشكيل السلطة، ومن يُسمح له بالصعود، ومن يُجبر على التراجع، حتى وإن لم تُعلن ذلك. فكل قوى الإقليم تتحرك ضمن نطاق الإدراك الأميركي، حتى عندما تظن أنها تمارس سيادة كاملة، فإنها تفعل ذلك داخل الحدود التي لا تُظهرها الخرائط، بل تُظهرها التفاهمات الخلفية.
في أوكرانيا، المثال أكثر جلاءً. لم تقم الولايات المتحدة بإرسال قواتها كما في العراق، لكنها أعادت تدوير الجبهة الروسية بطريقة تجعلها مفتوحة باستمرار، دون أن تتحمل وحدها كلفة الصراع. لقد أحسنت استخدام أوروبا، وجعلت من الاتحاد الأوروبي شريكًا متوترًا يُحارب دون أن يُدرك أنه في كثير من الأوقات لا يُقاتل لأجندته، بل يُنقذ مكانة واشنطن ضمن منظومة الغرب بأكملها.
أما روسيا، فليست في موقع التحدي الكامل كما يُصوّر البعض، بل تؤدي وظيفتها التاريخية في اختبار صبر المنظومة الغربية، ولكن ضمن سقف لا يُسقط النظام بل يُعيد ضبطه. وواشنطن تُراقب ذلك جيدًا، وتُدير الإيقاع بحيث لا تنتصر موسكو انتصارًا ساحقًا، ولا تنهزم هزيمة تُخرِجها من الحلبة، لأن بقاء روسيا داخل اللعبة جزء من التوازن الذي تحتاجه واشنطن كي تُبرر استمرار تفوقها الأخلاقي والتقني والمؤسسي في أعين حلفائها.
في آسيا، تُمارس واشنطن لعبة توازن أخرى أكثر تعقيدًا، فهي من جهة تُشجع على صعود الهند كقوة إقليمية قادرة على موازنة الصين، لكنها في الوقت ذاته تُبقي الهند داخل فلك الاعتماد على الشراكات الأميركية التقنية والعسكرية. وبهذا، تمنح نيودلهي مساحة للتحرك، لكنها لا تترك لها مفاتيح النفوذ الكاملة. إنها سياسة "التمكين المشروط"، حيث يُسمح لك أن تصعد، لكن دون أن تنفلت من شبكة المصالح التي تُنسج حولك بدقة.
وفي العالم العربي، لا تفرض أمريكا قيادتها بالقوة، بل تجعل من أمن الطاقة، وسلاسل الإمداد، وتوازن المصالح مع الصين، أدوات لإبقاء الجميع في حالة انتظار، وانتظار دائم لرد الفعل الأميركي. فالكل ينتظر من واشنطن موقفًا، حتى حين يُظهر استقلالية، وهذا يعني أنها تُحافظ على مركزيتها لا من خلال الخطاب، بل من خلال كونها نقطة العودة الوحيدة في كل سيناريو.
الأمر ذاته ينطبق على إسرائيل. فهي رغم كونها قوة إقليمية ذاتية التأثير، إلا أن قراراتها الكبرى تخرج من واشنطن، ولو عبر صمتها. وحين تصمت أمريكا، يتحرك الإسرائيلي بحرية. وحين تتحدث، يتغير المسار. هذا هو التواطؤ المنضبط الذي صنعته أمريكا بعناية: أن تمنح حلفاءها قدرًا من الاستقلال التكتيكي، دون أن تسمح لهم بممارسة استقلال استراتيجي حقيقي.
إدارة العالم لا تحتاج إلى وجود في كل ساحة، بل إلى قدرة على "ضبط الفوضى"، وتوجيه الأطراف المختلفة كي تلعب ضمن الخطة العامة دون أن تُدرك تفاصيلها. وهذه القدرة هي جوهر الهيمنة الأميركية في القرن الحادي والعشرين. إنها ليست هيمنة بالقوة، بل هيمنة بالتوزيع. توزيع الأدوار، وتوزيع الأزمات، وتوزيع الفوضى، ثم إعادة توزيع مخرجات كل ذلك إلى صالح نظام يبقى فيه المركز في واشنطن… مهما تغيّر الممثلون.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
الولايات المتحدة لا تحتاج إلى أن تكون على المسرح كي تدير العرض.
يكفيها أن تُوزع نصوصه، وتُراقب من الخلف، وتُعطي الإذن لكل مشهد بالبدء أو بالتوقف.
