رئيس التحرير:
ورقة السياسات (Policy Paper)..
هي وثيقة تحليلية موجزة، تُعدّ لتقديم فهم عميق لمشكلة أو قضية معينة، وتُقترح من خلالها خيارات سياسية محددة أو توصيات عملية لصُنّاع القرار أو الرأي العام أو الجهات المختصة.
هي ليست مقال رأي، وليست بحثًا أكاديميًا طويلًا، بل وثيقة وظيفتها إقناع جهة ما بتبني خيار، أو الحذر من مسار، بناء على تحليل عقلاني مدعوم بالوقائع.
التجويع كسلاح: البعد الاستراتيجي لنموذج الإغاثة الإسرائيلي–الأميركي في غزة
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الأربعاء 28 أيار/مايو 2025
غزة محاصرة، لكن هذا لم يبدأ اليوم. الفرق اليوم أن الحصار لم يعد وسيلة دعم لحرب عسكرية، بل أصبح هو الحرب. القصف يُقتل به الناس. لكن الخبز يُسيطر به على من تبقى.
خطة توزيع المساعدات المدعومة أميركياً في غزة ليست إجراءً إنسانيًا. إنها عملية مدروسة. خلف واجهة الغذاء، يجري تفكيك النظام الاجتماعي الفلسطيني، وتحويل الجوع إلى وسيلة ضغط لإعادة هندسة الواقع السياسي والسكاني.
نقطة الانطلاق:
إسرائيل فشلت في تحقيق الحسم العسكري الكامل. المقاومة بقيت. البنية السكانية لم تنهار. هنا دخل عامل جديد: "الهندسة عبر الخبز". أميركا تبنت النظام، وموّلته. إسرائيل تولت التنفيذ. النتيجة؟ خريطة توزيع إنساني تتقاطع مع خرائط النار والهدم.
ماذا يعني ذلك استراتيجيًا؟
أولًا: المساعدات لم تُوزع على قاعدة إنسانية شاملة. تم تقليص مراكز التوزيع من 400 إلى 3–4 فقط. الرسالة واضحة: إن أردت طعامًا، عليك أن تذهب حيث نريد، وتبتعد عمّا نريدك أن تتركه. هذا ليس إغاثة. هذا تهجير ناعم.
ثانيًا: النموذج يمنع المنظمات الأممية من أداء دورها. تم إقصاء الأونروا وغيرها. المنصة الجديدة للإغاثة تخضع للرقابة الإسرائيلية وتدار بمزاج عسكري. التحكم بالمساعدات لم يعد وسيلة للتنظيم، بل أداة للعقاب الجماعي، والفرز السكاني، والسيطرة الأمنية.
ثالثًا: النموذج يخلق ديناميكية جديدة داخل المجتمع الفلسطيني. سكان المناطق التي لا تصلها المساعدات يشعرون بالعزلة والغضب. هذا يولد انقسامات داخلية غير مرئية، لكنه فعال في كسر البنية النفسية الموحدة للسكان تحت الحصار.
المشهد من الأعلى:
نظام الإغاثة الحالي ليس معزولاً عن الأهداف السياسية الإسرائيلية. هناك محاولة واضحة لإخضاع غزة من خلال "نظام تحكم عبر الغذاء". إنه امتداد لفلسفة “الحد الأدنى للبقاء”، التي تنص على أن الفلسطينيين لا يجب أن يموتوا كليًا، ولكن لا يجب أن يعيشوا حياة كريمة.
الموقف الأميركي داعم علنيًا لهذا التوجّه. التصريحات تتحدث عن "ممرات إنسانية"، لكن الواقع يُظهر أن هذه الممرات تؤسس لـ"جيوب طاعة" ضمن خارطة السيطرة الجديدة
الرهان الإسرائيلي الأميركي واضح:
إذا لم نتمكن من كسر المقاومة بالصواريخ، نكسرها بالاحتياجات. وإذا لم ننجح في تفريغ الأرض بالقوة، نفرغها بالجوع. وإذا لم نستطع تمرير التطبيع بالقوة السياسية، نمرره عبر المساعدات المشروطة.
من الناحية القانونية، النموذج يضرب صميم القانون الإنساني الدولي. توزيع المساعدات لا يجوز أن يُربط بموقع جغرافي أو موقف سياسي. المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على وجوب ضمان الإمدادات الغذائية والطبية للسكان المدنيين في حالة الحصار. ما يجري اليوم هو العكس تمامًا.
