رئيس التحرير:
هنا نُعيد وصل الإنسان بربّه، ليفهم منبع الأخلاق، ويُدرك جوهر السلام. نرسم ملامح العيش النبيل من ضوء الشرائع، ونُعيد اكتشاف معنى التعاون والرحمة في حياة المجتمعات. نتأمل في قصص الأنبياء لا كحكايات تاريخ… بل كأدلة عيش، ونبراس للبشرية في فقه الحياة والكرامة.
من الإيمان تبدأ الحكمة، ومن الشرائع تنبت الحياة.
وهنا… نكتب الرسالة من جديد.
مسؤولة تحرير الصفحة: رامة محمود دللي
في بيت النبوة، كان رسول الله ﷺ عادلاً بين زوجاته، يزورهن في أوقات مختلفة، ويقسم بينهن في المبيت. وكان من عادته أن يزور كل واحدة منهن بعد صلاة الظهر.
وكانت من بين زوجاته (مارية القبطية)، التي أهداه إياها (المقوقس ملك مصر)، وأسلمت وولدت له ابنه (إبراهيم). وكانت تسكن في حجرة قريبة من بيت (حفصة بنت عمر رضي الله عنها)
في أحد الأيام، دخل النبي ﷺ على مارية في يوم لم يكن من أيامها، ، وكان النبي ﷺ قد أطال عندها الجلوس.
فجاءت حفصة، فلم تجد النبي ﷺ، ثم علمت أنه كان عند مارية في يومها ، فغضبت (غيرةً شديدة)،
فأراد النبي ﷺ أن يهدّئ من غيرتها، فأقسم لها أن لا يقرب مارية بعد اليوم، وطلب منها أن لا تُخبر أحدًا.
لكن حفصة، من شدة الغضب، لم تحفظ السر، وأخبرت عائشة رضي الله عنها بما حدث.
فتضايق النبي ﷺ لما عَلِم أن السر انتشر، مع أنه أسرّه إلى حفصة فقط.
فنزل الوحي يوجه النبي ﷺ ويوبّخ زوجاته على هذا التصرف، ويحذرهما من عصيان أمره.
قال الله تعالى:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) (التحريم: 1)
أي: لماذا تُحرم على نفسك ما أحله الله لك (مارية)، من أجل إرضاء زوجاتك ؟
ثم قال:
(قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَيۡمَٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ) (التحريم: 2)
أي: إن الله جعل لكم طريقًا للخروج من الأيمان، وهي كفارة اليمين، فلا يلزمك أن تظل محرمًا ما أحل الله لك.
ثم جاءت الآيات التي تتحدث عن إفشاء السر، فقال الله:
(وَإِذۡ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعۡضِ أَزۡوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ وَأَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَأَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡخَبِيرُ)
(التحريم: 3)
أي: النبي ﷺ أسرّ إلى حفصة سرًا (وهو تحريمه مارية)، فلما أخبرت به (عائشة)،
أخبره الله بذلك عن طريق (جبريل)، فعاتبها عليه.
ثم وجّه الله خطابًا شديدًا لحفصة وعائشة
(إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم: 4)
يعني: إن تتوبا مما حدث، فذلك خير، فقد زاغت قلوبكما بغيرتكما.
وإن تعاونتما عليه، فإن الله ناصره ومعه جبريل وصالح المؤمنين.
بعد أن وقعت حادثة تحريم النبي ﷺ على نفسه ما أحل الله له، ونزل العتاب الرباني الرقيق في صدر (سورة التحريم)، وجَّه الله الخطاب إلى أمهات المؤمنين يحذِّرهن برفق، ويبيِّن لهن أن مكانة رسول الله ﷺ ليست كأي مكانة، وأن الله هو الذي يؤيده ويحفظه.
فقال سبحانه:
(عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبۡدِلَهُۥٓ أَزۡوَٰجًا خَيۡرٗا مِّنكُنَّ مُسۡلِمَٰتٖ مُّؤۡمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَٰٓئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَٰٓئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبۡكَارٗا) ( التحريم : 5)
يا نساء النبي، إن واصلتم ما كان من إيذاء أو تضييق على رسول الله، فإن الله قادر ( إن أراد ) أن يفارِقكن نبيُّه ويتزوج غيركن، نساءً خيرًا منكن في الدين والطاعة.
ثم بدأ يصف تلك الصفات المثالية:
_مسلمات: مستسلمات لله ظاهرًا وباطنًا.
_مؤمنات: صادقات الإيمان في القلوب.
_قانتات: مطيعات لله ولرسوله في كل أمر.
_تائبات: إذا وقعن في خطأ عدن سريعًا إلى الله.
_عابدات: مخلصات العبادة لا يشغلهن عنها شيء.
_سائحات: كثيرات الصيام أو المهاجرات في سبيل الله.
_ثيبات وأبكارًا: أي منهن من سبق لها الزواج، ومنهن من لم تتزوج قط، يجمعن بين التجربة والنقاء.
كان هذا التحذير الإلهي يحمل في طياته رسالة قوية: أن بقاءهن في بيت النبوة شرف عظيم، وأنه يجب عليهن حفظ هذا المقام بالصبر والطاعة وحسن العشرة، وإلا فإن الله لا يعجزه أن يبدل النبي ﷺ بخيرٍ منهن.
_(مارية القبطية)، إذ حرّمها على نفسه إرضاءً (لحفصة).
_لكن الله أنزل الآيات ليبيّن أن هذا لا يجوز، وعلّمه كفّارة اليمين.
_تحلة الأيمان ، الطريقة التي شرعها الله لفكّ اليمين أو الخروج منه، وهي كفارة اليمين المذكورة في (سورة المائدة: 89).
_أي أن الله أوجب عليكم ـ إذا حلفتم ثم أردتم أن تتركوا ما حلفتم عليه ـ أن تُخرجوا الكفارة.
إطعام عشرة مساكين
_من متوسط الطعام الذي تطعمه أهلك (ليس الأفخم ولا الأرخص).
_لكل مسكين وجبة مشبعة، أو ما يعادلها من الطعام النيء (مثل الأرز أو القمح أو التمر).أو كسوتهم
_أن تعطي كل مسكين ثوبًا أو ما يستر به عورته في الصلاة.
أو تحرير رقبة مؤمنة
_هذا كان ممكنًا في زمن وجود الرق، وهو اليوم غير موجود.
فمن لم يجد شيئًا من ذلك
_يصوم ثلاثة أيام، والأفضل أن تكون متتابعة.
كان رسول الله ﷺ يحب العسل، وكان إذا وجد العسل أكل منه، وإذا قدم له شراب العسل قبله بسرور.
وذات يوم، بعد صلاة العصر، كان ﷺ يزور نساءه واحدةً تلو الأخرى، حتى إذا جاء (بيت زينب بنت جحش رضي الله عنها)، وجد عندها عسلًا قد أُهدي لها، فجلس وأكل منه وشرب بعضًا من شرابه.
لكن الأمر لم يَسْلَم من غيرة الزوجات، فقد لاحظت (عائشة وحفصة رضي الله عنهما) أنه يطيل الجلوس عند (زينب)، فاشتركتا في خطة لطيفة لكنها مؤثرة:
قالت عائشة لحفصة:
(إذا دخل عليك رسول الله ﷺ فقولي: إني أجد منك ريح مَغَافِير.)
والمغافير: ذكرت كلمة المغافير في الحديث وشرحها العلماء بأنها: (صمغ نبات العرفط)، له طعم حلو ورائحة كريهة.
دخل النبي ﷺ على حفصة، فقالت:
(يا رسول الله، إني أجد منك ريح مغافير)
فتأثر ﷺ وقال:
(لا، ولكني كنت أشرب عسلًا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له)
ثم دخل على عائشة، فقالت نفس الكلام، فأكد لها ما قاله لحفصة، وهو أنه لن يشربه بعد اليوم.
والهدف من هذا القول لم يكن إلا غيرةً من النبي ﷺ لإطالة مكوثه عند زينب بعد شربه العسل عندها.
وردت القصة في صحيح البخاري (حديث رقم 5267) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
القصة صحيحة وثابتة في البخاري ومسلم.
النبي ﷺ لم يُحرِّم العسل شرعًا، بل على نفسه فقط في لحظة مراعاة لشعور زوجاته.
هذا الفعل لا يُعد معصية، لكن الله نبهه ؛ لأن مقام النبوة لا يليق به أن يُحرم ما أحل الله بدون وحي.
بعض العلماء قالوا إن العسل هو المقصود في أول سورة التحريم،
بينما آخرون قالوا: المقصود تحريمه لمارية القبطية. وكلاهما وارد.
وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم.
أن النبي ﷺ كان يشرب عسلًا عند (زينب بنت جحش)، فأصابته الغيرة من (عائشة وحفصة)، وقالتا له: (إني أجد منك ريح مغافير)
فحرّم العسل على نفسه
هذا هو التفسير الذي اختاره الإمام البخاري وجماعة من العلماء، وقالوا إن الآية نزلت بسبب تحريم العسل.
رُويت في السنن الكبرى للبيهقي، ومسند أحمد، وتفسير الطبري بسند حسن.
هذا التفسير قال به مجاهد والزهري، وبعض السلف، وقالوا إن التحريم المقصود هو تحريم مارية.
الرواية الأولى (العسل): موجودة في صحيح البخاري ومسلم = سندها أقوى.
الرواية الثانية (مارية): في كتب التفسير والحديث، بسند حسن، ومعتمدة عند كثير من السلف.
لذلك قال بعض العلماء مثل ابن حجر والنووي والسيوطي:
من الممكن أن سورة التحريم نزلت في الموقفين معًا، أو أن أحدهما نزل أولًا والآخر نزل بعده، والآيات شملت الحالتين.
النبي ﷺ بشر، يغضب ويُرضي، ويُراعي مشاعر زوجاته، لكن لا يحق له أن يُحرّم ما أحل الله.
الغيرة أمر فطري، لكن لا ينبغي أن تدفع الإنسان إلى الخطأ أو إفشاء الأسرار.
مقام النبوة عظيم، ومن آذاه أو أغضبه يُغضب الله.
هذه السورة تُظهر عدالة الإسلام ووضوحه، حتى ما جرى في بيت النبي ﷺ لم يُخفه القرآن.
الخاتمه
هكذا كانت حادثة العسل – كما كانت حادثة مارية – درسًا بليغًا من رب العالمين، يعلّم فيه نبيَّه وأمته من بعده أن رضا الناس لا يُطلب بسخط الله، وأن ما أحلّه الله لا يُحرَّم إلا بحكمه. وفي العتاب الإلهي رقة ورحمة، وفي القصة تجلٍّ لجانبٍ إنساني من حياة النبي ﷺ، حيث عاش مشاعر الغيرة الزوجية وتعامل معها بحلم ورفق.
وظلَّت آيات سورة التحريم تتلى إلى يوم القيامة، تذكّر المؤمنين بوجوب حفظ الأيمان، واجتناب التشدد فيما أحل الله، وأن البيوت مهما علت مكانتها، تظل بحاجة إلى الصدق، والحكمة، والمصارحة، لتبقى المودة والرحمة عنوانها.
إعداد: رامة محمود دللي
صرخة الموءودة.. من ظلمات التراب إلى نور الإسلام
تخيل طفلة بريئة، تفتح عينيها على الدنيا، تنتظر حضن أم، ودفء أب، وابتسامة الحياة
لكنها، بدلًا من ذلك، تُحمَل على الأكتاف الصغيرة إلى حفرةٍ موحشة، وتُدفن حيّة، بلا ذنب، بلا جريرة.
هكذا كانت (الموءودة) في زمن الجاهلية.
ذنبها الوحيد أنها وُلِدت أنثى.
في ذلك الزمن الجاهلي القاسي، كان العرب يعيشون على العصبية القبلية، وكانوا يعتبرون الأنثى عارًا وخطرًا على سمعة القبيلة.
وكانوا يقولون:
(الولد يحمل السيف، ويحمي العرض، أما البنت فلا تصلح إلا للعار)
وكان بعضهم إذا بشر بأنثى، يغضب ويغتم ويخجل أن يخبر الناس، قال تعالى
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ (58) يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ (59)) (سورة النحل:59)
كان بعضهم يبقيها حيّة مذلولة، وبعضهم يتخلص منها بدفنها حيّة
الموءودة هي
الفتاة الصغيرة التي يُدفنها والدها أو أحد أقاربها حيّة في التراب، خشية العار، أو خوفًا من الفقر.
وكان هذا من أقسى وأبشع جرائم الجاهلية.
وقد ذكر الله هذا المشهد في سورة التكوير بصورة تقشعر لها الأبدان
(وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ (8) بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ)
(سورة التكوير: 8-9)
أي: يوم القيامة، تُسأل هذه الطفلة البريئة
ما هو الذنب الذي جعلك تُدفنين حيّة ؟
فتبكي، وتشكو، ويُدان قاتلها أمام الله العزيز العدل.
كانوا يخشون أن تكبر البنت، فتُسبى، أو تُؤسر في الحروب، أو تُهان، فيكون ذلك (عارًا) عليهم.
قال الشاعر الجاهلي:
إذا بشروا بالأنثى اسودّ وجهُهمُ
كأنهم قد حملوا العارَ في الكفنِ
ظنًّا منهم أن البنات عبء مالي لا طائل منه، وأنه لا فائدة من تربيتها.
وهذا ما ذكره الله عنهم:
(وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا) (سورة الإسراء: 31)
الإملاق: الفقر
خِطئًا كبيرًا: ذنب عظيم جدًا
عندما أتى الإسلام، كانت أولى رسالاته
إحياء النفس، واحترام الإنسان، والرحمة بالأنثى قبل الذكر
فقال الله تعالى:
(وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ) (سورة الإسراء: 33)
وقال أيضًا:
(قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ)
(سورة الأنعام: 151)
الإسلام حرّم قتل البنات، وأبطل عادة الوأد، وبيّن أن القتل بسبب الفقر أو الخوف من العار جريمة عظيمة لا مبرر لها.
النبي ﷺ قلب موازين الجاهلية، ومدح من رَبَّى البنات، وجعل في ذلك الأجر العظيم:
قال رسول الله ﷺ:
(من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا،
وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى)
(رواه مسلم)
(عال جاريتين: أي ربّى بنتين)
أن امرأة دخلت على عائشة معها ابنتان لها، فسألتها طعامًا، فلم تجد عندها غير تمرة، فأعطتها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل شيئًا.
فلما جاء النبي ﷺ أخبرته عائشة، فقال
(إن الله قد أوجب لها الجنة، أو أعتقها من النار)
(رواه مسلم)
(هو زيد بن عمرو بن نفيل)
رحمه الله، وهو أحد الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام قبل الإسلام، وكان موحِّدًا على ملة (إبراهيم عليه السلام).
_هو عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
_عاش في زمن الجاهلية، قبل بعثة النبي ﷺ.
_وكان يبحث عن الدين الحق، ورفض عبادة الأصنام، والطواف بها، وأكل ما ذُبح لها.
_وكان لا يسجد لصنم قط، ويقول: (اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه)
رُوي عن سعيد بن زيد (ابنه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة) أنه قال
كان أبي زيد بن عمرو يخرج إلى الجبال، فإذا رأى رجلًا يُريد أن يئد ابنته (أي يدفنها حيّة)،
كان يقول له:
(لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها)
أي: أنا أتحمّل مصاريفها، وربّها عندي، ولا تدفنها.
فكان يُنقذها من الموت، ويربيها، ويحفظ حياتها.
وهكذا كان زيد بن عمرو أول من وقف في وجه هذه الجريمة الجاهلية البشعة.
قال النبي ﷺ:
(أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)
(رواه البخاري ومسلم)
فقاتل الموءودة، قاتل نفس بريئة، وجريمته أعظم من أن توصف.
_الإسلام جاء ليحرر الإنسان من الظلم، خاصة المرأة، فرفع مكانتها، وكرّمها.
_البنت في الإسلام نعمة، وسبب للرحمة، وباب من أبواب الجنة.
_من يُنكر البنات، أو يحتقرهن، فقد جهل دين الله، وضل عن الحق.
إعداد: رامة محمود دللي
سورة الممتحنة ورسالة السر التي كشفها الوحي
في زمنٍ حرجٍ من سيرة النبي ﷺ، حين كانت مكةُ لا تزال على كفرها، وكانت الساعةُ تقترب من فتحها، وقعت حادثة عظيمةٌ خلدها الله في سورة الممتحنة، لتكون درسًا خالدًا في الولاء والبراء، والإخلاص لله ورسوله، والتمييز بين صفاء الإيمان وضعفه، وحتى تُمتحن القلوب في إخلاصها.
سورة الممتحنة سُميت بهذا الاسم لأن الله أمر فيها النبي ﷺ أن يمتحن النساء المؤمنات اللاتي هاجرن إليه من مكة، ليعلم صدق إيمانهن من نفاقهن، فقال الله تعالى:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) (سورة الممتحنة، الآية 12)
وسُميت أيضًا بهذا الاسم لورود الامتحان فيها بشكل صريح في قول الله:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ (10)) (سورة الممتحنة، الآية 10)
لكن القصة التي نرويها الآن، وقعت في مطلع هذه السورة، حين كشف الوحيُ سرًا خطيرًا
كان النبي ﷺ قد عزم على فتح مكة، لكنه كتم أمره عن الناس حتى لا يصل الخبر إلى قريش، فأراد أن يباغتهم دون قتال. لكن في لحظة ضعف بشري، أرسل أحد الصحابة، واسمه: (حاطب بن أبي بلتعة)، رسالةً سرية إلى قريش يحذرهم فيها من نية النبي
حاطب لم يكن منافقًا ولا خائنًا، بل هو من أهل بدر لكنه كان من المهاجرين الذين ليس لهم عشيرة تحمي عوائلهم في مكة، فأراد أن يصنع لقريش (جميلًا) بهذه الرسالة لعلهم يُحسنون إلى أهله هناك.
فأخذ ورقة، وكتب فيها رسالة يحذّر فيها قريشًا أن (محمدًا) قد عزم على غزوهم، ثم أعطاها لامرأة تُدعى (سارة)، وهي امرأة كانت تغني في مكة وتعرف الطرق والمسالك، وطلب منها أن توصل الرسالة إلى أهل مكة سرًا.
ذكر الله في (سورة الممتحنه) ما دار في نفس (حاطب بن ابي بلتعة) وما نها المسلمين من اتباعه الى قيام الساعة مع اعداء الله
قال تعالى
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ) (سورة الممتحنه : 1)
الله تعالى ينادي المؤمنين ليحذّرهم من أمر خطير، فيقول لهم
لا تجعلوا أعدائي وأعداءكم من الكفار أولياء وأصدقاء، لا تتوددوا إليهم، ولا تثقوا بهم، ولا تعينونهم على المسلمين.
الله يُذكّر بأن هؤلاء أعداؤه وأعداؤكم في الوقت نفسه، فكيف تودّونهم؟
تُظهرون لهم المحبة والولاء سرًّا أو علنًا، كأنكم تثقون بهم وتطلبون رضاهم.
وهذا عتاب (لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه) الذي أرسل رسالة سرية لقريش يُخبرهم فيها بأن النبي عازم على فتح مكة – كما ورد في القصة التي ذكرناها.
هؤلاء الكفار كفروا بالقرآن وبالرسول وبالإسلام، فكيف تلقون إليهم المحبة؟
هم الذين أخرجوا النبي ﷺ من مكة وطردوه، وأخرجوكم معه أيها المؤمنون، فكيف تودّونهم بعد هذا؟
أخرجوكم بسبب إيمانكم بالله وحده، ولم يكن لكم ذنب غير الإسلام
الله يخاطب المؤمنين: إن كنتم صادقين في هجرتكم وفي جهادكم لأجل مرضاتي، فلا يصح أن تُوالوا أعدائي
أي: تُخفون محبتكم لهم أو تعاونكم معهم في السرّ، كما فعل حاطب حين أرسل الكتاب سرًا.
الله يعلم كل شيء، ما أُسرَّ في القلوب وما ظهر على الألسنة، فكيف تخفون شيئًا عنه؟
من يفعل هذا – من يُوالي أعداء الله – فقد انحرف عن الطريق المستقيم، وضلَّ عن الحق.
التحذير الشديد من موالاة الكفار، حتى لو كان في لحظة ضعف.
النية لا تُبرر العمل المحرم؛ فمع أن حاطب كانت له نية لحماية أهله، إلا أن فعله بقي خاطئًا.
علم الله محيط بكل شيء، لا تخفى عليه نية ولا حركة.
المؤمن الصادق لا يجعل الكافر وليًا له، حتى لو كان بينهما قرابة أو منفعة.
التمييز بين الإحسان للكافر عند الحاجة، وبين موالاته القلبية؛ فالأول جائز بشروط، والثاني محرم.
الله الذي يعلم السر وأخفى، أوحى إلى نبيه ﷺ بكشف الأمر قبل أن تصل الرسالة.
فناداه جبريل وأخبره أن هناك امرأةً تحمل كتابًا من أحد أصحابك إلى قريش
هنا تحرّك النبي فورًا، وأرسل (علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود رضي الله عنهم) وأمرهم:
(انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موضع قريب من المدينة)، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها)
فانطلق الصحابة، فوجدوا المرأة في المكان الذي ذكره النبي.
قالوا لها:
(أخرجي الكتاب)
قالت: (ما معي كتاب)
فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذب رسول الله ﷺ، لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك
عندها، أدركت المرأة أن الأمر من السماء، فأخرجت الكتاب من بين شعرها، فقد كانت قد خبأته في عقاص شعرها.
أُحضِر الكتاب إلى النبي ﷺ، وقُرئ، وعُرف أن الذي كتبه هو (حاطب بن أبي بلتعة)
فدعاه النبي ﷺ، وقال له:
(ما حملك على هذا يا حاطب؟)
فقال حاطب بصراحة مؤلمة:
(يا رسول الله، والله ما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا، ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم من يحميني، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا يحفظون بها قرابتي، ولم أفعلها غدرًا بك ولا حبًا فيهم)
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
(يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق)
فقال النبي ﷺ:
(إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)
فهنا دمعت عيون عمر وسكت، لأن بدرًا كانت فاصلة في الإيمان، ومن حضرها له مقام عظيم عند الله.
