رئيس التحرير:
في هذه الصفحة، نفتح أرشيف الإنسانية أمام ميزان العدالة، حيث يُعرض تاريخ الجرائم الكبرى، وتُفكك بنود القانون الجنائي الدولي بكل دقة. هنا تتقاطع ملفات جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجريمة العدوان مع الجهد القضائي الدولي الهادف إلى ردع القتلة وإنصاف الضحايا.
نرصد في هذه المساحة تطورات المحكمة الجنائية الدولية، وقرارات المحاكم الخاصة، ومسارات التحقيق في الجرائم العابرة للحدود، ونقدم تحليلات قانونية واستراتيجية لمدى فاعلية المنظومة الجنائية الدولية في مواجهة القوة والهيمنة.
حين تُقتل العدالة مرتين: استهداف الصحفيين في غزة بين الرصاصة والصمت
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الخميس 18 أيلول / سبتمبر 2025
لا يشكّل استهداف الصحفيين في زمن الحرب مجرد انتهاك فردي لحق الحياة، بل يُجسّد جريمة مركّبة تُصيب الحقيقة في مقتل، وتُعطّل واحدة من أقدم آليات العدالة: الشهادة الحرة. في غزة، لم يكن سقوط الصحفيين نتيجة خطأ عرضي أو نيران جانبية كما تدّعي بعض الجيوش، بل أضحى جزءًا من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إسكات الراوي، وطمس السردية، وحرمان الضحية من صوتها.
منذ اشتداد الحرب، سقط ما يقرب من مئتي صحفي ومراسِل ومصور، معظمهم فلسطينيون محليون يعملون في ظروف ميدانية قاسية، بستر صحفية وأحيانًا بدونها، لكنهم جميعًا كانوا يحملون رسالة واحدة: أن يُرى ما يجري على الأرض كما هو، دون تجميل أو تزوير أو إسكات. كان أنس الشريف مثالًا بارزًا، قُتل في محيط مستشفى الشفاء في خيمة إعلامية يعرف الجميع أنها خالية من أي تهديد عسكري. ليس لأنه كان يحمل سلاحًا، بل لأنه كان يحمل كاميرا.
القانون الدولي واضح وصارم. اتفاقيات جنيف والبروتوكولات المرفقة تنص صراحة على اعتبار الصحفيين المدنيين في مناطق النزاع أشخاصًا محميين، شريطة ألا يشاركوا مباشرة في العمليات القتالية. الحماية لا تسقط لمجرد أن الصحفي ينتمي لوسيلة إعلام ذات خط سياسي معيّن، ولا لمجرد أن الدولة المستهدِفة ترفض روايته. رغم ذلك، تُسارع إسرائيل في كل مرة إلى تبرير استهداف الصحفيين بادّعاءات جاهزة: "علاقات مع منظمات مسلحة"، "استخدام المواقع لتغطية أعمال عسكرية"، "احتمال الانتماء". مزيج من التبرير السياسي والأمني والأخلاقي، يستخدم كذريعة لشرعنة ما لا يُشرعن.
في مستشفى ناصر في خان يونس، قُتل خمسة صحفيين دفعة واحدة في غارة مزدوجة، الأولى أوقعت المصابين، والثانية أصابت من جاء لينقل الصورة. هكذا يتضاعف القتل: يُقتل الجريح، ثم من يسعفه، ثم من يوثّق موته. الصحفي هنا ليس شاهدًا على الحدث فقط، بل يصبح جزءًا من سلسلة الضحايا، وربما يكون أكثرهم استهدافًا، لأنه يمتلك مفاتيح السرد.