التحذير الأهم:
ما يُبنى اليوم في غزة يمكن أن يتحوّل إلى نموذج يُصدَّر إلى مناطق نزاع أخرى. هذه هي الخطورة الكبرى. أن يُعمم نظام "المساعدات المشروطة بالانقياد"، فيصبح أداة من أدوات السيطرة الصامتة، بديلاً عن الاحتلال الكلاسيكي أو الحروب المفتوحة.
المطلوب عربيًا ودوليًا ليس فقط فضح هذا النموذج، بل التصدي له قانونيًا وسياسيًا قبل أن يتم ترسيخه كسابقة. يجب تقديم وثائق قانونية إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولجان الأمم المتحدة، تُظهر أن الجوع لم يعد نتيجة الحرب، بل هو تكتيك حرب بحد ذاته.
خاتمة تحليلية
عندما يتحوّل رغيف الخبز إلى أداة تهجير، وتصبح المساعدات قناة للتطويع، فهذا يعني أننا دخلنا طورًا جديدًا من أدوات الردع والسيطرة. ليس القصف وحده هو الخطر، بل الصمت المتواطئ مع سياسات التجويع الذكي. غزة اليوم هي المختبر الأول لهذا النموذج. والسؤال: من ستكون التالية؟
ورقة سياسات
الكذب الدبلوماسي في القانون الدولي: بين الحصانة والمساءلة الأخلاقية
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
السبت، 24 مايو 2025
مقدمة:
في الوقت الذي تُعد فيه الدبلوماسية الرسمية أداة لتحقيق السلام وضبط العلاقات الدولية، تُستخدم أحيانًا كمنصة للتضليل المتعمد أو "الكذب الرسمي"، خاصة في حالات النزاع والحروب. ولا يزال غياب إطار قانوني واضح لمساءلة الكذب الدبلوماسي يشكل ثغرة خطيرة في منظومة العدالة الدولية.
أولًا: الدبلوماسي والكذب المحمي باتفاقية فيينا
بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961)، يتمتع الدبلوماسي بحصانة شبه مطلقة تمنع ملاحقته قانونيًا داخل الدولة المضيفة، حتى في حال صدور تصريحات أو أفعال مشوبة بالكذب أو التضليل.
· لا تُعتبر التصريحات الخاطئة أو المضللة خرقًا قانونيًا بحد ذاتها.
· بل تُعامل كـ"سلوك سيادي"، تُواجهه الدولة المضيفة بالإجراءات السياسية لا القضائية، مثل:
- إصدار بيانات احتجاج
- استدعاء السفير
- طرد الدبلوماسي
- تعليق العلاقات
ثانيًا: الكذب في السياق الدبلوماسي – سلاح مشروع أم جريمة ناعمة؟
- الدبلوماسية عرفت عبر التاريخ "الكذب المشروع" ضمن ما يُعرف بـ: الإنكار المقبول سياسيا
- ويُمارَس الكذب عبر: تقديم معلومات مغلوطة في المحافل الدولية.
- تزييف أدلة (كما فعلت واشنطن في مجلس الأمن بشأن العراق عام 2003)
- التلاعب بالسرديات الإعلامية أثناء التفاوض.
ورغم أن الكذب قد لا يُخالف القانون الصريح، إلا أن نتائجه قد تكون كارثية:
اندلاع حروب
فرض عقوبات جائرة
تشويه وقائع حقوقية
ثالثًا: هل يمكن مساءلة الكذب الدبلوماسي دوليًا؟
القانون الدولي لا يوفر آلية صريحة لمحاكمة الدبلوماسيين على التصريحات المضللة، لكن بعض الباحثين يقترحون:
· استحداث معيار "الأثر المدمر للكذب السياسي"، لقياس الأثر العابر للحدود لأي تصريح دبلوماسي ثبت زيفه.
· تطوير لجنة دولية مستقلة توثق الكذب الرسمي وتربطه بنتائج مثل:
- التحريض على الحروب
- شرعنة الاحتلالات
- تعطيل العدالة الدولية
- تضمين مبدأ "النزاهة الدبلوماسية" في مواثيق السلوك المهني للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية.
توصيات:
مطالبة الأمم المتحدة بإنشاء آلية رقابية أخلاقية لتقييم الصدقية الدبلوماسية في الأزمات الكبرى.
توسيع صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية للنظر في الكذب الذي يؤدي إلى ارتكاب جرائم دولية (كالتحريض على الإبادة أو العدوان).
تشجيع منظمات المجتمع المدني لتوثيق "الكذب السياسي المؤثر" باعتباره سلوكًا مشينًا لا يدخل في نطاق الحماية السيادية.
رؤية خاصة:
الدبلوماسي الذي يكذب لا يُحاكم، لكنه قد يُحاكم التاريخ والضحايا الذين دُمرت بلدانهم أو جُوّعوا بناءً على بيانات مضللة.