ونزل الوحي يؤيد هذا الحدث، فكانت أول آيات سورة الممتحنة:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ) (سورة الممتحنة، الآية 1)
ثم وصف الله حال من يفعل ذلك، مع أنه يعلم أن الكفار لا يحبون المؤمنين، فقال:
(إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ) (الآية 2)
ثم أكد الله على أن المؤمنين لا يجوز لهم موالاة الكفار، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالآخرة، بل يحاربون الدين
(قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ) (الآية 4)
الإخلاص لا يمنع الزلل: حتى الصحابي الجليل قد يضعف لحظة، لكن التوبة والإخلاص ينقذان صاحبه.
الوحي يحفظ هذا الدين: فقد كشف الله سر الرسالة قبل أن تصل، فلا يمكن أن يُخدع رسول الله ﷺ.
العدل والرحمة في آن واحد: لم يعاقب النبي ﷺ حاطبًا رغم خطورة فعلته، لأنه يعلم صدقه ونيته.
الولاء لله ورسوله مقدم على كل شيء: سورة الممتحنة وضعت قاعدة عظيمة: لا ولاء إلا لله، ولا ثقة في عدوٍ لله.
وهكذا انتهت قصة الرسالة السرية، ليُكتب في تاريخ الإسلام أن السماء لا تسمح بالغدر، وأن القلوب تمتحن لتُعرف معادنها، وها هو حاطب، رغم خطئه، بقي من أهل بدر، محفوظ المقام، مغفور الذنب.
وسميت السورة (سورة الممتحنة) لأنها تختبر النفوس، وتفصل بين الحق والباطل، والولاء والضعف، والإيمان والتردد.
إعداد: رامة محمود دللي
في المدينة المنوّرة، في بيتٍ بسيط من بيوت الصحابة، وقعت قصة إنسانية عظيمة، خلّدها الله في أول آيات سورة المجادلة، وجعلها آية تُتلى إلى يوم القيامة. بطلتها امرأة مسلمة، صابرة، شجاعة، اسمها خولة بنت ثعلبة، وهي التي أنزل الله فيها قوله:
(قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ (1))
(سورة المجادلة، الآية 1)
تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مشهدًا مؤثرًا شهدته بنفسها،وهذا من أبلغ وأعجب ما ورد في قصة المجادِلة، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها ما يدل على عظمة سمع الله سبحانه وتعالى، إذ كانت تقول:
(تبارك الذي وسِع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادِلة إلى النبي ﷺ تكلمه، وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾
(أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والنسائي وابن ماجه.)
وهذا الحديث يُبين مدى قرب الله من عباده، وسعة سمعه، ورحمته بمن ظلمهن أزواجهن، كما في قصة (خولة بنت ثعلبة) التي نزلت فيها أول آيات (سورة المجادلة).
كانت خولة بنت ثعلبة متزوجة من (أوس بن الصامت)، أخي (عبادة بن الصامت رضي الله عنه). وذات يوم، غضب منها زوجها وقال لها: (أنتِ عليّ كظهر أمي)
وكان هذا نوعًا من الطلاق في الجاهلية يُسمى (الظهار)، معناه أن الرجل يُحرم زوجته عليه كما تُحرّم عليه أمه. ولكنه لا يُطلقها، بل يحبسها، فلا هي زوجة ولا هي مطلّقة. وهو ظلم كبير للمرأة.
فذهبت إلى رسول الله ﷺ مجادلة، باكية، تشكو حالها وفقـرها وضعفها، وذلّها بعد زوجها، وتقول:
(يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك)
(إن لي صبيةً صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا)
ولم يكن في ذلك الوقت وحيٌ قد نزل في شأن (الظهار)، فكان النبي ﷺ يقول لها:
(ما أراك إلا قد حرمْتِ عليه).
لكن خولة لم تستسلم، بل ظلت تُجادله وتقول:
(يا رسول الله، والله ما طلقني، وإنما قال: أنتِ عليّ كظهر أمي)
وكان النبي ﷺ يعيد القول:
(ما أراكِ إلا قد حُرّمت عليه)
وفي تلك اللحظة، جاء الوحي من السماء، فأنزل الله عز وجل:
(قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا)
(المجادلة: 1)
(قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ (1) ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ (2) وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ (3) فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4))
(سورة المجادلة: 1–4)
أمر الله تعالى بكفّارة لهذه الكلمة الباطلة، ولم يجعلها طلاقًا. فكانت الكفارة لمن قال لامرأته: (أنتِ عليّ كظهر أمي)، على ثلاث مراحل:
تحرير رقبة مؤمنة.
فإن لم يجد: صيام شهرين متتابعين.
فإن لم يستطع: إطعام ستين مسكينًا.
قال النبي ﷺ لخولة:
_مريه فليعتق رقبة
قالت: يا رسول الله لا يجد.
قال: فليصم شهرين متتابعين
قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير، لا يقدر.
قال: فليطعم ستين مسكينًا صاعًا من تمر.
فأعانه النبي ﷺ، كما جاء في الحديث الصحيح:
عن سلمان بن عامر، قال:
(أن النبي ﷺ أعطاه صاع تمر وقال له: تَصدّق بهذا – أي عنك وعلى زوجك – وأطعمه ستين مسكينًا)
(رواه أبو داود، وأصله في مسلم)
النبي ﷺ ساعدها وأعان زوجها، بعد أن أنصفها الله من فوق سبع سماوات
قالت: وأنا أعينه يا رسول الله.
فأُعيدت خولة إلى زوجها، ولم تُحرّم عليه.
_كم من امرأة تُظلم، ولا تجد من يسمع صوتها، لكن خولة علمتنا أن الدعاء والتوجه إلى الله هو أقوى سلاح.
_نزلت آيات من السماء تُخلد صوت امرأة، فكيف بمن يتجاهل حقوق النساء ويهضمها؟
_كان النبي ﷺ يستمع بصبر، يُجادَل، ويُعلّم، ويستقبل الوحي، ليُظهر عظمة الشريعة وعدلها.
هذه القصة تروي كيف أن كلمة قد تُقال بجهل أو غضب، قد تهدم بيتًا وتظلم امرأة، فجاء الإسلام ليُعالجها بحكمة، ويضع كفارة، ويمنع الظلم.
ولم تكن المجادلة امرأة عادية، بل كانت مثالًا للمسلمة الواعية، التي تعرف حقها، ولا تخاف في الله لومة لائم. سمع الله شكواها، ورفع ذكرها، وأنزل فيها قرآنًا يُتلى.
فيا كل مهموم أو مظلوم: ثق أن الله يسمعك، وإن لم يسمعك أحد
إعداد: رامة محمود دللي
نار في بيت النفاق: قصة مسجد ضرار وفضيحة المنافقين
في كل عهد يظهر المنافقون، يلبسون ثياب الصلاح، ويتكلمون بلسان الدين، ويظهرون الحبّ وهم يحملون في قلوبهم الحقد.
وفي المدينة المنورة، حيث بُني أول مسجد على التقوى، لم يتحمّل المنافقون أن يروا صفوف المؤمنين تتقوّى، فأرادوا أن يبنوا مسجدًا ليس للصلاة.. بل للفرقة والخيانة
وكانت نهايتهم أن أنزل الله فيهم قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، وأمر نبيه ﷺ أن يحرق مسجدهم بيده.
في السنة التاسعة للهجرة، وكان النبي ﷺ يستعد لغزوة (تبوك)، جاء إليه مجموعة من المنافقين من أهل المدينة، بقيادة
(أبو عامر الراهب): وكان رجلًا من الأوس، قد تنصّر في الجاهلية، وادّعى الزهد، فلما جاء الإسلام حسده، ورفض أن يؤمن، وتحالف معه الروم ضد النبي ﷺ.
ومن معه من المنافقين: جماعة من بني سالم من الخزرج.
أرادوا أن يصنعوا مقرًا سريًا يجتمعون فيه، فبنوا مسجدًا في منطقة قرب مسجد (قباء)، وسُمّي في البداية: (مسجد بني سالم).
لكن نيتهم لم تكن عبادة ولا تقوى، بل كانت:
_للتجسس على المسلمين
_ولشق الصف
_ولتكون مركزًا إذا جاء الروم لغزو المدينة
اسمه: عبد عمرو بن صيفي، من الأوس، كان يُلقب بـالراهب في الجاهلية، لأنه كان يزهد ويتنسك.
أبغض الإسلام، وحسد النبي ﷺ، ورفض أن يسلم، وسمّاه النبي ﷺ:(الفاسق)
هو الذي خطط لبناء مسجد ضرار، وأرسله الله تعالى مطرودًا إلى الروم.
توفي كافرًا خارج المدينة، وقال النبي ﷺ:
(لا تقولوا الراهب، ولكنه الفاسق)
(ذكره ابن إسحاق، وصححه بعض أهل السيرة)
_اسمه: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي — ابن أبي عامر الراهب
_لكنه أسلم وآمن بالنبي ﷺ، وخالف أباه الكافر.
_قُتل في غزوة أُحد شهيدًا، وكان قد اغتسل من جنابة بعد زواجه، وخرج مباشرة للجهاد.
_فقال النبي ﷺ:
(رأيتُ الملائكة تغسّله بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة)
(رواه الحاكم)
فلُقّب بـ:( حنظلة غسيل الملائكة).
بعد أن بنوا المسجد، أتوا إلى النبي ﷺ، وقالوا:
(يا رسول الله، إنا بنينا مسجدًا للضعفاء والمرضى والعجزة، ونريد أن تشرفه بالصلاة فيه)
ولكن النبي ﷺ كان في طريقه إلى غزوة( تبوك)، فقال لهم
(إنِّي على سفرٍ، وإن شاءَ اللَّهُ إذا رَجعنا صلَّينا فيهِ)
فأظهروا الرقة والنية الطيبة، وخدعوا بعض الناس، ولكن الله كشف نواياهم.
قبل عودة النبي ﷺ من تبوك، نزل عليه الوحي، ففضحهم الله تعالى بآيات عظيمة في سورة التوبة
(وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ (107) لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ (108)) (التوبة: 107-108)
ففضحهم الله بأربع صفات
ضرارًا: أي إيذاءً للمسلمين
كفرًا: لأنهم لم يبنوه للتقوى
تفريقًا: ليشقوا صفوف المؤمنين
إرصادًا: أي ترقبًا وانتظارًا لقدوم عدو الله أبو عامر
ثم أمر الله نبيه ﷺ:
(لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)
فما دخل النبي ﷺ المسجد، بل أمر رجاله أن يحرقوه ثم يهدّموه.
أرسل النبي ﷺ (مالك بن الدُّخْشُم _ومعاذ بن عفراء)، وقال لهم
(انطلقا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه، فاهدماه وحرّقاه)
فذهبا، وأشعلا النار فيه، ثم هدموه على رؤوس من فيه.
وكانت تلك لحظة من لحظات العدل الإلهي، أن يُفضح المنافقون علنًا، وأن يُمحى أثر مسجد بُني للخداع باسم الدين.
ليست كل منارةٍ تحمل اسم المسجد طاهرة النية، فقد يُبنى (بيت الله ، للشيطان)
الدين لا يُخدع بالظاهر، فالله يعلم النيات، ويكشف الكذب مهما خفي.
أن القائد المسلم الحق لا تأخذه المجاملة في دين الله، فالنبي ﷺ لم يُسايرهم ولم يسكت.
أن الله يدافع عن عباده المؤمنين، فقد أنزل الوحي ليكشف مؤامرة خطيرة كانت تُحاك ضد الأمة من داخلها.
في زمنٍ كانت فيه المساجد منارات نور، كاد الظلام أن يتسلل عبر مسجد كاذب
لكن الله لا يرضى أن يُتّخذ اسمه ستارًا للفرقة والخيانة،
فأمر نبيه أن يُطفئ نار النفاق، بنارٍ أُضرمت في مسجد ضرار.
وبقي مسجد (قباء)، ومسجد (النبي)، ومساجد التقوى نورًا على نور.
أما مسجد (ضرا)، فصار ترابًا لا يُذكر إلا عبرة لمن أراد أن يتاجر بالدين.
إعداد: رامة محمود دللي
من غار ثور إلى أنوار قباء: حين غيّرت الهجرة وجه المدينة
خرج الحبيب محمد ﷺ من مكة، وقلبه مملوء بالشوق، وأمله معلق بوعد الله: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ)
ترك وطنه وأهله وداره، لا فرارًا من الحياة، بل بحثًا عن دار للإيمان، وأرض تحتضن الرسالة.
سارت القافلة المباركة عبر الصحراء، يقودها رسول الله ﷺ، ورفيقه أبو بكر الصديق، ودليلهما عبد الله بن أريقط، إلى أن أشرقت أنوار النبوة في مدينة (يثرب)، التي تحوّلت بنوره إلى (المدينة المنوّرة)
وصل النبي ﷺ إلى مشارف المدينة في (يوم الإثنين، 8 ربيع الأول)، وكان الناس ينتظرونه بشوق لا يوصف.
خرج الرجال والنساء، والكبار والصغار، يترقبون قدومه منذ الصباح، فلما رأوه تهلّلت وجوههم، وأنشد الأطفال ترحيبًا خالدًا:
(طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع)
كل بيت في المدينة كان يرجو أن ينزل عنده رسول الله ﷺ، وكانوا يمسكون بخُطام ناقته، ويقولون
(يا رسول الله، هلمَّ إلينا)
فكان يردّ بلطف
(خلّوا سبيلها، فإنها مأمورة)
حتى توقّفت عند موضع فسيح، فقال النبي ﷺ
(هاهنا المنزل إن شاء الله)
وكان الموضع ليتيمين من بني النجار، فاشتراه النبي ﷺ، وبُني فيه المسجد النبوي الشريف.
ورد في كتب السيرة النبوية أسماء اليتيمين من بني النجار الذين كانت الأرض التي بركت فيها ناقة النبي ﷺ ملكًا لهم، وهم
وكانا غلامين يتيمين في حجرِ (أسعد بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه)، وهو من أوائل من أسلم من أهل المدينة، ومن نُقباء بيعة العقبة، وكان قريبًا للنبي ﷺ من جهة أمه.
قال ابن هشام في (السيرة النبوية)
وكانا يتيمان في حجر أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله ﷺ إليهما، فساومهما بالأرض، فقالا: بل نهبها لك يا رسول الله. فأبى رسول الله ﷺ أن يقبلها منهما هبة، حتى ابتاعها منهما
فهذا من كرم النبي ﷺ وعدله، إذ لم يقبل أن يُهدى شيئًا لله ثم يُبنى عليه مسجد عظيم، حتى لا يُقال إنه بُني على أرض مكرهة.
وقد روى البخاري في صحيحه (حديث رقم 428)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(لما قدم رسول الله ﷺ المدينة، أمر ببناء المسجد، فقال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا. فقالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. وكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خِرَب، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله ﷺ بالقبور فنبشت، وبالخِرَب فسويت، وبالنخل فقطع، وصُفّت الحجارة قبلة المسجد، وكانوا ينقلون ذلك وهم يرتجزون)
(يرتجزون ) ي أنهم كانوا ينشدون أبياتًا شعرية قصيرة على نمط الرجز وهم يعملون، يرفعون بها معنوياتهم، ويشجّعون أنفسهم أثناء نقل الحجارة وبناء المسجد.
قبل أن يدخل المدينة بأيام، نزل النبي ﷺ في منطقة تُسمّى (قباء) في ضواحي المدينة، وأقام فيها أربعة أيام.
وخلال هذه المدة، أسّس أول مسجد في الإسلام، وهو (مسجد قباء)، وكان يبنيه بنفسه، ينقل الحجارة، ويعمل مع الصحابة.
وقد أثنى الله عليه في القرآن، فقال
(لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ (108)) (التوبة: 108)
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال
(من تطهَّر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلَّى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة)
(رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح)
فكان مسجد قباء أول بيت من بيوت الله يُبنى في الإسلام، وأُسس على الإيمان والتقوى، لا على السمعة أو الرياء.
بعد دخول المدينة، بدأ النبي ﷺ مباشرةً في بناء المسجد النبوي، في الأرض التي بركت فيها ناقته، وساهم الصحابة في البناء.
وكان النبي ﷺ يعمل معهم بنفسه، يحمل الطين والحجارة، ويقول
(اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفرْ للأنصار والمهاجرة)
(رواه البخاري)
وكان الصحابة يردّدون وهم يعملون:
(لئن قعدنا والنبي يعملُ، لذاك منا العمل المضلَّلُ)
فما أجمل مشهد القائد الذي لا يكتفي بالأمر، بل يشارك شعبه في العرق والتعب.
بعد بناء المسجد، بدأ النبي ﷺ في ترسيخ أسس الدولة الإسلامية
أخى بين المهاجرين والأنصار: فجعل عبد الرحمن بن عوف أخًا لسعد بن الربيع، وجعل أُسيدًا أخًا لمقداد، وهكذا،
فصاروا عائلة واحدة، في سابقة لم يشهدها التاريخ من قبل.
كتب وثيقة المدينة: لتنظيم العلاقات بين المسلمين واليهود والقبائل، وجعل لكل فئة حقوقًا وواجبات.
نشر الدعوة باللين: بدأ النبي ﷺ يدعو بالحكمة والموعظة، ويبني المجتمع على الإيمان والتراحم والعدل.
أن المسجد هو أول ما يُبنى في مجتمع الإيمان، لأنه القلب الذي تُبنى عليه حياة الأمة.
أن القيادة الحقّة تقوم على المشاركة لا التسلّط، فالنبي ﷺ شارك في البناء والعمل.
أن الأخوّة الحقيقية تنشأ حين يُقدَّم الإيمان على النسب والمصالح، كما فعل المهاجرون والأنصار.
أن النصر لا يأتي فجأة، بل بعد هجرة وصبر وتخطيط وبناء.
دخل النبي ﷺ المدينة المنورة لا كغريب، بل كمنقذ، بنى مسجدًا من طين، لكنه أسّس حضارة من نور.
جاء لا بجيش، ولكن بقلب يحمل الرحمة، فتح القلوب قبل أن تُفتح الحصون، وربّى جيلًا حوّل صفحات التاريخ.
هكذا بدأت الدولة الإسلامية من (غار ثور إلى مسجد قباء، ثم إلى المسجد النبوي)، رحلة إيمان وصدق ويقين.
إعداد: رامة محمود دللي
ثلاث عشرة سنة قضاها النبي محمد ﷺ في مكة، يدعو قومه إلى التوحيد، صابرًا على الأذى، متحملًا الصدّ والتكذيب، محاطًا بكوكبة من الصحابة الذين آمنوا به، وتحملوا لأجله ما لا يُحتمل. ولما اشتد الأذى على المسلمين، أذن الله لهم بالهجرة إلى (يثرب)، والتي سُميت لاحقًا (المدينة المنورة)، وهناك بدأت مرحلة جديدة من الرسالة.
بعد أن بُويع النبي ﷺ سرًّا من أهل يثرب (الأنصار) في بيعة العقبة الثانية، قرر المشركون أن يتخلصوا منه نهائيًا. اجتمعوا في (دار الندوة)، وتآمروا على قتل النبي ﷺ، فجاءهم الشيطان في صورة شيخ نجدي، واقترح أبو جهل أن يأخذوا من كل قبيلة شابًا قويًّا، ويضربوه بسيف واحد، حتى يتفرق دمه بين القبائل، فلا تقدر بني هاشم على الأخذ بثأره.
لكن الله تعالى أخبر نبيه ﷺ بما يدبّر له، فأمره بالهجرة. قال الله تعالى:
(وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ) (الأنفال: 30)
في ليلة الهجرة، جاء النبي ﷺ إلى (علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وأمره أن ينام في فراشه ويتغطى ببرده الأخضر، وقال له:
(نم على فراشي، وتسجَّ بهذا البُرد الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم).
وفعل علي ذلك، بينما خرج النبي ﷺ من بيته متخفيًا، ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي كان قد جهز الراحلتين وهيّأ الزاد للطريق.
سار النبي ﷺ وأبو بكر جنوبًا، عكس طريق المدينة، إلى غارٍ في جبل يسمى (ثور)، واختفيا فيه ثلاثة أيام، حتى تهدأ مطاردة قريش.
وكان عبد الله بن أبي بكر يأتي إليهما بأخبار مكة ليلًا، وأسماء بنت أبي بكر تأتي بالطعام والماء، حتى لقّبها النبي ﷺ (ذات النطاقين)، لأنها شقت نطاقها نصفين، لتربط الطعام وتعلقه.
وفي تلك اللحظة العصيبة، وصل المشركون إلى باب الغار، نظر أبو بكر فخاف، وقال: (يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا)
فقال النبي ﷺ بكل يقين وطمأنينة:
(يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟)
(رواه البخاري ومسلم)
وقال الله تعالى:
(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (41) (التوبة:41)
فكان العنكبوت قد نسج خيوطه على باب الغار، والحمامتان وضعتا عشًا فوقه، فظن المشركون أنه مهجور، فانصرفوا.
بعد ثلاثة أيام، غادرا الغار وسلكا طريقًا وعرًا إلى المدينة، ومعهما دليل ماهر هو (عبد الله بن أريقط)، وكان كافرًا لكن أمينًا.
وفي الطريق، لحق بهما (سراقة بن مالك طمعًا في الجائزة)، فلما اقترب، دعا عليه النبي ﷺ، فغاصت أقدام فرسه في الأرض، فاستغاث بالنبي، فعفا عنه. ثم قال له النبي ﷺ:
(كيف بك إذا لبست سوارَي كسرى؟)
(رواه ابن حبان وصححه الألباني)
وتحققت نبوءة النبي بعد سنين، حين فُتح ملك الفُرس في عهد (عمربن الخطاب رضي الله عنه )، وأُتي بسوارَي كسرى إلى (سراقة).
وصل النبي ﷺ إلى (قباء)، في ضواحي المدينة، يوم الإثنين 8 ربيع الأول، وأقام هناك أربعة أيام، وبنى أول مسجد في الإسلام: (مسجد قباء).
