رئيس التحرير:
في هذه الصفحة، نفتح أرشيف الإنسانية أمام ميزان العدالة، حيث يُعرض تاريخ الجرائم الكبرى، وتُفكك بنود القانون الجنائي الدولي بكل دقة. هنا تتقاطع ملفات جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجريمة العدوان مع الجهد القضائي الدولي الهادف إلى ردع القتلة وإنصاف الضحايا.
نرصد في هذه المساحة تطورات المحكمة الجنائية الدولية، وقرارات المحاكم الخاصة، ومسارات التحقيق في الجرائم العابرة للحدود، ونقدم تحليلات قانونية واستراتيجية لمدى فاعلية المنظومة الجنائية الدولية في مواجهة القوة والهيمنة.
العدالة الانتقائية في القانون الجنائي الدولي: محاكم تُدين ومجتمعات تُخذل
د. أيمن خالد - متخصص في القانون الدولي
4 مايو 2025
تُشكّل العدالة الجنائية الدولية إحدى الركائز التي سعت البشرية إلى ترسيخها بعد الحرب العالمية الثانية، حين فُتحت ملفات المحاسبة في نورمبرغ وطوكيو، لتعلن أن القانون الدولي لن يتسامح بعد اليوم مع الجرائم التي تمس ضمير الإنسانية. غير أن ما بدا لحظة تأسيسية للعدالة العالمية تحوّل، عبر عقود، إلى منظومة متشابكة تتخللها الكثير من المفارقات، وعلى رأسها العدالة الانتقائية، التي تكاد تطيح بشرعية المنظومة برمتها، وتكشف هشاشة التوازن بين القانون والسياسة في الساحة الدولية.
العدالة الانتقائية ليست مجرد وصف أخلاقي، بل هي توصيف قانوني لحالة يصبح فيها القانون أداة انتقائية لا تُطبّق إلا على بعض الحالات، وفق اعتبارات لا ترتبط بالوقائع الجرمية أو المعايير القانونية، وإنما بحسابات الجغرافيا السياسية، وموازين القوى، وواقع العلاقات بين الدول. وفي ضوء هذا، بات من المشروع طرح السؤال الذي يشغل الأكاديميين والضحايا على السواء: هل العدالة الجنائية الدولية تحاكم الجرائم، أم تحاكم من تسمح السياسة بمحاكمته؟
إن تحليل مفهوم العدالة الانتقائية يقتضي العودة إلى المبادئ الأساسية التي نصت عليها صكوك القانون الدولي، وعلى رأسها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف. فالمحكمة الجنائية الدولية، بوصفها المؤسسة القضائية الأعلى في ميدان محاكمة الجرائم الدولية، أُسّست لتكون مستقلة، غير خاضعة لأي ضغط سياسي، وتسير وفق معايير مهنية واضحة. لكنها على أرض الواقع تواجه تحديًا هيكليًا يتمثل في أن صلاحية تحريك الدعوى، جزئيًا، مرهونة بإحالة من مجلس الأمن، الذي يخضع لسلطة الدول دائمة العضوية وحق النقض (الفيتو)، ما يمنح البُعد السياسي سطوة تُهدد جوهر العدالة.
ومن بين أبرز التجارب التي عكست تعقيدات تطبيق العدالة الجنائية الدولية، تأتي تجربة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة. فقد قامت هذه المحكمة، التي أنشأها مجلس الأمن عام 1993 بموجب القرار 827، بمحاكمة متهمين من جميع الأطراف المتنازعة في الحروب اليوغوسلافية، بما في ذلك مسؤولون سياسيون وعسكريون من صربيا، وكرواتيا، والبوسنة. ورغم ذلك، واجهت المحكمة انتقادات تتعلق بتفاوت عدد المحاكمات وأحكام الإدانة بين الأطراف، وبتأثير البُعد السياسي في تحديد الأولويات القضائية. إلا أن سجلها يُظهر التزامًا نسبيًا بملاحقة الجرائم الدولية بموجب القانون الدولي الإنساني، دون أن ينفي ذلك الحاجة إلى تقييم دائم لمعيارية الاجتهاد القضائي وتوازناته.
تكرر هذا النمط، بشكل أكثر تعقيدًا، في المحكمة الخاصة برواندا، التي تم إنشاؤها عقب الإبادة الجماعية عام 1994. فقد اقتصر نطاق المحاكمات عمليًا على الجناة المنتمين لحكومة "الهوتو"، بينما لم تُلاحق المحكمة بشكل فعّال الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبتها "الجبهة الوطنية الرواندية"، التي أصبحت فيما بعد السلطة الحاكمة. وبدلاً من تقديم صورة جامعة للعدالة، أُغلقت ملفات ضخمة، مما جعل المحكمة عرضة للاتهام بأنها دعمت طرفًا على حساب آخر، ما أضعف مصداقية مشروع المحاسبة في عيون الروانديين أنفسهم.
أما المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، فقد شهدت منذ تأسيسها في عام 2002 وحتى اليوم، توجّهًا واضحًا نحو ملاحقة القادة والفاعلين في إفريقيا دون غيرهم، الأمر الذي دفع الاتحاد الإفريقي إلى انتقادها بشدة، واتهامها بإعادة إنتاج العلاقات الاستعمارية بصيغة قانونية. وقد أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق قادة من السودان، أوغندا، جمهورية إفريقيا الوسطى، كينيا، وليبيا، بينما لم تتخذ مواقف قضائية حاسمة تجاه النزاعات في فلسطين أو العراق أو ميانمار، رغم وجود تقارير مفصلة ووثائق قانونية تكشف عن ارتكاب جرائم محتملة ضد الإنسانية وجرائم حرب.
