رئيس التحرير:
خرائط النفوذ والتحالفات: نافذة ترصد بنية التحالفات الاستراتيجية التقليدية والجديدة، ومناطق النفوذ الجيوسياسي، عبر تتبع صعود القوى وتحولات الولاءات وموازين القوى الدولية والإقليمية.
تشمل هذه النافذة
تحالفات عسكرية واقتصادية (أوكوس، بريكس، غاز شرق المتوسط...)
مناطق التماس بين القوى الكبرى (روسيا وأوروبا – الصين والهند...)
صفقات الأسلحة، القواعد الجوية والبحرية، اتفاقيات الشراكة الأمنية
نفوذ القوى الإقليمية (السعودية، تركيا، إيران...) في الملفات العالمية
زيارة وفد رجال الأعمال السعوديين إلى دمشق — خطوة نحو إعادة إعمار الاقتصاد السوري وبناء الاستقرار الإقليمي
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
السبت 19 تموز/يوليو 2025
في يوليو 2025، شهدت دمشق زيارة مهمة تمثلت في استقبال الرئيس السوري أحمد الشرع لوفد سعودي رفيع المستوى من رجال الأعمال، في خطوة تحمل دلالات اقتصادية وسياسية عميقة. هذه الزيارة تأتي في ظل مرحلة انتقالية حساسة تعيشها سوريا بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، حيث تسعى القيادة الجديدة إلى إعادة بناء الاقتصاد المتضرر وتحسين العلاقات الإقليمية.
يعاني الاقتصاد السوري منذ سنوات من أضرار جسيمة بسبب الحرب المستمرة، وتدمير البنية التحتية، وفرض العقوبات الغربية التي حدّت من تدفق الاستثمارات. ورغم ذلك، تبرز أمام دمشق فرص واعدة للاستثمار والتنمية، خاصة مع رغبة السعودية في تعزيز نفوذها الاقتصادي في المنطقة عبر فتح آفاق جديدة للشراكة.
اللقاء بين الطرفين ركز على قطاعات حيوية تعد مفتاحًا لإعادة إعمار سوريا وتنشيط اقتصادها، مثل التمويل والبنوك، حيث يمثل تعزيز التعاون المصرفي خطوة ضرورية لتسهيل تدفق الأموال والاستثمارات. كما تم بحث فرص ضخ استثمارات في البنية التحتية وقطاع الطاقة، وهي القطاعات التي شهدت تدميرًا كبيرًا خلال سنوات النزاع، ويعد إعادة تأهيلها ضروريًا لتحفيز النمو وتحسين جودة حياة المواطنين.
اهتمام خاص أولي لقطاع الطيران المدني، حيث زار الوفد السعودي مطار دمشق الدولي لمناقشة فرص الاستثمار في هذا المجال الحيوي، الذي من شأنه فتح الاقتصاد السوري على الأسواق العالمية وزيادة الحركة التجارية والسياحية. كذلك، تم التطرق إلى دور التكنولوجيا والاتصالات في تطوير الاقتصاد، باعتبارها من القطاعات الواعدة التي تفتح الباب أمام دمج سوريا في الاقتصاد الرقمي العالمي.
لكن رغم هذه الفرص، تبقى التحديات قائمة. لا تزال العقوبات الغربية تشكل عائقًا رئيسيًا أمام تدفق رؤوس الأموال، كما أن الأوضاع الأمنية والسياسية غير المستقرة في بعض المناطق تزيد من مخاطر الاستثمار. إضافة إلى ذلك، يحتاج الاقتصاد السوري إلى إصلاحات مؤسسية وقانونية عميقة، لتعزيز بيئة الأعمال وجذب المستثمرين، مع توفير ضمانات لحماية حقوقهم.
من الناحية الإقليمية، تعكس هذه الخطوة السعودية تحولًا في سياسة الرياض تجاه سوريا، حيث تنتقل من مقاطعة سياسية إلى تعاون اقتصادي يستهدف إعادة بناء النفوذ في سوريا الجديدة. هذه الديناميكية ليست فقط اقتصادية، بل تحمل بعدًا جيوسياسيًا مهمًا، يهدف إلى إعادة صياغة التوازنات الإقليمية، وتقليل الاعتماد السوري على المحاور التقليدية كروسيا وإيران.
هذا التوازن الجديد قد يؤثر على العلاقات الإقليمية، خصوصًا مع تركيا ودول الخليج الأخرى، ما يستوجب إدارة حذرة ومتوازنة للعلاقات لضمان استقرار سوريا وتحقيق تنمية مستدامة.
لتنفيذ هذه الرؤية، لا بد من تعزيز التعاون المصرفي بين البلدين، وتبني إصلاحات تشريعية ومؤسسية تعزز شفافية النظام الاقتصادي. كما ينبغي تفعيل المشاريع التنموية في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والنقل بشكل سريع، مع تحسين الأوضاع الأمنية لحماية الاستثمارات وزيادة ثقة المستثمرين.
في نهاية المطاف، تشكل زيارة وفد رجال الأعمال السعوديين إلى دمشق فرصة حقيقية لإعادة بناء الاقتصاد السوري، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي في المنطقة. نجاح هذا المسعى يحتاج إلى شراكة استراتيجية مستدامة بين دمشق والرياض، تستند إلى رؤية مشتركة تشمل إصلاحات شاملة، تنمية اقتصادية متوازنة، وإدارة حكيمة للعلاقات الإقليمية.
من سربرنيتسا إلى غزة.. التقاء الذاكرة بالاستراتيجية في خطاب تركيا الخارجي
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الجمعة 11 تموز/يوليو 2025
في الذكرى الثلاثين لمجزرة سربرنيتسا، حرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ربط الماضي البوسني بالحاضر الفلسطيني، في خطاب استراتيجي يعيد توجيه بوصلة العلاقات الدولية من زاوية أخلاقية لا تغفل التوازنات الواقعية. الربط بين الإبادة البوسنية ومجازر غزة ليس مجرد استعارة بلاغية، بل تأسيس لرؤية تركية ترى أن الفشل الدولي في حماية مسلمي البوسنة يتكرر اليوم في فلسطين، ما يستوجب مراجعة شاملة للنظام العالمي وآليات الضبط والمساءلة.
قراءة في الموقف التركي: سردية العدالة كأداة نفوذ
تركيا في عهد أردوغان تبني جزءًا من سياستها الخارجية على سردية "العدالة العابرة للحدود"، وهي سردية توظف قضايا مثل فلسطين والبوسنة وميانمار وكشمير كمساحات نفوذ أخلاقي تضيف إلى قوتها الناعمة، وتمنحها شرعية إضافية في علاقاتها مع شعوب الجنوب العالمي. الربط بين سربرنيتسا وغزة ليس فقط للتنديد، بل لتأكيد دور أنقرة كفاعل إقليمي لديه ذاكرة استراتيجية، ويحاول بناء تحالفات عابرة للقارات على أساس هذه الذاكرة.
موقع تركيا في تحالفات العدالة الدولية
التحليل الاستراتيجي لموقف تركيا يُظهر اصطفافًا متمايزًا ضمن شبكة الدول الرافضة لأحادية القرار الغربي. تركيا، إلى جانب دول مثل جنوب إفريقيا وماليزيا وقطر، تشكّل محورًا رمزيًا يحاول إعادة تعريف القانون الدولي من موقع الاحتجاج على انتقائيته. خطاب أردوغان يُعيد وضع تركيا في موقع "المدافع عن الشعوب المسحوقة"، وهي وظيفة تسعى أنقرة لتثبيتها دبلوماسيًا على المستوى الأممي، وخاصة في مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة.
البعد الاستراتيجي للمقارنة بين غزة وسربرنيتسا
تشبيه ما يحدث في غزة بمجزرة سربرنيتسا ليس بريئًا سياسيًا، بل يحمل ثلاث رسائل استراتيجية:
تشويه صورة إسرائيل في الوعي الأوروبي عبر المقارنة المباشرة بين مجازر الصرب وممارسات تل أبيب.
نزع الشرعية عن تهاون الأمم المتحدة، بتصويرها مجددًا كجهة عاجزة عن منع الإبادة كما كانت في البوسنة.
إعادة استدعاء سردية الجرائم ضد الإنسانية، بما يعزز مطالبات تركيا ودول الجنوب العالمي بتطوير آليات محاسبة دولية لا تخضع لهيمنة القوى الكبرى.
أثر هذا الخطاب على خريطة التحالفات في الشرق الأوسط
خطاب أردوغان يعزز التحالف المعنوي مع الشعب الفلسطيني، ويعيد تأكيد رفض تركيا للتطبيع مع إسرائيل في ظل الحرب. كما يعيد ترتيب أولويات العلاقات التركية – الأوروبية، حيث يُستخدم ملف البوسنة لابتزاز الذاكرة الأوروبية، وربط الصمت عن غزة بالتاريخ الدموي في البلقان، ما يشكل ضغطًا معنويًا على دول مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا.
في المقابل، يخلق هذا الخطاب حالة توتر متزايدة مع الولايات المتحدة، التي تدعم إسرائيل بلا قيد، ما قد يسرّع توجه تركيا لتوثيق تحالفاتها البديلة، سواء مع الصين أو روسيا، أو ضمن محور قوى الجنوب العالمي، في سياق ما بعد النظام الدولي الحالي.
التوقعات المستقبلية: أدوات التثبيت والتمدد
من المتوقع أن تُصعّد تركيا في المرحلة المقبلة من خطابها الحقوقي على المنابر الدولية، وتدعم جهود ملاحقة إسرائيل أمام الجنائية الدولية، لا سيما في ظل فشل مجلس الأمن. كما يُرجح أن تستثمر تركيا هذا الموقف لقيادة تحالف إعلامي – سياسي يدفع باتجاه مقاطعة إسرائيل اقتصاديًا ودبلوماسيًا من قبل الدول الإسلامية والأفريقية.
كما قد تستخدم أنقرة هذا الربط الرمزي بين سربرنيتسا وغزة لإعادة تقديم نفسها كمرجع أخلاقي في العالم الإسلامي، خاصة مع تراجع دور بعض الدول الكبرى بسبب تطبيعها مع تل أبيب أو صمتها المريب.
خلاصة:
الربط التركي بين مجزرتي سربرنيتسا وغزة ليس فقط صرخة أخلاقية، بل أداة استراتيجية لتحريك خرائط النفوذ والتحالفات، والضغط على المؤسسات الدولية، وتعزيز الاصطفاف مع قوى الجنوب العالمي. إنه خطاب يجمع بين الرمزية والتكتيك، ويحاول
سوريا – أوروبا: حرائق اللاذقية وتحوّلات خريطة النفوذ الإقليمي
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
08 تموز/ يوليو 2025
تشير استجابة دمشق لحرائق اللاذقية وطلبها المساعدة من الاتحاد الأوروبي إلى تحول لافت في تموضع سوريا الإقليمي والدولي، في لحظة يزداد فيها التنافس على النفوذ في الساحة السورية بين القوى الفاعلة. فبينما يتواصل الانسحاب الروسي التدريجي ويُعاد رسم خريطة الدور الإيراني، تفتح هذه الحرائق نافذة جديدة لتحالفات غير تقليدية تبدأ من البيئة ولا تنتهي عند الجغرافيا السياسية.
أولوية الداخل: من بيئة متدهورة إلى استراتيجية الانفتاح
منذ اشتعال الحرائق في ريف اللاذقية الشمالي في 3 تموز/ يوليو 2025، بدا واضحًا أن الحكومة السورية تعجز بمفردها عن احتواء الأزمة، رغم مشاركة طائرات محلية وأخرى من تركيا والأردن ولبنان. في هذا السياق، جاء طلب دمشق من الاتحاد الأوروبي دعمًا مباشرًا لإخماد النيران، بما يمثّل سابقة نادرة في علاقاتها المتوترة مع أوروبا منذ 2011.
هذا الانفتاح البيئي، وإن بدا تقنيًا، يعبّر عن نزعة براغماتية جديدة لدى القيادة السورية، تسعى من خلالها لإعادة تدوير الأزمة الداخلية إلى فرص للتفاعل الإقليمي، خصوصًا في ظل تقلص الدعم الروسي في عدة مناطق، وتراجع فاعلية إيران كفاعل إغاثي أو بيئي.
التنافس الإقليمي: تركيا والأردن في عمق الساحل السوري
الدخول التركي–الأردني في عمليات الإطفاء عبر الجو، يشكل تطورًا نوعيًا في خريطة النفوذ. إذ لطالما كان الساحل السوري – وخاصة اللاذقية – حكرًا على النفوذ الروسي–الإيراني، باعتباره المعقل التاريخي للنظام وموطئ قدم القواعد العسكرية الروسية. لكن الواقع المتغير في 2025، مع انكماش الحضور الروسي بعد حرب أوكرانيا، جعل هذا الفراغ هدفًا لفاعلين إقليميين.