ثم دخل المدينة، والناس ينتظرونه بشوق وفرح، والأطفال والنساء ينشدون:
(طلع البدر علينا من ثنيات الوداع)
ونزل النبي ﷺ عند (بني النجار)، في بيت (أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه)، وبدأت مرحلة بناء الدولة.
الثقة بالله واليقين به: النبي ﷺ كان في أشد المواقف خطرًا، ومع ذلك قال: (لا تحزن إن الله معنا)
اتخاذ الأسباب مع التوكل: هيّأ الدليل، واختبأ في الغار، وخطط للطريق، رغم علمه أن الله سينصره.
التضحية من أجل الدين: ترك الوطن والأهل والبيت لله، وهاجر في سبيل نشر الحق.
وفاء الصحابة: أبو بكر رضي الله عنه رافقه، وساهمت أسرته في نصرة الإسلام بكل طاقتها.
كانت الهجرة النبوية نقطة التحول في التاريخ الإسلامي، حيث انتقل الإسلام من مرحلة الضعف إلى التمكين، ومن الاضطهاد إلى بناء الدولة.
واستحق هذا الحدث أن يُجعل بداية للتقويم الإسلامي، لأنه ليس مجرد انتقال جسدي من مكة إلى المدينة، بل هو رحلة إيمان وتضحية، ويقين بالله، وصناعة أمة.
قال النبي ﷺ في توديع مكة:
(والله إنك لأحب أرض الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)
(رواه الترمذي)
فليتعلّم كل مؤمن من هجرة النبي ﷺ، أن النصر بعد الصبر، والفرج بعد الكرب، وأن الله لا يضيع عباده المؤمنين.
إعداد: رامة محمود دللي
في مكة، حين اشتد الأذى بالمسلمين، وضيّق عليهم المشركون الخناق، وواجهوا التعذيب والإهانة والمقاطعة، أصبح البقاء في مكة مخاطرة تهدد الإيمان والنفس. ومع ذلك، صبر النبي ﷺ وثبت على دعوته، يواسي أصحابه، ويرشدهم إلى الصبر.
وحين وجد أن الأذى بلغ ذروته، أذن لأصحابه بالهجرة، حفاظًا على دينهم، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة، بعد أن بايعه الأنصار على النصرة.
هاجر الصحابة أولاً بأمر النبي ﷺ سرًا، وكان منهم:
_أبو سلمة وزوجته أم سلمة.
_صهيب الرومي.
_عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص.
_علي بن أبي طالب، وهو آخر من بقي مع النبي في مكة قبل الهجرة.
_من السابقين: أبو بكر الصديق، لكنه تأخر ينتظر النبي ﷺ ليرافقه.
وقد أمر النبي ﷺ الصحابة بالهجرة قبله حتى يتسنّى لهم النجاة، وليبقى هو في مكة يتابع أمر الدعوة، ويهيئ الهجرة بنفسه في وقتها المناسب، بإذن من الله.
_حماية المسلمين من الأذى والفتنة في الدين.
_نشر الإسلام في أرض جديدة تحتضن الدعوة (المدينة).
_التخطيط لإقامة دولة عادلة تحفظ الدين والنفس.
قال الله تعالى:
(إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا) ( النساء: 97)
فهذه الآية تُبيّن أن الهجرة كانت فريضة لمن لم يستطع إظهار دينه أو خاف الفتنة في دينه.
حين اجتمع كفار قريش في( دار الندوة) لقتل النبي، نزل الوحي على محمد ﷺ وأذن له (بالهجرة). أخبر أبا بكر الصديق، ففرح، وخرجا معًا في الليل، وتوجها إلى غار ثور لاختبائهما.
قال الله:
(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ( التوبة: 40)
ثم انطلق النبي وأبو بكر مع عبد الله بن أريقط كدليل في الطريق، واتجها جنوبًا ثم غربًا ثم شمالاً، حتى وصلا إلى يثرب (المدينة المنورة) حيث استُقبلا استقبال العظماء.
ورد ذكر الهجرة في عدة مواضع في القران ، منها:
سورة التوبة: 20
(ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ)
سورة الأنفال: 72
(إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ)
_أن الدين فوق الأهل والوطن.
_أن الصبر والثبات يجلبان النصر.
_أن لله خططًا تُدار بحكمة، وأن التوكل لا يعني ترك الأخذ بالأسباب.
_أن الأخوة الإسلامية أقوى من رابطة الدم، كما حصل بين المهاجرين والأنصار.
بدأ الإسلام في مكة مضطهدًا، لكن بنور الإيمان، وصدق الصحبة، وهدي الوحي، انتقل إلى المدينة ليؤسس أعظم حضارة.
الهجرة لم تكن فرارًا، بل كانت انطلاقة نحو النور، وصنعًا لمجدٍ باقٍ إلى يوم القيامة.
إعداد: رامة محمود دللي
بداية الدعوة: من السرّ إلى الجهر
بعد أن نزل الوحي على النبي محمد ﷺ في غار حراء، واطمأن قلبه بنبوة الله له، بدأت أعظم رحلة في التاريخ: دعوة البشرية إلى التوحيد.
لكن النبي ﷺ، الحكيم المُسدَّد، لم يخرج إلى قريش فجأة يصرخ فيهم: (أنا نبي الله)، بل بدأ بهدوءٍ وحكمةٍ، يدعو أولاً من كان يثق بهم ويعرف صدقه، وبدأ بـ الدعوة السرية.
لمدة ثلاث سنوات، كان النبي ﷺ يدعو الناس إلى الإسلام سرًا، خشية الأذى، وليغرس العقيدة في قلوب صلبة بالإيمان.
وأول من آمن به:
_خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، زوجته ورفيقة دربه.
_علي بن أبي طالب، وكان صبيًا في كفالة النبي ﷺ.
_زيد بن حارثة، مولاه وابنه بالتبنّي قبل الإسلام.
_أبو بكر الصديق، الصاحب الصدوق الذي صدّقه بلا تردد.
فأخذ أبو بكر يدعو مَن يثق بهم، فأسلم على يده:
_عثمان بن عفان
_الزبير بن العوام
_عبد الرحمن بن عوف
_طلحة بن عبيد الله
_وسعد بن أبي وقاص
وهكذا بدأ النور ينتشر في الظلام.
كانوا يجتمعون سرًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، عند الصفا، حيث بدأت لبنات الأمة الإسلامية تتأسس في صمتٍ وحياء.
من الجهر إلى الآفاق: نداء محمد ﷺ في الأسواق والمواسم
في إحدى الليالي المباركة كان رسول الله ﷺ لا ينام إلا وهمّ الدعوة يحمله، يحمل أمرًا عظيمًا نزل به من السماء. لقد أنزل الله عليه هذه الآية يأمره فيها أن يبدأ بدعوة الأقرب فالأقرب، من أهله وعشيرته قبل غيرهم.
حين نزلت هذه الآية، (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) علم النبي ﷺ أن ساعة المواجهة قد بدأت، وأن عليه أن يبلغ أقرب الناس إليه، مع علمه أن ذلك قد يثير غضبهم وعداوتهم. لكنه لم يتردد.
فصعد رسول الله ﷺ إلى جبل الصفا، وهناك صاح في قريش بصوت جهير، فناداه أهل مكة، واجتمعوا إليه، فقال لهم:
(يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد، اشتروا أنفسكم من الله، لا أملك لكم من الله شيئًا)
(رواه مسلم)
ثم قال لهم:
(أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ ؟)
قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا
قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.)
(رواه البخاري)
هنا وقف أبو لهب، عم النبي ﷺ، وقال في غضب وسخرية
(تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟)
عندها أنزل الله السورة الخالدة:
أي خسرت يداه وهلك، وقد خسر فعلاً، وخاب سعيه في الدنيا والآخرة.
لم ينفعه ماله الذي كان يفتخر به، ولا أولاده الذين كان يعزّ بهم. فمهما جمع من ثروة، فلن تنجيه من النار.
سيعذّب بنار تتّقد وتتوهج، نار تتناسب مع كنيته (أبو لهب)، كأنه يقال له: (كنت تُلقّب بالوهج، فجزاؤك نار الله الموقدة)
زوجته (أم جميل أروى بنت حرب أخت أبي سفيان)، كانت تشعل الفتن وتنقل الكلام وتؤذي رسول الله ﷺ، وكانت تجمع الشوك والحطب وتضعه ليلاً في طريق النبي ليؤذيه.
سيكون في عنقها حبلٌ من ليفٍ خشنٍ يُشد عليها في جهنم، جزاء ما كانت تربطه من الحبال لتجمع الشوك، ولتقيّد الأذى لرسول الله.
من هو ابو لهب
في مكة، وفي بيت عبد المطلب، وُلد للنبي ﷺ عمٌّ اسمه (عبد العزى بن عبد المطلب)، وكنيته (أبو لهب). كان شديد البغض للنبي ﷺ، رغم أنه من عشيرته الأقربين. وكان يفترض به أن يكون من أوائل المناصرين له، لكنه كان من أشد أعدائه.
وقد سُمّي أبو لهب بهذا اللقب لأن وجهه كان مشرقًا كالنار، وكان يُظن أن له مكانة كبيرة في قريش، لكن هذا النور الظاهري خفي وراءه ظلمة القلب والحقد على رسول الله ﷺ.
حين جهر رسول الله ﷺ بالدعوة، ووقف على جبل الصفا يدعو قومه فما كان من أبي لهب إلا أن ردَّ ساخرًا
وهنا نزل الوحي، وجاء الرد الإلهي المباشر من السماء، فأنزل الله عز وجل سورة عظيمة تتلى إلى يوم القيامة، فضحت أبا لهب وامرأته
_كان أبو لهب يتعمد إهانة النبي ﷺ أمام الناس، ويتبعه في الأسواق ليكذّبه.
_أما زوجته، فكانت تمشي بالنميمة، وتجمع الحطب، وتلقي الأذى في طريق الرسول ﷺ ليلًا.
_وكانت تُعرف بلسانها السليط وكيدها للنساء المسلمات، فاستحقت وصف حمالة الحطب.
بل لما نزلت هذه السورة، قالت أم جميل:
(لقد هجاني محمد والله لئن رأيته لأفعلن كذا وكذا
وأخذت حجرًا وذهبت تبحث عن النبي ﷺ، وهي لا تراه وهو أمامها، وكان معه أبو بكر، فقالت له:
أين صاحبك؟ قد بلغني أنه هجاني، والله لو وجدته لضربته بهذا الحجر
فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها لا تراك؟
فقال ﷺ: حال الله بيني وبينها)
(سورة المسد) نزلت لتحمل رسالة صارخة
ليس كل قريبٍ ناصر، وليس كل مالٍ منجي، وليس كل امرأةٍ شريفة بأصلها.
لقد خُلّدت سورة المسد في القرآن تتلى إلى يوم القيامة، شاهدة على أن الحق لا يُرهب، وأن أعداءه مهما علا شأنهم فمصيرهم الهلاك.
ففي هذه السورة القصيرة، تجسّدت عدالة الله، وبيّنت أن من يحارب دين الله يُفضَح ويُعذَّب ولو كان من أقرب الناس.
فالدين لا يُقاس بالنسب، بل بالإيمان والعمل.
بعد أن أمر الله نبيه محمدًا ﷺ بالجهر بالدعوة، اتّسع نطاق البلاغ، فلم تعد الرسالة خفية في دار الأرقم، بل باتت تتردد في أرجاء مكة. قال الله تعالى:
(فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ (95) ٱلَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ 96) (سورة الحجر:96)
ورغم القطيعة والعداوة التي بدأت من أقرب الناس، لم يتوقف الرسول ﷺ عن دعوته، بل أخذ يتحين الفرص، فكان يقصد الأسواق الكبرى والمواسم السنوية، مثل
في هذا السوق المشهور، الذي يجتمع فيه العرب من كل مكان، وقف النبي ﷺ بين الناس ينادي
(قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا)
وكان أبو لهب يمشي خلفه ويقول
(لا تصدقوه، إنه ابن أخي وأنا أعلم به)
في مواسم الحج، كان النبي ﷺ يدخل على القبائل في خيامهم، يحمل الدعوة، يتلو عليهم آيات الله، ويدعوهم إلى التوحيد، ويطلب منهم الحماية والنصرة، قائلاً:
(من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟)
فكان الجواب غالبًا الإعراض والخوف من قريش، إلا أن القلوب كانت تتحرك، والنور بدأ يشع خارج مكة.
وفي عام الحزن، وبعد وفاة خديجة وأبي طالب، اشتد الأذى، لكن الرسول ﷺ لم ييأس، فكان يسير على قدميه في حرِّ الشمس، يحمل همَّ الرسالة، حتى التقى بستة شباب من يثرب (المدينة)، فآمنوا به، وقالوا
(إنه النبي الذي كانت تبشِّر به يهود يثرب، فلا يسبقنّكم إليه أحد)
وهكذا بدأت بذور الهجرة تُزرع، وبزغ فجر جديد للدعوة.
الصبر والثبات طريق الدعاة.
رغم القطيعة، والإهانة، والمطاردة، مضى النبي ﷺ برسالته إلى الناس، فردًا فردًا، سوقًا سوقًا، قبيلة قبيلة، حتى بلغ الدين كل أرجاء الجزيرة.
من الأسواق المزدحمة، ومن خيام القبائل، خرج النور إلى العالم.
(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
(سورة النور: 54)
لم تكن دعوة النبي ﷺ مجرد كلمات في دار الأرقم، بل كانت خطة دعوية عالمية، بدأت من مكة، ثم انتشرت في الأسواق، حتى طافت القلوب، وغمرت الأمم.
فليكن لنا من سيرته نبراس، ومن عزيمته درس، ولتكن دعوتنا ، وإن صعب الطريق ، مليئة بالإخلاص واليقين.
_هذه الآية تُعلّمنا أن الدعوة إلى الله تبدأ من الأهل والأقربين، فهي مسؤولية عظيمة لكنها أيضًا اختبار لصبر الداعية.
_كما نرى أن الحق قد يُقابل بالسخرية والعداء من أقرب الناس، كما فعل أبو لهب، ومع ذلك لم يتوقف النبي ﷺ عن دعوته.
_وسورة المسد رسالة أبدية أن القرابة لا تُغني عن الإيمان شيئًا، وأن من وقف في وجه الحق فمصيره الخسران، مهما كانت مكانته أو نسبه.
من غارٍ مظلم في جبل، إلى نورٍ أضاء قلوب الأمم
لم تكن الدعوة بالسيف، بل بالحكمة، والرحمة، والصدق
بدأت الدعوة بصوتٍ واحد في دارٍ خفية، فانطلقت أصداؤها لتملأ السهول والجبال.
كل تغييرٍ عظيم يبدأ بخطوة مؤمنة_خطوة قد تكون سرية، لكنها تحمل في قلبها نورًا لا يُطفأ.
إعداد: رامة محمود دللي
في قلب مكة، وفي بيت من بيوت الشرف والسيادة، وُلدت (خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي) كانت من سادة قريش نسبًا، ومن أعقل نسائها رأيًا، ومن أطهرهن قلبًا وسيرة. عُرفت في الجاهلية بلقب (الطاهرة)، وكانت من أكرم النساء، وأكثرهن حياءً، وأشدهن ثقة، وكان قومها يجلونها ويعظمونها.
تزوجت خديجة في بداية حياتها من رجل شريف هو (عتيق بن عابد بن عبد الله المخزومي)، فولدت له ولد اسمه (هند) ،توفي زوجها عتيق وترك لها مالا كثيرا ،، ثم تزوجت بعده (بـأبي هالة بن النباش التميمي)، فولدت منه ولد وبنت من أبي هالة، الذي عرف في السيرة لاحقًا بأنه ربيب النبي ﷺ، وكان أول من وصف النبي ﷺ واصحابة وصفًا دقيقًا.
ورد في بعض الروايات أن السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها رأت رؤيا عظيمة قبل زواجها من نبي الله محمد ﷺ، وكان لهذه الرؤيا أثر كبير في قراراتها، خصوصًا في رفضها المستمر لكثير من كبار قريش الذين تقدموا لخطبتها.
في أحد الأيام، رأت السيدة خديجة في منامها أن الشمس نزلت من السماء، وراحت تمشي حتى دخلت بيتها، واستقرت فيه، فاستيقظت من نومها وقد أدهشها هذا المنام، وتعجّبت من رمزيته وعظمته.
وكان في ذلك الزمن ابن عمها (ورقة بن نوفل) رجلٌ صالح من بقايا الحنفاء على دين إبراهيم، يقرأ كتب أهل الكتاب ويؤمن بوحدانية الله ، فذهبت إليه وقصّت عليه رؤياها.
فقال لها ورقة بن نوفل بتأويل العالم الحكيم
(إن صدق منامك، فستدخل النبوة بيتك)
أي أن رجلاً نبياً سيكون من أهل هذا البيت، وستكونين أنتِ زوجة نبي، وهذا من أعظم الشرف الذي يُمكن أن تناله امرأة.
خديجة رضي الله عنها كانت تُلقّب بـ (الطاهرة) في الجاهلية، لعفتها ووقارها وعقلها، وكانت بعد وفاة أبي هالة من أنبل النساء وأغناهن في قريش، فكثر خطابها من أشراف مكة، أمثال عقبة بن أبي معيط، وصفوان بن أمية، وأبو جهل، وغيرهم، لكنها رفضتهم جميعًا رغم جاههم ومالهم.
ويرجح العلماء أن سبب رفضها الزواج بعد أبي هالة هو:
_شعورها الداخلي بأن الله يُهيّئ لها أمرًا عظيمًا.
_الرؤيا التي رأتها، وتفسير ورقة لها، بأنها ستكون زوجة نبي.
_عفتها وعلوّ مقامها الروحي، حيث كانت لا تسجد لصنم ولا تشارك في طقوس الوثنية.
كانت السيدة خديجة بنت خويلد من سيدات قريش، معروفة بعقلها وكرمها وحسن تدبيرها، وكانت تاجرة ذات مال كثير، وكانت ترسل رجالاً من قريش في رحلات التجارة مقابل نسبة من الأرباح.
وحين سمعت بصدق النبي محمد ﷺ وأمانته وخلقه الكريم، وكانت قد سمعت من ابن عمها ورقة بن نوفل ومن غيره عن صفاته النادرة، رغبت أن يعمل معها في تجارتها.
لكن بعض الروايات تذكر أن أبا طالب هو من اقترح على خديجة أن يعمل محمد معها، فقال لها
(إن محمداً شاب أمين صادق، لا يضيع الأمانة، وهو في حاجة إلى عمل، وإن تجارتك رابحة، فهل لك أن تجرّبيه؟)
فوافقت خديجة، بل فرحت بذلك العرض، وأرسلت معه غلامها (ميسرة) في رحلة إلى الشام. وهناك، ظهرت دلائل كثيرة على نبوغه وأمانته، فرجع ميسرة يُثني عليه ويُخبر خديجة بما رآه من عجب.
_أن غمامة كانت تظلله في الحر. رآه يومًا يستظل تحت شجرة، فقال له راهب: ما استظل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي.
_وأنه رأى كيف يربح النبي ﷺ بصدق دون غش.
_وكيف أُعجب الناس بتعامله.
فكانت هذه الرحلة التجارية هي بداية التقارب العاطفي والعقلي بين خديجة والنبي ﷺ، وانتهت بأن خديجة هي من عرضت عليه الزواج بعد أن أيقنت بمعدنه الشريف.
عندما أعجبت خديجة بخلق النبي محمد ﷺ وأمانته بعد أن خرج بتجارتها إلى الشام وحقق أرباحًا لم تحققها من قبل، بدأت تميل إليه في نفسها، لكنها امرأة ذات مقام رفيع، فاستحيت أن تصرح برغبتها.
فما كان منها إلا أن فاتحت (نفيسة بنت منية)، وأخبرتها بما في قلبها. ففرحت نفيسة بذلك، وذهبت إلى النبي محمد ﷺ، ودار بينهما حوار لطيف
قالت له
(يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج ؟)
فقال: ما بيدي ما أتزوج به.
قالت: فإن كُفيت ذلك، ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف، ألا تجيب؟
قال: فمن؟
قالت: خديجة بنت خويلد
قال: فكيف لي بذلك؟
قالت: أنا أكفيك ذلك
وبالفعل، ذهبت نفيسة إلى خديجة، وذهبت خديجة إلى عمها عمرو بن أسد، وكُلِّم أبو طالب، وتمت خطبة النبي ﷺ لخديجة.
مرت الأيام، وكانت خديجة تُتابع أخبار الفتى الأمين محمد بن عبد الله، الذي كان يعمل في التجارة، فطلبت أن يعمل في تجارتها، لما سمعته عن صدقه وأمانته. وحين رجع من رحلته التجارية إلى الشام بركة ومالًا، وسمعت من خادمها ميسرة عن أخلاقه وعفافه ونور وجهه، عرضت عليه الزواج.
فوافق النبي ﷺ، وتزوجها،
وبذلك تحققت الرؤيا: دخلت الشمس (النبوة) بيتها، فصارت أم المؤمنين الأولى، وسيدة بيت النبوة.
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تلتقي في النسب مع النبي محمد ﷺ في الجد الخامس (قصي بن كلاب)، وهو أحد أجداد النبي المشهورين في قريش.
أما النبي محمد ﷺ فنسبه هو
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة.
إذًا كلاهما يلتقيان في الجد (قصي بن كلاب)، أي أن خديجة من بني أسد بن عبد العزى، وهو فرع من بطون قريش، والنبي من بني هاشم، وهم أيضًا من بطون قريش.
وهذا النسب المشترك كان يجعلهم من بيوتات الشرف والسيادة في مكة، وهو ما ساهم في التقدير الكبير الذي كانت تحظى به خديجة في قومها، وجعلها أيضًا من أنسب النساء وأكرمهن نسبًا وشرفًا لرسول الله ﷺ.
خديجة رضي الله عنها تقرب إلى النبي ﷺ من جهة الأب والأم، فهي ابنة عمه من بعيد، من أسر قريش العريقة والنسب الشريف.