لماذا يُستهدف الصحفي بهذا الشكل؟ لأن الرواية قوة. لأن الصورة التي تفضح أكثر فاعلية من بيان يُنشر في قاعة الأمم المتحدة. لأن العدالة لا تتحرك إلا حين تُنقل المأساة إلى الشارع والرأي العام والضمير الإنساني. ومن هنا، تُصبح الجريمة ضد الصحفي ليست فقط ضد شخص، بل ضد نظام العدالة ذاته. إنها محاولة لمنع تشكيل ملف قانوني دولي، أو تعطيل توثيق ممنهج يمكن أن يُستخدم لاحقًا أمام محكمة جنائية دولية أو في تحقيق دولي مستقل.
ما يزيد الأمر خطورة أن هذا الاستهداف لم يؤدِ فقط إلى سقوط شهداء الإعلام، بل خلق مناخًا من الخوف الذاتي، والرقابة الداخلية، والتردد في التغطية. هناك صحفيون محاصرون في غزة لا يملكون الكهرباء ولا الإنترنت ولا المعدات، بل حتى لا يملكون الثقة في أن روايتهم ستُصدق، أو أن صورهم ستُنشر، أو أن صوتهم سيصل دون تشويه. هكذا تتحول الكارثة إلى صمت. وهكذا يُكمل القتل مهمته.
الإفلات من العقاب هو الوجه الآخر للجريمة. عدد التحقيقات المستقلة في استهداف الصحفيين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومعظمها أُغلق دون نتيجة. هناك منظمات دولية كهيومن رايتس ووتش، ولجنة حماية الصحفيين، ومكتب حقوق الإنسان الأممي، تصرخ في وجه العالم، وتطالب بتحقيقات شفافة، لكن البنية السياسية للنظام الدولي، وحق النقض في مجلس الأمن، والعلاقات الخاصة بين بعض الأطراف، تجعل هذه الصرخات تتبدد في الهواء.
وإذا بقي الحال كما هو، فإننا لا نخسر الصحفيين فقط، بل نخسر معهم أدوات الإثبات، نخسر الرواية، نخسر الأمل في محاسبة مجرم، أو في إنصاف شهيد. العدالة الدولية تقوم على الأدلة، والصورة، والشهادة، وإذا غابت هذه كلها بفعل الرعب أو الترهيب أو الحجب، فإننا لا نعيش في عالم بلا عدالة فقط، بل في عالم يُشرعن الجريمة، ويكافئ الجلاد، ويُدين من يُوثّق المذبحة.
العدالة ليست جهاز محكمة فقط، بل منظومة تبدأ من الصحفي وتنتهي بالقاضي. حين يُكسر الصحفي في بداية السلسلة، تُشل العدالة في نهايتها. وإذا لم تتوقف هذه الاستباحة الممنهجة لأرواح الإعلاميين في مناطق النزاع، فإننا نتجه نحو عصر جديد من "جرائم بلا وثيقة"، ومجازر بلا أرشيف، وضحايا بلا ذاكرة.
منظمة الأمم المتحدة دعت مؤخرًا إلى ضمانات دولية لحماية الصحفيين في غزة، وطالبت بوقف فوري للقتل الصامت. لكن لا يكفي أن ندين. يجب أن نُجبر المحكمة الجنائية الدولية على فتح تحقيقات فعلية. يجب أن تتعاون وسائل الإعلام العالمية في تشكيل لجنة تحقيق مستقلة. يجب أن يُحوّل كل فيديو وكل شهادة وكل دمعة إلى مادة إثبات في ملف قانوني ضد من أمر، ومن نفّذ، ومن حاول تبرير.
الصمت الإعلامي ليس فقط نتيجة الرصاص، بل نتيجة الفشل في ترجمة المأساة إلى لغة قانونية، ومن ثم إلى قرار سياسي. وهذه مسؤوليتنا، نحن المعنيون بالعدالة، أن لا نترك الحبر يجفّ على جثة صحفي، وأن لا نسمح بأن تكون الحقيقة أول الضحايا وآخر من يُبكى عليه.