تُوظّف تركيا اليوم الدبلوماسية البيئية كأداة للتموضع في مناطق جديدة، وهو ما ينسجم مع استراتيجيتها الأوسع في استخدام "النفوذ المدني الناعم" من البحر المتوسط إلى القوقاز. كما أن الأردن، الحليف الغربي الأقرب في الجنوب السوري، بدأ يظهر بوصفه شريكًا إغاثيًا يمكن أن يتطور لاحقًا إلى قناة دبلوماسية داخل الساحل، متقاطعًا مع الجهود الفرنسية الجديدة في شرق المتوسط.
الاتحاد الأوروبي: اختبار الإرادة لا القدرة
أمام الاتحاد الأوروبي فرصة نادرة لاقتحام المشهد السوري من بوابة "الطوارئ البيئية"، بعيدًا عن صدام السياسات. فدخوله الآن قد يعزز من تحول موقعه من مراقب إلى فاعل نشط في الملف السوري، لا سيما أن الطلب السوري جاء علنيًا وموثقًا.
لكن هذا يتوقف على سرعة الاستجابة وشكلها: هل سيتدخل الأوروبيون ميدانيًا عبر آلية الحماية المدنية؟ أم سيكتفون بتقديم دعم تقني رمزي؟ في الحالتين، فإن أي استجابة أوروبية ستعيد خلط الأوراق بين موسكو ودمشق وبروكسل.
التوازنات ما بعد الحريق
المثير استراتيجيًا في الحدث، ليس الحريق ذاته، بل موقعه وتوقيته ونتائج الاستجابة له. فالساحل السوري – الذي طالما كان محيدًا عن ديناميات الحرب الداخلية – يدخل اليوم مجال التأثير الإقليمي من بوابة البيئة. واللاعبون الجدد لا يدخلون هذه المناطق فقط بقدرات إطفائية، بل برؤية سياسية لما بعدها.
إن الخطر البيئي في اللاذقية، يعيد تعريف مفهوم النفوذ في سوريا: لم تعد السيطرة الجوية أو العسكرية كافية، بل باتت المشاركة في إنقاذ المدنيين وبناء الاستجابة الإنسانية والبيئية، مؤشرات جديدة على مَن يتحكم بمسار النفوذ في البلاد.
خلاصة استراتيجية:
تشكل حرائق اللاذقية نقطة تحوّل في خرائط التحالفات والنفوذ داخل سوريا، مع فتح الباب أمام تعاون إقليمي–أوروبي يعيد توزيع الأدوار بين الفاعلين. وبينما تحاول دمشق استثمار الأزمة لتحسين موقعها دوليًا، تتقدم دول مثل تركيا والأردن والاتحاد الأوروبي لملء الفراغ المتروك من تراجع المحور الروسي–الإيراني. ما يجري ليس مجرد إطفاء للحرائق، بل رسم لخارطة نفوذ جديدة فوق الرماد.
تركيا وليبيا في شرق المتوسط: تحالف بحري يكسر خرائط أوروبا
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الخميس 3 تموز/يوليو 2025
منذ توقيع مذكرة التفاهم البحرية بين تركيا وليبيا في نوفمبر 2019، أعادت أنقرة رسم معادلات القوة في شرق المتوسط. لقد ولدت المذكرة من رحم صراع جيوسياسي متشابك بين أطراف متعددة تتنازع على الثروات البحرية، لكن ما بدأ كاتفاق ثنائي فني، تحول إلى محور تحالفي فعّال يعيد توزيع النفوذ ويكسر خرائط أوروبا الاستعمارية للمنطقة.
تحالف شرق المتوسط: من "ترسيم" إلى "تمركز"
تستند تركيا في دفاعها عن المذكرة إلى قواعد القانون الدولي ومبدأ "الخط الوسيط" بين السواحل، لكن جوهر المسألة ليس قانونيًا فحسب، بل يرتبط بتحدي تحالف يضم اليونان، قبرص الجنوبية، فرنسا، إسرائيل، ومصر. هذا التحالف كان يهدف لعزل تركيا عن معادلات الطاقة البحرية عبر مشاريع مثل خط أنابيب EastMed ومبادرات منتدى غاز شرق المتوسط.
في المقابل، مثّلت ليبيا – عبر حكومة طرابلس – شريكًا استراتيجيًا لأنقرة، مكّنها من التمدد إلى جنوب المتوسط ومنع تحويل شرق المتوسط إلى "بحيرة أوروبية".
الاتفاق التركي الليبي لم يقتصر على خرائط بحرية، بل فتح الباب أمام:
تدريبات بحرية مشتركة.
دعم لوجستي متبادل.
تعزيز البنية التحتية البحرية التركية.
منع تمرير مشاريع أنابيب غاز من دون تنسيق مع أنقرة.
إعادة صياغة الخرائط البحرية
خرائط النفوذ البحرية التقليدية التي ترعاها اليونان وقبرص تعتبر الجزر الكثيفة كمرتكزات لاحتساب المساحات البحرية، لكن تركيا ترفض هذا المبدأ. مذكرة التفاهم مع ليبيا فرضت تصوّرًا جديدًا لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة (EEZ)، متجاهلة امتيازات الجزر الصغيرة وتعيد الاعتبار للجغرافيا القارية.
بموجب هذه الخرائط:
قُطع المسار الجنوبي لمشاريع الغاز من إسرائيل إلى أوروبا.
أُغلق المجال البحري أمام التوسّع الإسرائيلي اليوناني في عمق المتوسط.
أعيد توجيه مسارات النقل البحري والعسكري لصالح تركيا.
ليبيا: العمق الاستراتيجي للنفوذ البحري التركي
لا يمكن قراءة مذكرة التفاهم بمعزل عن الميدان الليبي. فبقاء حكومة طرابلس هو شرط لبقاء هذا النفوذ، ما يجعل ليبيا ساحة صراع جيوسياسي مباشر بين تركيا من جهة، ومصر – فرنسا – الإمارات من جهة ثانية. ولهذا:
عززت تركيا وجودها البحري في مصراتة وزوارة.
دعمت قوات خفر السواحل الليبية ضد شبكات تهريب مدعومة من أطراف أوروبية.
أشرفت على تطوير المرافئ لتكون جزءًا من "الوطن الأزرق" التركي.
تحول تركيا إلى محور بحري بديل
بينما يتآكل النفوذ الأوروبي التقليدي في المتوسط، تتحول تركيا إلى محور بديل:
الجزائر تدعم مذكرة أنقرة البحرية وتنسق مع تركيا أمنيًا.
قطر تستثمر في موانئ تركية وليبية لخدمة التجارة البحرية.
إيطاليا تنأى بنفسها تدريجيًا عن تحالف أثينا – باريس خشية فقدان التوازن.
وهكذا، يتشكل محور تركي – عربي – أوراسي بديل في شرق المتوسط، يعيد هندسة خطوط الإمداد، ويضعف قدرة اليونان وقبرص على احتكار التفاوض باسم أوروبا.
سيناريوهات التصعيد والتمدد
رغم تمسّك تركيا بالحل الدبلوماسي، إلا أن احتمالات التصعيد قائمة:
سيناريو أول: نشر دائم للبحرية التركية قبالة سواحل ليبيا، وردع تحركات يونانية.
سيناريو ثانٍ: توقيع مذكرات مماثلة مع تونس أو الجزائر لتوسيع النفوذ البحري.
سيناريو ثالث: الانخراط في سباق تسليح بحري لموازنة الغواصات الفرنسية واليونانية.
وفي المقابل، قد تسعى أوروبا إلى:
فرض عقوبات اقتصادية محددة.
الطعن في مذكرة التفاهم في الأمم المتحدة.
دعم انقلابات سياسية في طرابلس تُنهي الشرعية المتحالفة مع تركيا.
رؤية خاصة
التحالف التركي الليبي في المتوسط ليس مجرد اتفاق بحري، بل هو نقطة ارتكاز استراتيجية لتوسيع الخريطة الجيوسياسية لأنقرة، والتموضع كقوة ضامنة لتوازنات الطاقة والأمن في المتوسط. وبينما تصر أوروبا على أدوات الضغط السياسي، تمضي تركيا في ترسيخ وقائع جيوسياسية تجعل من المساس بهذا التحالف مكلفًا وعبثيًا.
شرق المتوسط لم يعد ساحة احتكار غربي، بل تحول إلى ميدان تعددي، تتحرك فيه أنقرة بثقة، وتبني تحالفات بحرية راسخة قد تعيد رسم خطوط النفوذ لسنوات مقبلة.
لقاء ترامب–نتنياهو: خرائط النفوذ بين غزة وطهران في ميزان التحالف الأميركي–الإسرائيلي
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الثلاثاء 1 يوليو/تموز 2025
تحمل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض أبعادًا استراتيجية تتجاوز القضايا الثنائية، لتتصل مباشرةً بإعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، وسط تبدلات متسارعة في موازين القوى عقب الحرب الإسرائيلية–الإيرانية، واستمرار العدوان في قطاع غزة.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، العائد إلى الحكم بمقاربة أكثر هجومية، يُعيد تثبيت التحالف الأميركي–الإسرائيلي كركيزة أساسية في استراتيجيته الإقليمية، لكن السياق الدولي والإقليمي تغيّر، ومعه تغيّرت أدوات السيطرة والردع.
الحرب مع إيران وأزمة الردع المتبادل
بعد 12 يومًا من الحرب المفتوحة بين إسرائيل وإيران في يونيو 2025، أُعيد ترتيب قواعد الاشتباك في الإقليم. شنّت إسرائيل حربًا جوية بدعم أميركي على منشآت نووية وقادة عسكريين، وردّت طهران بهجمات بالستية ومسيرات طالت قواعد إسرائيلية وأميركية، أبرزها قاعدة العديد في قطر.
رغم إعلان وقف إطلاق النار في 24 يونيو، إلا أن هذه الحرب أثبتت أن سياسة الردع الإسرائيلي باتت غير كافية، وأن إيران لم تعد تتصرف كقوة محاصَرة، بل كقوة ردع إقليمي. وهذا التطور غيّر بوضوح هندسة النفوذ في المنطقة.
بالنسبة لواشنطن، فقد خرجت من هذه الحرب بنتائج رمزية أكثر منها ميدانية، إذ فشلت في تحييد إيران تمامًا، ووجدت نفسها أمام جبهة مقاومة تزداد تماسكًا، خصوصًا مع تنامي قدرات “محور المقاومة” عسكريًا واستراتيجيًا.
غزة كساحة اختبار للمشروع الإسرائيلي
منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحولت غزة إلى ساحة اختبار لقدرة إسرائيل على فرض مشروعها الإقليمي: التطبيع الكامل، وتصفية المقاومة، وفرض واقع استيطاني وأمني جديد. لكن بعد أكثر من 8 أشهر من القصف الشامل والحصار، لم تحقق تل أبيب أهدافها الجوهرية، لا سيما في ملف الأسرى والمقاومة.
الزيارة الحالية تُبرز كيف أصبحت غزة ورقة تفاوض بين واشنطن وتل أبيب، وليست مجرد ساحة صراع. ترامب يُقدّم نفسه كصانع سلام من خلال “صفقة كبرى” تشمل وقف الحرب وتبادل الأسرى وتوسيع التطبيع، بينما يستخدمها نتنياهو لتثبيت موقعه الداخلي والدولي عبر شروط أمنية أحادية، مثل نزع سلاح المقاومة، وإعادة احتلال القطاع.
لكن المقاومة، وعلى رأسها “حماس”، تقابل هذا الطرح بمنطق سياسي وأخلاقي معاكس، يتمثل في إنهاء الحرب الشاملة، وخروج الاحتلال من غزة، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين. وهذا يخلق حالة صراع غير متماثل، حيث تستخدم المقاومة أدوات غير تقليدية مثل الشرعية الشعبية وورقة الأسرى، مقابل التفوق العسكري الإسرائيلي.
التحالف الأميركي–الإسرائيلي في عهد ترامب الثاني
عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025 أعادت تنشيط ما يمكن تسميته بـ”التحالف الشخصي” بينه وبين نتنياهو، وهو تحالف يركز على تقاطع المصالح أكثر من تقاطعات القيم.
ترامب ينظر إلى إسرائيل كأداة ضغط إقليمي ضد خصومه، لا سيما إيران، والصين غير المباشرة، بينما يرى نتنياهو في ترامب غطاء سياسيًا دوليًا يتيح له الإفلات من الضغوط الدولية، خصوصًا مع صدور مذكرة توقيف ضده من المحكمة الجنائية الدولية.