وهذا مما جعل الزواج بها زواجًا متكافئًا من حيث النسب، والشرف، والعقل، والمال، وكان من أنجح الزيجات في حياة النبي ﷺ
ذكر بعض أهل السيرة، ومنهم ابن إسحاق وابن كثير، أن خديجة رضي الله عنها كانت على التوحيد قبل البعثة، وكانت من القلائل في مكة الذين رفضوا عبادة الأصنام، وكان يُقال عنها:
(لم تسجد لصنم قط)
(ذكره ابن كثير في البداية والنهاية وابن حجر في الإصابة).
ويُرجح بعض العلماء أنها كانت على دين الحنيفية، وهو ملة( إبراهيم عليه السلام)، كحال ورقة بن نوفل ، ابن عمها ، الذي كان على دين التوحيد
جاء في حديث صحيح:
قال رسول الله ﷺ:
(خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)
( رواه البخاري (حديث رقم: 3432) ومسلم.)
وفي رواية أخرى
قال النبي ﷺ
(أكملُ نساءَ العالمين: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)
(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة)
لذلك، فهي من سيدات نساء العالمين وأهل الجنة، أربعة فقط نلن هذا الشرف الأعلى
عاشت خديجة مع النبي ﷺ حياة هادئة طيبة، لم يتزوج عليها حتى ماتت. أنجبت له أربع بنات: (زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وولدين: القاسم وعبد الله (الطيب والطاهر)، وكلاهما ماتا صغيرين.
وحين بدأت تباشير النبوة، ورأى النبي ﷺ الرؤى الصادقة، واعتكف في غار حراء، كانت خديجة تهيئ له الزاد والماء، وتبعث خلفه بغلامها، وتنتظر عودته بشوق واطمئنان.
وفي تلك الليلة العظيمة، حين جاءه الوحي في الغار، ورجع النبي ﷺ إلى بيته، وقلبه يرجف، قال لها
(زملوني زملوني)
فزملته، واحتضنته، فلما هدأ قال
(لقد خشيتُ على نفسي)
فقالت له كلمتها الخالدة التي خلدها التاريخ
(كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر)
ثم أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فسمع خبره، وقال
(هذا الناموس (جبريل) الذي نزل على موسى، ليتني أكون فيها جذعًا حين يخرجك قومك)
وفي يوم من الأيام، دخل جبريل على النبي ﷺ، وقال له
(يا محمد، هذه خديجة قد أتتك، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)
[صحيح البخاري]
فقال ﷺ لها
(يا خديجة، هذا جبريل يقرئكِ السلام من ربكِ)
فقالت:
(إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام يا رسول الله)
فأي مقامٍ هذا، وأي امرأة في الأرض يبلغها السلام من الله عز وجل؟
ظلت خديجة تساند النبي ﷺ بكل ما تملك، بمالها، وعقلها، وقلبها، حتى اشتدت عليه المصائب، فكانت دائمًا الحصن والملاذ. وحين اشتد الحصار في (شِعب أبي طالب)، ضعفت صحتها، فلما خرجوا، لم تمكث كثيرًا حتى توفيت رضي الله عنها، قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان عمرها 65 سنة.
سمي العام الذي توفيت فيه بـعام الحزن، لأن النبي ﷺ فقد فيه (زوجته الحبيبة وعمه أبا طالب).
وكان ﷺ يذكرها دومًا بعد وفاتها، ويقول
(آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء)
[مسند أحمد]
وكان كلما ذُكرت عنده، رقّ قلبه، ودمعت عيناه
خديجة بنت خويلد ليست مجرد زوجة نبي، بل شريكة دعوة ونصرة، وهي أول من آمن برسالة الإسلام، وأول من ساند النبي ﷺ وهو وحده، قبل أن تؤمن قريش أو يدخل أحد الإسلام. كانت قلبًا مؤمنًا، وعقلاً راجحًا، وزوجة مخلصة.
فالعبرة أن المرأة تستطيع أن تصنع تاريخًا بالإيمان، والتضحية، والمساندة. وكان فضل خديجة لا يُنسى، حتى أثنى عليها جبريل، وبلغها السلام من الله عز وجل، ففازت بأعلى المقامات.
إعداد: رامة محمود دللي
عاد رسول الله ﷺ من لقائه الثاني بجبريل عليه السلام وقد اطمأن قلبه، واستقر في يقينه أنه رسول رب العالمين. بدأ يتأمل في عِظم الأمانة التي حُملها، ويخطط كيف يبلغها للعالمين. لكن البداية لم تكن في الأسواق ولا على رؤوس الجبال، بل كانت الدعوة همسًا رقيقًا في قلوب من يثق بهم ويحبهم، ممن عرفوا صدقه وأمانته قبل نبوّته.
فكانت أول من دعاها_ (خديجة بنت خويلد رضي الله عنها)، شريكة حياته، وسنده الأول، فحدثها بما رأى، وأخبرها أن جبريل جاءه بالوحي، وأن الله اصطفاه ليكون نبي هذه الأمة. فلم تتردد، ولم تسأله علامة أو برهانًا، بل نطقت بإيمان راسخ:
(والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق)
وكانت خديجة أول المؤمنين به، وأول من صلى معه. ومن قلب بيت النبوة، انتقل نور الإيمان إلى بيت آخر قريب، إلى بيت ابن عمه (علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، الذي كان يعيش في كنف النبي منذ صغره.
ذات يوم، وقف (علي بن أبي طالب ) ينظر إلى رسول الله ﷺ وخديجة وهما يصليان، ولم يكن قد سمع عن الإسلام من قبل. فسأل رسول الله ﷺ:
(يا محمد، ما هذا ؟)
فأجابه النبي ﷺ بلطف، شارحًا له أنه رسول الله، وأن الله أمره بعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام.
تريث عليّ وقال: (إن هذا أمر لم أسمع به من قبل، حتى أستشير أبي)
لكن النبي ﷺ، وهو يعلم أن الأمر جديد وغريب على قريش، قال له:
(يا علي، إن لم تسلم فاكتم)
فبات عليّ تلك الليلة يفكر، ولم يطل تفكيره، فما إن أصبح الصباح حتى جاء إلى رسول الله ﷺ وقال:
(أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)
فكان علي بن أبي طالب أول من أسلم من الصبيان، وظل يخفي إسلامه خشية قومه، وكان يصلي سرًا مع النبي ﷺ.
وذات مساء، دخل أبو طالب على عليّ، فرآه يقف خلف محمد ﷺ يُصلي، فتغير وجهه وقال له:
(يا بُني، ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟)
فقال علي: (يا أبتِ، إني آمنت بالله ورسوله، وصليت معه)
فتأمل أبو طالب في وجه علي، ثم نظر إلى ابن أخيه محمد ﷺ وقال له:
(يا ابن أخي، امضِ لما أُمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، ولكن لا تذكر بأمر أخيك عندي شيئًا، فإني لا أحب أن يفارِق دين آبائه)
ثم التفت إلى عليّ وقال له كلمات تهتز لها القلوب:
(أما إنه لا يدع دين محمد إلا كل ضعيف الرأي. فاتبعه، فهو لا يأمرك إلا بخير)
أما الصديق الحميم،( أبو بكر بن أبي قُحافة رضي الله عنه)، فقد كان ممن عرفوا محمدًا ﷺ قبل النبوة بصفاء روحه، وصدق حديثه، ونُبل خلقه. فلما دعاه النبي ﷺ إلى الإسلام، لم يتردد، ولم يسأل دليلًا، بل قال:
(صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)
ثم بدأ أبو بكر في دعوة من حوله، فجاء بخمسة من أعمدة الإسلام الأوائل: (عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنهم جميعًا.)
وهكذا، بدأ نور الإسلام ينتشر في البيوت الطاهرة، في صمت وسرية، يحمله الرجال والنساء والأطفال، كلٌّ منهم يضمر في قلبه حبًا لله ورسوله، وانتظارًا لأمر الله بالجهر.
وهكذا، بدأت الدعوة من بيت متواضع، ومع قلوب مخلصة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، لكنهم حملوا نور الإسلام للعالم كله.
كانت البداية صبرًا وإيمانًا ويقينًا، لم تكن قوة السلاح، بل قوة القلب.
فالرسالة العظيمة تبدأ باليقين، وينصرها الثبات، وينتشر نورها بالصدق.
وفي( خديجة وعلي وأبي بكر)، نرى كيف يختار الله قلوبًا طاهرة لتكون أوّل من يشهد الحق، وينصر نبيّه في اللحظة التي لا يرى فيها إلا القليل.
فالعبرة: أن العمل الصادق لله، وإن بدأ ضعيفًا خافتًا، فهو بإذن الله لا يُهزم، بل يمتد نوره إلى أفق الدنيا والآخرة.
إعداد: رامة محمود دللي
نزول الوحي_ اللحظة التي غيّرت العالم
في الأربعين من عمر نبي الله محمد ﷺ بدأ قلبه يشتاق للحق، ويأنف من ظلمات الشرك التي غرق فيها قومه. كان يرى الأصنام تعبد، ويُشرب الخمر، وتُؤكل أموال الضعفاء، وتُوأد البنات، فآلمه ذلك كله.
فأخذ يتحنث في غار حراء ( يتعبد ويتأمل في ملكوت الله ) يبتعد عن ضوضاء مكة، يحمل زاده من الطعام، ويقضي الليالي الطوال هناك يفكر في عظمة الله وفي هذا الكون الواسع.
وكان هذا من تهيئة الله له ليحمل الرسالة العظمى.
وفي ليلة من ليالي رمضان المباركة، وبينما هو في الغار
إذا بالنور يملأ المكان، (وجبريل عليه السلام ) أمامه يقول له
(اقرأ)
فقال النبي ﷺ وهو يرتجف
(ما أنا بقارئ)
فضمه جبريل بقوة حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله وقال:
(اقرأ)
فقال
(ما أنا بقارئ)
ففعلها ثلاثًا حتى قال جبريل
(ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ (2) ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ)
[العلق: 1-3]
فارتج قلب النبي ﷺ وملأه الخوف، فهو أول مرة يرى مثل هذا المشهد العظيم، وهو في غار مظلم قد خلا بنفسه.
فنزل مسرعًا إلى زوجته (خديجة بنت خويلد ) رضي الله عنها وهو يقول:
(زملوني_ زملوني)
فغطته وهدأته حتى ذهب عنه الروع. فقال لها وهو خائف
(لقد خشيت على نفسي)
فقالت له خديجة رضي الله عنها كلامًا يثبت الجبال:
(كلا والله ، لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)
ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل بن أسد القرشي
هو ابن عم السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكان من سادات قريش المرموقين، عُرف عنه الحكمة والمعرفة.
_كان على دين النصرانية قبل بعثة النبي ﷺ، وكان قد تنصّر بعد أن قرأ في كتب أهل الكتاب.
_ كان يعلم أن الله سيبعث نبيًا في هذه الأمة، وكان يتمنى أن يدركه لينصره.
_ لما أخبرته خديجة بخبر نزول الوحي على النبي ﷺ، قال له ورقة
(هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعًا حين يخرجك قومك)
أي: ليتني أكون شابًا قويًا لأدافع عنك حين يخرجك قومك من مكة.
قال النبي ﷺ:
(أوَمخرجيّ هم ؟)
قال ورقة:
(نعم، ما جاء رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)
بشره بأن قومه سيعادونه كما عُودي الأنبياء من قبله.
وهذا فيه إشارة واضحة من ورقة أنه أيقن بنبوته، وعرف أنه النبي المنتظر
ومات ورقة بعد ذلك بقليل، قبل أن يبعث النبي ﷺ في الدعوة الجهرية، ولم يُذكر له موقف بعد هذه الحادثة.
وقد قال بعض العلماء: هو من أهل الفترة الذين يُرجى لهم الخير، والله أعلم.
بعدما ذهب النبي ﷺ إلى ورقة وسمع منه أن الذي جاءه هو الناموس الأكبر (أي جبريل عليه السلام)، وأنه نبي هذه الأمة
ظل النبي ﷺ بعد ذلك فترة قليلة يفتر عنه الوحي ( كما جاء في الصحيحين ) أي: توقف نزول الوحي، فانقطع جبريل عنه مدة.
وهنا دخل عليه شيء من الهم والخوف، بل ذكرت بعض الروايات أن ذلك أحزنه كثيرًا، وأحس بثقل المهمة.
ثم فجأة ( كما روى البخاري ) بينما كان النبي ﷺ يمشي في بعض نواحي مكة، رأى جبريل مرة أخرى.
قال رسول الله ﷺ:
(فبينا أنا أمشي، سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففزعت منه، فرجعت فقلت: زمّلوني، زمّلوني)
(رواه البخاري)
فنزل عليه حينها أولى آيات سورة المدثر
قال تعالى
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ (1) قُمۡ فَأَنذِرۡ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ (4) وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ (5)) (المدثر : 5)
وهنا بدأ العهد الثاني مع جبريل عليه السلام، وكان هذا إيذانًا ببدء النبوة والتكليف العلني.
ولم يعد النبي ﷺ بعد هذه الرؤية يخاف من لقاء جبريل عليه السلام، بل اعتاد رؤيته كما يشاء الله.
فهذه الرؤية التي رآها للنبي ﷺ بعد لقاء ورقة، أكدت له نبوته ورسالته، وكان جبريل يعرفه بنفسه مباشرة، وأمره الله أن يقوم وينذر الناس.
اللقاء الثاني مع جبريل كان لإزالة الخوف وإعلان بداية الرسالة وهكذا بدأت رحلة النبوة
بدأت بالخشية والخوف، ثم أيقن بعدها أنها رحمة للعالمين، وأن الله اختاره ليكون خاتم الأنبياء.
سورة المزمل من أوائل السور نزولًا بعد بدء الوحي، وهي من السور المكية الأولى،
وفيها خطاب الله تعالى لنبيه ﷺ بقوله
( يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ (1) قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا (2) نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا (3) أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا (4)) [المزمل: 1-4]
وقد سماه الله بـ (المزمل) لأنه كان متزمّلًا بثوبه عندما جاءه الوحي أول مرة، أو لأنه كان يتحنث في الغار ويتغطى.
والسورة كانت بمثابة إعداد للنبي ﷺ لتحمل أعباء الدعوة، وأمره بقيام الليل حتى يشحن قلبه بالإيمان والقوة.
هل أمره الله بقيام الليل في أول الدعوة؟
نعم
الآيات الأولى من سورة المزمل كانت أمرًا للنبي ﷺ بقيام الليل أكثره أو نصفه أو أقل منه،
لأن قيام الليل كان زاد الدعاة وصبرهم على الشدائد.
ثم خُفف عنه لاحقًا في آخر السورة
(إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ (20) )
خلاصة القول
_نعم، المزمل من أوائل السور، وأمر فيها بالقيام
_الوضوء والصلاة مع جبريل لم يثبت في اللقاء الثاني بشكل صريح
_الصلاة فُرضت رسميًا بعد الإسراء والمعراج، وقبلها كان يصلي ركعات نافلة
هل نزلت سورة الفاتحة بعد المزمل والمدثر؟
نعم، كثير من أهل التفسير والسير قالوا إن سورة الفاتحة نزلت بعد بدايات الوحي، وهي أول سورة كاملة نزلت لتكون صلاة وقراءة وذكر،
وهي التي فُرضت في الصلاة، ولهذا سميت (أمّ الكتاب).
وبعض المفسرين قالوا إنها نزلت قبل المزمل والمدثر، لكن الأرجح عند جمهور العلماء أنها نزلت بعد بداية الوحي، لتكون دستور العبادة.
هل انقطع جبريل عن النبي بعد نزول أول الوحي؟
نعم، ثبت في الصحيحين أن بعد أول نزول الوحي ، أي بعد قول جبريل: (اقرأ)
فتر الوحي عن النبي ﷺ فترة (قيل أربعين يومًا، وقيل أكثر) حتى حزن النبي وظن أن الله تركه،
حتى جاءه جبريل بسورة:
(وَٱلضُّحَىٰ (1) وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3)) [الضحى: 1-3]
وهذا الانقطاع حكمة من الله ليشتاق النبي للوحي ويتهيأ قلبه لحمل الرسالة العظيمة.
وهذه الفترة يسميها العلماء بـ (فتور الوحي).
العبرة
إنّ الله يختار رسله ويهيئهم لحمل الأمانة، ويصطفي قلوبهم ليكونوا قدوة للعالمين.
ورغم عظمة النبوة، فإن بداية الدعوة كانت بالصبر والخوف والتهيئة، حتى يُعلّمنا الله أن الدعوة تحتاج إلى تثبيت من الله، وصبر على الفتن، وانتظار لأمر الله وتدبيره.
فالرسالة لا تُحمل بالاندفاع وحده، بل بالإيمان واليقين والثبات، كما ثبت رسول الله ﷺ.
الخاتمة
قصة بدء الوحي وبعثة النبي ﷺ تذكّرنا أن كل عمل عظيم يبدأ بخطوات يسيرة، لكنها مليئة بالإخلاص والصبر والثقة بالله
ومن سار على طريق الدعوة والتوحيد، فالله معه ولن يتركه.
وهكذا كان نبينا محمد ﷺ، خير قدوة، وأول الدعاة، وأعظم الصابرين.
اللهم صل وسلم عليه عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
إعداد: رامة محمود دللي
كفالة الرحمة_ كيف كان أبو طالب سندًا للنبي ﷺ
لما تُوفي عبد الله والد النبي ﷺ قبل مولده، تولته أمه آمنة، فلما ماتت وهو ابن ست سنين، ضمه جده عبد المطلب، ولم يلبث أن تُوفي جده وهو في الثامنة، فانتقل الحبيب ﷺ إلى كفالة عمه أبي طالب، ليجد عنده الحنان والرعاية.
كان أبو طالب يُحبه حبًا جمًا، حتى إنه كان لا ينام إلا والنبي ﷺ إلى جواره، ولا يأكل إلا معه، وكان يأخذه معه في رحلات التجارة، منها رحلته إلى الشام، وهناك لقي الراهب بَحيرا الذي عرف في وجه النبي ﷺ علامات النبوة، فطلب من أبي طالب أن يرجع به خوفًا عليه من اليهود.
سفر النبي ﷺ مع أبي طالب إلى الشام
لما بلغ النبي ﷺ سن الثانية عشرة، خرج مع عمه أبي طالب في قافلة إلى الشام، وهناك لقيا الراهب بحيرا الذي رأى علامات النبوة على محمد ﷺ، فقال لأبي طالب:
(ارجع به، فإن له شأنًا عظيمًا)
وهذا مما زاد تعلق أبي طالب بابن أخيه.
بداية البعثة وموقف أبي طالب
لما أُرسل النبي ﷺ بالنبوة، كان أبو طالب لا يزال على دين قومه، لكنه وقف مع النبي ﷺ يحميه من أذى قريش، وكان يقول شعراً في مدحه والثبات معه.
ومن أبيات أبي طالب المشهورة
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أُوسد في التراب دفينَا
ورغم دعوة النبي ﷺ له إلى الإسلام مرارًا، كان يرد بلطف لكنه لم يعلن إسلامه.
أبو طالب كان من كبار سادة قريش وزعماء بني هاشم، وكان يحترم دين آبائه ويقدّسه، ويرى أن ترك دين الآباء والأجداد عار وخزي في عرف قريش.
مع أنه كان يعلم صدق النبي ﷺ ويصدقه في قلبه، إلا أن الكبرياء والتمسك بالعادات الجاهلية وقوانين القبيلة جعله يموت على ملة عبد المطلب.
ولهذا قال له النبي ﷺ عند موته:
(يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)
فقال:
(لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك)
(رواه الإمام أحمد)
أي: لولا الخوف من سخرية قريش وتعيرهم له بترك دين الآباء
ما هي عادات سادة قريش التي تمنعهم من تغيير دينهم؟
_اعتزازهم بالأصنام ودين الأجداد
_خوفهم من السخرية والعار بين القبائل
_ربط الدين بالزعامة والجاه
_الخوف من زوال مكانتهم بين العرب إن اتبعوا محمدًا ﷺ
حادثة الحصار في شعب أبي طالب
حينما قاطعت قريش بني هاشم، دخل أبو طالب مع النبي ﷺ ومع قومه الشعب وصبروا ثلاث سنوات على الحصار والجوع، ولم يخذل النبي ﷺ.
حديث تخفيف العذاب عن أبي طالب
قال ﷺ
(لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ)
[صحيح البخاري 3883]
أن شفاعة النبي ﷺ خففت عن أبي طالب العذاب، فجُعل في ضحضاح (موضع قليل الماء أو نار خفيفة) من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه.
ولولا مكانة النبي ﷺ عند الله، لكان أبو طالب في أشد العذاب ، أي في الدرك الأسفل من النار.
وهذا يدل على أن شفاعة النبي ﷺ تنفع في تخفيف العذاب للكفار الذين خدموا الدين دون أن يسلموا، لكنها لا تُخرجهم من النار.
وفاة أبي طالب وآثارها على النبي ﷺ
ظل أبو طالب وفيًّا لرسول الله ﷺ، يدافع عنه أمام قريش، ويصبر على الأذى لأجله، لكنه مع ذلك لم يُعلن إسلامه، رغم أن النبي ﷺ كان شديد الحرص على ذلك، حتى لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي ﷺ فقال:
«يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله»
لكن أبا طالب أبى إلا أن يموت على ملة عبد المطلب، فقال الله تعالى عن هذا الموقف في سورة القصص
قال الله تعالى:
(إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ) [القصص: 56]
وكان حوله أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فظل يرددون عليه حتى مات وهو يقول على ملة عبد المطلب
توفي أبو طالب في عام الحزن، قبل الهجرة بثلاث سنوات تقريبًا، وكان عمر النبي ﷺ حوالي خمسين عامًا، فحزن عليه النبي ﷺ حزنًا شديدًا؛ لأنه فقد السند الذي كان يحميه من أذى قريش.
الخلاصة والعبرة
كان أبو طالب سندًا دنيويًا للنبي ﷺ، ورغم أنه لم يدخل الإسلام، إلا أن الله خفف عنه العذاب ببركة شفاعة النبي ﷺ، وفي ذلك درس في الوفاء وصبر الداعية على قومه، والاعتماد على الله وحده في الهداية.