وفي عالمٍ يبحث عن زعامة صريحة، تبدو هي الزعيمة التي لا تصرخ، لأنها ببساطة…
الوحيدة التي تعرف متى يتكلم الآخرون، ومتى يسكتون.
إعادة هندسة أمن الخليج… السعودية ما بعد الحرب الصامتة
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
16 أبريل 2025
حين تنسحب الجيوش ولا يتراجع النفوذ، وحين تخفت أصوات المدافع لكن أثر الدولة لا يغيب، نكون أمام نمط جديد من القوة… قوة تُمارَس عبر أدوات غير قتالية، لكنها لا تقل حسمًا في النتائج. وهذه هي بالضبط الحالة السعودية اليوم، في ملف أمن الخليج، بعد أكثر من عقد على الانخراط المباشر في المشهد اليمني، ووسط تحولات إقليمية ودولية تُعيد تعريف مفاهيم الردع، والتحالف، والحدود.
منذ بدأت المملكة العربية السعودية إعادة تموضعها في الملف اليمني، بدا واضحًا أن الهدف لم يكن الانسحاب من المعركة، بل إعادة تعريف شكل المشاركة فيها.
لقد أدركت الرياض أن الزمن تجاوز المعارك الممتدة، وتكاليفها السياسية والاقتصادية والإعلامية، وأن استمرارها في الخطاب الدفاعي المباشر لم يعد يُنتج وزنًا استراتيجيًا بقدر ما يُضعف أدواتها الناعمة، ويستنزف طاقتها الهيكلية.
فكان التحوّل، وكان القرار الهادئ الحاسم: أن يكون الخليج محميًا، ولكن لا بالعسكر فقط… بل بالبُنية، والدبلوماسية، والمعلومات.
هذا التوجه تجسّد فيما وصفته مصادر سعودية بـ"التصور الاستراتيجي الجديد لأمن الخليج"، والذي لا يُبنى على استعراض القوة، بل على هندسة التوازن قبل اختلاله، وعلى قراءة مبكرة لمصادر التهديد، قبل أن تتحوّل إلى خطر فعلي. إنه تصور لا ينتظر الضربة، بل يُخاطب ما قبلها، ويُحيدها من الجذور.
تُدرك الرياض، أكثر من غيرها، أن أمن الخليج لم يعد شأنًا محليًا فقط.
فمنذ أن أصبحت الطاقة لعبة جيوسياسية عالمية، وغدت التجارة البحرية قضية أمن قومي دولي، صار أي تهديد في باب المندب أو مضيق هرمز أو حتى أعالي بحر العرب، ليس تهديدًا لدولة أو اثنتين، بل تهديدًا للنظام العالمي نفسه.
وهنا، لا بد أن نفهم أن السعودية لا تُفكر بأمن الخليج كجغرافيا ضيقة، بل كامتداد لخط التجارة الدولي من قناة السويس إلى مضائق الهند، مرورًا بكل النقاط الساخنة في الشرق الأوسط.
وهذا ما يفسر توسع نظرتها الأمنية لتشمل الأمن السيبراني، أمن الطاقة، إدارة الأزمات العابرة للحدود، منظومات الإنذار المبكر، وأيضًا شبكات التفاهمات الصامتة مع القوى الكبرى.
في مرحلة ما بعد الحرب، لا تحتاج الدولة الذكية إلى أن تبقى متمركزة فوق الأرض لتُثبت حضورها، بل تحتاج إلى أن تبقى ممسكة بالخرائط، بالتمويل، بالمنفذ، وبمستوى فهمها للزمن.
وما نراه في السعودية اليوم ليس تقليصًا للدور، بل نقلة نوعية من الأمن العمودي إلى الأمن الأفقي، من المواجهة إلى الاستباق، من التهديد إلى المناورة.
هذه الرؤية ليست مجرّد تنظير؛ فقد بدأت المملكة فعليًا بإعادة توزيع أصولها الأمنية في البحر الأحمر، من خلال مشاريع بنية تحتية، قواعد لوجستية، واتفاقات بحرية صامتة مع الدول المطلة، بالإضافة إلى تحديث شامل للبنية التحتية السيبرانية المرتبطة بالمؤسسات الحيوية في الطاقة، والاتصالات، والتمويل.