وقف إطلاق النار أم وعود بلا تنفيذ؟
فريق الإعداد
الخميس 18 أيلول / سبتمبر 2025
منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعيش المدنيون في غزة وضعًا إنسانيًا صعبًا تفاقم مع مرور الزمن. الخبر الجديد عن تصويت مجلس الأمن اليوم يكشف عن تضاعف الانتهاكات: ليس فقط القتل، بل التجويع، وحرمان السكان من المساعدات، والتهجير القسري، وانعدام الأمان الصحي والتعليم.
الانتهاكات وتداعياتها
القتل العشوائي: تستمر الغارات العسكرية التي تطال المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال، إضافة إلى المباني المدنية.
التجويع المتعمد: حصر حركة المساعدات الإنسانية، منع وصول الأدوية والمياه والكهرباء في بعض المناطق يجعل من التجويع سلاحًا حربياً.
التهجير القسري: آلاف السكان أجبروا على النزوح داخل القطاع أو خارجه، بفعل القصف أو انعدام الخدمات الأساسية.
الإفلات من العقاب: لا توجد آليات قوية حتى الآن لمحاسبة الأطراف التي تُرتكب انتهاكات، رغم دعوات محكمة العدل الدولية والمنظمات الحقوقية.
عن مشروع القرار
مشروع القرار الذي تم التصويت عليه اليوم يحاول معالجة هذه الانتهاكات من خلال:
الدعوة إلى وقف النار الفوري غير المشروط.
إزالة المعوقات أمام توصيل المساعدات الإنسانية، بما في ذلك فتح المعابر ورفع القيود اللوجستية.
الإفراج عن المحتجزين من غير القتلة أو المقاتلين، خصوصًا من المدنيين.
التحديات أمام التنفيذ
فيتو متكرر من الولايات المتحدة في قضايا مماثلة.
نقص قدرة المجتمع الدولي على فرض العقوبات أو عقاب من ينتهك الحقوق إذا كان من الحلفاء الاستراتيجيين.
ضعف البنى التحتية في غزة يجعل أي قرار وقف نار أو إرسال مساعدات مقصورًا إن لم يكن هناك ضمانات على الأرض.
غياب التمثيل القضائي المحلي القوي والآليات الدولية المُفعّلة.
ما قد يحدث الآن
إذا نجح القرار في الحصول على أغلبية مطلقة رغم الفيتو الأميركي، فقد يُمارَس ضغوط دولية كبيرة على الأطراف المعنية لتنفيذ شروطه.
ممكن أن يشكل هذا التصويت نقطة ارتكاز لمنظمات حقوق الإنسان لتوثيق الانتهاكات وطلب تدخلات أممية جديدة.
لكن التنفيذ سيكون مرهونًا بالقوة السياسية للمراقبة الدولية، وكذلك استعداد المجتمع الدولي للتدخل في أزمة إنسانية تتصاعد إلى ما هو أبعد من مجرد تصويت.
منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعيش المدنيون في غزة وضعًا إنسانيًا صعبًا تفاقم مع مرور الزمن. الخبر الجديد عن تصويت مجلس الأمن اليوم يكشف عن تضاعف الانتهاكات: ليس فقط القتل، بل التجويع، وحرمان السكان من المساعدات، والتهجير القسري، وانعدام الأمان الصحي والتعليم.
الانتهاكات وتداعياتها
القتل العشوائي: تستمر الغارات العسكرية التي تطال المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال، إضافة إلى المباني المدنية.
التجويع المتعمد: حصر حركة المساعدات الإنسانية، منع وصول الأدوية والمياه والكهرباء في بعض المناطق يجعل من التجويع سلاحًا حربياً.
التهجير القسري: آلاف السكان أجبروا على النزوح داخل القطاع أو خارجه، بفعل القصف أو انعدام الخدمات الأساسية.
الإفلات من العقاب: لا توجد آليات قوية حتى الآن لمحاسبة الأطراف التي تُرتكب انتهاكات، رغم دعوات محكمة العدل الدولية والمنظمات الحقوقية.