الخاتمة
وهكذا مضت حياة نبي الله محمد ﷺ مع عمه أبي طالب مليئة بالمواقف التي أظهرت وفاء العائلة، ورقة قلب النبي ﷺ، وصبره على الأذى، ومحبته لمن أحسن إليه، لكنها أيضًا حملت أعظم درس، أن الهداية بيد الله وحده، لا يملكها نبي ولا ولي.
ومع وفاة أبي طالب، بدأ فصل جديد من الدعوة، كان فيه النبي ﷺ أكثر اعتمادًا على ربه، صابرًا محتسبًا، حتى أتم الله له النصر والتمكين.
إعداد: رامة محمود دللي
الرضاعة المباركة_ قصة حليمة والنبي المصطفى ﷺ
ولد (محمد بن عبد الله ﷺ) يتيماً، فقد توفي والده عبد الله وهو في بطن أمه آمنة بنت وهب. ولما وضعته أمه، بحثت كعادة العرب عن مرضعة له من نساء البادية؛ حيث كانوا يعتقدون أن العيش في البادية (أنقى للسان وأقوى للبدن).
وكانت (حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية) من بني سعد ممن خرجن إلى مكة يلتمسن رضيعاً، لكنها لم تجد إلا هذا اليتيم، فقبلته مكرهة لعلمها أنه يتيم ولن تنال من أمه شيئاً من أجر، فكان الله قد قدر لها خيراً كثيراً.
ما إن حملته إلى خيمتها حتى أقبل الخير مع قدومه؛ فجف الضرع فدرّ لبناً بعد يبس، ونهضت ناقتها الضعيفة تسابق الركب. تغير حال حليمة وزوجها وأولادها، حتى صاروا يروْن بركةً لم يعهدوها من قبل، فكان أخوه من الرضاعة هو (عبد الله بن الحارث بن عبد العزى) ابن حليمة من صلبها.
ولما بلغ (سنتين) ، وأرادت حليمة أن تعيده إلى أمه، ألحّت عليها أن تدعه معها خوفاً عليه من وباء مكة، فعاد معها ومكث عندهم.
وفي يوم من الأيام، كان مع أخيه في البادية يرعيان، فجاءه رجلان بلباس أبيض، فأضجعاه وشقّا صدره واستخرجا منه (علقة سوداء)، فقالا: (هذا حظ الشيطان منك)، ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم.
رآه أخوه ففزع وعاد يخبر حليمة، فجاءت مسرعة فوجدته واقفاً متغير اللون. خافت عليه وأعادته لأمه.
ومرت الأيام، وكبر الحبيب ﷺ، حتى أذن الله له (بالنبوة).
وبعد أن فتح مكة ودخلها قائداً منتصراً بعد خمسة وخمسين عاماً، أبصر عند مشارفها امرأةً عجوزاً، فلما رآها دمعت عيناه، إنها حليمة السعدية. فبسط لها رداءه إجلالاً لها، وقال: (هذه أمي)، وأكرمها غاية الإكرام.
وهكذا
كانت حليمة السعدية شاهداً على بركة النبي ﷺ منذ أول لحظة احتضنته فيها، ولم يكن ذلك أثراً مادياً فحسب، بل دلائل من الله على عناية خاصة بنبيه المختار.
وبرّت الأيامُ الجميلةُ قلوبَ الأوفياء، حتى كان رسول الله ﷺ في قمة مجده لا ينسى فضل مرضعته وأمّه الثانية، ليبقى درسه لنا خالداً: الوفاء لأهل الفضل والبر، والاعتراف بحقوقهم مهما تعاقبت السنين.
وهكذا كان الحبيب المصطفى ﷺ نبيًّا عظيماً، وإنساناً وفيًّا، ومثلاً أعلى في الأخلاق والرحمة.
إعداد: رامة محمود دللي
نور الوجود_ قصة خاتم الانبياء محمد ﷺ
في قلب جزيرة العرب، وفي مكة المكرمة، وُلِد نور النبوة وخاتم الرسل، (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف)، من سلالة كريمة تعود إلى (إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام). نسبه أعلى وأشرف نسب بين العرب.
توفي عبد الله والد النبي ﷺ وهو في بطن أمه، وكان في رحلة تجارة إلى الشام، وعاد في طريقه مريضًا فمات بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار.
أمه: آمنة بنت وهب ، من بني زهرة، من أنقى قبائل قريش نسبًا وشرفًا.
وهو النبي الذي اصطفاه الله من أشرف بيت، وأكرم نسب، كما قال ﷺ
(إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)
(رواه مسلم)
كان العرب في ذلك العصر غارقين في الجاهلية، يعبدون الأصنام، ويفتخرون بالأنساب، ويئدون البنات، ويتطاولون بالظلم والفساد، فجاء محمد ﷺ ليكون خاتم النبيين ورحمة الله للعالمين.
قال الله تعالى:
(وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ)
[الأنبياء: 107]
في عام الفيل، السنة التي حاول فيها أبرهة الحبشي هدم الكعبة، شاء الله أن يولد خاتم النبيين، محمد بن عبد الله ﷺ، فكان ميلاده نورًا غيّر مجرى التاريخ.
ولد ﷺ في مكة المكرمة، يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول ، وهو الأرجح عند كثير من العلماء ، في بيت شريف من بيوت بني هاشم.
هي من بيت شريف من بني زهرة، رأت في حملها بالنبي ﷺ رؤيا عجيبة، قالت كما في السير
(رأيت أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بُصرى من أرض الشام)
والمعنى أن آمنة حين حملت بالنبي ﷺ، رأت في منامها أو يقظتها ،على خلاف الروايات ، نورًا يخرج منها يضيء قصور بُصرى (مدينة بالشام)، وهو إشارة رمزية من الله تعالى لعِظم قدر المولود، وأن رسالته ستبلغ الآفاق، وينتشر دينه حتى يصل إلى بلاد الشام وما حولها، وهذا إشارة إلى بشارة النبوة.
وفي نفس تلك الليلة، وقعت علامات عجيبة
_ارتجّ إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة.
_انطفأت نار فارس التي كانت تُعبد ولم تنطفئ منذ ألف عام.
_غاضت بحيرة ساوة.
وكلها دلائل على أن نبوءة عظيمة قد أقبلت.
وُلِد يتيم الأب، فعاش في حجر أمه آمنة، ثم كفله جده عبد المطلب بعد وفاة أمه، ثم كفله عمه أبو طالب بعد وفاة جده، فشاء الله أن ينشأ النبي ﷺ بين اليُتم ليعتمد على الله وحده.
قال الله تعالى
(أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ)
[الضحى: 6]
أراد الله أن ينشأ نبيه بعيدًا عن مظاهر الجاهلية، فلا يتربى مدللًا في بيت ملك، ولا متكبرًا في بيت جاه، بل يتربى بين قومه يعرف ما فيهم من طباع ليقودهم ويهديهم بعد ذلك.
كانت ولادته ﷺ إيذانًا ببزوغ فجر النور على العالم كله، بعد أن غرق في ظلمات الجاهلية، فهو اليتيم الذي أصبح أعظم قائد ومُعلم في التاريخ.
أرضعته أولًا ثويبة مولاة أبي لهب أيامًا، ثم أخذته المرضعة المشهورة حليمة السعدية من بني سعد، فعاش في مضارب بني سعد ورأى الخير والبركة تحل أينما حلّ.
عندما بلغ ﷺ ست سنوات، خرجت به أمه آمنة بنت وهب إلى يثرب لزيارة أخواله من بني عدي بن النجار، ومعهم أم أيمن الحاضنة،
وفي طريق العودة، وفي مكان يُسمى الأبواء بين مكة والمدينة، توفيت أمه، فوجد نفسه يتيم الأم بعد أن كان يتيم الأب.
أخذه جده عبد المطلب إلى بيته بمكة، وكان شيخًا وقورًا سيدًا من سادات قريش، أحبه حبًا شديدًا وكان لا يفارقه، حتى إنه كان يجلسه على فراشه المخصص له عند الكعبة.
ولم تلبث سنتان حتى توفي جده، وعمر النبي ﷺ ثمان سنوات، فأوصى به إلى عمه أبي طالب، الذي كان فقيرًا لكنه كان يحيطه بعناية شديدة ويلازمه دائمًا.
هكذا أراد الله لنبيه أن يُربى بين فقد الأحباب والأهل، ليكون معتمدًا على الله وحده، مهيئًا لحمل أمانة النبوة العظيمة.
قال الله تعالى:
(أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغۡنَىٰ)
[الضحى: 6-8]
وفي الختام، لقد كان ميلاد نبي الله محمد ﷺ نورًا أضاء الدنيا، وبشارةً للبشرية بالخلاص والهداية، فمنذ لحظة مولده كانت إرهاصات النبوة تظهر، ليكون رحمة للعالمين وخاتمًا للأنبياء والمرسلين.
إعداد: رامة محمود دللي
في أرض فلسطين، وفي زمن اشتد فيه الفساد وانحرفت بني إسرائيل عن هدي الله، كانت امرأة طاهرة نقية، اصطفاها الله وفضلها على نساء العالمين، إنها (مريم بنت عمران).
اعتزلت مريم الناس وتعبدت ربها في المحراب، حتى جاءها (جبريل عليه السلام ) على هيئة بشر سوي، ففزعت منه وقالت:
(قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا)
[مريم: 18]
فأخبرها أنه رسول من ربها ليهب لها غلامًا زكيًا. تعجبت مريم: كيف يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟
(قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا) [مريم: 21]
فنُفخ فيها الروح، فحملت (بعيسى عليه السلام،) ثم اعتزلت مكانًا بعيدًا حتى جاءها المخاض تحت جذع النخلة، فتمنت الموت من شدة الألم. وكيف تعود الى قومها بالطفل وماذا تقول لهم فأوحى الله إليها أن لا تحزن،
(فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا (27) يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا (28) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا (29))
فأنطق عيسى وهو في المهد ليكون أول معجزة
(قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا (31) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا (32) وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا) [مريم: 30]
بعثه الله إلى بني إسرائيل، وأنزل عليه (الإنجيل)، وأيده بالروح القدس (جبريل عليه السلام) كان عيسى ابن مريم عليه السلام يعمل (نجّارًا)
وورد في كتب التفسير والآثار أن عيسى عليه السلام كان يعمل بيده، ويتكسب من صنعته، وكان هذا دليلًا على تواضعه وزهده، رغم ما أُعطي من المعجزات.
(وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ ) [آل عمران: 49]
وكان لعيسى عليه السلام معجزات باهرة
يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله.
يبرئ الأكمه والأبرص.
يحيي الموتى.
يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون.
دعا الله فأنزل عليه مائدة من السماء.
قال تعالى
(أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ (51)) ( ال عمران 51)
الحواريون هم أنصار نبي الله عيسى عليه السلام المخلصون، الذين آمنوا به وصدّقوه وناصروا دعوته في وجه تكذيب بني إسرائيل له. اختارهم عيسى من بين قومه ليكونوا أقرب الناس إليه، وينشروا رسالة التوحيد التي جاء بها.
قال الله تعالى:
(فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ) [آل عمرا ن 52]
معنى (الحواريين)
قيل: سُمّوا بذلك لخلوصهم وصفاء نيتهم ونصرتهم لعيسى عليه السلام، من (البياض والنقاء)
وقيل: كانوا غاسلين للثياب أو خبازين، أي أصحاب مهن بسيطة، لكن قلوبهم صافية مخلصة.
عددهم:
جاء في بعض الروايات أنهم كانوا (اثني عشر رجلًا)، وقد أرسلهم عيسى عليه السلام لنشر دعوته في أرجاء الأرض.
موقفهم من عيسى عليه السلام:
وقفوا إلى جانبه حين كذّبه قومه، وطلبوا منه أن يدعو ربّه لإنزال مائدة من السماء، كما في قوله تعالى:
(إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡهَا مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (113))
(المائدة113)
الحواريون مثال رائع على الإيمان الصادق، والنصرة في أوقات الشدة، فكانوا أنصار الله بحق، فخلد الله ذكرهم في القرآن الكريم ليكونوا قدوة لكل من ينصر دينه ويصبر على الأذى.
كان بنو إسرائيل في تلك المرحلة قد ابتعدوا كثيرًا عن تعاليم التوراة، وفسدت طبقاتهم الدينية، خصوصًا علماءهم وكهنتهم، الذين حرّفوا كلام الله، وتلاعبوا بالأحكام الشرعية، وارتبطوا بالحكام الظلمة لأجل المال والسلطة.
قال الله تعالى عنهم:
(يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) [النساء: 46]
بعث الله عيسى بن مريم عليه السلام إلى بني إسرائيل نبيًا من أنفسهم، لا ليأتي بدين جديد، بل ليُجدّد دين التوحيد ويُصحّح ما أفسده (أحبار اليهود).
رغم كل هذه الآيات، كذّبوه وأبغضوه لعدة أسباب
1.الحسد والبغضاء:
كان من المفترض أن يُبعث النبي من نسل الرجال، فحين جاء عيسى من امرأة بلا أب، قالوا: كيف يُبعث نبي من غير أب؟ وكيف يكون من امرأة فقيرة مثل مريم؟
﴿قَالُوا۟ هَٰذَا سِحْرٞ مُّبِينٌ﴾ [آل عمران: 49]
2. خوف الأحبار من فقدان سلطتهم:
كان عيسى عليه السلام يدعو إلى طهارة القلب ورفض الرياء، وكان يُعارض صراحة فساد الكهنة والربّانيين الذين جعلوا الدين تجارة، فخشوا أن يُفضحوا أمام الناس.
الأحبار هم:
علماء بني إسرائيل من اليهود، وهم المتخصصون في تفسير التوراة وعلوم الدين، مثل: الحلال والحرام، الأحكام، التشريعات، القصص، وغير ذلك.
ورد ذكر الأحبار في عدة مواضع، منها قوله تعالى:
(لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ) [المائدة: 63]
أي أن علماءهم ووعاظهم لم ينهوا الظالمين عن الباطل، مع أنهم كانوا يعلمون الحق.
3. رفض التغيير وتقديس التقاليد:
رفضوا دعوته لأنهم اعتادوا على دينهم المحرّف، وكرهوا التغيير، فأنكروا أن يكون هذا هو المسيح المنتظر.
قال الله:
(فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ) [مريم: 37]
4. اتهامه بالسحر والجنون:
اتهموه بأنه ساحر ومجنون، مع أن معجزاته كانت من عند الله.
(وَقَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٌ) [الصافات: 15]
5. محاولة قتله:
بلغ كرههم له أنهم تآمروا على قتله وسعوا إلى تسليمه للرومان، ولكن الله رفعه إليه.
قال الله:
(وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ) [النساء: 157]
لم يقتلوا عيسى عليه السلام، ولم يصلبوه، بل ظنوا أنهم قتلوه وصلبوه، وقد ألقى الله شَبَهَه على غيره، فقتلوه وهم يظنون أنه هو، ورفع الله عيسى إليه حيًّا.
(بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا) [النساء: 158]
عيسى عليه السلام لم يُقتل، بل رفعه الله إليه، وسيعود في آخر الزمان ليكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويقيم العدل.
مع أن معجزاته واضحة، إلا أن من آمنوا به كانوا قلائل، وهم الحواريون وبعض المستضعفين. أما الأغنياء والمتنفّذون فقد أعرضوا وصدّوا الناس عن دعوته.
قال الله:
(فَـَٔامَنَت طَّآئِفَةٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٞۖ فَأَيَّدۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَٰهِرِينَ (14)) [الصف: 14]
قصة تكذيب بني إسرائيل لعيسى عليه السلام تذكّرنا بأن الحق لا يُقاس بكثرة الأتباع، بل بالصدق والإخلاص. فقد يكذّب الناس نبيًا من عند الله لأنه خالف أهواءهم، أو فضح ظلمهم، أو لم يأتِ على هواهم.
من أروع ما جاء عن عيسى عليه السلام أنه بشّر بقدوم خاتم النبيين:
(وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ) [الصف: 6]
رآه رسول الله ﷺ ليلة الإسراء والمعراج في السماء الثانية أو الرابعة، وقال:
(رأيت عيسى ابن مريم، مربوعًا، مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأنما خرج من ديماس)
(رواه البخاري ومسلم)
النبي ﷺ يصف عيسى عليه السلام بأنه:
_معتدل الطول والجسم.
_ذو بشرة بيضاء تميل للحمرة.
_شعره ناعم مستقيم.
_وجهه وشعره كأن عليهما أثر رطوبة ونضارة، كأنه خرج من حمّام بخار.
هذا الوصف يُظهر جمال عيسى عليه السلام، ويُخالف الصور المحرفة التي رسمها بعض أهل الكتاب له، كما يرد على من ينسب له صفات باطلة أو يشوّه خلقه الشريف.
ذكرت بعض الروايات في الإسرائيليات معلومات مختلفة، منها أن بني إسرائيل انقسموا فيه، فقال بعضهم هو الله، وبعضهم ابن الله، وبعضهم عبد الله، وهذا وافق ما جاء في القرآن:
(فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ) [مريم: 37]
عيسى عليه السلام نبي كريم، وكلمة الله التي ألقاها إلى مريم، جعله الله آية ورحمة للعالمين، ومثالاً في الصبر والدعوة إلى التوحيد رغم شدة الابتلاء. وها هو بشر بمجيء النبي محمد ﷺ، ليكون الإسلام ختام رسالات السماء.
إعداد: رامة محمود دللي
في بيت من بيوت النبوة وُلد فتى ليس كمثله فتى... وُلد من أبوين كانا قد بلغا من الكِبر عتيًّا، وكان أبوه نبيًّا صالحًا هو زكريا عليه السلام. وكانا قد طال اشتياقهما إلى ولد يرث النبوة ويقيم الدين. رفع زكريا يديه إلى السماء وقال:
(رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ) (آل عمران: 38)
وكانت الاستجابة المعجزة
(فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ)
(آل عمران: 39)
ولد يحيى، وكان اسمه معجزة في حد ذاته
(يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا) (مريم: 7)
فلم يُسمّ أحد قبله بهذا الاسم المبارك.
كان يحيى منذ صغره آيةً في النقاء والطهارة، فلم يكن له تعلق بالدنيا، بل امتلأ قلبه بخشية الله. وصفه القرآن بصفات عظيمة
(وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا (12) وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا (13) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا) (مريم: 12–14)
كان زاهدًا، عابدًا، محبًّا للخير، يبكي من خشية الله. لا يلبس إلا الصوف، ولا يأكل إلا من نبات الأرض، ولا يقرب النساء ولا يلهو.
قال الله لنبيه يحيى
﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖ﴾
يا يحيى، خذ التوراة (الكتاب الذي أنزل على بني إسرائيل) بجدٍ واجتهادٍ، وعزيمةٍ، وقوة في الطاعة، والتزم أوامرها واجتنب نواهيها، وبلّغ ما فيها ولا تفرّط فيها، وكن مثالًا للجدّ في العبادة والعمل.
ليس المعنى الجسدي للقوة، بل المقصود: قوة العزم، وقوة الإيمان، وقوة الإرادة، والصدق في الاتباع.
كما قال الله لموسى عليه السلام
﴿خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖ﴾ (الأعراف: 145)
﴿وَءَاتَيۡنَـٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا﴾
أعطاه الله العلم والفهم والحكمة وهو لا يزال صبيًا صغيرًا، لم يبلغ سن النبوة المعتاد، وهذا يدل على مكانته العالية واصطفاء الله له.
كان يحيى أول من آمن بعيسى بن مريم، وبشّر به، ولذلك جاء في القرآن
(مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ) (آل عمران: 39)
أي مصدقًا (بعيسى)الذي وُلد بكلمة (كن)
وهو أول من دعا الناس إلى الإيمان (بعيسى عليه السلام)، وكان بينهما صلة روحية عظيمة، حيث إن أمهما كانتا قريبتين.
كان يحيى من أعظم من صدعوا بكلمة الحق، ولم يخشَ أحدًا. فحينما أراد ملك بني إسرائيل الزواج من امرأة لا تحلّ له (وقد ورد في الإسرائيليات أنها زوجة أخيه)، وقف يحيى في وجهه، وقال له: (لا يحل لك)
فأبغضته المرأة، وسعت في قتله، ونجحت بمكرها، فأمرت الملك أن يُقطع رأسه ويُقدم لها، فكان من الشهداء.
روت كتب السُّنَّة أن يحيى عليه السلام قُتل مظلومًا، وجاء في (المستدرك) وغيره عن ابن عباس:
(أن امرأةً بغت على الملك وطلبت من الملك رأس يحيى، ففُعل بها ما أرادت)
وجاء في بعض كتب بني إسرائيل أنه ذُبح وهو يصلي.
روى الإمام أحمد عن النبي ﷺ أنه قال:
(إن كل بني آدم يأتي يوم القيامة له ذنب إلا يحيى بن زكريا)
(مسند أحمد)
يُذكر أنه كان واعظًا قويًا، وأن الناس تأثروا بخطبه فتابوا من الذنوب، وكان يكتب التوراة بخط يده، ويبشر بعيسى، وكان ملك بني إسرائيل يخاف منه.
قصة نبي الله يحيى عليه السلام تذكرنا بقيمة الحق والثبات عليه مهما كلّف الثمن. كان طاهرًا في ولادته، وزاهدًا في حياته، وصادقًا في دعوته، وشهيدًا في وفاته. ترك الدنيا وهو نقيٌّ كأول يوم وُلد فيه.
من أراد أن يعرف معنى الطهر والخشية والشجاعة، فلينظر إلى (يحيى عليه السلام).
وفي نهاية سيرته، ختمها الله بسلام من عنده
(وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا) (مريم: 15)
إعداد: رامة محمود دللي
في زمانٍ شحّت فيه النبوات، وقلّ فيه الصادقون، وعمّ فيه الفساد والجهل بين بني إسرائيل، برز نبي من نسل الأنبياء، ومن بيتٍ طاهرٍ مبارك، عُرف بالحكمة والورع والعبادة، إنه( زكريا بن برخيا)، من ذرية نبي الله (داوُد عليه السلام) ومن نسل (يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.)