هذا التحالف يُعيد توجيه السياسة الأميركية بعيدًا عن المقاربات المؤسساتية، ويمنح إسرائيل حرية مناورة واسعة في ملف غزة، بعيدًا عن الضوابط الدولية. لكن هذا النمط من العلاقات يُضعف صورة واشنطن كقوة ضامنة للنظام الدولي، ويجعل من سياساتها رهينة لاحتياجات نتنياهو الداخلية، لا التوازنات الدولية.
مأزق التطبيع ومحدودية النفوذ العربي
ترتبط صفقة الأسرى ووقف الحرب، كما يروّج ترامب، بمسار “توسيع التطبيع” مع دول عربية. لكن الأحداث الأخيرة، وخاصة الحرب على إيران، والانتهاكات الجسيمة في غزة، قلّلت من قدرة الدول العربية على التفاعل مع هذا الطرح دون كلفة سياسية داخلية.
تبدو السعودية، ومصر، وقطر، حذرة في دعم أي اتفاق لا يشمل إنهاءً حقيقياً للحرب، بينما ترفض المقاومة الفلسطينية إدماج ملفها ضمن مسارات إقليمية قد تُفضي إلى تحييدها أو تفكيكها.
خرائط نفوذ جديدة وتوازنات مقاومة
تكشف كل هذه المعطيات عن تحوّل في خريطة النفوذ بالشرق الأوسط:
• إيران استعادت زمام المبادرة في الردع.
• المقاومة الفلسطينية باتت تملك أوراق تفاوض غير تقليدية لكنها فعالة.
• إسرائيل تعاني من مأزق سياسي وأمني رغم تفوقها العسكري.
• الولايات المتحدة تحاول استعادة مركزية دورها، لكن عبر مقاربة تاجر صفقة لا ضامن نظام.
"طريق التنمية": تركيا والعراق يعيدان رسم خارطة النفوذ بين الخليج وأوروبا
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
السبت 28 يونيو/حزيران 2025
ليست الخرائط خطوطًا على الورق فحسب، بل هي في السياسة الدولية انعكاس دقيق لموازين القوة، ومؤشرات حاسمة لتحولات النفوذ. وعندما يُعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مشروع "طريق التنمية" باعتباره أداة لتحويل الإمكانات الجيوسياسية إلى ميزة اقتصادية، فإنه في الوقت ذاته يرسم مسارًا جديدًا لمعادلات القوة في الشرق الأوسط بين العراق وتركيا والخليج من جهة، وبين إيران ومنافسيها من جهة أخرى.
الطريق الذي يمتد من البصرة إلى ميناء في تركيا، بطول يقارب 1200 كلم داخل الأراضي العراقية، ليس مجرد ممر تجاري عابر، بل هو خطٌّ جيوسياسي يتقاطع مع مشاريع عالمية كبرى مثل مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، والممر الأوسط الذي تتبناه تركيا، ويُعيد تفعيل العراق كدولة محورية في معادلة النقل بين آسيا وأوروبا بعد عقود من التهميش.
تركيا لا تنظر إلى المشروع من زاوية اقتصادية صرفة، بل تعتبره أداة لربط نفوذها الخليجي–الأوروبي عبر العراق، الدولة التي تربطها بها حدود برية طويلة ومصالح جيوسياسية ممتدة. وعلى الجانب العراقي، فإن المشروع يُنظر إليه كفرصة للخروج من خانة الدول التابعة تجاريًا إلى موقع الدول الرابطة استراتيجيًا، وهو ما يوفّر له عمقًا سياديًا جديدًا في ميدان العلاقات الدولية.
لكن ما يُعطي للمشروع بعده الاستراتيجي الحقيقي هو الظرف الإقليمي المحيط به. فإيران، التي لطالما كانت الممر البري الأساسي بين الخليج وآسيا الوسطى، بدأت تشهد تآكلًا في دورها بعد العقوبات، والانكفاء الإقليمي، واشتداد التوترات مع إسرائيل والولايات المتحدة. كما أن طرقها لم تعد آمنة أو فعّالة، خصوصًا بعد تعرض بنيتها التحتية للهجمات وتكرار استهداف منشآتها.
في هذا الفراغ المتصاعد، تتقدّم تركيا لتقديم نفسها كـ"الممر البديل الآمن"، معوّلة على موقعها الجغرافي المستقر، وشبكة بنيتها التحتية المتطورة، وقدرتها على لعب أدوار مزدوجة: تجارية واستراتيجية. وضمن هذا الإطار، فإن "طريق التنمية" ليس عزلة لإيران فحسب، بل أيضاً رسالة إلى الصين مفادها أن بإمكان أنقرة أن تكون بوابتها الأوروبية الأكثر فاعلية مقارنة بالممر الشمالي عبر روسيا أو الجنوبي عبر طهران.
على المستوى التركي، فإن المشروع يُعزز دور أنقرة كمحور تجاري–إقليمي ينافس موانئ شرق المتوسط، ويُعيد التوازن أمام توسع نفوذ دبي كمركز نقل رئيسي. أما بالنسبة للعراق، فإن نجاح الطريق لا يعني فقط تحسين الاقتصاد الوطني، بل أيضًا تثبيت موقعه في قلب شبكة توازنات متشابكة، تضعه كأحد مفاتيح الربط بين الخليج وأوروبا، بدلًا من أن يكون ساحة صراع بينهما.
الولايات المتحدة، وإن لم تُعلن موقفًا مباشرًا من المشروع، إلا أنها تتابعه من زاويتين: الأولى، أنه يقوّض من أهمية المعابر الإيرانية، ويعزل طهران تدريجيًا عن الخليج. والثانية، أنه يُمكن أن يشكّل منافسًا في حال ربطه لاحقًا بمبادرات صينية أو روسية. لكن حتى الآن، لا تعارض واشنطن المشروع طالما أنه لا يُستخدم خارج السياق الأطلسي العام، ولا يمنح الصين أو إيران موطئ قدم فيه.
من ناحية الخليج، وتحديدًا السعودية والإمارات، فإن المشروع يُقرأ بمزيج من الترحيب والحذر. فمن جهة، يشكّل فرصة لتقليل الاعتماد على ممرات بحرية مُهددة مثل مضيق هرمز، ومن جهة أخرى، قد يؤدي إلى تعزيز الدور التركي في مناطق ترى فيها الرياض وأبو ظبي نفوذًا تاريخيًا. لهذا، فإن الخليجيين يسعون للمشاركة بالمشروع بدلًا من مواجهته، لضمان أن يكون امتدادًا لهم لا على حسابهم.
إسرائيل من ناحيتها، تتابع المشروع بقلق ضمني. فكل تعاظم للدور التركي في الإقليم، خاصة إذا اقترن بتعزيز النفوذ في العراق والخليج، يُعد تقييدًا للتمدد الإسرائيلي الساعي إلى الربط الاقتصادي من المتوسط إلى الخليج عبر التطبيع. كما أن أي مشروع يعيد الحيوية للعراق كدولة قوية يمثل تهديدًا مباشرًا لفكرة "العراق المكسور" التي ظلت سياسة ضمنية لتل أبيب منذ غزو 2003.
أما إيران، فإنها تدرك أن المشروع يستهدفها بطريقة غير معلنة. فـ"طريق التنمية" يُقصيها من شبكة النقل الدولي، ويفقدها واحدة من أبرز أوراقها التفاوضية في مواجهة الغرب، وهو ورقة الجغرافيا والربط البري. ولهذا، قد تسعى طهران إلى عرقلته عبر أدواتها السياسية أو الميدانية في العراق، من خلال إثارة الأزمات الأمنية، أو الترويج لفكرة أنه مشروع "تطبيعي" أو "تركي توسعي".
ما يعزز فرص نجاح المشروع هو توافق مصالح اللاعبين الأساسيين فيه: تركيا تريد النفوذ الاقتصادي والسياسي، العراق يريد الاستقرار والدور المركزي، الخليج يريد ممرًا آمنًا وسريعًا، وأوروبا تريد بديلًا للمسارات الروسية والإيرانية. هذا التلاقي، إن استُثمر بذكاء، يمكن أن يحوّل الطريق من مبادرة إلى واقع، ومن فكرة إلى شبكة إقليمية تفرض نفسها على الجميع.
لكن المشروع لا يخلو من نقاط ضعف خطرة. فغياب إطار سياسي إقليمي موحد يشرف على تنفيذ المشروع قد يعرّضه للتجاذبات السياسية، خاصة داخل العراق. كما أن عدم وجود مظلة أمنية قوية لحماية المسار، قد يجعله عرضة للهجمات أو الابتزاز. لذلك فإن الخطوة التالية، بعد الإعلان، يجب أن تكون إنشاء هيئة إقليمية متعددة الأطراف تُشرف وتُموّل وتُؤمّن المشروع، وتضمن حياده التجاري واستقلاله السياسي.
ختامًا، فإن "طريق التنمية" هو اختبار حقيقي لمفهوم "الهندسة الجغرافية" الجديدة في الشرق الأوسط. هو جسرٌ بين الطموح والسيادة، بين الاقتصاد والسياسة، بين التاريخ والمستقبل. وإذا ما نجح، فإنه سيعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة، من جنوب العراق إلى سواحل تركيا، وسيُحدث تغييرًا جذريًا في مفهوم الممرات، حيث لا تعني فقط عبور البضائع، بل عبور الدول إلى مرحلة جديدة من الفعل الاستراتيجي.
مصر وإيران: نواة تحالف رمادي خارج سوريا.. هل يُربك الخليج؟
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الأحد 1 حزيران/يونيو 2025
في لحظة دقيقة من التحولات الجيوسياسية، تسعى القاهرة وطهران إلى فتح قنوات تواصل ثنائية تخرج عن المألوف التاريخي، وتكسر جليد القطيعة السياسية الطويلة. زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة في 2 يونيو 2025، لا يمكن فصلها عن سلسلة تحركات إقليمية ودولية جاءت عقب الانسحاب الإيراني–الروسي من سوريا، وسقوط نظام الأسد، وبروز حكومة سورية جديدة بدعم تركي–شعبي واسع.
هذه الزيارة تحمل دلالات استراتيجية تتجاوز مظلتها الدبلوماسية المعلنة، وتطرح سؤالًا بالغ الأهمية: هل نحن أمام نواة تحالف رمادي بين مصر وإيران، يُصاغ على عجل خارج أرض الشام، وقد يتحول إلى عامل إرباك مباشر للخليج؟
الفراغ الاستراتيجي بعد خسارة سوريا
بانسحاب إيران وروسيا من سوريا وسقوط الأسد، فَقَدَ ما يسمى بـ"محور المقاومة" ساحة المناورة الرئيسية التي مكّنته لسنوات من الإمساك بأوراق القوة والضغط الإقليمي. ومع هزيمة حزب الله في لبنان، وتراجع الحوثيين في اليمن، تتجه طهران إلى تعويض الخسارة عبر تحالفات ناعمة وظرفية، تسعى من خلالها إلى البقاء في حلبة التأثير، لا عبر الحرب، بل عبر الدبلوماسية المموّهة.
في هذا الإطار، تمثل مصر خيارًا مغريًا. فهي دولة كبيرة، ذات مؤسسات رسمية، وتعيش وضعًا اقتصاديًا هشًا يجعلها أكثر استعدادًا للتماهي مع عروض خارجية مشروطة. لكن الأهم هو أن مصر اليوم لا تبحث عن حلفاء، بل عن أوراق مساومة مع الغرب والخليج معًا، وتدرك أن التحرك نحو إيران يمنحها مساحة مناورة إضافية.
القاهرة بين ضيق الداخل وتوسيع الخارج
النظام المصري اليوم يعيش ازدواجية استراتيجية: يبحث عن بقاء داخلي قائم على القمع، وعن دور خارجي يمنحه الشرعية. ومن هنا، فإن الانفتاح على إيران لا يُقرأ فقط كسياسة خارجية، بل كمناورة داخلية أيضًا تهدف إلى تحسين شروط التفاوض مع العواصم الخليجية التي بدأت تُعيد تموضعها بعيدًا عن النفوذ المصري التقليدي.
ومع صعود التجربة السورية الجديدة – التي جاءت كثمرة لثورة شعبية واستعادة قرار سياسي مستقل – باتت القاهرة تنظر بعين الريبة إلى أي نموذج قد يُقارن بها أمام الشعوب أو حتى داخل أروقة النخب السياسية العربية. لذلك فإن الاحتكاك مع إيران، بما تمثّله من خطاب مضاد للمشروع السوري الجديد، يبدو متناسقًا مع طموحات القاهرة في احتواء النموذج، لا دعمه.
إيران: فقدان النفوذ واستثمار اللحظة
أما طهران، فقد خسرت الشام دون القدرة على الرد، وتراجعت في العراق واليمن ولبنان. لم يعد لديها قوة عسكرية مؤثرة في أي ساحة عربية، ولا خطاب عقائدي قادر على اجتراح معنى جديد. ولهذا فهي تلجأ الآن إلى إعادة تدوير وجودها عبر بوابات ناعمة: الحوار، الاقتصاد، والمجاملة السياسية.