عن مشروع القرار
مشروع القرار الذي تم التصويت عليه اليوم يحاول معالجة هذه الانتهاكات من خلال:
الدعوة إلى وقف النار الفوري غير المشروط.
إزالة المعوقات أمام توصيل المساعدات الإنسانية، بما في ذلك فتح المعابر ورفع القيود اللوجستية.
الإفراج عن المحتجزين من غير القتلة أو المقاتلين، خصوصًا من المدنيين.
التحديات أمام التنفيذ
فيتو متكرر من الولايات المتحدة في قضايا مماثلة.
نقص قدرة المجتمع الدولي على فرض العقوبات أو عقاب من ينتهك الحقوق إذا كان من الحلفاء الاستراتيجيين.
ضعف البنى التحتية في غزة يجعل أي قرار وقف نار أو إرسال مساعدات مقصورًا إن لم يكن هناك ضمانات على الأرض.
غياب التمثيل القضائي المحلي القوي والآليات الدولية المُفعّلة.
ما قد يحدث الآن
إذا نجح القرار في الحصول على أغلبية مطلقة رغم الفيتو الأميركي، فقد يُمارَس ضغوط دولية كبيرة على الأطراف المعنية لتنفيذ شروطه.
ممكن أن يشكل هذا التصويت نقطة ارتكاز لمنظمات حقوق الإنسان لتوثيق الانتهاكات وطلب تدخلات أممية جديدة.
لكن التنفيذ سيكون مرهونًا بالقوة السياسية للمراقبة الدولية، وكذلك استعداد المجتمع الدولي للتدخل في أزمة إنسانية تتصاعد إلى ما هو أبعد من مجرد تصويت.
العدالة الانتقائية في القانون الجنائي الدولي: محاكم تُدين ومجتمعات تُخذل
د. أيمن خالد - متخصص في القانون الدولي
4 مايو 2025
تُشكّل العدالة الجنائية الدولية إحدى الركائز التي سعت البشرية إلى ترسيخها بعد الحرب العالمية الثانية، حين فُتحت ملفات المحاسبة في نورمبرغ وطوكيو، لتعلن أن القانون الدولي لن يتسامح بعد اليوم مع الجرائم التي تمس ضمير الإنسانية. غير أن ما بدا لحظة تأسيسية للعدالة العالمية تحوّل، عبر عقود، إلى منظومة متشابكة تتخللها الكثير من المفارقات، وعلى رأسها العدالة الانتقائية، التي تكاد تطيح بشرعية المنظومة برمتها، وتكشف هشاشة التوازن بين القانون والسياسة في الساحة الدولية.
العدالة الانتقائية ليست مجرد وصف أخلاقي، بل هي توصيف قانوني لحالة يصبح فيها القانون أداة انتقائية لا تُطبّق إلا على بعض الحالات، وفق اعتبارات لا ترتبط بالوقائع الجرمية أو المعايير القانونية، وإنما بحسابات الجغرافيا السياسية، وموازين القوى، وواقع العلاقات بين الدول. وفي ضوء هذا، بات من المشروع طرح السؤال الذي يشغل الأكاديميين والضحايا على السواء: هل العدالة الجنائية الدولية تحاكم الجرائم، أم تحاكم من تسمح السياسة بمحاكمته؟
إن تحليل مفهوم العدالة الانتقائية يقتضي العودة إلى المبادئ الأساسية التي نصت عليها صكوك القانون الدولي، وعلى رأسها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف. فالمحكمة الجنائية الدولية، بوصفها المؤسسة القضائية الأعلى في ميدان محاكمة الجرائم الدولية، أُسّست لتكون مستقلة، غير خاضعة لأي ضغط سياسي، وتسير وفق معايير مهنية واضحة. لكنها على أرض الواقع تواجه تحديًا هيكليًا يتمثل في أن صلاحية تحريك الدعوى، جزئيًا، مرهونة بإحالة من مجلس الأمن، الذي يخضع لسلطة الدول دائمة العضوية وحق النقض (الفيتو)، ما يمنح البُعد السياسي سطوة تُهدد جوهر العدالة.