الكذب في العمل الدبلوماسي ليس مجرد رأي، بل أداة خطرة قد تؤسس لقرارات مصيرية. وإذا لم يخضع للمراجعة والمحاسبة، فسيفقد القانون الدولي آخر ما تبقى له من هيبة: العدالة كمعيار أخلاقي عالمي.
ورقة سياسات
البرلمانيون الغربيون بين حرية التعبير والمساءلة القانونية: هل يُحاسبون على الكذب؟
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
السبت، 24 مايو 2025
مقدمة:
في زمن تتسارع فيه الحرب على السرديات، لا تقل خطورة "الكلمة البرلمانية" عن طلقة المدفع أو توقيع العقوبات. وفي الوقت الذي تتخذ فيه تصريحات البرلمانيين الغربيين شكل المواقف الرسمية أحيانًا، يبقى السؤال قائمًا: هل تُحاسب الأنظمة الديمقراطية الغربية ممثليها البرلمانيين على الكذب أو التضليل، خاصة في القضايا الحساسة مثل فلسطين، احتلال العراق، أو الحرب في أوكرانيا؟
أولًا: الكذب السياسي في النظم الديمقراطية – حماية أم إفلات من العقاب؟
تشير الأدبيات القانونية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى أن حرية التعبير البرلمانية مُصانة بدرجة عالية، حتى لو تضمنت معلومات كاذبة أو مضلِّلة، طالما لم تُشكل تحريضًا مباشرًا على العنف، أو خرقًا للسرية الأمنية، أو تشهيرًا بشخص محدد.
في الولايات المتحدة: يُعد التعديل الأول للدستور (First Amendment) درعًا يحمي حتى الكذب السياسي، باعتباره "جزءًا من التداول الديمقراطي".
في أوروبا: توجد قيود أضيق، لكن لا تزال التصريحات البرلمانية تتمتع بحصانة موسعة، لا سيما داخل القاعات الرسمية.
ثانيًا: من يراقب صدقية التصريحات؟
رغم غياب العقوبات القانونية الصريحة، إلا أن البيئة الديمقراطية تتيح أدوات رقابية فعالة:
الصحافة الاستقصائية ومنصات التحقق (Fact-Checking)
منظمات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية
الضغط السياسي الداخلي (الناخبون، الأحزاب، اللجان)
ومع ذلك، تبقى هذه الأدوات رقابية لا جزائية، وتفتقر في الغالب إلى قوة تنفيذية، ما يجعل الكذب البرلماني يُعالج غالبًا كـ"سلوك سياسي"، لا كـ"جريمة تعاقدية مع الناخب أو المجتمع الدولي".
ثالثًا: التحدي أمام العدالة الدولية
تُبرز هذه المعطيات معضلة قانونية وأخلاقية أمام المؤسسات الأممية، خاصة حين يتم استغلال التصريحات البرلمانية لتبرير الحروب، فرض العقوبات، أو شرعنة الاحتلالات. فلا توجد في منظومة القانون الدولي آلية لمساءلة البرلمانيين كأفراد عن "التحريض الرسمي" أو "نشر المعلومات المضللة التي تؤسس لانتهاك القانون الدولي الإنساني".
هذا يفتح الباب لضرورة:
تطوير أدوات أخلاقية وقانونية لتعريف الكذب السياسي ذي الأثر الدولي.
تعزيز دور الرقابة القضائية الداخلية في البرلمانات.
استحداث مواثيق دولية للسلوك البرلماني المسؤول في زمن النزاعات.
توصيات:
ضرورة إطلاق مرصد إقليمي أو دولي لرصد التصريحات البرلمانية المؤثرة في السياسات الخارجية، وربطها بالأثر الحقوقي.
دعم المبادرات الدولية لتعديل النُظُم البرلمانية بحيث تشمل إمكانية المساءلة السياسية في القضايا ذات البعد الجنائي أو الإنساني الدولي.
تعزيز الوعي داخل الدول النامية حول الفرق بين التصريح البرلماني "كوجهة نظر"، وبين اتخاذه "مرجعية قانونية" في المعالجات الرسمية.
رؤية خاصة:
إن حرية التعبير لا تعني حصانة من المساءلة. في عالم تُقصف فيه المدن وتُجَوّع الشعوب باسم "تصريحات سياسية"، يصبح الكذب البرلماني فعلًا له تداعيات سيادية وقانونية، لا رأيًا عابرًا في نقاش ديمقراطي.