في مصر، تجد إيران فرصة لترميم شرعيتها عبر الدخول من البوابة الرسمية لدولة عربية كبرى. لكنها تعلم أن هذا الدخول لا يهدف إلى شراكة حقيقية بقدر ما يسعى إلى خلق نقطة ارتكاز جديدة بعد انهيار كامل لمسرحها الحيوي السابق. إنها لا تبحث عن عمق، بل عن موطئ قدم ولو في العتمة.
هل الخليج معني؟
بكل وضوح: نعم.. فتح قناة تواصل مصري–إيراني بهذا التوقيت، بعد القمة الخليجية–التركية–السورية الأخيرة، يبعث بإشارات خطيرة، لا على صعيد التحالفات فقط، بل على صعيد موازين الردع والخطاب الإقليمي. فالمملكة العربية السعودية، التي قادت سابقًا انفتاحًا حذرًا على إيران، سرعان ما عادت إلى استشعار خطر التمدد الإيراني الناعم. واليوم، إذا ما فُتح الباب المصري للنفوذ الإيراني، فإن المشهد العربي قد يدخل في دورة جديدة من التوترات الناعمة، خصوصًا إذا رافقها تقارب استخباراتي أو إعلامي يُستخدم لتقويض التحول السوري.
الختام: ما وراء النوايا المعلنة
التحالفات الرمادية لا تُعلن في المؤتمرات، بل تُنسج في غرف النكاية والفراغ. وما يجري اليوم بين القاهرة وطهران ليس حلفًا مكتملًا، بل هو تخادم لحظي بين نظامين يسعيان للهروب من فشل داخلي إلى واجهة خارجية. لكن التاريخ يُعلّم أن التحالفات المبنية على الخوف لا تدوم، والتحركات التي تهدف إلى إرباك الآخرين غالبًا ما تُفجّر أصحابها من الداخل.
رؤية خاصة:
التحالفات الرمادية لا تُبنى على وحدة مشروع، بل على وحدة أزمة. وما بين مصر وإيران اليوم ليس التقاءً في الرؤية، بل في الرغبة المتبادلة للهروب من الإجابة الكبرى: لماذا تفشلون حيث ينجح الآخرون؟
مشروع الغاز التركي إلى سوريا: هندسة تحالفات جديدة في زمن إعادة التموضع الإقليمي
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الجمعة 23 أيار – مايو 2025
في عالم يتغير بسرعة وتعيد فيه القوى الإقليمية والدولية رسم خرائط المصالح والنفوذ، لا يُمكن النظر إلى مشروع الغاز التركي–السوري على أنه مجرد اتفاق طاقة بين بلدين جارين. إنه مؤشر عميق على هندسة جديدة للتحالفات في الشرق الأوسط، وتعبير دقيق عن لحظة مفصلية تُعيد فيها أنقرة ودمشق ترتيب أوراقهما بعد أكثر من عقد من الانقطاع والصراع، وسقوط نظام الأسد.
الخطوة التي أعلنها وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار بربط خط الغاز من كيليس إلى حلب، تمثل تحركًا استراتيجيًا محسوبًا، لا مجرد قرار تقني. الغاز هنا ليس سلعة اقتصادية فحسب، بل أداة جيوسياسية تنقل الرسائل وتعكس التوجهات، وتؤسس لتحالفات تتجاوز حدود الجغرافيا وتدخل في عمق الرهانات الدولية على مستقبل المنطقة.
بعد انهيار منظومة البعث في سوريا، تبلورت فرصة تاريخية لإعادة بناء العلاقات التركية–السورية على أسس مختلفة. فبدلًا من منطق الاصطفاف والتدخل الأمني، أصبحت الطاقة مدخلًا للتكامل والمصالح المشتركة. أنقرة، التي تدرك أن الأمن يبدأ من التنمية، اختارت أن تدعم الاستقرار السوري عبر بوابة البنية التحتية، وهو ما انعكس في توقيع اتفاقيات شاملة شملت مجالات الغاز والكهرباء والتعدين.
المشروع يُمكّن تركيا من توسيع دورها في شبكة الطاقة الإقليمية، ويمنحها قدرة على التأثير في ملف إعادة الإعمار السوري، ويُعيد ربط الشمال السوري بالمجال التركي من خلال أنبوب سيادي لا تمر به الجيوش بل تتدفق فيه المصالح. في المقابل، تحصل سوريا الجديدة على متنفس اقتصادي حيوي يساعدها على تجاوز آثار الحرب، وتبدأ في ترسيخ استقلال قرارها خارج أية وصاية خارجية أو محاور صلبة.
ما يجري اليوم في ملف الغاز يُعد جزءًا من تحول استراتيجي أكبر في سياسة تركيا الخارجية، يتمثل في تبنّي أدوات النفوذ الناعم بدل التمدد الخشن. فبينما كانت أنقرة سابقًا متهمة بتغليب البُعد الأمني في تعاملها مع الملف السوري، ها هي الآن تدخل من بوابة الطاقة، والاتصال المؤسسي، وتوقيع اتفاقيات مدنية ذات طابع مستدام.
أما على مستوى خرائط النفوذ، فإن المشروع يعيد توزيع الوزن الجيوسياسي في المعادلة السورية. فعوضًا عن انفراد قوى إقليمية كإيران أو روسيا ببعض القطاعات، يظهر الآن دور تركي أكثر تنظيمًا وفعالية، يتكامل مع الحكومة السورية، ولا يصطدم بها. هذا المسار، إذا استمر، قد يُعيد رسم معادلات التموضع في شرق المتوسط، ويُعيد سوريا إلى دائرة القرار الإقليمي بصفة فاعل لا مجرد ساحة تنازع.
التحول له أبعاده الدولية كذلك. فبينما تحاول الولايات المتحدة احتواء الدور التركي في بعض الملفات، يُظهر مشروع الغاز قدرة أنقرة على خلق شراكات مرنة تحقق لها حضورًا وظيفيًا مستقرًا. كما أن المشروع يفتح الباب أمام تعاون أوسع في مجالات مثل نقل الكهرباء، وربما لاحقًا إعادة بناء موانئ ومناطق صناعية مشتركة.
من جهة أخرى، لا يمكن فصل هذا التطور عن المشهد الأكبر في الإقليم: التراجع الإيراني من سوريا، انكفاء الدور الروسي، تصاعد النزعة الوطنية السورية بعد الثورة، والتحوّل في العقيدة السياسية التركية التي باتت ترى في الانفتاح المتزن طريقًا لتأمين المصالح بدل الصدام.
إن مشروع الغاز التركي إلى سوريا لا يُعيد فقط تشغيل محطات الكهرباء، بل يعيد تشغيل منطق التحالفات في المنطقة. إنه تحالف من نوع جديد: قائم على المصلحة المتبادلة، غير قائم على التبعية، ومبني على إدراك أن الدول لا تُبنى بالشعارات ولا بالاستقطابات، بل بالأنابيب، والمعابر، والكابلات، ومجالات التعاون التي تصنع الثقة قبل أن تُنتج الكهرباء.
وإذا كانت خطوط النفط والغاز في السابق سببًا للحروب أو الذرائع لتقسيم البلدان، فإن هذا الخط التركي–السوري يقدّم نموذجًا مختلفًا: خط يوصل الغاز، ويُطفئ النيران، ويفتح الباب لتحالف جيوسياسي قائم على التوازن، لا على السيطرة.
في ظل هذه التحولات، يُصبح الغاز التركي إلى سوريا أكثر من مشروع. إنه إعلان غير مكتوب بأن الشرق الأوسط بدأ يخرج من خنادق المواجهة نحو ساحات الشراكة، وأن تركيا وسوريا – بعد التجربة المُرّة – ربما تكونان الأقدر على رسم ملامح هذا العهد الجديد، إذا حافظتا على بوصلتهن: الاستقلال، والكرامة، والتكامل الإقليمي.
التحالف السوري–التركي–الخليجي: من منطق التوازن إلى هندسة النفوذ الجديد
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الجمعة – 17 مايو/أيار 2025
التحول السياسي العميق الذي شهدته سوريا منذ سقوط النظام السابق وبروز حكومة وطنية جديدة بقيادة أحمد الشرع، لم يكن مجرد حدث داخلي. بل كان إيذانًا ببداية هندسة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط، حيث لم تعد الأدوار التقليدية قائمة، ولا النفوذ موزعًا على أساس الاصطفافات القديمة. فاليوم، تظهر ملامح تحالف ثلاثي بين سوريا الجديدة، وتركيا، والعواصم الخليجية، يقوم لا على الهيمنة أو الوصاية، بل على الشراكة المتبادلة في الاستقرار والنفوذ والتكامل.
الركيزة الأولى لهذا التحالف أن سوريا لم تعد ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، بل باتت طرفًا فاعلًا بشروطها الجديدة، وموقعها السيادي، وشبكة اعتراف دولي تتسع يومًا بعد يوم. ويُعد الموقف الأميركي الأخير في قمة الرياض، حين أعلن الرئيس ترامب رسميًا رفع العقوبات المفروضة على دمشق، علامة فاصلة في إعادة تعريف موقع سوريا في النظام الإقليمي. هذا القرار لم يكن ليحدث دون تنسيق تركي–خليجي، وبدفع مشترك نحو تثبيت النموذج السياسي الجديد في دمشق.
تركيا، من جانبها، لم تتعامل مع سوريا بوصفها تابعًا، بل كشريك سياسي وأمني واقتصادي. الخطاب التركي في المحافل الدولية بات يُبرز أهمية دعم الاستقرار السوري لا بهدف النفوذ، بل كرافعة لاستقرار المشرق العربي بأسره. ومواقف أنقرة في قمة "المجموعة السياسية الأوروبية" الأخيرة، خصوصًا دعوتها إلى دعم إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، عكست هذا الفهم العميق للعلاقة الجديدة بين أنقرة ودمشق.
أما الخليج، فقد خرج من مرحلة التردد وبدأ إعادة صياغة حضوره في سوريا بطريقة أكثر اتساقًا مع التحولات الدولية. السعودية، التي استضافت قمة رفع العقوبات، أرسلت إشارات واضحة على الانفتاح نحو دعم التنمية السورية ضمن إطار تنسيقي ثلاثي. الإمارات تحرّكت على مستوى الاستثمارات والممرات الاقتصادية، وقطر ركزت على الجوانب الإنسانية والبنية التعليمية والخدمية في الشمال.
في قراءة تحليلية أعمق، فإن هذا التحالف الثلاثي الجديد لا يُفهم إلا في سياق تراجع القوى التي كانت تشكل مراكز ثقل في سوريا. إيران تراجعت بوضوح من المشهد العسكري والسياسي، وروسيا انسحبت إلى حدود قاعدة حميميم بلا قدرة على الفعل الميداني. وهذا التراجع أفسح المجال لتحالف قوى إقليمية صاعدة ترى في سوريا الجديدة فرصة لاختبار نموذج توازنات أكثر استقرارًا.
هنا تُعيدنا التحليلات الغربية، خصوصًا في "Foreign Affairs" و"Financial Times"، إلى مفهوم "التحالفات الناعمة" التي تقوم على تقاسم الأدوار لا فرضها، وعلى التفاعل المؤسساتي لا الإملاء السيادي. فكما يشير Gideon Rachman، فإن المستقبل الإقليمي لا يُدار عبر محاور أمنية صلبة، بل من خلال شبكات مصالح مرنة تبني التوازن بدل الانتصار. ويبدو أن هذا ما يطبّقه التحالف السوري–التركي–الخليجي فعليًا.
تاريخيًا، لم تشهد المنطقة مثل هذا النمط من الشراكة بين دولة خارج من أطول حرب أهلية في القرن الحادي والعشرين، ودول كانت جزءًا من دوائر التأثير العسكري والسياسي فيها. لكنه ليس نمطًا هشًا، بل قائم على تقاطع عميق في المصالح: تركيا بحاجة إلى حدود مستقرة، وسوريا بحاجة إلى شراكات سيادية، والخليج يبحث عن عمق استراتيجي لا يقوم على المغامرة بل على التعافي.
في الخاتمة، إن التحالف الجديد لا يُقاس فقط بكمية التصريحات أو حجم الاستثمارات، بل بقدرته على خلق معادلة استقرار طويلة المدى تتجاوز منطق الطوارئ. فإن استطاع هذا التحالف أن يحمي سوريا الجديدة من انتكاسات الداخل ومن عبث الخارج، فسيكون أول مشروع توازني ناجح في الشرق الأوسط منذ اتفاق الطائف. وفي ذلك، لا تُوزع الأدوار بل تُبنى سويًا.