ومن بين أبرز التجارب التي عكست تعقيدات تطبيق العدالة الجنائية الدولية، تأتي تجربة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة. فقد قامت هذه المحكمة، التي أنشأها مجلس الأمن عام 1993 بموجب القرار 827، بمحاكمة متهمين من جميع الأطراف المتنازعة في الحروب اليوغوسلافية، بما في ذلك مسؤولون سياسيون وعسكريون من صربيا، وكرواتيا، والبوسنة. ورغم ذلك، واجهت المحكمة انتقادات تتعلق بتفاوت عدد المحاكمات وأحكام الإدانة بين الأطراف، وبتأثير البُعد السياسي في تحديد الأولويات القضائية. إلا أن سجلها يُظهر التزامًا نسبيًا بملاحقة الجرائم الدولية بموجب القانون الدولي الإنساني، دون أن ينفي ذلك الحاجة إلى تقييم دائم لمعيارية الاجتهاد القضائي وتوازناته.
تكرر هذا النمط، بشكل أكثر تعقيدًا، في المحكمة الخاصة برواندا، التي تم إنشاؤها عقب الإبادة الجماعية عام 1994. فقد اقتصر نطاق المحاكمات عمليًا على الجناة المنتمين لحكومة "الهوتو"، بينما لم تُلاحق المحكمة بشكل فعّال الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبتها "الجبهة الوطنية الرواندية"، التي أصبحت فيما بعد السلطة الحاكمة. وبدلاً من تقديم صورة جامعة للعدالة، أُغلقت ملفات ضخمة، مما جعل المحكمة عرضة للاتهام بأنها دعمت طرفًا على حساب آخر، ما أضعف مصداقية مشروع المحاسبة في عيون الروانديين أنفسهم.
أما المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، فقد شهدت منذ تأسيسها في عام 2002 وحتى اليوم، توجّهًا واضحًا نحو ملاحقة القادة والفاعلين في إفريقيا دون غيرهم، الأمر الذي دفع الاتحاد الإفريقي إلى انتقادها بشدة، واتهامها بإعادة إنتاج العلاقات الاستعمارية بصيغة قانونية. وقد أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق قادة من السودان، أوغندا، جمهورية إفريقيا الوسطى، كينيا، وليبيا، بينما لم تتخذ مواقف قضائية حاسمة تجاه النزاعات في فلسطين أو العراق أو ميانمار، رغم وجود تقارير مفصلة ووثائق قانونية تكشف عن ارتكاب جرائم محتملة ضد الإنسانية وجرائم حرب.
هذا التفاوت في التعامل لا يمكن فصله عن البنية السياسية للنظام الدولي. فالمادة (13) من نظام روما تتيح لمجلس الأمن إحالة قضايا إلى المحكمة أو تجميدها. وعندما يكون أحد أطراف النزاع عضوًا دائمًا في المجلس أو حليفًا له، فإن مبدأ المحاسبة يتحول إلى مسألة تفاوض، لا مسألة عدالة. هذا الواقع أدى إلى شلل المحكمة في ملفات تمس الولايات المتحدة، روسيا، إسرائيل، والصين، حتى في القضايا التي تتوفر فيها كل شروط الاختصاص والولاية القضائية.
نتيجة لذلك، يتعرض النظام القضائي الدولي لاهتزاز عميق في شرعيته. فحين يشعر الضحايا في بعض مناطق العالم أن العدالة الدولية تحضر بقوة إذا كان الجاني إفريقيًا أو من دولة غير متحالفة مع القوى الكبرى، وتغيب أو تتهرب إذا كان الجاني من دول "النظام المهيمن"، فإن مفهوم العدالة ذاته يصبح موضع شك، ويُختزل في كونه أداة ضغط سياسي لا أكثر. وحين تصبح العدالة انتقائية، تفقد طبيعتها الأخلاقية، وتتحول إلى آلية سياسية ملبسة بالشرعية القانونية.