ورقة سياسات:
سوريا بعد التحالف الجديد: سيناريوهات ما بعد سقوط الأسد وبروز محور واشنطن–الخليج–أنقرة
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الخميس 22 مايو/أيار 2025
الملخص التنفيذي:
بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، أعلنت الولايات المتحدة رسميًا رفع العقوبات عن سوريا خلال قمة خليجية، بدعم تركي مباشر. دخلت سوريا، إذًا، لحظة تحول سياسي حاد، تتقاطع فيه الضرورة الاقتصادية مع إعادة الاصطفاف الإقليمي. هذه الورقة تقترح سيناريوهات محتملة لهذا التحالف الجديد، وتقدم توصيات استراتيجية لضمان تحوّله من "تحالف ضرورة" إلى "شراكة سيادية متوازنة".
تعريف المشكلة:
التحالف الجديد لسوريا مع المحور الأميركي–الخليجي–التركي جاء في سياق انهيار النظام السابق وانسحاب القوى التقليدية (إيران، روسيا). التحدي الرئيسي يتمثل في: كيف يمكن للحكومة السورية الجديدة أن تستفيد من هذا التحالف لإنقاذ الدولة دون الوقوع في التبعية أو خسارة السيادة؟
الخلفية والسياق:
سقط النظام السوري القديم، وهرب بشار الأسد بعد انهيار التحالف الإيراني–الروسي في الميدان.
صعد أحمد الشرع بشرعية الثورة وبدعم تركي، وبقبول ضمني من الخليج وأميركا.
واشنطن أعلنت رفع العقوبات مقابل إعادة هيكلة شاملة في دمشق.
تركيا تحظى بنفوذ ميداني مباشر، وتلعب دور الضامن الأمني.
الخليج تعهد بتمويل مشاريع الإعمار ضمن الخطة الأميركية.
التحليل:-
أطراف التحالف:
أميركا: تريد تثبيت نفوذها الاستراتيجي في شرق المتوسط.
الخليج: يبحث عن دور مؤثر وعودة سوريا إلى الحضن العربي.
تركيا: تسعى لتأمين عمقها الأمني، وحماية حدودها، وتوسيع الشراكات الاقتصادية.
سوريا (الشرع): أمامها فرصة لإعادة بناء الدولة، لكنها تواجه خطر التوظيف الخارجي وازدواجية النفوذ.
الديناميات الداخلية:
هشاشة المؤسسات بعد 13 عامًا من الحرب.
الحاجة إلى إعادة بناء الجيش والأمن بإشراف سيادي لا خارجي.
حساسية الشارع السوري من أي تبعية جديدة.
المخاطر:
تحوّل التحالف إلى وصاية ثلاثية (واشنطن–الرياض–أنقرة).
إقصاء القوى الوطنية السورية المعارضة للنموذج الأميركي.
فشل في تلبية وعود الإعمار مما يُنتج إحباطًا شعبيًا جديدًا.
الخيارات/السيناريوهات:
1. الاندماج الكامل في المحور الأميركي الخليجي
الإيجابيات: تدفق مساعدات، اعتراف دولي سريع، استقرار سياسي
السلبيات: فقدان الاستقلال الاستراتيجي، تقويض القدرة على بناء قرار وطني مستقل
2. صيغة التوازن الثلاثي (سوريا–الخليج–تركيا)
الإيجابيات: احتواء الضغوط، توزيع المصالح، إدارة التحالف بدون ابتلاع
السلبيات: صعوبة التنسيق، هشاشة في حال تصعيد تركي–خليجي
3. بناء تحالف متوسطي أوسع يشمل أوروبا لاحقًا
الإيجابيات: موازنة الضغط الأميركي، دعم طويل الأمد، مشاريع شراكة بنيوية
السلبيات: تأخير في الإنجاز، تعقيد المسارات، احتمال تعطيل تركي–أميركي
التوصيات:
تشكيل مجلس وطني سيادي مستقل لمراقبة كل الاتفاقيات الخارجية.
الإصرار على توطين القرار الأمني والعسكري داخل المؤسسات السورية.
التعامل مع تركيا والخليج كـشركاء لا كضامنين منفردين.
رفض أي صيغة تُعيد إنتاج التبعية تحت عنوان إعادة الإعمار.
إطلاق حوار وطني واسع يشمل المعارضة التاريخية المستقلة.
توسيع نطاق العلاقات مع أوروبا لاستثمار متوازن وغير مرتهن سياسيًا.
الخاتمة:
إن لحظة التحول التي تعيشها سوريا هي فرصة نادرة لبناء نموذج سيادي بعد عقد من الحرب والانهيار. لكن النجاح مرهون بقدرة القيادة الجديدة على تحويل التحالف من خيار اضطراري إلى مشروع توازن وطني – إقليمي يحترم الإنسان والسيادة معًا.