العلاقات العسكرية المصرية التركية – شراكة الضرورة في زمن التحولات الكبرى
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الخميس 8 أيار – مايو 2025
حين يجتمع الجنرالات في عواصم القرار، لا يكون اللقاء مجرد استعراض للبزات العسكرية أو تحية للأعلام، بل هو لحظة يتم فيها إعادة ترتيب الخرائط وبناء التحالفات وتعديل المسارات. وهكذا جاء الاجتماع العسكري بين مصر وتركيا في أنقرة، ليُثير تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين بلدين يتحكمان بأهم الممرات البحرية في العالم، من قناة السويس إلى مضيقي البوسفور والدردنيل. هذا اللقاء، الذي جرى بعد سنوات من القطيعة والتوتر، يُمثل خطوة نحو إعادة ضبط الإيقاع في علاقات تحكمها معادلات معقدة من المصالح المتقاطعة والأولويات المتعارضة.
العلاقات بين مصر وتركيا لم تكن يومًا بسيطة أو مستقرة. منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية في 1923، انحرفت المسارات السياسية والعسكرية للبلدين في اتجاهات متباينة. مصر، التي قادت العالم العربي في حقبة الخمسينيات والستينيات تحت زعامة جمال عبد الناصر، انحازت إلى معسكر الاتحاد السوفيتي، بينما اختارت تركيا الانضمام إلى حلف الناتو، مما وضع البلدين على طرفي نقيض في الحرب الباردة. لكن العلاقات تحسنت في التسعينيات، مع توقيع اتفاقيات للتعاون العسكري والاقتصادي، قبل أن تنقلب الأمور مجددًا بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 2013، وهو ما اعتبرته أنقرة انقلابًا على الديمقراطية، وفتحت أبوابها لقيادات الإخوان المسلمين، مما أشعل صراعًا مفتوحًا بين البلدين على جبهات عديدة، من ليبيا إلى شرق المتوسط.
لكن، لماذا الآن؟ لماذا يختار العسكر في مصر وتركيا الحوار في هذا التوقيت بالذات؟ الإجابة قد تكون في التحولات الجيوسياسية والدولية التي تُعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة. الولايات المتحدة تُعيد تموضعها في الشرق الأوسط بعد سنوات من الفوضى، وروسيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في أفريقيا، والصين تُحاول بناء ممرات جديدة للتجارة والطاقة عبر مبادرة الحزام والطريق. في هذا السياق، تُدرك القاهرة وأنقرة أن العمل منفردًا لن يُحقق لهما الأمن والاستقرار في عالم يتغير بسرعة، وأن الشراكة قد تكون أكثر فعالية في مواجهة التحديات المتزايدة.
ملف الطاقة يُعتبر أحد أهم محركات السياسة الإقليمية في العقد الأخير. تركيا، التي تبحث عن مصادر جديدة للغاز، تُدرك أن استقرار علاقاتها مع مصر قد يُفتح لها الباب للوصول إلى ثروات الغاز في شرق المتوسط، وربما حتى التعاون في مشاريع الطاقة المستقبلية. من جهتها، ترى مصر في التعاون مع تركيا فرصة لتعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة، وربما حتى ربط شبكات الغاز والكهرباء بين أوروبا وآسيا عبر أراضيها. لكن هذا التعاون يتطلب تفاهمات حول ترسيم الحدود البحرية، وتجنب الصدام في مناطق النزاع مثل ليبيا وقبرص، حيث تتداخل المصالح التركية والمصرية بشكل معقد.
الأمن يُمثل حجر الزاوية في أي شراكة استراتيجية بين مصر وتركيا. البلدان يُواجهان تهديدات مشتركة تشمل الإرهاب، والحدود البحرية، والشبكات الإجرامية العابرة للحدود. لكن، بينما تركز مصر على تأمين حدودها البرية ومكافحة الإرهاب في سيناء، تُركز تركيا على حماية مصالحها في شرق المتوسط والبحر الأسود. هذا يعني أن أي شراكة أمنية بين البلدين يجب أن تأخذ في الاعتبار هذه الفروق في الأولويات، وأن تُبنى على أساس تفاهمات واضحة حول الأهداف والمصالح المشتركة.
لكن، ماذا عن الديمقراطية؟ هنا تكمن العقدة الأساسية في العلاقة بين البلدين. مصر، التي تُحكم منذ 2013 بقبضة عسكرية أعادت البلاد إلى مرحلة ما قبل الثورة، تُواجه انتقادات دولية بسبب قضايا حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية. في المقابل، تركيا، رغم سجلها المعقد في هذا الملف، تُدرك أن بناء شراكات جديدة في المنطقة يتطلب تقديم صورة أكثر إيجابية للعالم. السؤال هنا هو: هل يُمكن لمصر أن تستدعي الديمقراطية من جديد إذا كانت هذه هي الورقة التي تحتاجها لاستعادة مكانتها الإقليمية وتعزيز علاقاتها مع القوى الكبرى؟ وهل يُمكن للعسكر في القاهرة أن يُعيدوا ضبط معادلات الحكم بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة؟
إذا كانت مصر وتركيا جادتين في بناء شراكة استراتيجية، فعليهما تجاوز الحسابات الآنية والعمل على بناء جسور الثقة، وتعزيز التعاون العسكري والاستخباري، وتنسيق المواقف في القضايا الإقليمية، مثل ليبيا وسوريا وشرق المتوسط. لكن هذا يتطلب شجاعة سياسية، ورؤية بعيدة المدى، وإرادة حقيقية للتغيير. العالم يتغير بسرعة، ومن لا يُدرك هذه الحقيقة قد يجد نفسه خارج اللعبة… أو في الهامش فقط.
العراق وتركيا – شراكة جيوسياسية في زمن التحولات الكبرى
الخميس 8 أيار – مايو 2025
حين يجتمع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة، فإن اللقاء لا يُختزل فقط في ملفات التجارة والطاقة، بل يمتد ليشمل حسابات استراتيجية أعقد، تتعلق بمستقبل المنطقة بأكملها.
العراق وتركيا، اللذان يشتركان بحدود تمتد لأكثر من 350 كيلومترًا، يُمثلان محوري ارتكاز جيوسياسيين في منطقة تشهد تحولات كبرى، وتغيرًا في خرائط التحالفات العالمية.
السوداني يصل إلى أنقرة ليس فقط كرئيس لحكومة عراقية جديدة، بل كممثل لدولة تسعى إلى استعادة دورها التاريخي كمحور للتجارة والاتصالات بين الشرق والغرب، في وقت تتصارع فيه القوى الكبرى على النفوذ في آسيا والشرق الأوسط.
العمق الاستراتيجي للعراق – بوابة متعددة الاتجاهات
العراق، الذي وقع اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، يُدرك أهمية الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى. هذا الاتفاق يمنح بغداد مظلة دعم عسكري واقتصادي وسياسي، ويُعزز قدراتها الدفاعية في مواجهة التهديدات الإقليمية. لكن في الوقت ذاته، يسعى العراق إلى بناء علاقات متوازنة مع القوى الآسيوية الصاعدة، مثل الهند، التي تُعتبر شريكًا اقتصاديًا واستراتيجيًا رئيسيًا له. العراق والهند وقعا اتفاقيات شراكة استراتيجية تشمل مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والتعليم، والتبادل التجاري، مما يُعزز من مكانة بغداد كحلقة وصل بين آسيا وأوروبا.
الهند، التي تُعد ثالث أكبر مستورد للنفط العراقي، تجد في بغداد شريكًا استراتيجيًا يُمكنه توفير استقرار نسبي لإمدادات الطاقة، في وقت تتصاعد فيه التوترات مع الصين وباكستان. هذه العلاقة لا تقتصر فقط على الاقتصاد، بل تمتد إلى التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، حيث يُدرك كلا البلدين أهمية الحفاظ على استقرار المنطقة لضمان استمرار النمو الاقتصادي.
تركيا – الجسر بين آسيا وأوروبا
تركيا، من جهتها، تُعتبر عضوًا حيويًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولها علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته تسعى إلى توسيع نفوذها في آسيا عبر شراكات جديدة مع الهند وباكستان.
أنقرة تُدرك أن مستقبلها الاقتصادي يعتمد على تأمين ممرات الطاقة والتجارة التي تمر عبر الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ولهذا تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع العراق كشريك استراتيجي في مشروع "طريق التنمية"، الذي يُعتبر بديلاً جيوسياسيًا لمشروع الحزام والطريق الصيني.
الهند وباكستان، اللتان تعيشان واحدة من أخطر النزاعات الجيوسياسية في العالم، يُمثلان تحديًا وفرصة لتركيا في آن واحد.
تركيا، التي تربطها علاقات قوية مع باكستان، تجد نفسها اليوم مضطرة للموازنة بين هذا التحالف التقليدي، وشراكاتها الاقتصادية الصاعدة مع الهند، التي تُعتبر واحدة من أكبر الأسواق العالمية.
لكن هذا التوازن يتطلب دبلوماسية دقيقة، خاصة في ظل تصاعد التوترات بين نيودلهي وإسلام آباد، والتهديد الدائم بتحول الصراع إلى مواجهة نووية.
المياه – ملف حساس يحتاج إلى رؤية جديدة
ملف المياه يُعتبر من أكثر الملفات حساسية في العلاقات بين العراق وتركيا.
العراق يعتمد بشكل كبير على نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من تركيا، ويُشكلان شريان الحياة الزراعي والصناعي لملايين العراقيين.
لكن بناء تركيا لسلسلة من السدود ضمن مشروع "الغاب" (GAP)، بما في ذلك سد إليسو، يُثير مخاوف كبيرة في بغداد بشأن انخفاض منسوب المياه وتدهور جودة الأراضي الزراعية.
السوداني، الذي يُدرك أهمية هذا الملف، يسعى إلى تحقيق توازن يُحافظ على الحقوق المائية للعراق دون تصعيد التوتر مع أنقرة.
الجانب التركي، من جهته، يُدرك أن الاستقرار في العراق يُمثل مصلحة استراتيجية له، خاصة في ظل تعقيدات الملف الكردي والتهديدات الأمنية على حدوده الجنوبية. لهذا، من المتوقع أن يكون ملف المياه حاضرًا بقوة في جدول أعمال اللقاء بين السوداني وأردوغان، مع إمكانية التوصل إلى اتفاقات تُعزز التعاون في إدارة الموارد المائية بشكل مستدام.
الأمن – من الصدام إلى الشراكة الأمنية
الأمن يُمثل ركيزة أساسية في أي علاقة بين بغداد وأنقرة.
تركيا، التي تُواجه تحديات أمنية معقدة على حدودها مع العراق، تجد نفسها مضطرة للتعامل مع تهديدات متعددة تشمل حزب العمال الكردستاني (PKK) والتنظيمات المتشددة العابرة للحدود.
في تحول غير مسبوق، أعلن حزب العمال الكردستاني في الأول من مارس 2025 عن وقفٍ لإطلاق النار، استجابةً لدعوة زعيمه المسجون، عبد الله أوجلان، الذي حثّ على حلّ الحزب ونزع سلاحه، مما قد يُنهي صراعًا دام أربعة عقود.
هذا التطور يُمثل فرصة فريدة للعراق وتركيا لإعادة صياغة تعاونهما الأمني على أسس جديدة.
العراق، الذي كان مسرحًا للعمليات العسكرية التركية ضد مواقع الحزب في شماله، يجد نفسه الآن أمام فرصة لتعزيز سيادته من خلال اتفاقيات أمنية تُراعي مصالحه الوطنية، وتُسهم في استقرار مناطقه الشمالية.
من جهتها، تُدرك تركيا أن إنهاء التهديد الذي يُمثله الحزب يُمكن أن يُتيح لها إعادة توجيه مواردها نحو مشاريع تنموية وإقليمية، مثل "طريق التنمية"، وتعزيز علاقاتها مع جيرانها.
لكن نجاح هذه المرحلة يتطلب تنسيقًا دقيقًا بين بغداد وأنقرة، لضمان تنفيذ عملية نزع السلاح بسلاسة، ومعالجة القضايا العالقة، مثل عودة النازحين، وإعادة إعمار المناطق المتضررة.
رؤية خاصة – نحو تحالف استراتيجي جديد
العراق وتركيا، إذ يلتقيان اليوم في أنقرة، فإنما يقفان على عتبة مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي.
هذه المرحلة تتطلب رؤية شاملة تتجاوز المصالح الاقتصادية لتشمل التعاون السياسي والأمني والمائي.
العراق يحتاج إلى شريك قوي يُساعده في بناء مؤسساته وتعزيز سيادته، وتركيا تُدرك أن استقرار العراق يُمثل مفتاحًا لأمنها القومي وازدهارها الاقتصادي.