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى إصلاحات عميقة في بنية العدالة الدولية. أولى هذه الإصلاحات هي فك ارتباط المحكمة الجنائية الدولية بمجلس الأمن كشرط لتحريك بعض القضايا، وإيجاد آلية مستقلة للإحالة ترتكز على لجنة قانونية دولية محايدة تُقيّم القضايا دون تدخل سياسي. كما يجب توسيع نطاق الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية، بحيث تستطيع أي دولة محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى، بصرف النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الجاني، كما فعلت إسبانيا في ملفات تعذيب ارتكبها مسؤولون لاتينيون في تسعينيات القرن الماضي.
إلى جانب ذلك، من الضروري تمكين المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية الدولية من لعب دور مباشر في تحريك الملفات، ومتابعة تنفيذ القرارات القضائية، بما يعزز الرقابة الشعبية على مؤسسات العدالة، ويُخرجها من النخبوية السياسية إلى الفضاء العمومي للعدالة.
ورغم ما سبق من تحليل نقدي، فإن عددًا من الخبراء القانونيين الدوليين يُدافعون عن أداء المحكمة الجنائية الدولية، ويعتبرون أن ما يُنظر إليه بوصفه "عدالة انتقائية" هو في حقيقته انعكاس للقيود القانونية التي يفرضها نظام روما الأساسي، لا انحيازًا إراديًا أو توظيفًا سياسيًا.
فالولايات القضائية للمحكمة محددة بدقة: فهي لا تملك الاختصاص على مواطني الدول غير المصادقة، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، إلا بإحالة صادرة من مجلس الأمن الدولي. كما أن العديد من القضايا التي تم فتحها بحق قادة في إفريقيا، جاءت بطلب من حكومات هذه الدول نفسها، أو نتيجة تعاون وثيق بينها وبين مكتب الادعاء.
ويشير هؤلاء إلى أن المحكمة سعت بالفعل إلى فتح ملفات حساسة، مثل الجرائم في أفغانستان، لكن اصطدمت بضغوط سياسية وتهديدات فرضتها قوى كبرى – كما حصل عندما فرضت إدارة ترامب عقوبات على المدعية العامة فاتو بنسودا. كما فتحت المحكمة تحقيقًا رسميًا في جرائم محتملة بالأراضي الفلسطينية منذ عام 2021، رغم معارضة علنية من أطراف دولية وازنة.
وفي ضوء ذلك، يرى هذا الاتجاه الحقوقي أن غياب القضايا ضد بعض القوى الدولية لا يعود إلى تحيز في المحكمة، بل إلى ضعف البنية القانونية والسياسية للنظام الدولي نفسه، الأمر الذي يستدعي إصلاحًا هيكليًا شاملًا لمنح المحكمة استقلالًا أكبر، وولاية شاملة فعلية، لا نقدها بوصفها كيانًا انتقائيًا.
في نهاية المطاف، لا قيمة لمنظومة قانونية دولية لا تنبع من مبدأ المساواة أمام القانون، ولا تضمن لجميع الشعوب والأفراد الحق في المحاسبة العادلة. إن غياب العدالة الشاملة لا يعني فقط انعدام الإنصاف، بل يعني أيضًا فتح المجال لثقافة الانتقام، وتكريس منطق القوة بدلًا من قوة المنطق. وإذا كانت العدالة الدولية قائمة على رمزية المحاكمات لما تمثله من رادع أخلاقي وسياسي، فإن انكشاف هذه المحاكم أمام شبهة الانتقائية يهدد المشروع بأكمله، ويستدعي مراجعة جذرية قبل أن يتحول إلى عبء أخلاقي، لا إلى منارة للضمير الإنساني.