هذا التفاوت في التعامل لا يمكن فصله عن البنية السياسية للنظام الدولي. فالمادة (13) من نظام روما تتيح لمجلس الأمن إحالة قضايا إلى المحكمة أو تجميدها. وعندما يكون أحد أطراف النزاع عضوًا دائمًا في المجلس أو حليفًا له، فإن مبدأ المحاسبة يتحول إلى مسألة تفاوض، لا مسألة عدالة. هذا الواقع أدى إلى شلل المحكمة في ملفات تمس الولايات المتحدة، روسيا، إسرائيل، والصين، حتى في القضايا التي تتوفر فيها كل شروط الاختصاص والولاية القضائية.
نتيجة لذلك، يتعرض النظام القضائي الدولي لاهتزاز عميق في شرعيته. فحين يشعر الضحايا في بعض مناطق العالم أن العدالة الدولية تحضر بقوة إذا كان الجاني إفريقيًا أو من دولة غير متحالفة مع القوى الكبرى، وتغيب أو تتهرب إذا كان الجاني من دول "النظام المهيمن"، فإن مفهوم العدالة ذاته يصبح موضع شك، ويُختزل في كونه أداة ضغط سياسي لا أكثر. وحين تصبح العدالة انتقائية، تفقد طبيعتها الأخلاقية، وتتحول إلى آلية سياسية ملبسة بالشرعية القانونية.
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى إصلاحات عميقة في بنية العدالة الدولية. أولى هذه الإصلاحات هي فك ارتباط المحكمة الجنائية الدولية بمجلس الأمن كشرط لتحريك بعض القضايا، وإيجاد آلية مستقلة للإحالة ترتكز على لجنة قانونية دولية محايدة تُقيّم القضايا دون تدخل سياسي. كما يجب توسيع نطاق الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية، بحيث تستطيع أي دولة محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى، بصرف النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الجاني، كما فعلت إسبانيا في ملفات تعذيب ارتكبها مسؤولون لاتينيون في تسعينيات القرن الماضي.
إلى جانب ذلك، من الضروري تمكين المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية الدولية من لعب دور مباشر في تحريك الملفات، ومتابعة تنفيذ القرارات القضائية، بما يعزز الرقابة الشعبية على مؤسسات العدالة، ويُخرجها من النخبوية السياسية إلى الفضاء العمومي للعدالة.
ورغم ما سبق من تحليل نقدي، فإن عددًا من الخبراء القانونيين الدوليين يُدافعون عن أداء المحكمة الجنائية الدولية، ويعتبرون أن ما يُنظر إليه بوصفه "عدالة انتقائية" هو في حقيقته انعكاس للقيود القانونية التي يفرضها نظام روما الأساسي، لا انحيازًا إراديًا أو توظيفًا سياسيًا.
فالولايات القضائية للمحكمة محددة بدقة: فهي لا تملك الاختصاص على مواطني الدول غير المصادقة، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، إلا بإحالة صادرة من مجلس الأمن الدولي. كما أن العديد من القضايا التي تم فتحها بحق قادة في إفريقيا، جاءت بطلب من حكومات هذه الدول نفسها، أو نتيجة تعاون وثيق بينها وبين مكتب الادعاء.
ويشير هؤلاء إلى أن المحكمة سعت بالفعل إلى فتح ملفات حساسة، مثل الجرائم في أفغانستان، لكن اصطدمت بضغوط سياسية وتهديدات فرضتها قوى كبرى – كما حصل عندما فرضت إدارة ترامب عقوبات على المدعية العامة فاتو بنسودا. كما فتحت المحكمة تحقيقًا رسميًا في جرائم محتملة بالأراضي الفلسطينية منذ عام 2021، رغم معارضة علنية من أطراف دولية وازنة.
وفي ضوء ذلك، يرى هذا الاتجاه الحقوقي أن غياب القضايا ضد بعض القوى الدولية لا يعود إلى تحيز في المحكمة، بل إلى ضعف البنية القانونية والسياسية للنظام الدولي نفسه، الأمر الذي يستدعي إصلاحًا هيكليًا شاملًا لمنح المحكمة استقلالًا أكبر، وولاية شاملة فعلية، لا نقدها بوصفها كيانًا انتقائيًا.
في نهاية المطاف، لا قيمة لمنظومة قانونية دولية لا تنبع من مبدأ المساواة أمام القانون، ولا تضمن لجميع الشعوب والأفراد الحق في المحاسبة العادلة. إن غياب العدالة الشاملة لا يعني فقط انعدام الإنصاف، بل يعني أيضًا فتح المجال لثقافة الانتقام، وتكريس منطق القوة بدلًا من قوة المنطق. وإذا كانت العدالة الدولية قائمة على رمزية المحاكمات لما تمثله من رادع أخلاقي وسياسي، فإن انكشاف هذه المحاكم أمام شبهة الانتقائية يهدد المشروع بأكمله، ويستدعي مراجعة جذرية قبل أن يتحول إلى عبء أخلاقي، لا إلى منارة للضمير الإنساني.