لكن هذه الشراكة لا يُمكن أن تنجح إذا بقيت محصورة في الملفات التقليدية، بل يجب أن تمتد لتشمل ملفات جديدة، مثل التكنولوجيا، والابتكار، والطاقة المتجددة.
نحو توازن إقليمي جديد
العراق وتركيا، إذا نجحا في بناء تحالف استراتيجي قوي، يُمكنهما إعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة، وتحديد مسارات جديدة للتجارة والطاقة، وحماية مصالحهما في زمن التحولات الكبرى.
لكن هذا يتطلب قيادة جريئة، ورؤية بعيدة المدى، وإرادة سياسية تتجاوز الحسابات الآنية.
العراق وتركيا أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف دورهما في النظام الإقليمي، ومن ينجح في ضبط إيقاع الجغرافيا مع الاقتصاد والتكنولوجيا، هو من سيمتلك القدرة على صناعة القرار… لا التماهي معه فقط.
حرب التحالفات والمحاور: عندما تُشعل التكنولوجيا والجغرافيا نيران الصراع الدولي
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الأربعاء 7 أيار – مايو 2025
حين تُعيد الأمم الكبرى ترتيب جيوشها وتحالفاتها، فإنها لا تُفكر فقط في الصواريخ والدبابات، بل في الشبكات الرقمية، والبيانات السيبرانية، والقدرة على التحكم بالتدفقات الاقتصادية العالمية.
العالم لم يعد ساحة صراع تقليدية، بل تحول إلى شبكة معقدة من العلاقات المتداخلة، حيث تلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في تحديد من يُمسك بالنار في هذه اللعبة.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، رسمت الولايات المتحدة قواعد النظام الدولي، مستخدمة قوتها العسكرية والاقتصادية لفرض هيمنتها على العالم.
لكن، هل يمكن لهذه القواعد أن تصمد في وجه قوى جديدة، مثل الصين، التي لا تسعى فقط للهيمنة على الأرض، بل على الفضاء السيبراني والشبكات الرقمية التي تُدير حركة الاقتصاد العالمي؟
الهند والصين – خصوم عبر التاريخ، شركاء في الاقتصاد
الهند، التي بدأت كدولة عدم انحياز تحت قيادة جواهر لال نهرو في الخمسينيات، تتحول اليوم إلى قوة محورية في التحالفات الغربية.
هذا التحول لم يكن سهلاً، بل كان نتيجة عقود من التوترات مع الصين، بدءًا من حربهما الحدودية عام 1962، مرورًا بأزمة "دوكلام" عام 2017، وصولًا إلى الاشتباكات الدامية في وادي غالوان عام 2020.
هذه الاشتباكات كانت تذكيرًا قاسيًا للهند بأن جارتها الشمالية ليست مجرد منافس اقتصادي، بل خصم استراتيجي مستعد للقتال من أجل كل شبر من الأرض.
الهند، التي كانت تعتمد على سياسة الحياد الاستراتيجي، تجد نفسها الآن في محور تحالف "كواد" (Quad)، الذي يضم الولايات المتحدة، اليابان، وأستراليا.
هذا التحالف ليس مجرد اتفاقية عسكرية، بل هو تحالف اقتصادي وتقني يهدف إلى مواجهة النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادئ.
لكن، هل يُدرك قادة الهند أنهم قد يدفعون ثمنًا باهظًا إذا اشتعلت الحرب مع الصين؟
وهل يُدرك حلفاؤهم في الغرب أن دعمهم للهند قد يُشعل فتيل صراع نووي لا تُحمد عقباه؟
الممرات البحرية والطاقة – شرايين النظام العالمي
لكن الصراع في جنوب آسيا ليس فقط حول الحدود والجيوش، بل يتعلق أيضًا بالسيطرة على الممرات البحرية الحيوية التي تُشكل شرايين الاقتصاد العالمي.
مضيق ملقا، الذي يمر عبره حوالي 25% من تجارة النفط العالمية، يُعتبر أحد أهم هذه الممرات.
هذا المضيق، الذي يُعتبر حلقة وصل بين المحيطين الهندي والهادئ، يُمثل نقطة ضعف استراتيجية للصين، التي تعتمد عليه لنقل نفطها وموادها الخام من الشرق الأوسط وأفريقيا.
ولهذا السبب، استثمرت الصين مليارات الدولارات في بناء بدائل لهذا المضيق، مثل "الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني" (CPEC)، الذي يربط مقاطعة شينجيانغ الصينية بميناء جوادر في باكستان.
هذا الممر يُعفي الصين من المرور عبر مضيق ملقا، ويمنحها منفذًا استراتيجيًا إلى المحيط الهندي.
لكن، هل يُدرك قادة بكين أن هذا الممر قد يُصبح نقطة ضعف في حال اشتعلت الحرب مع الهند؟
وهل يُدركون أن البحرية الهندية، التي تُعد واحدة من أقوى الأساطيل في المحيط الهندي، قد تُغلق هذا الممر في حال اندلاع النزاع؟
صناعة المال العالمي – اللعبة الأخطر
لكن، في هذا الصراع المتشابك، تُصبح السيطرة على المال العالمي أكثر أهمية من السيطرة على الجغرافيا.
الولايات المتحدة، التي تُسيطر على النظام المالي العالمي عبر الدولار ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي (World Bank)، تجد نفسها اليوم في مواجهة تحديات غير مسبوقة.
الصين، التي تُعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تُحاول بناء نظام مالي موازٍ يعتمد على اليوان الرقمي (Digital Yuan) ومبادرة "الحزام والطريق" (BRI).
هذا النظام يُحاول فك الارتباط بالدولار، وخلق أسواق جديدة للصين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لكن، هل يُدرك قادة بكين أن هذه الخطوة قد تُثير رد فعل عنيف من واشنطن وحلفائها؟
وهل يُدركون أن النظام المالي العالمي ليس مجرد حسابات مصرفية، بل شبكة معقدة من العلاقات الاقتصادية والجيوسياسية؟
الأمن السيبراني – الحرب الخفية التي تُحدد مستقبل العالم
لكن، ربما يكون أخطر جبهات الصراع اليوم هو الفضاء السيبراني.
الهجمات السيبرانية أصبحت سلاحًا رئيسيًا في الحروب الحديثة، حيث تُستخدم لتعطيل شبكات الطاقة، وشل حركة الاقتصاد، والتأثير على العمليات السياسية والعسكرية للدول.
في عام 2020، تعرضت الهند لهجوم سيبراني يُعتقد أنه من الصين، أدى إلى قطع الكهرباء عن مدينة مومباي، العاصمة الاقتصادية للهند.
هذا الهجوم كان بمثابة تذكير للهند بأن الصراع مع الصين ليس فقط على الحدود الجغرافية، بل يمتد إلى شبكات الكهرباء والاتصالات والبنوك.
الصين، التي تُعتبر إحدى القوى الكبرى في مجال الهجمات السيبرانية، تُدرك أن السيطرة على الفضاء السيبراني يُعطيها ميزة استراتيجية في أي صراع عالمي.
لكن، هل يُدرك قادة بكين أن هذه الهجمات قد تؤدي إلى تصعيد عسكري غير متوقع؟
وهل يُدركون أن الفضاء السيبراني قد يُصبح ميدان المعركة القادمة، حيث لا تُطلق الصواريخ، بل تُطلق الأكواد والشفرات؟
إستراتيجيا – من يُمسك بالنار في عالم يتغير؟
حين تُعيد القوى الكبرى ترتيب جيوشها وتحالفاتها، وتستثمر في التكنولوجيا بنفس الحماس الذي استثمرت فيه في الأسلحة النووية، يصبح العالم أقرب إلى حافة الانهيار.
ما نراه اليوم ليس مجرد سباق تقني أو استعراض للقوة العسكرية، بل هو محاولة لإعادة تشكيل النظام الدولي نفسه، حيث تتداخل فيه الحدود بين الحرب التقليدية والصراع التكنولوجي، وتصبح الحروب أكثر تعقيدًا وأشد تدميرًا.
هل يمكن للاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المتقدمة أن تُبقي السلام، أم أنها ستُشعل الحرب القادمة؟
وهل يستطيع النظام الدولي الحفاظ على استقراره في مواجهة هذه التحولات، أم أنه يقترب من لحظة الانهيار التي تحدث عنها المنظرون منذ عقود؟
لأن التاريخ يقول إن أول قنبلة نووية لا تكون الأخيرة، وإن أول محاولة للهيمنة على التكنولوجيا لن تكون نهاية اللعبة.
إنها فقط بداية لفصل جديد في صراع لا يُرحم، حيث يُصبح كل شيء سلاحًا – من الذكاء الاصطناعي إلى التجويع – ولا يُعفى من الحساب أحد.
الأسواق المالية والنفوذ الاقتصادي: قلب المعركة الخفية
حين ننظر إلى النظام العالمي اليوم، نجد أنه ليس فقط نظامًا عسكريًا أو سياسيًا، بل هو شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والمالية التي تُحدد مصير الدول، وتُعيد تشكيل التحالفات والمحاور.
الدولار الأمريكي، الذي يُعتبر العملة الاحتياطية الأولى في العالم، يُمثل أحد أهم أدوات القوة الأمريكية.
هذا الدولار ليس مجرد عملة، بل هو سلاح اقتصادي يُستخدم للضغط على الدول، وفرض العقوبات، والتحكم بالأسواق العالمية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تُسيطر على النظام المالي العالمي عبر مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي (World Bank)، إضافة إلى نظام "سويفت" (SWIFT) الذي يُستخدم لتحويل الأموال بين البنوك العالمية.
لكن، الصين تُدرك أن هذا النظام يُمثل نقطة ضعف لها.
ولهذا، بدأت في بناء نظام مالي موازٍ يعتمد على اليوان الرقمي (Digital Yuan) والبنية التحتية المالية التي تُغطيها مبادرة "الحزام والطريق" (BRI).
هذا النظام يهدف إلى فك الارتباط بالدولار، وخلق أسواق جديدة للصين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لكن، هل يمكن للصين أن تُغير النظام المالي العالمي دون أن تواجه رد فعل عنيف من واشنطن وحلفائها؟
وهل يُدرك قادة بكين أن هذه الخطوة قد تُشعل حربًا اقتصادية غير تقليدية تُعيد تشكيل النظام المالي العالمي؟
الولايات المتحدة، التي تُدرك أهمية هذا التحدي، بدأت في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية بشكل متزايد.
من إيران إلى روسيا، ومن فنزويلا إلى كوريا الشمالية، استخدمت واشنطن هذا السلاح لكسر إرادة خصومها.
لكن، هل يمكن لهذا السلاح أن يستمر في العمل إذا قررت الصين وروسيا ودول أخرى بناء نظام مالي موازٍ يُعفيها من الاعتماد على الدولار؟
وهل يُدرك القادة في واشنطن أن النظام المالي العالمي الذي بنوه قد يتحول إلى نقطة ضعف إذا تم استهدافه بالهجمات السيبرانية أو البدائل الرقمية؟
لأن المال ليس مجرد أرقام في الحسابات المصرفية، بل هو القوة الحقيقية التي تُحرك الجيوش، وتُشعل الحروب، وتُعيد تشكيل خرائط العالم.
ولهذا، فإن المعركة القادمة لن تكون فقط على الحدود والجيوش، بل ستكون أيضًا على أسواق المال والبيانات الرقمية والشبكات السيبرانية التي تُدير هذه الأسواق.
إنها معركة قد تُحدد مصير النظام العالمي لعدة قرون قادمة، حيث تُصبح كل عملة سلاحًا، وكل بنك ساحة معركة، وكل معاملة مالية فرصةً للهيمنة أو السقوط.
وهكذا، يُصبح السؤال الأهم ليس فقط من يُمسك بالنار في هذا العالم المتغير، بل من يُمسك بالأموال التي تُشعل هذه النار.
لأن التاريخ يقول إن أول محاولة للهيمنة على المال لن تكون الأخيرة، وإن أول محاولة للتحكم بالأسواق لن تكون نهاية اللعبة.
إنها فقط بداية لفصل جديد في صراع لا يُرحم، حيث يُصبح كل شيء سلاحًا – من الدولار إلى اليوان الرقمي، ومن العقوبات إلى الهجمات السيبرانية – ولا يُعفى من الحساب أحد.
بغداد – نيودلهي: عندما تتحوّل براميل النفط إلى خرائط جديدة للنفوذ
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الثلاثاء 6 أيار – مايو 2025
قد يبدو تصدير العراق ما يقارب ثلاثين مليار دولار من النفط والمشتقات إلى الهند خلال عام واحد أمرًا طبيعيًا في عرف التجارة الدولية، لكنه في ميزان التحالفات الدولية ليس رقمًا عابرًا. إنه انعكاس لحركة جديدة في الجغرافيا السياسية، يتداخل فيها الاقتصاد مع النفوذ، والنفط مع الاستقطاب، والخرائط مع المصالح المتبادلة.