ومع تصاعد التنافس الدولي في الخليج بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، بدأت الرياض تلعب بدقة على خيوط التوازن. فهي لا تُغلق أبوابها أمام أحد، لكنها أيضًا لا تُسلّم مفاتيح أمنها لأي طرف.
وفي هذا، تُعيد المملكة تأهيل نفسها كدولة قادرة على بناء شراكات وفق منطق "توزيع الاعتماد"، لا منطق "الاحتماء بمحور". وهذا ما يمنحها مرونة نادرة في لحظة صراع النفوذ.
كما أن تقليص التورط المباشر في اليمن لا يعني انسحابًا، بل إعادة صياغة لتأثير جديد عبر أدوات غير تقليدية: دعم الدولة اليمنية الجديدة، الاستثمار في مشاريع تنموية، وإعادة ترميم صورة السعودية الإقليمية التي تضررت في سنوات الحرب، كل ذلك يُبنى اليوم بعناية، دون ضجيج.
واللافت أن الرؤية السعودية الجديدة تُقدَّم للعالم على أنها ليست فقط “خطة أمنية”، بل تصور حضاري لأمن الشرق الأوسط، حيث لا حاجة بعد اليوم للحرب لتأكيد المكانة، بل يكفي أن تكون الدولة قادرة على ضبط الإيقاع… وترك الآخرين يتحركون في مساحتها التي حدّدتها هي، لا غيرها.
إنه عصر "التحكم بلا تمركز"، و"الإحاطة بلا مواجهة"، و"الحضور دون انكشاف".
وهنا، يظهر أن القوة الحقيقية في الخليج لم تعد في عدد الطائرات المقاتلة، بل في عدد العقود الموقعة، وفي شكل التحالفات المبنية على المنافع لا التبعية، وفي القدرة على تنويع مصادر الحماية: بحرية، سيبرانية، مالية، وثقافية.
السعودية بهذه المقاربة تُعيد الخليج إلى طبيعته الأولى: منطقة مصالح كبرى… لا ساحة تصفية حسابات.
تحولات النظام العالمي وإعادة تشكيل هندسة الأمن والاستخبارات
هل نحن أمام نهاية نظام دولي قديم وبداية نظام جديد؟
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تأسس نظام دولي أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة، قائم على العولمة، الهيمنة العسكرية الغربية، وتفوق المنظمات الدولية التي تُكرّس هذا التوازن. غير أن العقدين الأخيرين شهدا تصدّع هذا البناء، لتُطرح تساؤلات عميقة: هل نشهد نهاية النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب الباردة؟ وهل نحن بصدد ميلاد هندسة أمنية جديدة تعكس توازنات وتحالفات مختلفة؟ في قلب هذه التحولات، تقف الاستخبارات كأداة حساسة لقراءة المتغيرات وتوجيه السياسات.
أولًا: صعود قوى دولية جديدة وتراجع الهيمنة الغربية
من أبرز المتغيرات التي تدفع نحو تشكّل نظام جديد هو صعود قوى منافسة للغرب، أبرزها الصين، التي لم تعد مجرد قوة اقتصادية صاعدة، بل تطرح نموذجًا بديلًا في الحكم، والعلاقات الدولية، وحتى في إدارة الأمن العالمي. مشروع “الحزام والطريق” وتحركاتها في بحر الصين الجنوبي، إلى جانب تعاظم قوتها التكنولوجية والعسكرية، كلها مؤشرات على إعادة تموضع عالمي.
إلى جانب الصين، تبرز روسيا كقوة معطّلة للمنظومة الغربية، كما رأينا في غزو أوكرانيا عام 2022، وهو الحدث الذي هزّ بنية الأمن الأوروبي وأعاد للحرب الباردة شبحًا جديدًا، لكن بأدوات وهويات مختلفة. هذا الصراع لم يكن مجرد غزو إقليمي، بل رسالة جيوسياسية بأن القواعد القديمة لم تعد مُلزمة.
ثانيًا: فشل المؤسسات الدولية التقليدية
كان يُفترض أن تكون الأمم المتحدة، مجلس الأمن، وحلف الناتو أدوات لحفظ السلام والنظام، لكن الأزمات المتلاحقة أثبتت عجزها عن التعامل الفعال مع التهديدات الجديدة. الفيتو الروسي-الصيني أمام قرارات حاسمة، والشلل في ملفات كفلسطين وقضايا المحاكم الدولية، كلها تعزز فقدان الثقة بهذه المنظومة.