كان زكريا عليه السلام من الذين حملوا همّ الدعوة إلى الله، وأضاءوا ظلمة الانحراف الذي عمّ بني إسرائيل بعد أن طغى فيهم الأحبار والملوك، وانقلب الدين تجارةً ومناصب. وقف زكريا بثباتٍ وشجاعة، يدعوهم إلى التوبة والعودة إلى التوحيد، وكان في الوقت ذاته (إمامًا في بيت المقدس)، ومربّيًا للصغيرة الطاهرة (مريم بنت عمران) التي ستنجب في قادم الأيام آية من آيات الله.
ورغم مكانته وفضله، عاش زكريا عمره كله بلا ولد يرث العلم والنبوة، وكانت زوجته عاقرًا، وقد جاوز هو سنّ الشيب والضعف، ومع ذلك لم يقطع رجاءه في الله. إنَّ القلوب التي عرفت طريق الدعاء، لا تعرف اليأس ولا السكون، بل تطرق أبواب السماء بصبرٍ ودموع وثقة لا تهتز.
ومن هنا تبدأ واحدة من أعظم قصص الأنبياء، حيث يلتقي الدعاء بالاستجابة، وتغلب رحمة الله كل قوانين البشر، ويُولد نبي من رحم المستحيل.. إنه (يحيى)، الغلام الطاهر، الذي سيكون علامة على صدق نبوّة أبيه، ورمزًا للورع والطهر والعفاف.
كيف كان دعاء نبي الله زكريا ؟ وما علاقته بمريم ؟ وما تفاصيل تلك البشارة العظيمة التي هزّت أركان المحراب ؟
زكريا وكفالة مريم عليها السلام
دخل زكريا في قصة عظيمة مع آل عمران، فقد كانت مريم بنت عمران يتيمة الأم، وطلب والدها أن يُكفلها من بين الصالحين. فاحتكم القوم على من يكفلها، وكان زكريا من أقربهم نسبًا إليها، وكان متزوجًا من أخت مريم أو إحدى قريباتها.
قال تعالى في سورة آل عمران
(وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37)
كان يرى الطعام في غير موسمه عندها، فتعجب من رزق الله، وتيقّن أن الله قادر على أن يرزقه هو الآخر – رغم كبر سنه – بولد.
دعاؤه في المحراب
فلما رأى الكرامة التي تنزل على مريم، انكسر قلبه، ورفع يديه إلى الله داعيًا
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ) (آل عمران: 38)
هذه الآية تفتتح القصة، وتُعلن عن ذكر فضل ورحمة الله على عبده زكريا.
دعاء زكريا كان خفيًّا، أي في سرٍّ بينه وبين الله، خاشعًا متذللًا.
يعترف زكريا بكِبر سنه وضعف جسده، لكن مع ذلك لم ييأس من دعاء الله، فهو دائمًا يجيبه.
وهم هنا لا يُقصد بهم الموالي من (العبيد) بل
أقرباء زكريا من بني إسرائيل.وكان يخاف أن لا يكونوا صالحين ولا يحملون الرسالة من بعده
(إني خفت من الذين سيرثونني بعد موتي أن لا يكونوا على صلاح، ولا يقومون بأمر الدين كما ينبغي، فهب لي يا رب وليًّا صالحًا)
فخشي على الدين والعقيدة، لا على المال، وطلب من الله ولدًا صالحًا يتولّى أمر الدعوة من بعده.
أي يرث العلم والدين لا المال، ويكون محبوبًا عند الله ورضيًّا في خلقه.
بشارة من الله بولد يُدعى (يحيى) وهو اسم لم يُسمَّ به أحد قبله، تكريمًا له.
زكريا يتعجّب: كيف يُرزق بولد وزوجته لا تلد وهو قد شاخ ؟ لكنه ليس اعتراضًا، بل استعظام لقدرة الله.
رد الله عليه بأن خلق الولد ليس صعبًا عليه، فقد خلق زكريا من قبل ولم يكن شيئًا يُذكر.
زكريا طلب علامة، فكانت أن يُمنع من الكلام مع الناس 3 ليال وهو سليم الجسد والعقل.
خرج إليهم من محل عبادته وأشار إليهم (لأنه لا يستطيع الكلام) أن يُسبحوا الله صباحًا ومساءً.
البشارة بيحيى
فجاءه الفرج من عند الله
(فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ) (آل عمران: 39)
زكريا عليه السلام، لما سمع البشارة من الله بأنه سيرزق بغلام اسمه (يحيى)، تعجّب وقال:
(يا رب)، كيف يكون لي ولد ؟ وأنا قد بلغت من الكِبَر عتيًّا، وزوجتي عاقر لا تلد منذ شبابها، فكيف في الكِبَر؟
ولكنه لم يكن يشك في قدرة الله، بل كان يسأل عن الكيفية لا عن الإمكانية، لأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير. عندما بَشّر الله نبيه زكريا عليه السلام بأنه سيرزق بولد رغم كبر سنه وعقم زوجته، طلب زكريا علامة (آية) من الله ليتأكد أن الأمر قد بدأ.
فأجابه الله بأن العلامة ستكون أن لسانه يعجز عن الكلام مع الناس لمدة ثلاث ليالٍ، رغم أنه سيكون سليم الجسد والعقل (سويًّا)، أي لا مريض ولا أخرس، بل فقط يمنعه الله من النطق مع البشر.
وهذه كانت علامة ، تدل على أن ما بُشّر به قد تحقق، وأن الحمل بدأ فعلاً، وهي أيضًا تذكير لزكريا بأن يشغل هذا الوقت في الذكر والدعاء، لا في الكلام الدنيوي.
(قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ (40) قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ) (ال عمران 41)
فردّ عليه المَلَك (جبريل عليه السلام)
(هكذا أمر الله)
الله لا تعجزه الأسباب ولا يُحدّ بسنّ أو عُقم، فهو يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء، بدون قيود ولا موانع
مولد يحيى وحكمته
ولد يحيى، وكان نبيًا صغير السن، حسن الخلق، بارًّا بوالديه، شديدًا في الحق، يقول تعالى
(وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا (13) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا)
(مريم: 13-14)
وفات نبي الله زكريا
اختلف العلماء في وفاته، فقيل إن زكريا استشهد بعد يحيى، وقيل قبله، ويُرجح أن يحيى قُتل أولًا على يد طاغية بني إسرائيل، ثم استشهد زكريا بعده، وقيل إنه اختبأ في شجرة فشُقّت عليه.
قصة زكريا تعلمنا أن:
_لا يأس مع الدعاء، فالله يستجيب ولو بعد حين.
_الثقة بقدرة الله تفوق كل الأسباب.
_الإحسان والتقوى طريق النجاة.
_من يعمل من قلبه للحق، قد يُحارب، لكنه محفوظ بعناية الله.
قال تعالى
(وَزَكَرِيَّآ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِي فَرۡدٗا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡوَٰرِثِينَ (89) فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ يَحۡيَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ) (الأنبياء: 89-90)
رغم ضعفه وكبر سنه، وثق أن الله لا يعجزه شيء
إعداد: رامة محمود دللي
في أرض (حوران) الواقعة في بلاد الشام، عاش نبي من أنبياء الله الصالحين، كان من نسل نبي الله (إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام)، اسمه (أيوب عليه السلام ). وفي سياق ذكر ذرية إبراهيم من الأنبياء
قال تعالى
(وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ) (الانعام : 84)
أيوب عليه السلام من ذرية إبراهيم، وقد هداه الله واصطفاه نبيًّا مع بقية الأنبياء. جمع الله له بين نعمة المال، وكثرة الأولاد، والصحة، فكان له أراضٍ خصبة، ودواب، وعبيد، وذرية طيبة، وكان شكورًا لأنعم ربه، لا ينفك عن الذكر والتقوى.
لكن الله سبحانه أراد أن يجعل من أيوب آية في الصبر، فابتلاه ببلاء شديد متتابع.
ابتُلي أولاً بفقد ماله كله، ثم بموت أولاده، ثم بمرض عضال ألمّ بجسده، حتى قيل إنه لم يبق فيه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، فكان يذكر الله بهما ليل نهار. وابتعد عنه الناس خوفًا من العدوى، حتى أقرباؤه وأصحابه، ولم يبق معه إلا زوجته الصابرة الوفية، التي كانت تقوم على خدمته، وتحتطب لتكسب القوت.
ورغم ما أصابه، لم يفتر عن حمد الله، بل قال يومًا: (اللهم، أنت أعطيتني الصحة سبعين سنة، فلا بأس أن تأخذها مني سنين أخرى)
فجاء في القرآن الكريم:
(وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ) (الأنبياء: 83)
كان دعاؤه فيه تواضعٌ وأدب، فلم يقل (اشفني)، بل اكتفى بعرض حاله بين يدي أرحم الراحمين.
فاستجاب له ربه:
(فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰبِدِينَ) (الأنبياء: 84)
والله ذكر نبيه أيوب في سورة (ص)
(وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ) (ص: 41)
أي إن الشيطان أصابه بالوسوسة، وآلام الجسد والمحنة، فقال له ربه:
(ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ) (ص: 42)
أي: اضرب الأرض برجلك، فانفجرت له عين ماء، فاغتسل منها، وشرب، فعاد جسده كما كان، وعاد شبابه، ورد الله له صحته.
ثم رد عليه الله أهله الذين فقدهم، بل وضاعفهم
(وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ) (ص: 43)
حين طال بلاء أيوب عليه السلام، وكان فقيرًا مريضًا طريح الفراش لا يقوى على الحركة، اضطرت زوجته أن تخدم الناس وتطلب العمل لتوفر له الطعام والدواء، وقد كانت من أشرف النساء وأغناهن قبل البلاء.
وذُكر في بعض الروايات أن الحال اشتد جدًا، حتى لم تجد ما تطعمه له، فذهبت تطلب شيئًا من الناس، وربما باعت ضفائر شعرها (كما في بعض المرويات الإسرائيلية) أو ذهبت لطلب العون بطريقة رآها نبي الله أيوب غير لائقة بمقام النبوة، أو فيها نوع من التهاون في أمر الصبر والتوكل.
فغضب نبي الله أيوب من تصرفها هذا، ووجد في ذلك مساسًا بكرامته وثقته بالله، وقال لها:
(لَئِن شفاني الله لأضربنك مئة جلدة)
أي: أقسم على ذلك، لكنه ندم بعد أن شفاه الله، لأنه يعلم أنها كانت صابرة ومخلصة.
لما شفاه الله، أرشده إلى حل لطيف ورقيق، حتى لا يحنث بقسمه، ولا يظلم زوجته الطيبة
(وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ) (ص: 44)
أي: خذ حزمة من الأعواد الصغيرة (الضِغث)، واضرب بها ضربةً واحدة لتُبرَّ بيمينك، ولا تقع في الحنث (أي لا تكون ناقضًا ليمينك)، لأنك أقسمت أن تضرب زوجتك مئة جلدة، وهي لم تستحق ذلك.
فكان هذا تخفيفًا ورحمة من الله، لئلا يحنث أيوب عليه السلام، وفي الوقت ذاته لا يظلم زوجته الصالحة.
(إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ) (ص: 44)
أي: كثير الرجوع إلى الله، كثير الذكر، جميل التوكل.
عاش نبي الله أيوب صابرًا محتسبًا قرابة 18 سنة، لا يسمع منه إلا الحمد والثناء على الله. وكان قومه قد اعتزلوه، إلا رجلين من أصدقائه يزورانه أحيانًا، لكن حتى هؤلاء شكت نفوسهم في حاله، فقال أحدهم: (لو كان في أيوب خير، لما طال به البلاء). فحزن أيوب لذلك، وبكى، ودعا ربه بصدق.
كانت زوجته رمزًا للصبر والوفاء، بقيت تخدمه وتجمع له الحطب وتعمل للناس، حتى سألها أيوب: (كم أنفقت علينا منذ مرضي؟، فذكّرته بنعمة الله السابقة، فبكى، وقال: الحمد لله الذي لم يجعلني أشكو من ربي شيئًا.
نهاية القصة كانت فرحًا بعد صبر، وشفاء بعد ألم، وردًا للنعمة بعد البلاء
حين يبتعد الناس عنك في شدتك، لا يعني أن الله تركك، بل قد يكون قد قرّبك إليه أكثر، ليصطفيك كما اصطفى نبيه أيوب، وليضرب بك المثل في الصبر والرضا والثبات.
(إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ)
(سورة ص: 44)
_الصبر في البلاء من أعظم درجات الإيمان.
_لا يُرد القضاء بالدعاء، لكنه يخفف أثره ويرفع الأجر.
_الوفاء في الزوجة الصالحة كنز لا يقدَّر.
_الابتلاء ليس دليل غضب الله، بل محبة ورفعة واصطفاء.
إعداد: رامة محمود دللي
في زمان بعيد، وبعد أن طالت الغربة عن الوحي، وحلّ الخراب في الأرض المقدسة، وتفرّق الناس في أرجاء البلاد بعد أن غزاها الأعداء وأحرقوا كل شيء، بما في ذلك التوراة كتاب الله، بُعث رجلٌ صالح من نسل الأنبياء، عُرف بزهده وورعه، يُدعى عُزير عليه السلام.
كان عزير يعيش في بيت المقدس، قلب الشام النابض، وقد امتلأ قلبه بالحزن والأسى حين رأى ما آل إليه حال قومه، وكيف اندثرت الشريعة وضاع كتاب الله من بين أيديهم. خرج في يومٍ من الأيام متأملًا أطلال القرى الخاوية، وبين أنقاض قريةٍ خربها الطغيان، نظر بعينيه إلى تلك القرية التي كانت تعج بالحياة يوماً ما، فإذا بها اليوم خاوية على عروشها، أي قد تهدمت جدرانها وسقطت أسقفها.
وقف عزير متأملاً، وتساءل في نفسه، وليس إنكارًا بل تعجبًا:
فقال في نفسه قولًا يملؤه التعجّب والرجاء:
(قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ) (البقرة: 259)
فشاء الله أن يجعل (عُزيرًا آية للناس) ، فأماته مائة عام ثم بعثه، ليرى بنفسه كيف يحيي الله الأرض بعد موتها، وكيف يعيد النور بعد الظلمة، والكتاب بعد أن أُحرق.
وهكذا تبدأ رحلتنا مع هذا النبي الذي أعاد إلى قومه التوراة من حفظه، فصار رمزًا لإحياء الدين بعد اندثاره، واليقين بعد الحيرة.
قال الله تعالى
(أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ)
(سورة البقرة، الآية 259)
وكان من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام. وهارون ويوشع بن نون عليهم السلام
القرية التي مر بها عزير كانت في بيت المقدس أو في الربذة أو قرية قرب بيت لحم في فلسطين، والأرجح أنها كانت إحدى قرى الشام التي خربها (نَبُوخَذ نَصَّر).
بعد خراب بيت المقدس، أي بعد سبي بني إسرائيل إلى بابل.
ومرت السنين، وعبرت الأجيال، وها هو عزير يبعثه الله من موته، فقال له:
(كم لبثت) ؟
قال: ( لبثتُ يوماً أو بعض يوم)
فأجابه ربه:
(بل لبثتَ مائة عام)
ثم أراه آية من آيات الله العظيمة، قال له:
(فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه)
أي لم يتغير طعمه ولا لونه ولا رائحته
ثم قال له:
(وانظر إلى حمارك)
نظر فإذا به عظام بالية، فأمره الله أن يرى كيف يعيد إليه الحياة قطعة قطعة
(وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً)
فأحيا الله الحمار أمام عينيه، عظامًا تعود إلى موضعها، ثم لحمًا يغطيها، حتى نهض الحمار حياً يسير أمامه.
فقال عزير في خشوع:
(أعلم أن الله على كل شيء قدير)
حين عاد عُزير إلى قريته بعد 100 عام، لم يعرفه أحد، فقد مات كل من كان يعرفه، وولد جيل جديد. ذهب إلى بيته فوجد امرأة عجوزاً عمياء، كانت جارية له حين كان شابًا. سألها عنه، فقالت: (لقد مات عزير منذ مائة عام، ولا أحد يصدق أنه يمكن أن يعود)
فقال لها: (أنا عزير)
قالت: (إن كنت أنت عزير، فادعُ الله أن يرد علي بصري)
فدعا ربه، فرد الله بصرها وعرفت أنه هو بعينه. فخرجت تصرخ في القرية: (إنه عزير)
بعد أن أحيا الله عزير عليه السلام، وعاد إلى قومه الذين لم يعرفوه في البداية، وبدأت الأخبار تنتشر بأن هذا هو عزير النبي الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، اجتمع حوله أهل قريته، وكان فيهم شيوخ قد تجاوزوا المائة والعشرين من العمر، فقالوا: (نعم، هذه ملامحه.. كنا أطفالًا حين رأيناه صغيرًا، فلعله هو ولكن كيف نتحقق ؟
وكانت التوراة قد أحرقت تمامًا، واحترقت نسخها كلها في حادثة الغزو البابلي على يد (نَبُوخَذ نَصَّر) ، ولم يبق منها شيء مكتوب، وقد نسيها الناس، ولم يكن أحد يحفظها إلا عزير قبل أن يُمات.
فقال له أحد أحبار بني إسرائيل:
(إن كنت نبي الله عزير، فعد علينا بكتاب الله التوراة كما كانت، فإننا لا نجد منها شيئًا)
فجلس عزير عليه السلام تحت ظل شجرة، وتوضأ، ثم بدأ يكتب التوراة من حفظه، آية بعد آية، وسطرًا بعد سطر، حتى أعادها كما أنزلها الله على موسى عليه السلام.
وكان فيهم عدد من أحبار بني إسرائيل وكبار السن الذين كانوا قد حفظوا أجزاء قليلة منها، فبدأوا يراجعونه فيما كتب، فوجدوه لم يُخطئ في حرف واحد، فقالوا
(والله، لم يكتبها إلا من أوحي إليه، أو حفظها في قلبه بوحيٍ من السماء)
وهكذا صدّقوه، وعاد كتاب الله إليهم على يديه، فكان ذلك من أعظم معجزاته وآياته لقومه.
ورد في بعض آثار بني إسرائيل أن جبريل عليه السلام نزل على عزير بعد أن كتب التوراة، وأقره على كل ما كتبه، وكان ذلك تأكيدًا لرسالته وصدق نبوته.
ولكن بعضهم غالى في تعظيمه، وقال قولًا باطلًا
(عزير ابن الله)، فأنكر الله ذلك عليهم في قوله
(وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ)
(التوبة: 30)
فكان هذا القول بدعة وضلالة ظهرت من بعضهم، فردها الله عليهم، ونزه نفسه عن الولد.
قصة عزير تذكير لكل مؤمن أن الله يحيي الموتى كما يحيي الأرض بعد موتها.
وفيها درس في أن الإيمان بالغيب لا يحتاج إلى دليل مادي، بل يكفي التصديق بأن الله على كل شيء قدير.
في هذا الحدث الجليل آياتٌ عظيمة:
_أن الله يحفظ كتابه في صدور من يشاء من عباده.
_وأن عودة التوراة كانت على يد رجل أحياه الله بعد مئة عام، ليكون آية للناس.
_وأن المبالغة في تعظيم الأنبياء قد تؤدي إلى الغلو الذي نهى الله عنه.
عاش عزير بعد ذلك بضع سنين، واستمر في دعوة بني إسرائيل، وكان من الصالحين المخلصين. وقصته كانت علامة كبرى لهم ولمن بعدهم.
إعداد: رامة محمود دللي
في زمانٍ من الأزمان، بعد نبي الله سليمان عليه السلام، دبّ الفساد في بني إسرائيل، وترك الناس عبادة الله، واتبعوا طريق الشرك والضلال، وعبدوا صنمًا يُسمّى( بعلاً) فبعث الله إليهم نبيًا من أنبيائه الصالحين، وهو (إلياس عليه السلام) ، لينذرهم ويعيدهم إلى عبادة الله وحده.
إلياس بن ياسين، من نسل نبي الله هارون عليه السلام أخي موسى
بعثه الله إلى ، بني إسرائيل بعد زمن النبي سليمان عليه السلام.
مكان دعوته، في بلاد الشام، ويقال تحديدًا في بعلبك (في لبنان الآن).
دعا قومه إلى عبادة الله بعدما عبدوا صنمًا يُدعى (بعل)
قال الله تعالى عنه:
(وَإِنَّ إِلۡيَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (123) إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدۡعُونَ بَعۡلٗا وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ٱلۡخَٰلِقِينَ (125) ٱللَّهَ رَبَّكُمۡ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ) [الصافات: 123-125].
لكن قومه، كذّبوه وأصروا على الشرك، فدعا الله عليهم، فأصابهم الجفاف، ثم أنجاه الله ورفع درجته.
وقف (إلياس عليه السلام) في وجه قومه، وذكّرهم بأن الله هو الذي خلقهم ورزقهم، وليس الصنم الذي صنعوه بأيديهم، لكنه لم يجد منهم إلا العناد والتكذيب
قال الله تعالى:
(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ (128) ) [الصافات]
كذب القوم نبيهم، لكن قلة قليلة من الصالحين آمنت به واتبعت نوره.
نجاة إلياس ومن آمن معه
فأنجى الله إلياس ومن آمن معه، وترك القوم الظالمين يلاقون مصيرهم. ويُذكر في بعض التفاسير أن الله رفع إلياس عليه السلام كما رفع إدريس وعيسى، والله أعلم.
قال تعالى
(وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ (129) سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (131) إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (132) ) [الصافات]
بعد أن رفع الله إلياس عليه السلام، بعث الله من بعده نبيًا صالحًا يُدعى (اليسع عليه السلام)، ليكمل رسالة التوحيد، ويقود بني إسرائيل إلى الخير بعد أن فشا بينهم الظلم
يُقال إنه ابن عم أو تلميذ إلياس عليه السلام، ولم يُذكر نسبه صريحًا في القرآن أو السنة.
بعثه الله إلى: بني إسرائيل بعد نبي الله إلياس.