الهند، التي ظلّت لعقود تلعب دور "الحياد الاستراتيجي"، تعيد منذ سنوات صياغة دورها كقوة آسيوية كبرى تبحث عن شراكات طويلة المدى، في وقت تسحب فيه الصين البساط في جنوب شرق آسيا، بينما تنكفئ روسيا نحو الداخل، وتتموضع الولايات المتحدة من بعيد كمراقب-مدير للعبة. وفي هذا المشهد، يبرز العراق – رغم هشاشته السياسية – بوصفه أحد المفاتيح النادرة التي يمكن للإقليم أن يُعاد رسمه من خلالها، لا من موقع صانع القرار فقط، بل من موقع المورد والممرّ والمُوازن.
صعود العراق كمورّد خام للهند ليس قرارًا اقتصاديًا محضًا، بل هو ثمرة فراغات جيوسياسية تشكّلت عقب تراجع إيران من المشهد الإقليمي في سوريا ولبنان واليمن، وتقلّص الأدوار الروسية بعد حرب أوكرانيا، وازدياد الحاجة إلى خطوط إمداد لا تخضع مباشرة للابتزاز الجيوسياسي. وهنا تلتقي مصلحة العراق – الباحث عن شركاء غير مهيمنين – مع طموح الهند – الباحثة عن بدائل استراتيجية لا تمرّ من بوابة بكين.
الهند، من خلال هذا التمدد التجاري، ترسم نفوذها الناعم على الضفة الغربية من الخليج. إنها لا تبني قواعد عسكرية، بل تحفر نفوذها عبر عقود الطاقة والممرات التجارية، مستفيدة من الرغبة العراقية في التخفف من الارتهان لطرف دون آخر. وبذلك، يتحول النفط العراقي إلى "جسر نفوذ هادئ"، لا يثير الحساسيات مثل الوجود الأميركي، ولا يُقلق التوازنات الخليجية مثل التمدد الصيني.
في المقابل، فإن العراق يعيد التفاوض على تموضعه شرقًا. فبينما يرتبط بمبادرة الحزام والطريق الصينية، ويُبقي خيوطًا مع موسكو وطهران، فإنه يفتح اليوم بابًا ثالثًا يتمثّل بالهند، وهو ما يُربك التوصيفات التقليدية لموقع العراق ضمن محاور النفوذ. لم يعد بغداد مجرد حليف أميركي مشروط، ولا تابع إيراني ثقيل الظل، بل لاعب يُعاد تصديره على الطاولة الآسيوية – مع قابلية للعب في أكثر من جهة، بشرط ألا يُفرض عليه سقف.
هكذا يتكشّف من تحت أرقام التجارة، تحوّل استراتيجي جوهري:
الهند تدخل إلى الشرق الأوسط عبر بوابة الطاقة، وليس عبر الصراعات، والعراق يُعيد صياغة شراكاته من مبدأ التوازن لا التبعية، والولايات المتحدة – رغم غيابها عن الصورة الظاهرة – ترقب هذا التحالف بعين الترحيب، طالما أنه يُقيّد الصعود الصيني ويكبح الرغبات الإيرانية في احتكار المسارات.
وبين هذه الأطراف، تُرسم خارطة جديدة للتحالفات:
الهند حليف تجاري مرن، بديل للصين وروسيا في بعض الملفات
العراق موازن إقليمي جديد، يطمح للتموضع كعقدة مرور واستقرار
الولايات المتحدة ضامن غير مباشر، يُبقي النفوذ في حدود التحكم دون التدخل
إيران الخاسر الأكبر من هذا الانزياح الناعم، ما دامت نيودلهي تتحول إلى مركز جذب بديل عن طهران
ومن هنا، فإن ما يبدو تصاعدًا تجاريًا، هو في جوهره إعادة رسم للخرائط. برميل النفط الذي يخرج من البصرة، قد لا يحمل فقط طاقة تُشغّل المصانع في نيودلهي، بل يحمل معه إشارات دقيقة إلى من يعيد رسم المحاور، ومن يُستدعى للعب دور، ومن يتم إخراجه من المشهد بهدوء.
الولايات المتحدة والهند: تحالف اقتصادي لتطويق العملاق الصيني
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
الجمعة 25 أبريل 2025
في لحظة دقيقة من عمر الصراع الاقتصادي العالمي، تُعيد واشنطن تموضعها عبر تحالفات مدروسة، وقد جاءت مساعيها نحو إبرام اتفاق تجاري شامل مع الهند كأحد أبرز ملامح هذا التحول الاستراتيجي. فليست القضية مجرد فتح أسواق جديدة، بل صياغة تحالف اقتصادي ممتد في وجه القوة الصاعدة في الشرق: الصين.
تسعى الولايات المتحدة إلى تفعيل شراكة اقتصادية شاملة مع نيودلهي تشمل التجارة الإلكترونية، الزراعة، وحماية البيانات الرقمية، في توجهٍ يكشف عن رؤية جديدة تُركز على بناء محاور اقتصادية فاعلة تتجاوز النموذج التقليدي للتحالفات العسكرية. هذا الحراك الأميركي لا يمكن فصله عن السعي لتقويض هيمنة الصين على سلاسل التوريد العالمية، لا سيما في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والمنتجات الزراعية.
الهند، من جانبها، تُدرك تمامًا أهمية التحالف مع واشنطن في ظل طموحاتها الجيوسياسية، وتبحث عن شريك استراتيجي يُعزز مكانتها العالمية دون أن تقع بالكامل في كفة أحد القطبين. إنها تلعب بذكاء على حبال التوازن بين الشرق والغرب، لكنها اليوم تنفتح أكثر من أي وقت مضى على المشروع الأميركي الجديد.
التحالف المحتمل بين القوتين الديمقراطيتين يعكس نمطًا جديدًا من خرائط النفوذ: نفوذ اقتصادي مرن، متعدد الاتجاهات، غير قائم على الاحتلال العسكري أو الإكراه السياسي، بل على المصالح المتقاطعة والضغوط الناعمة. وهو بذلك يدخل ضمن ما يمكن وصفه بـ"الردع عبر الشراكة"، حيث تُصبح العلاقات التجارية أداة لكبح جماح المنافسين دون اللجوء إلى المواجهات المباشرة.
لكن هذا التحرك لا يخلو من التحديات. فالصين تتابع بدقة هذه التقاربات، وتسعى لإعادة توجيه تحالفاتها في جنوب آسيا وأفريقيا. وفي المقابل، تُواجه واشنطن تساؤلات داخلية حول جدوى تقديم تنازلات تجارية في سبيل أهداف استراتيجية بعيدة المدى.
إن الاتفاق المرتقب بين واشنطن ونيودلهي ليس مجرد تفاهم اقتصادي، بل يمثل هندسة لنمط نفوذ جديد يعيد تشكيل خارطة المصالح العالمية. وسنكون على موعد مع مرحلة تختلف كثيرًا عن عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث يصبح النفوذ الاقتصادي هو العملة الأهم في صراع الكبار.
ومن هنا، فإن هذه الخطوة الأميركية تمثل جزءًا من تحولات أوسع في سياسة إدارة الرئيس ترامب، التي تعي جيدًا أن كسب المعركة مع الصين لن يكون عبر الجغرافيا فقط، بل عبر الاقتصاد، التكنولوجيا، وتحالفات النفوذ التي تُعيد رسم موازين القوة بذكاءٍ أكثر من أي وقت مضى.
الخليج يُعيد رسم خرائطه… والممرات تسبق التحالفات
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
01:43:59 – 18 أبريل 2025
المشهد الإقليمي في الخليج لم يعد يُقرأ من الداخل فقط، بل باتت خيوطه مشدودة إلى شبكة أوسع من التحولات التي تحدث على أطرافه، في آسيا، وشرق أوروبا، وحتى شرق المتوسط. ومع كل مشروع جديد في الطاقة أو الربط اللوجستي أو الاستثمارات العابرة للحدود، تظهر حقيقة باتت راسخة: الخليج لا يرسم حدوده على الورق، بل يعيد رسم خرائطه عبر المشاريع، والممرات، وخطط الشراكة الطويلة، وكلها – بشكل أو بآخر – تمر من تل أبيب.
لكن في هذا التحول، لا يمكن قراءة الموقف دون فهم دقيق لاختلاف المقاربات بين اللاعبين الإقليميين. إيران، التي كانت تُعرف تاريخيًا بقدرتها على المناورة عبر الأزمات، باتت الآن تعاني من تآكل أدواتها، ليس بسبب العقوبات فقط، بل لأنها لم تُجدّد قواعد لعبتها. لقد استهلكت أوراقها في المحور الواحد، ولم تنتقل إلى مرونة السياسات، فبقي خطابها متشابهًا، وموقعها متكررًا، وحلفاؤها إما في أزمة، أو في مرحلة تراجع. وهي، وإن ظهرت بمظهر المتماسك، إلا أنها تواجه تحديًا عميقًا في ترجمة وجودها العسكري والسياسي إلى نفوذ اقتصادي مستدام، وهو ما جعلها أشبه بدولة في موقع الصمود أكثر من كونها دولة في موقع المبادرة.
في المقابل، جاءت تركيا من زاوية أخرى، ليس فقط كدولة ذات نفوذ إقليمي، بل كوريثة لجغرافيا السيادة القديمة، تحمل إرثًا عثمانيًا طويلًا، وتُدير حاضرها بمنطق الدولة التي لم تفقد ذاكرة القوة. تركيا لم تتشبث بمحور، بل انتقلت بين المحاور بمرونة لافتة. استطاعت أن تقف مع الناتو دون أن تنسلخ عن أوراسيا، ووقّعت مع الروس دون أن تُغضب الأمريكيين، وفتحت طريقها إلى الخليج دون أن تتخلى عن تعقيدها تجاه تل أبيب. هذه المهارة لم تكن عشوائية، بل مدروسة ضمن رؤية جيوسياسية تستفيد من كل فجوة، وتُعيد قراءة اللحظة السياسية كما تفعل الدول العريقة.
أما الخليج، فقد اختار طريقه الحالي ضمن معادلة براغماتية معقّدة. هو لا يُدير ظهره للعالم الإسلامي، ولا يتصادم مع المزاج العربي العام، لكنه في ذات الوقت لا يُخفي سعيه إلى بناء منظومة مصالح جديدة، تمتد من الهند إلى أوروبا، وتمر بمحطاتٍ عديدة بينها إسرائيل. المشاريع الكبرى مثل الممر الهندي–الأوروبي، وخطوط الطاقة الرقمية، وخطط التحول في الموانئ، لا تُدار اليوم من منظور سياسي مباشر، بل من منطلق الوظيفة الجغرافية، وحسابات المردود.
وهنا تظهر تل أبيب، لا كدولة ذات ملف أمني فقط، بل كـ"محور ممرات". تتقاطع عندها خطوط القطارات، وتمر منها مشاريع الربط اللوجستي، وتُطرح من خلالها فرص الابتكار التكنولوجي. ولا يمكن إنكار أن جزءًا من هذا الحضور جاء نتيجة الانفتاح الخليجي المتدرج، والاحتياج إلى أدوات تسريع النمو بعد عقود من الاعتماد المفرط على النفط.
لكن هذا لا يعني أن الخليج قد انسلخ من ثوابته. فالدول الخليجية – خصوصًا السعودية – تُدير هذا الانفتاح بحساب دقيق. هي لا تُفرّط في العمق العربي، لكنها في الوقت ذاته، لا تُضيّع فرصة إعادة التموضع ضمن شبكة التأثير العالمي. هذه الازدواجية ليست ضعفًا، بل مرونة، وهي المرونة ذاتها التي يستخدمها الغرب نفسه حين يُبرّر شراكته مع من يخالفه في القيم، لكنه يلتقي معه في الحسابات.
وإذا نظرنا إلى القضية الفلسطينية، نجد أنها لم تعد العائق الأول في التحرك، لكنها لم تُغادر الوجدان العربي. الفرق أن المقاربة تغيرت: لم يعد التعامل معها شرطًا مسبقًا للعلاقات، بل عنصرًا تفاوضيًا داخل كل علاقة. لم تتلاشَ، لكنها لم تعد سيدة الملفات. أصبحت حاضرة حين يُراد لها أن تحضر، وغائبة حين تُقدَّم الأولويات التنموية على حساب المسائل الرمزية.
هذا كله يعيد ترتيب المواقع. إيران تتراجع من موقع "الرافع الإقليمي"، إلى موقع "الخصم المُراقَب". وتركيا تتقدم، ليس لأنها الأقرب إلى واشنطن أو موسكو، بل لأنها الأقدر على إنتاج مساحة خاصة بها، دون أن تُحسب بالكامل على أحد. أما الخليج، فهو يصوغ دورًا جديدًا ليس بوصفه تابعًا، بل بوصفه شريكًا في التخطيط، يتقاطع مع تل أبيب، لكنه لا يمنحها مفاتيح المشهد بالكامل.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
في لحظة تبدّلت فيها خرائط التحالفات،
لم تعد الدول تُسأل عن موقفها… بل عن وظيفتها.