حتى المنظمات الاقتصادية كـ منظمة التجارة العالمية، لم تعد قادرة على فرض قواعد اللعبة، في ظل توجه كثير من الدول نحو الحمائية، وعودة السياسات القومية في وجه العولمة، كما ظهر بوضوح بعد جائحة كورونا.
ثالثًا: تحولات أمنية غير تقليدية
لقد تغير مفهوم “الأمن” جذريًا. فبدلًا من التركيز على الجيوش والأسلحة، أصبح الأمن السيبراني، أمن الطاقة، الأمن الصحي، وأمن البيانات في صدارة الاهتمام العالمي. الهجمات الإلكترونية التي تتعرض لها بنوك وبنى تحتية في الغرب، تدخلات الذكاء الاصطناعي في الانتخابات، والتجسس الرقمي بين القوى الكبرى، كلها تعكس بيئة أمنية جديدة تُعيد تشكيل الاستخبارات وطرق إدارتها.
الاستخبارات لم تعد تتعامل فقط مع التهديدات من دول معادية، بل مع شبكات، شركات خاصة، جماعات رقمية، وتنظيمات لامركزية تتنقل في الفضاء الإلكتروني بحرية. وبالتالي، فإن إعادة هندسة الأمن الدولي أصبحت مرتبطة بإعادة تصور دور الاستخبارات ذاتها.
رابعًا: تصاعد دور الفواعل غير الحكومية
لم يعد الأمن قضية بين الدول فقط. فتنظيمات مثل داعش، ميليشيات عابرة للحدود، شركات أمنية خاصة مثل Wagner أو Blackwater، وحتى المنصات الرقمية مثل Meta وTwitter/X، باتت تلعب دورًا فعليًا في التأثير على الأمن والسيادة.
في حرب غزة الأخيرة، استخدمت المقاومة تقنيات منخفضة الكلفة لكنها ذات أثر استراتيجي، مثل المسيرات والصواريخ محلية الصنع، مما كشف حدود التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، وأحرج أجهزة استخباراتية اعتُبرت من الأقوى عالميًا. هذه الحرب مثّلت علامة بارزة على نهاية عصر “الحروب التقليدية” وبداية عصر جديد من “الردع اللامتناظر”.
خامسًا: تراجع الدور الأميركي وتعدد الأقطاب
أظهرت أزمات كأفغانستان، العراق، وأوكرانيا، أن الدور الأميركي في النظام الدولي بات محل تشكيك، حتى من داخل حلفائه. الانسحاب المفاجئ من كابول، تردد واشنطن في حسم مواقفها، والارتباك في سياسة الردع تجاه روسيا والصين، كل ذلك أتاح المجال لقوى جديدة للدخول على خط تشكيل النظام الجديد، سواء بشكل مباشر أو من خلال تحالفات إقليمية.
في المقابل، تشهد الساحة الدولية صعودًا لـ نظام متعدد الأقطاب، حيث تتحالف دول الجنوب العالمي، وتبحث عن أطر بديلة مثل بريكس أو منظمة شنغهاي للتعاون. هذه التحركات تعني أن العالم يتجه نحو هندسة أمنية جديدة لا تُبنى فقط على الغرب، بل على تفاهمات وتحالفات مختلفة.
سادسًا: الأزمة بين الاستخبارات والشرعية
أخيرًا، هناك أزمة ثقة بين الاستخبارات والشرعية السياسية. استخدام المعلومات الاستخباراتية في تبرير سياسات مشبوهة – كما حدث في العراق عام 2003 – أو التجسس على الحلفاء كما كشفت وثائق سنودن، أثار تساؤلات حول من يراقب أجهزة الأمن؟ ومن يضمن ألا تتحول إلى أدوات سياسية بدل أن تكون خادمة للمصلحة العامة؟
ومع تطور الذكاء الاصطناعي، تدخل الاستخبارات عصرًا جديدًا من القوة، لكنه يتطلب ضبطًا قانونيًا وأخلاقيًا حقيقيًا.
ارى في ختام هذا التحليل نحن فعلاً أمام نهاية هندسة أمنية قديمة بُنيت على توازنات ما بعد الحرب الباردة، وبداية أخرى جديدة، متعددة، مرنة، وغير مستقرة. الاستخبارات، بصفتها عقل الدولة، مدعوة لإعادة التموضع أمام هذه المتغيرات المعقدة، لتواكب التحديات، وتوجه السياسات نحو استقرار عالمي جديد، ولو في ظل الفوضى.