مكان دعوته: في بلاد الشام أيضًا.
بعث كخليفة للنبي إلياس، ليستمر في دعوة قوم بني إسرائيل إلى عبادة الله واتباع الشرع.
قال الله تعالى عنه
(وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ) [ص: 48]
(وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ) [الأنعام: 86]
أثنى الله عليه، ووصفه بأنه من الأخيار، لكنه لم تُذكر تفاصيل كثيرة عن حياته في القرآن.
كان نبيًا تقيًا نقيًا، صالحًا مطيعًا، فقام بأمر الله، وعمل على إصلاح قومه، ودعوتهم إلى عبادة الله، وتثبيت الإيمان بعد أن دبّ فيه الضعف.
ورغم أن القرآن لم يذكر كثيرًا من التفاصيل عن اليسع، لكن جاء الثناء عليه في القرآن بأنه من الأخيار، وهذا يدل على فضله وعلو شأنه.
_التوحيد هو دعوة كل الأنبياء، فليس بعد الشرك ذنب أعظم.
_قلة أهل الإيمان لا تعني بطلان الحق، فقد يكون الناجون قلّة.
_الداعية إلى الله قد لا يُستجاب له، لكن الله يجزيه بإحسانه.
_من رحمة الله أن يرسل في كل فترة نبيًا أو رسولًا ليجدد الإيمان.
إلياس واليسع عليهما السلام، نبيان صالحان من أنبياء بني إسرائيل، حملا راية التوحيد، وواجها الشرك والفساد، فكانا مثالين للطهارة والدعوة الصادقة. فسلام على النبيين المخلصين، ورحمة الله وبركاته.
إعداد: رامة محمود دللي
في زمان قديم من أزمنة بني إسرائيل، بعد أن مضت أجيالٌ على موسى وهارون، كان هناك نبي من أنبياء الله يُدعى ذو الكفل. لم يكن نبيًّا فقط، بل كان رجلًا من أبرّ الناس وأعبدهم وأعدلهم في الحكم بين الناس. ذكره الله في القرآن مع أنبياء عظام كإسماعيل ويسع ويونس، مما يدل على مكانته الرفيعة عند الله.
قال تعالى:
(وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (85) وَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ فِي رَحۡمَتِنَآۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ) (سورة الأنبياء: 85-86)
وفي موضع آخر:
(وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ) (ص: 48)
كلمة (ذو الكفل) تعني: صاحب النصيب أو الضمان أو العهد. وقد قيل في بعض التفاسير: إنه سُمي بذلك لأنه تكفّل لقومه أن يقضي بينهم بالعدل، وأن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فوفّى بهذا العهد، فسمّاه الله (ذو الكفل)
الرأي الصحيح عند كثير من العلماء أنه نبي من أنبياء الله، لكونه ذُكر في موضع النبوة مع إسماعيل وإدريس، وقال الله عنهم: (كلٌّ من الصابرين... إنهم من الصالحين).
وقد قال ابن كثير:
(الصحيح أنه نبي لأنه قرن مع الأنبياء، وذكره الله في معرض الثناء، وهو الرأي الأرجح.)
رُوي في بعض التفاسير – وإن كانت ليست من القرآن مباشرة – أن نبيًا من بني إسرائيل او ملك في ذلك الزمان أراد أن يعهد بالأمر من بعده ( اي من يخلفه بالحكم ) و لمن هو أهل له. فوضع ثلاث شروط خطب في الناس وقال:
(من يتكفل لي بثلاث: أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب)
فقام شاب فقال: (أنا)
فردّه، ثم أعاد السؤال، فقام نفس الشاب، وقال: (أنا) فرأى فيه صدقًا، فسلّم له الحكم، وكان هذا الشاب هو( ذو الكفل).
وبعد ذلك تولى الحكم، وحقق شرطه، فلم يغضب، ولم يقصر في قيام الليل، ولا في صيام النهار، وعدل بين الناس بحكمة وصبر وأمانة.
ويُقال إن الشيطان حاول أن يفتنه، فأتى إليه في صورة شيخ مسكين يدّعي خصومة، فلم يترك ذو الكفل له يومًا حتى فصل في قضيته، ثم عاد في اليوم التالي وكرر ادعاءه، فصبر ذو الكفل مرة أخرى، إلى أن انكشف له الأمر فعرف أنه ابتلاء من الله، فثبت، فزاده الله رفعة ورضوانًا.
لم يذكر القرآن قومه، ولكن أغلب المفسرين قالوا إنه من بني إسرائيل، وبعضهم قال إنه بعث إلى أهل دمشق أو إلى منطقة في العراق، وأنه عاش بعد (نبي الله إلياس) ، (وقبل نبي الله زكريا).
قيل إنه دُفن في بلاد الشام، في منطقة تسمى الكفل قرب الحلة في العراق، وهناك مزار يُنسب إليه، وإن كان لا يثبت تحديد قبره بيقين.
الوفاء بالعهد: كان ذو الكفل رجلًا تكفّل بأمر عظيم، ووفى به، فرفعه الله.
الصبر طريق الفلاح: أثنى الله عليه بالصبر، وهو من أبرز صفاته.
العدالة والإخلاص: قد نجهل الكثير من تفاصيل حياته، لكن الله مدحه، وهذا كافٍ ليكون قدوة.
المكانة لا تُقاس بكثرة الأحاديث، بل بثناء الله.
ذو الكفل عليه السلام نبي عظيم لم يُذكر عنه الكثير من التفاصيل، لكن عظم منزلته كانت في قوله تعالى:
(كُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ)
فهو من خيار خلق الله، صابر، عادل، قائم بحق ربه. قصته تذكرنا أن الصدق مع الله والعمل بصمت وثبات، هو طريق العظماء في ميزان السماء.
إعداد: رامة محمود دللي
في الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وفسد فيه البيع والشراء، وامتلأت الأسواق بالغش والاحتيال، أرسل الله نبيًا صالحًا من نسبٍ شريف، عُرف ببلاغته وبيانه، وهو (شُعَيب بن ميكائيل بن يشجر) ، وقيل إنه من ذرية إبراهيم عليه السلام، وهو أحد الأنبياء العرب الأربعة كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه.
بعثه الله إلى (مدين) ، وهي بلدة كانت تقع جنوب الشام قرب منطقة تبوك، وقيل إنها على حدود الحجاز والأردن، وقد سميت باسم (مدين بن إبراهيم) ، الذي يُعتقد أنه أول من سكنها.
قال الله تعالى:
(وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ) (الأعراف: 85)
بهذه الكلمات العظيمة بدأ شعيب دعوته، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن الشرك، ثم واجه الفساد الأكبر فيهم: الغش في الميزان والمكيال. (كان شعيب خطيب الأنبياء، لبلاغته وفصاحته)
كان أهل مدين من أسوأ الناس في المعاملات. كانوا يبخسون الناس أشياءهم، ويستعملون الميزان بالباطل، فيأخذون حقوق غيرهم ولا يؤدون حقوقهم. وكانوا أيضًا يقطعون الطرق ويخيفون المسافرين ويمنعونهم من المرور.وقف شُعيب فيهم ناصحًا، مصلحًا، محذّرًا من عبادة غير الله، قائلاً:
(إِذۡ قَالَ لَهُمۡ شُعَيۡبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ (178) فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (180) ۞أَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُخۡسِرِينَ (181) وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِ (182) وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ) (الشعراء: 181–183)
لكنهم ما ازدادوا إلا تكذيبًا وسخرية، وقالوا له:
(قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ) (هود: 87)
سخروا من نبيهم، وتهكموا على دعوته، واستكبروا عن قبول النصيحة، واتهموه بالسحر والكذب، حتى قالوا:
(قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِينَ)
(الشعراء: 185)
لم يكتفوا بذلك، بل هددوه بالطرد أو القتل إن لم يعد إلى دينهم
(قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ)
(هود: 91)
فأجابهم نبي الله شعيب بكلمات مؤثرة:
(وَيَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَٰمِلٞۖ سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَمَنۡ هُوَ كَٰذِبٞۖ وَٱرۡتَقِبُوٓاْ إِنِّي مَعَكُمۡ رَقِيبٞ) (هود: 93)
لما كذبوا شعيبًا وأصروا على ظلمهم، أرسل الله عليهم عذابًا مهينًا. فابتدأ الأمر بظل غطى السماء، فخرجوا يستبشرون، يظنون أنه ظل غمام، ففتح الله عليهم ريحًا شديدة وحرًّا عظيمًا، ثم أرسل عليهم صيحة من السماء، فهلكوا جميعًا.
قال تعالى:
(فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ) (الأعراف: 91)
وقال:
(كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ) (هود: 95)
نجّى الله شعيبًا ومن آمن معه بأن أمرهم بالخروج من القرية قبل نزول العذاب، فخرجوا سالمين، ثم أرسل الله صيحة عظيمة من السماء أهلكت الظالمين فجأة
كانت هناك شجرة عظيمة كثيفة الفروع، ملتفة الأغصان، تُسمّى (الأيكة). كانت هذه الشجرة تظلل جزءًا كبيرًا من الأرض حولها، وتُخرج رائحة طيبة يزعم الناس أنها مباركة.
كبر قوم مدين في تلك الأرض، ومع مرور السنين بدأ الشيطان يُزيّن لهم عبادة تلك الشجرة، حتى نسوا خالق الشجرة وربّ السماوات والأرض. زيّنت لهم الشياطين أن (الأيكة) تجلب المطر، وتمنح البركة، وتحمي من الأذى، فأصبحوا يسجدون لها، ويقدمون القرابين عند جذعها، ويلفون حولها كما يطوف الناس بالبيت الحرام.
وبدل أن يتوجهوا إلى الله في شدّتهم ورخائهم، جعلوا الشجرة هي معبودهم ومصدر عزّهم، حتى صاروا يُلقّبون بين العرب بـ (أصحاب الأيكة)
قوم نبي الله شعيب، ويسمون (أصحاب الأيكة) نسبة إلى الشجرة التي كانوا يعبدونها.
(الأيكة): اسم يُطلق على الشجرة الكثيفة الملتفة، ويُقال إنها كانت نوعاً من شجر السدر أو شجر الطلح، وكانت مقدّسة عندهم، فعبدوا هذه الشجرة من دون الله، واتخذوها إلهاً يُعظمونه ويقربون لها القرابين.
وقد فرّق الله بين تسميتهم (مدين) في بعض المواضع، و(أصحاب الأيكة) في مواضع أخرى، فقال
(وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ) (الأعراف: 85)
(كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ) (الشعراء: 176)
المفسرون قالوا إن (مدين) اسم للقبيلة، و(أصحاب الأيكة) وصف لهم بحسب معبودهم أو بلدتهم التي فيها الشجرة.
نهاهم شعيب عن عبادة هذه الشجرة، ودعاهم إلى توحيد الله، وذكّرهم بنعم الله عليهم، كما حذرهم من الغش في المكيال والميزان، ومن الظلم والبغي في الأرض.
قال لهم:
(فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ (151) ٱلَّذِينَ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ) (الشعراء: 150-152)
عبادة غير الله — ولو كانت شجرة أو حجرًا — هي ضلال مبين.
الغلو في تعظيم شيء مخلوق قد يؤدي إلى عبادته.
الدعوة إلى التوحيد تأتي دائمًا أولًا، تليها الدعوة إلى الأخلاق والمعاملات
ازدادوا في طغيانهم، ولم يكتفوا بالشرك بل صاروا يغشون في الكيل والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، ويفسدون في الأرض، حتى دعا عليهم نبي الله شعيب، فأنزل الله عليهم عذاب يوم الظلة.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمۡ عَذَابُ يَوۡمِ ٱلظُّلَّةِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 189)
قصة شعيب عليه السلام فيها عبرة لكل تاجر وصاحب معاملة:
_أن يكون أمينًا في وزنه وبيعه.
_أن يتقي الله في رزقه.
_وأن لا يغتر بالدنيا ويترك الآخرة.
_من يعظم مخلوقًا فوق خالقه، سيقع في شرك لا ينفعه.
_عباد الشجر والحجر والقبور ضلوا كما ضل أصحاب الأيكة.
_رسالة الأنبياء واحدة: اعبدوا الله وحده، ما لكم من إله غيره.
كان شعيب عليه السلام نبيًا بليغًا، فصيحًا، دعا إلى الإيمان والعدل، وصبر على قومه، حتى أنجاه الله وأهلك المفسدين.
وفي قصته تذكيرٌ بأن الحق لا يُقاس بالكثرة، وإنما بالصدق والإخلاص، وأن الغش والظلم نهايته الهلاك.
إعداد: رامة محمود دللي
نوح... نبي الصبر والدعوة الصامتة
في زمانٍ قديمٍ بعد وفاة (نبي الله آدم عليه السلام) ، بدأ الناس يبتعدون شيئاً فشيئاً عن عبادة الله الواحد، وراحوا يقدّسون الصالحين من بينهم. فلما مات أولئك الصالحون، جاء الشيطان يوسوس للناس: (اصنعوا لهم تماثيل تذكّركم بهم في العبادة)، ففعلوا ثم بعد أجيال، نُسِيَ المعنى، وبدأت عبادة الأصنام.
قال الله تعالى عن ذلك:
(وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا) (نوح: 23)
فهؤلاء خمسة رجال صالحين من قومهم، فلما ماتوا، عبدهم الناس من دون الله.
فأرسل الله نبيه نوحًا عليه السلام ليكون أول رسولٍ إلى أهل الأرض، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام.
قال الله تعالى:
(إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرۡ قَوۡمَكَ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ) (نوح: 1)
وقف نوح عليه السلام بينهم يدعوهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، وبكل أسلوب حكيم:
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا (5) فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا) (نوح: 5-6)
لكنه وجد آذانًا صماء وقلوبًا مغلقة. كلما دعاهم، وضعوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم تكبّرًا، واستمروا في ضلالهم.
(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا) (نوح 7)
بعد أن لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ولم يؤمن معه إلا قليل، أوحى الله إليه أن لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فاصنع الفلك.
(وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ (36) وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ) (هود: 36–37)
فأخذ نوح عليه السلام يبني سفينةً عظيمة في وسط الصحراء، فكان قومه يسخرون منه:
(وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ) (هود: 38)
بدأ نوح ببناء السفينة بأمر الله في مكان بعيد عن البحر.
لم يكن بناء السفن معروفًا بين قومه، فكان عمله هذا غريبًا وعجيبًا في نظرهم.
(وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه)
الملأ: هم سادة القوم وأشرافهم.
كانوا كلما مرّوا بنوح وهو يعمل في بناء الفلك، يستهزئون به ويضحكون.
قالوا له: أتُصنع سفينة في صحراء ؟ هل جننت ؟ أين البحر حتى تبحر فيه ؟
لكن نوحًا لم يلتفت إليهم، بل كان واثقًا من أمر ربه، يمضي في البناء، في صبر وثبات، ينتظر وعد الله.
حين جاء أمر الله، تفجرت الأرض، وهطل المطر من السماء، وكان هذا إيذانًا بعذاب الله لقوم نوح.
(فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ (11) وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ)
(القمر: 11–12)
فأمره الله أن يُركب في السفينة من كل زوجين اثنين، ومن آمن، ولكن ابنه أبى أن يؤمن، فكان من المغرقين.
نوح عليه السلام وهو يرى الطوفان العظيم، يلتفت إلى ابنه الذي لم يركب السفينة، فيناديه بقلب الأب الرحيم ونفس النبي المشفق:
(وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (42) قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ ) (هود: 43)
نوح عليه السلام ينادي ابنه تعال معنا إلى النجاة، إلى الإيمان، إلى رحمة الله.
ثم ينهاه بلطف ورحمة
لا تكن مع الكافرين لا تبقَ في صفهم، فإن الهلاك مصيرهم. لكن الابن المغرور يرد بكل عناد.
ظن أن الجبل سيحميه من طوفان الله ظن أن الطبيعة أقوى من أمر الله
فرد عليه نوح بقوة الإيمان
لا ملجأ ولا منجى اليوم من الطوفان إلا من رحمه الله، أي من آمن وركب السفينة ،ثم جاءت الخاتمة الحزينة
ارتفع الموج فجأة، وغرق الابن، وانقطعت الصلة إلى الأبد.
(وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ) [هود: 45]
نوح يرجو من الله أن ينجي ابنه، ويذكر أن الله وعده بنجاة أهله، فابنه من أهله.
لكن الله يرد على هذا الدعاء بحكمة قاطعة
(قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ) [هود: 46]
أي ليس من أهل الإيمان، وليس من الذين وُعِدْتَ بنجاتهم ،سلوكه وفعله ليس من سلوك المؤمنين، هو في الباطن من الكافرين.
ودعاءك في غير محله، فابنك ليس مستحقًا للنجاة.
استمر الطوفان حتى غطى الأرض، ثم قال الله:
(وَقِيلَ يَٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ) (هود: 44)
رسَت السفينة على جبل الجودي، ونجا المؤمنون، وبدأت الأرض حياة جديدة بالتوحيد والعدل.
قصة نوح عليه السلام تذكّرنا بأن الحق لا يزول بضعف أصحابه ولا يثبت بانتشار الباطل، بل العاقبة دائمًا للمتقين، وأن سفينة النجاة في كل زمان هي الإيمان بالله والثبات على طريقه، ولو كثر المنكرون والمستهزئون.
السور التي ذكر الله بها نوح عليه السلام
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ﴾
بدأت دعوته بنداء التوحيد الخالص
﴿يَا قَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُۥٓ﴾
نوح عليه السلام يخاطب قومه أنهم لا يملكون ربًا غير الله.
كان نوح أول رسول إلى الناس بعد الشرك، أنذرهم من عذاب الله، فكذّبوه، وقالوا له
﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، فرد عليهم نوح بقول الحق: ﴿لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾.
(وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِ)
وكانت دعوته الأساس: ﴿أَنْ لَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا ٱللَّهَ﴾.
ثم قالوا له:
(مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا)
وهو طعن في نبوته لأنه بشر، لكن نوحًا أكد:
(قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِ)
وبعد استمرار كفرهم، دعا عليهم نوح
فأمره الله بصنع الفُلك، وجاء الطوفان العظيم، ونجا المؤمنون، وهلك الظالمون.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾
يذكر الله ما قاله نوح لقومه مرارًا
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾
لكنهم كذّبوا، فأنجا الله نوحًا ومن معه، وأغرق الباقين.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ﴾
سورة كاملة يسرد فيها نوح دعوته بالتفصيل
دعوته ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهرًا.
استخدامه كل أساليب النصح، لكنهم فرّوا منه.
دعاء نوح على قومه
(وَقَالَ نُوحٞ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا .كَفَّارٗا )
دعا نوح عليه السلام على قومه بعدما كذبوه وسخروا منه لأكثر من 950 سنة.
قال: يا رب، لا تترك على وجه الأرض أحدًا من هؤلاء الكفار، ولا حتى شخصًا واحدًا يعيش (ديارًا ) تعني: من يسكن دارًا، أي حتى شخص واحد).
✦ (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك)
إن أبقيت هؤلاء الكافرين أحياء، سيضلّون عبادك المؤمنين، وسيؤثرون على غيرهم بالضلال والكفر.
حتى أولادهم الذين سيولدون في المستقبل، لن يكونوا إلا فُجّارًا وكفارًا مثل آبائهم، لأنهم تربّوا في بيئة الكفر والفساد.
دعاءٌ شديد، يدل على بلوغ الغاية في يأس نوح من هداية قومه
نوح عليه السلام يدعو الله
( رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا) (نوح : 28)
رب اغفر لي: بدأ بالدعاء لنفسه أولًا.
(ولوالديّ): أي اغفر لأبي وأمي، وهما مؤمنان من أهل الفطرة.
ولمن دخل بيتي مؤمنًا: كل من آمن بي واتبعني ولو زارني فقط، فقد نال الدعوة بالمغفرة.
وللمؤمنين والمؤمنات": دعاء شامل لكل من آمن بالله من كل الأمم.
ولا تزد الظالمين إلا تبارًا: أي هلاكًا وخسارًا. التبار هو الهلاك الشديد.
دعوة نوح استمرت قرابة 950 سنة كما في قوله تعالى:
﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامٗا﴾ [العنكبوت: 14].
مع ذلك لم يؤمن معه إلا القليل.
هذه القصة تعلّمنا الصبر، والثبات على الحق، وعدم اليأس من الدعوة مهما طال الزمن.
وتُظهر أن من يعاند الحق مصيره الهلاك، وأن الناجين هم من آمنوا وصدقوا الرسل.
ملاحظة
زوجة نبي الله نوح عليه السلام ذُكرت في القرآن الكريم ضمن الكافرين الذين خانوا أنبياءهم، ولكن ليست الخيانة في العرض – بل في الدين والعقيدة.
قال الله تعالى:
(ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ) [سورة التحريم، الآية 10]
فخانتاهما: أي خانتا في الإيمان، لم تؤمنا بالله رغم أن أزواجهما أنبياء.
كانت زوجة نوح منافقة، تُظهر له الموافقة لكنها تكذب دعوته وتعين أعداءه، ولهذا استحقت العذاب.
زوجة نوح وابنه، كلاهما من الكافرين.
لا تنفع قرابة الأنبياء إذا لم يكن هناك إيمان.
العبرة بالتقوى لا بالنسب
تُظهر هذه الآيات شدة أذى الكافرين للأنبياء، وصبر نوح الطويل في الدعوة.
وأنه بعد استنفاد جميع الوسائل والفرص، دعا على قومه بالهلاك، لما رأى منهم الإصرار على الكفر.
كما تبرز هذه الآيات رحمة نوح بالمؤمنين ودعاءه لهم بالمغفرة، فهو نبي يدعو بالعدل والرحمة معًا.
والآية الأخيرة تؤكد أن الظلم لا بد أن يهلك أصحابه، ولا تقوم للظالمين قائمة
إعداد: رامة محمود دللي
حين دنا أجل نبي الله آدم عليه السلام، نظَر إلى أبنائه، فإذا بابنه الصالح (شِيث)هو الأليق بحمل الرسالة، فخصّه بوصية عظيمة، فيها العلم، وفيها أسرار الوحي الذي أنزله الله عليه.