والخليج اليوم لا يُسأل: مع من أنت؟
بل يُسأل: إلى أين تمر مشاريعك، ومن الذي لا تستطيع تجاوزه؟
وفي هذه اللحظة، من لا يفهم أين يمر… لا يملك أن يحدد أين يقف.
القلعة الأمريكية الجديدة: حين تُحكم الحدود بالرقائق لا بالرصاص
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
16 أبريل 2025
لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، تُعيد الولايات المتحدة تعريف حدودها السيادية، لا على الخريطة، بل داخل المصانع والمختبرات. لم يعد الخطر يطرق أبوابها من البحار أو الصحارى، بل من علبة رقائق إلكترونية صغيرة صُنعت في مصنع بعيد في آسيا.
وهكذا بدأت أمريكا في بناء "قلعتها الجديدة"، التي لا تشبه سور برلين، ولا خط ماجينو، بل تقوم على سلسلة من القيود التجارية، والتحقيقات الجمركية، واتفاقات الإنتاج الذكي.
لقد فهمت إدارة ترامب الثانية أن العالم لم يعُد يُغزى بالمدرعات، بل بالاعتماد؛
من يتحكم في البرمجيات والمكونات والمعدات… يتحكم في القرار.
ولهذا السبب، قررت واشنطن أن تتصرف كما لو أن الأمن القومي لا يبدأ من قاعدة عسكرية، بل من خط تجميع في مصنع للرقائق أو مختبر أدوية.
في أبريل 2025، أطلقت وزارة التجارة الأمريكية تحقيقات واسعة النطاق في واردات الرقائق الإلكترونية والأدوية الحيوية من الصين وأوروبا، في ما بدا أنه فتحٌ لجبهة جديدة من الحرب التجارية، لكنها موجهة بدقة نحو قلب الصناعات الحيوية.
هذه ليست مجرد تعرفة جمركية؛ إنها هندسة جديدة للسيادة الأمريكية تُعيد تعريف العدو، والمجال الحيوي، والحدود.
واللافت أن هذا التوجه لا يلقى معارضة داخلية تُذكر، بل يحظى بتأييد واسع من مؤسسات الدولة العميقة:
الكونغرس، البنتاغون، الـCIA، ووزارة الخزانة،
كلها باتت ترى أن المعركة القادمة ستكون معركة بنية تحتية ذكية، وأن أمريكا إذا لم تُعيد إنتاج نفسها محليًا، فإنها ستنهار من الداخل دون أن يُطلق عليها عدو طلقة واحدة.
وهكذا تتحول القرارات الاقتصادية إلى قرارات دفاعية،
فكل عقد تصنيع يتم توقيعه على الأرض الأمريكية يُعتبر "قاعدة صلبة"،
وكل استثمار في الذكاء الصناعي أو الأمن السيبراني يُعد "بطارية دفاع"،
وكل نقل تقني إلى الداخل يُعامل كـ"منظومة رادار".
من هنا نفهم لماذا أصبح وزير التجارة الأمريكي يوازي بقوته وزير الدفاع،
ولماذا باتت واشنطن تُفاوض أوروبا ليس على قواعد عسكرية، بل على قواعد منشأ للرقائق والبيانات والأدوية.
وفي ظل هذا التحول، لم تعد العلاقات التجارية خاضعة لمنطق "الحرية" و"السوق"، بل أصبحت جزءًا من استراتيجية ردع ناعم، تُفرض فيها الحدود من خلال قوانين الشراء، لا المعاهدات العسكرية.
اللافت أيضًا أن الولايات المتحدة لم تعد تعوّل على اتفاقات متعددة الأطراف،
بل تتجه نحو الصيغة الثنائية، وفق مبدأ: "إذا لم تُنتجوا معنا… فسندفعكم إلى الإنتاج ضدكم."
وهو ما يُفسر التوتر المتزايد مع الاتحاد الأوروبي، والاصطفاف الحذر الذي تبديه دول مثل كوريا الجنوبية، وتايوان، وحتى كندا.
هذا النموذج الجديد من الأمن الأمريكي يُعيد كتابة معنى "القوة العظمى" في القرن الحادي والعشرين.
لم تعد العظمة تعني أن تملك حاملات طائرات، بل أن تملك كل خطوط الإنتاج المتقدمة، وأن تجعل الآخرين غير قادرين على الاستغناء عنك.
هكذا تخلق واشنطن تبعية معكوسة: من لم يشترِ من مصانعها… قد لا يُسمح له بالدخول إلى عالمها المالي أو التكنولوجي أو السيبراني.
وفي هذا النموذج، تصبح الشركات الكبرى مثل Intel وPfizer وNvidia شركاء فعليين في رسم السياسة الخارجية،
ويتحوّل وادي السيليكون من منطقة ابتكار إلى منطقة تمركز استراتيجي مغلقة الأبواب، تشبه القواعد العسكرية في طابعها الاستراتيجي.
وكلما حاول خصم من خارج هذا التحالف أن يدخل اللعبة، يجد نفسه محاصرًا بجدران غير مرئية من القيود، والتقنيات الاحتكارية، والأنظمة التشغيلية المحمية.
وهكذا تكون أمريكا قد بنت قلعتها الجديدة دون أن ترفع جدارًا، ولا أن تحشد جيشًا،
بل عبر سياسات تصنيع صارمة، وقوانين ملكية ذكية، وشبكة تحالفات إنتاجية تحتكم للمصلحة العليا.
وهنا، لا يُمكن تجاهل الرسائل التي تبعث بها هذه الاستراتيجية إلى الصين وروسيا وحتى أوروبا:
الحدود لم تعد حيث تنتهي الأرض… بل حيث تبدأ سلسلة التوريد.
ومن لا يدخل إلى هذه السلسلة بشروط أمريكا، فسيُستثنى من النظام العالمي الجديد الناشئ بهدوء، تحت ستار القانون والتجارة.
كيف يمكن لنظريات العلاقات الدولية أن ترسم خريطة العالم؟
مارية أيمن
باحثة في العلاقات الدولية
تلعب نظريات العلاقات الدولية دورًا جوهريًا في تفسير سلوك الدول وتحديد طبيعة التفاعلات بين الفاعلين الدوليين. لكنها لا تقتصر على كونها أدوات تحليلية لفهم ما يجري فحسب، بل تملك أيضًا قدرة استشرافية واستراتيجية تُمكّن من "رسم خريطة العالم" السياسية والاقتصادية والأمنية، وفقًا لفهم معين لطبيعة النظام الدولي. فكل نظرية تحمل في طياتها تصورًا مميزًا عن بنية العالم، وموقع الفاعلين فيه، ومآلاته المستقبلية.
في هذا المقال، سنناقش كيف تسهم كل من الواقعية، الليبرالية، البنائية، والنظريات النقدية، في رسم خريطة العالم المعاصر من حيث النفوذ، الهيمنة، الصراع، والتعاون، مع التركيز على كيفية استخدام هذه النظريات لتوجيه السياسات وصناعة القرار الدولي.
الواقعية: خريطة القوة والمصالح
تنطلق الواقعية من مبدأ أن العالم عبارة عن ساحة صراع بين دول ذات سيادة تبحث عن أمنها ومصالحها في نظام دولي غير خاضع لسلطة عليا. من هذا المنطلق، ترسم الواقعية خريطة العالم وفق خطوط النفوذ والتحالفات العسكرية وميزان القوى. تقسم الدول إلى قوى كبرى، صاعدة، ومتراجعة، وتُحدد المناطق الحساسة التي تشهد تنافسًا استراتيجيًا مثل مضيق هرمز، بحر الصين الجنوبي، والقطب الشمالي.
وفق هذا النموذج، يتم تفسير التحالفات مثل الناتو، أو التنافس بين الولايات المتحدة والصين، أو حتى انسحاب بعض الدول من الاتفاقيات الدولية، من زاوية البحث عن التفوق أو الحماية في نظام محفوف بالتهديدات. وهكذا، تُرسم خريطة العالم الواقعية بالاعتماد على الجغرافيا السياسية، القدرات العسكرية، والتحالفات الاستراتيجية.
الليبرالية: خريطة التعاون والمؤسسات
على النقيض من الواقعية، تفترض الليبرالية أن التعاون بين الدول ممكن ومفيد، وأن المؤسسات الدولية، التجارة، والديمقراطية تشكّل أدوات لإرساء الاستقرار. وهكذا، فإن الليبرالية ترسم خريطة العالم من خلال شبكات التعاون، الاتفاقيات متعددة الأطراف، والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية، والاتحاد الأوروبي.
من خلال هذه العدسة، يُنظر إلى العالم كمجتمع دولي مترابط، تُرسم حدوده بناءً على العلاقات الاقتصادية والتدفقات التجارية، لا على الجيوش والتحالفات العسكرية. تتحول خطوط الحدود إلى ممرات للتبادل، وتُقاس قوة الدول بمدى انخراطها في النظام العالمي والمؤسسات المتعددة الأطراف، بدلًا من تفوقها العسكري فقط.
البنائية: خريطة الهويات والأفكار
ترى البنائية أن النظام الدولي ليس فقط نتاج المصالح المادية بل أيضًا نتيجة الأفكار، المعايير، والهويات. فالدول لا تتصرف فقط وفقًا لمصالحها، بل تبني سلوكها بناءً على فهمها لذاتها وللآخرين. من هنا، ترسم البنائية خريطة عالم معقدة، ليس على أساس القوى أو التحالفات، بل على أساس التصورات المتبادلة، السرديات القومية، والدوافع الثقافية.
في هذا السياق، يمكن تفسير الاختلاف في السياسة الخارجية بين دولتين لهما ظروف مادية متشابهة على أنه ناتج عن اختلاف في الهوية أو الرؤية الذاتية. كما تُفسر تحالفات مثل "التحالف الغربي" أو "العداء مع الآخر" كنتاج لصورة جماعية لا لمصلحة صرفة. فخريطة العالم البنائية مليئة بالمناطق الرمادية التي تتشكل وتتغير بتغير الخطاب واللغة السياسية.
النظريات النقدية: خريطة الهيمنة واللاعدالة
تُقدم النظريات النقدية – مثل الماركسية ونظرية ما بعد الاستعمار – رؤى بديلة ترسم خريطة العالم من منظور الهيمنة والتفاوت البنيوي. فبدلًا من النظر إلى العالم كمنظومة متوازنة أو متعاونة، تنظر إليه كبنية ظالمة تُكرّس مصالح القوى الاقتصادية الكبرى على حساب الدول النامية أو المهمشة.
ترسم هذه النظريات خريطة عالم منقسم بين مركز (شمال عالمي غني ومسيطر) وطرف (جنوب عالمي فقير وخاضع)، وتُفسر الحروب، الفقر، والهجرة، كنتائج مباشرة للنظام الرأسمالي العالمي. كما تُسلط الضوء على دور الشركات الكبرى، النظام المالي العالمي، والاستعمار الجديد، في تشكيل علاقات القوة بين الدول.
التكامل بين النظريات: خريطة متعددة الأبعاد
في الواقع العملي، لا يمكن اعتماد نظرية واحدة فقط لرسم خريطة العالم. فكل نظرية تُسلّط الضوء على جانب مختلف من التعقيد الدولي. لذلك، يتبنى صانعو السياسات والباحثون نهجًا تكامليًا يدمج بين الواقعية لتحليل التهديدات، والليبرالية لفهم التعاون، والبنائية لتفسير السلوكيات غير النمطية، والنقدية لكشف الاختلالات البنيوية.
هذا التكامل يُنتج خريطة استراتيجية متعددة الأبعاد، تُراعي توازن القوى، وتحديات الحكم العالمي، والصراعات الثقافية والهوياتية، بالإضافة إلى قضايا العدالة والإنصاف.
وأختتم في موضوعي إن رسم خريطة العالم لا يعني فقط تحديد الحدود الجغرافية أو القوى المتنفذة، بل يتطلب تحليلًا عميقًا للأفكار التي تُحرّك الدول، الهياكل التي تُقيّدها، والأنظمة التي تُعيد إنتاج النفوذ والهيمنة. من خلال نظريات العلاقات الدولية، يمكننا رؤية العالم بعيون متعددة: واقعية ترى الصراع، ليبرالية ترى الأمل، بنائية ترى الهوية، ونقدية ترى اللاعدالة.
فهم هذه النظريات وتطبيقها لا يساعد فقط في تفسير الماضي والحاضر، بل في بناء استراتيجيات أكثر وعيًا وتوازنًا لمستقبل العالم.