من هو شِيث؟
شِيث عليه السلام هو ابن آدم عليه السلام، وُلد بعد أن قتل قابيل أخاه هابيل، فكان تعويضًا لآدم وزوجه حواء عن الابن الصالح الذي فقداه، ولذلك سمّياه (شِيث)، وهي كلمة عبرانية تعني (هبة الله ) أو (عطية الله)
وقد جاء في بعض الآثار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
(لما مات هابيل، وهب الله لآدم شِيثًا بدلًا منه)
كَبُر شِيث، وكان أقرب أبناء آدم إلى قلبه إيمانًا وخلقًا وعقلًا. تعلّم من أبيه العلم والحكمة، وورث عنه الوصية والنبوة، فصار وصي آدم عليه السلام بعد وفاته.
لم يُذكر شِيث عليه السلام صراحة باسمه في القرآن الكريم، لكن وردت آثاره في كتب السُّنة والتاريخ الإسلامي، وذكره الإمام ابن كثير، والطبري، وابن حجر، وغيرهم من المؤرخين، وذكر النبي ﷺ أنه نبي من أنبياء الله.
قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه ابن حبان والطبراني:
(أنزل الله على شِيث خمسين صحيفة)
(حسنه بعض العلماء)
ورث شِيث عليه السلام النبوة والعلم من أبيه آدم، فكان ثالث نبي بعد آدم وهابيل (الذي لم يكن نبيًا بل وليًا).
عاش شِيث في زمنٍ كانت الأرض لا تزال عامرة بطائفة قليلة من البشر، وكان الناس على التوحيد. لكنه أوصي بالحفاظ على الدين من الانحراف، خاصة بعد أن ظهرت بعض المعاصي في نسل قابيل.
قال ابن كثير:
(وكان شِيث نبيًّا على بني آدم في زمانه، وجعل عليه آدم الوصاية بعد وفاته، وأوصاه أن لا يخالط بني قابيل)
لم يكن لشِيث عليه السلام قومٌ مخالفون في العقيدة بعد، بل كان نبيًا على ذرية آدم الذين بقوا على الفطرة. وكانت مهمته تعليم الناس الطهارة والعبادة، والحفاظ على الدين، وكان عليه السلام حريصًا على أن لا يختلط نسله بنسل قابيل الذي بدأ فيه الانحراف والفساد.
وذكر ذلك ابن كثير في (البداية والنهاية)، وقال:
(وكان شِيث أفضل أولاد آدم، وأحقهم بخلافته، وقد جعله الله نبيًا، وأنزل عليه خمسين صحيفة)
هل شيث كان من الانبياء السريانيين الاربعه
النبي محمد ﷺ لم يُذكر عنه في حديثٍ صحيحٍ صريح أنه قال: إن شِيثًا من الأنبياء الأربعة السريانيين، لكن ورد ذلك عن بعض العلماء والمؤرخين في كتب السير والمغازي والتاريخ، وليس في أحاديث مرفوعة صحيحة إلى النبي محمد ﷺ.
يُروى أن الأنبياء السريانيين الأربعة هم:
آدم عليه السلام
شِيث عليه السلام
إدريس عليه السلام
نوح عليه السلام
وذكر ذلك بعض أهل العلم مثل الطبري وابن كثير في كتبهما، ولكن لم تثبت هذه المعلومة بحديث نبوي صريح صحيح.
(السريانية) هي لغة من اللغات القديمة القريبة من الآرامية والعبرانية. والسريانية كانت اللغة التي يُقال إن شِيث ونوح وغيرهم من أوائل الأنبياء تكلموا بها.
يُرجّح كثير من أهل العلم أن نبي الله شِيث عليه السلام عاش في أرض بابل، وهي المدينة القديمة التي تقع في العراق، وذلك بعد وفاة أبيه آدم عليه السلام.
_يُقال إن آدم عليه السلام سكن بابل قبل موته، ثم أوصى إلى شِيث أن يكون خليفته، فبقي في تلك الأرض.
_ومن بابل انتشرت ذريته، وهم الذين حملوا دين التوحيد وتعاليم أبيهم آدم.
بعض الروايات القديمة تشير إلى أن شِيث عليه السلام قد انتقل في آخر عمره إلى الحجاز، وخاصة إلى منطقة مكة، وذلك لأداء العبادة هناك، وأنه ربما ساهم في تعظيم الكعبة أو زارها في زمانها الأول (قبل الطوفان).
لا توجد أدلة قرآنية أو نبوية مباشرة على هذه النقطة، ولكن وردت في كتب السير وأخبار الأنبياء، مثل ما نُقل في بعض كتب الطبري والثعلبي.
نعم، بحسب سلاسل النسب النبوي، فإن
شِيث هو جدّ الأنبياء من بعده، ويدخل في نسب نوح، ومن ثم إبراهيم، ومن ذريته جاء إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وحتى سيد الخلق محمد ﷺ.
لا يوجد دليل قاطع صريح في القرآن أو السنة بأن الصابئة يتبعون النبي شِيث عليه السلام تحديدًا، ولكن هناك أقوال لبعض العلماء والباحثين تقول إن:
_الصابئة كانوا في الأصل من أتباع نبي من أنبياء الله قبل إبراهيم عليه السلام.
_ويُحتمل أنهم كانوا من أتباع شِيث أو إدريس عليهما السلام، ثم انحرفوا بعد ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(الصابئة أمة كانت قبل اليهود والنصارى، وكانوا على دين آدم وشيث ونوح، ثم صاروا إلى عبادة الكواكب، وهم الذين بُنيت لهم (مدينة حران) في العراق
وقال ابن كثير:
(قيل إن الصابئة كانوا يعبدون الله على شريعة نوح أو شيث، ثم اختلفوا وبدّلوا دينهم.)
-أن الله لا يترك عباده الصالحين دون خلفٍ صالح.
_وأن النبوة اصطفاء رباني، لا تُنال بالوراثة ولا بالقوة.
_وأن الله يُظهر الحق رغم الكوارث، ويُخرج النور من قلب الظلمة.
_شِيث عليه السلام نموذج للرجل المؤمن الذي يورث الصلاح ويحيي العلم ويثبت على دعوة الله في أصعب الظروف.
وهكذا أصبح نبي الله شيث ثاني نبي بعد آدم عليه السلام، وبُعث إلى قومه ليُذكّرهم بدين الله، ويدعوهم إلى عبادة الواحد الأحد، ويمنعهم من الانحراف نحو المعصية
قصة شِيث عليه السلام هي بداية مسيرة النبوة، بعد آدم عليه السلام، وهي شهادة على أن الله يصطفي من عباده من يحملون النور، ويحرسون الرسالة، حتى تبقى الأرض عامرة بالإيمان والهدى.
إعداد: رامة محمود دللي
في فجر الإنسانية، وبين سلالة نقيّة من أبناء آدم عليه السلام، بزغ نور نبيٍ جليل جمع بين العبادة والعلم، والخياطة والجهاد، والزهد والقيادة. إنه (نبي الله إدريس عليه السلام)
كان إدريس رجلاً صامتًا في حديثه، عميقًا في تفكيره، عابدًا لله بكل جوارحه. وكان كلما جلس يخيط ثوبه بإبرته، يغرِزها ويقول: (سبحان الله) ، ثم يغرِزها ثانية ويقول: (سبحان الله)، فكان ذكر الله لا يفارق لسانه، حتى في أبسط أعماله.
وقد اختصه الله بأمور لم يعطها لأحد قبله:
_أول من خاط الثياب بالإبرة.
_أول من دوّن بالقلم.
_أول من نَظر في علم النجوم والحساب.
_ركب البحر وصنع أدوات الزراعة، حتى لقب بـ (أبي الفنون) في زمانه.
_وأول من شرع الجهاد في سبيل الله، حين قوي الشر والظلم في قوم قابيل، وخرجت من نسلهم قبائل فاسدة، فجمع إدريس جنده، وأمرهم أن يقاتلوا لنصرة الحق، فكان أول من قاتل في سبيل الله.
وكان له من الحكمة والعلم ما جعله محبوبًا لدى الملائكة، حتى صعد به أحد الملائكة إلى السماء الرابعة ليرى مكانه، وهناك قبض الله روحه، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
وقد جاء في بعض كتب التاريخ والتفسير أن إدريس عليه السلام هو من أجداد نبي الله إبراهيم عليه السلام من جهة الأب، فهو:
إدريس ، بن يرد، بن مهلاييل، بن قينن، بن أنوش بن شيث ، بن آدم عليه السلام
بينه وبين إبراهيم سبعة آباء تقريبًا.
نعم، ورد في حديث النبي ﷺ:
(صحفُ إبراهيمَ كانت كلُّها أمثالًا، وأما إدريسُ فقد أُنزلت عليه ثلاثونَ صحيفةً)
( رواه ابن حبان والطبراني وصححه بعض أهل العلم.)
فقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، فيها الحكم والمواعظ والدعوة إلى التوحيد، وهي من أوائل الرسالات السماوية التي نزلت على البشر بعد آدم وشيث.
قيل إن اسمه في الأصل (أخنوخ)، لكنّه سُمّي إدريس من (الدَّرْس)، لكثرة دراسته للكتب الإلهية، وقيل: لأنه كان كثير التدريس والتعليم، يعلم قومه الكتابة والحكمة والصنعة، فغلب عليه الاسم.
ورد ذكر إدريس في موضعين فقط:
في سورة مريم:
(وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا (56) وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا) (مريم: 56–57)
في سورة الأنبياء:
(وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (85) وَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ فِي رَحۡمَتِنَآۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ)
(الأنبياء: 85–86)
بعث الله إدريس عليه السلام في زمن بدأ فيه الناس ينحرفون عن منهج الله، بعد موت شيث عليه السلام. فكان إدريس نذيرًا للناس في أرض (بابل في العراق) ، ثم هاجر إلى أرض مصر، يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن الظلم والفساد.
ورد في حديث الإسراء والمعراج الصحيح عن النبي ﷺ:
(ثم عرج بي إلى السماء الرابعة، فإذا أنا برجل، فقيل: هذا إدريس. فرحب بي ودعا لي بخير)
( رواه مسلم والبخاري في حديث المعراج)
فقد رآه النبي ﷺ في السماء الرابعة، وذكر القرآن أن الله رفعه مكانًا عليًّا.
وروي عن ابن عباس وغيره أن إدريس رفع إلى السماء حيًّا، وأُكرم بأن مات في السماء الرابعة، وقد قال بعض المفسرين إن الملَك الذي كان يرفع له عمله، طلب من الله أن يرفع إدريس ليرى مقعده من الجنة، فرفعه الله إليه، وهناك توفّاه.
لا توجد رواية مؤكدة بوفاته على الأرض، بل جاء في بعض الآثار أن إدريس لم يمت على الأرض، وإنما قبضت روحه في السماء الرابعة، وهو من القليلين الذين رفعهم الله.
_إدريس عليه السلام نموذج للعلم والعبادة والتقوى.
_أول من خط بالقلم، فكان من رواد المعرفة الأولى للبشرية.
_رفعه الله مكانًا عليًّا، جزاءً لزهده وصبره وصدقه.
_علّم البشرية النظام، والصنعة، والدين، فكان نبيًّا ومعلمًا.
العبرة:
أن العلم لا يغني عن التقوى، وإنما يزينها، وإدريس جمع بين الاثنين، فرفعه الله في عليين، وكان من الصابرين الصادقين الصالحين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله ﷺ:
(إذا حدّثكم أهل الكتاب، فلا تُصدّقوهم ولا تُكذّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.)
رواه البخاري (حديث رقم 4485)
النبي ﷺ يوجهنا في هذا الحديث إلى موقف وسط من الإسرائيليات:
_لا نصدّقهم تصديقًا تامًا؛ لأن كتبهم قد دخلها التحريف.
_ولا نكذبهم تكذيبًا مطلقًا؛ لأن بعض ما فيها قد يكون صحيحًا موافقًا لما في الإسلام.
لذلك، فالأصل عند سماع أخبار بني إسرائيل:
_إن وافقت ما عندنا في القرآن والسنة: قُبلت.
_وإن خالفت: رُدّت.
_وإن لم نعلم عنها شيئًا: أُمسِك عنها، فلا نصدقها ولا نكذبها، كما قال النبي ﷺ. والله اعلى واعلم
إعداد: رامة محمود دللي
في بدايات الخلق، بعد أن أنزل الله آدم عليه السلام وزوجه إلى الأرض، بدأ البشر بالتكاثر. ووهب الله آدم أولادًا وبنات، وكان من بينهم قابيل وهابيل، شقيقان من أب وأم، عاشا في ظل والدهما النبي، وتعلّما منه التوحيد والعبادة.
كان( قابيل) يعمل زارعًا يحرث الأرض ويزرع القمح والشعير، بينما كان (هابيل) يعمل راعياً للمواشي والأغنام. وكان كلاهما يقدم قربانًا لله تعالى من عمل يده، تعبّر عن تقواه وشكره لله.
أمرهما والدهما أن يُقرِّبا قربانًا لله ليختبر صدق إيمانهما، فذهب كلٌّ منهما بما عنده، قال تعالى:
(وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ) (المائدة: 27)
هابيل اختار أحسن ما عنده من الغنم وذبحه خالصًا لوجه الله، فقبله الله.
أما قابيل فقد قدّم زرعًا رديئًا، دون إخلاص، فلم يُتقبّل منه.
وهنا اشتعل الحقد في صدر قابيل، واشتد الغضب والغيرة من أخيه، فقال بتهديد واضح
(لأَقۡتُلَنَّكَۖ)
فأجابه هابيل، ردًّا يعكس التقوى والإيمان
(قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)
وقال له
(لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِي مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (28) إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ) (المائدة: 28: 29)
(بإثمي وإثمك): المقصود بإثمي هنا هو: الذنب الذي قد يقع عليّ لو قتلتني، وذنبك الذي اقترفته بنيتك السيئة وظلمك.
وأنا لا أبادلك الإساءة، ولا أرفع يدي لأقتلك، بل أحتسب أمري لله، وإن قتلتني، فأنت تتحمل إثم قتلي وظلمك لي، وتُضاف إلى آثامك، فتصير من أصحاب النار، وهذا جزاء الظالمين.
فهابيل لم يكن ضعيفًا، بل عاقلًا تقيًا، رفض أن يرد الظلم بظلم، وأوكل أمره إلى الله، وتوعّد أخاه بعاقبة آثامه.
لكن الحسد أعمى بصيرة قابيل، فصرع أخاه وقتله وكانت تلك أول جريمة قتل تقع في تاريخ البشرية،
قال تعالى:
(فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ) ( المائدة: 30)
وبعدما قتله، وقف قابيل حائرًا، لا يدري ماذا يفعل بالجثة، فهو لم يشهد موتًا من قبل، فأرسل الله إليه غرابًا ليعلّمه كيف يواري سوءة أخيه:
(فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ) (المائدة: 31)
وبالفعل، حفر الأرض ودفن أخاه.
بعد أن خلق الله آدم وحواء عليهما السلام، جعلهما أوّل بشر على الأرض، فكانا يتكاثرون بأمر الله بطريقة خاصة في بداية الخلق، إذ كانت كل بطن تلد ذكرًا وأنثى، وكان الزواج لا يتم بين الأخ وأخته التي وُلدت معه في نفس البطن، بل من بطن آخر، حتى لا يكون بينهما توائم مباشرين.
وجاء في بعض الروايات – وهي من الإسرائيليات – أن حواء ولدت قابيل مع أخته (أقليما)، ثم ولدت هابيل مع أخته (ليوذا)، وكان من شرع الله في ذلك الوقت أن يتزوج قابيل أخت هابيل، ويتزوج هابيل أخت قابيل، ولكن
قابيل رفض هذا الحكم
لقد كانت أخته (أقليما) جميلة، فأراد أن يتزوجها هو، ورفض تزويجها لهابيل.
وهنا تدخل نبي الله آدم عليه السلام بحكم الله، وقال: لا، إنها لا تحلّ لك. تزوّج أخت هابيل، ودَع أختك له.
فرفض قابيل، وغضب، واشتد الخلاف بينه وبين أخيه.
فقال آدم عليه السلام: نقرّب قربانًا إلى الله، ومن يُتقبّل قربانه فهو أحقّ بالزواج، فرضيا بذلك.
فجاء هابيل، وكان راعيًا، فاختار أفضل كبشٍ عنده، وقدّمه قربانًا لله، ووقف يدعو بإخلاص.
أما قابيل، فاختار أسوأ سنابل الزرع، ولم يُخلص لله، إنما جاء على مضض.
فنزلت نار من السماء وأحرقت قربان هابيل، بينما تُرك قربان قابيل، علامة على أن الله تقبّل من هابيل.
فزاد ذلك من حقد قابيل وغيظه، وقال لأخيه:
﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ (المائدة: 27)
وحدث ما حدث من القتل، كما ذكرنا سابقًا.
القرآن الكريم لم يذكر قصة الزواج أو الخلاف على الأخت صراحة، بل اكتفى بذكر قربان قُدِّم، وتُقبِّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر، لكن كثيرًا من المفسرين – مثل ابن كثير والطبري – نقلوا هذه القصة عن الإسرائيليات، وهي روايات عن أهل الكتاب، بعضها يُقبل إن لم يُخالف نصًا شرعيًا، وبعضها يُردّ.
فهي ليست قطعية الثبوت، ولكن العبرة منها قائمة:
أن الحسد والبغي والبُعد عن طاعة الله هي من أعظم أسباب الظلم وسفك الدماء.
_الحسد والغيرة من أعظم أبواب الشيطان، وكانا السبب في أول جريمة قتل.
_الله لا يقبل العمل إلا من المتقين، وليس كل من قرّب قربانًا يُتقبّل منه.
_هابيل لم يرد على العدوان بالعدوان، بل بالتقوى، وهذا درس في ضبط النفس والإيمان.
_حتى الطير – كالغراب – جعله الله معلمًا للبشر، ليعلّمهم دفن موتاهم.
كانت تلك القصة بداية لسلسلة من الصراعات البشرية، ولكنها أيضًا رسالة خالدة: أن الظلم يبدأ من القلب، حين تمتلئ صدورنا بالحقد والكِبر.
فمنذ أن قُتل هابيل، أصبح كلُّ قاتلٍ يَحمِل جزءًا من وِزر هذه الجريمة، كما قال ﷺ:
(لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل)
(رواه البخاري ومسلم)
(كِفْل) في اللغة: يعني نصيب، أو جزء، أو حظ.
اي أن كل من يُقتَل ظلمًا بعد أول جريمة قتل وقعت في الأرض، يتحمل ابن آدم الأول (قابيل) جزءًا من الإثم، لأنه أول من سنّ القتل.
وهذا من باب قوله ﷺ:
(من سنَّ في الإسلام سُنةً سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)
رواه مسلم (1017).
لأنه فتح باب القتل في الأرض.
سنّ هذه الجريمة فعلاً لا يُنسى، فكان قدوة سيئة لكل من تبعه.
حتى لو لم يأمر غيره بذلك، لكن فعلُه الأول كان القدوة السيئة الأولى
نسأل الله أن يطهر قلوبنا من الغلّ، ويجعلنا من المتقين الذين يتقبّل الله منهم صالح العمل.
إعداد: رامة محمود دللي
في بيتٍ مباركٍ طاهر، كان يعيش نبي الله إبراهيم عليه السلام مع زوجته الصالحة سارة، وقد بلغ بهما الكِبر، واشتعل الرأس شيباً، ولم يُرزقا بعد بالولد. لكن رحمة الله لا تعجزها السنون، ولا يحدّها المستحيل، فبينما كانت سارة مع إبراهيم، جاءت الملائكة على هيئة ضيوف كرام.
دخلوا عليه فقالوا سلاماً، قال سلامٌ قومٌ منكرون. وقد كانوا في طريقهم لهلاك قوم لوط، لكنهم مروا على إبراهيم أولاً ليبشّروه بالبشارة العظمى.
قال الله تعالى:
(فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ) (هود: 71)
تعجبت سارة وقالت
(قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ) (هود: 72)
فقالت الملائكة
(قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ) (هود: 73)
وبُشّرت سارة بإسحاق، ومن بعد إسحاق، بولد اسمه يعقوب. وهكذا كان يعقوب نبيًّا ابن نبي، ابن نبي، ابن خليل الرحمن.
وُلِد يعقوب عليه السلام توأماً لأخيه (عيص) أو (عيسو)، وكان عيسو هو الأكبر، ويقال إنه خرج أولاً من رحم أمه، ثم خرج يعقوب وقد أمسك بعقب أخيه، ولهذا سُمي (يعقوب).
وكان عيسو ميّالاً للصيد والحياة البرية، ويقال إنه صار لاحقاً (أباً لأمم الروم)
أما يعقوب عليه السلام، فكان هادئاً، ذا قلب طاهر، يهوى المكوث في البيوت، ذا حكمة وخلق رفيع، يميل إلى العزلة والتأمل في آيات الله.
كبر يعقوب وأخوه، ووقع بينهما خلاف شديد، حيث غار عيسو من يعقوب بسبب محبة أمه له، ولأنه كان أكثر رقة وهدوءًا. ويقال أن والدهم إسحاق أراد أن يبارك عيسو، لكن سارة ساعدت يعقوب ليأخذ البركة، فازداد غضب عيسو.
ففرّ يعقوب عليه السلام من وجه أخيه، خوفًا من بطشه، وخرج مهاجرًا إلى بلاد العراق، إلى أرض حرّان، حيث يعيش خاله (لابان.)
لما وصل يعقوب إلى خاله، أحب ابنة خاله الصغرى (راحيل) فأراد الزواج منها. فقال له خاله: (اعمل عندي سبع سنين مهرًا لابنتي) فعمل يعقوب سبع سنين في رعاية الغنم ، لكنه في ليلة الزواج، زوّجه خاله ابنته الكبرى (ليّا) بدلًا من (راحيل).
فلما اكتشف ذلك، قال له خاله اني الا ازوج ابنتي الصغيرة قبل الكبره: اعمل لي سبع سنين أخرى فأعطيك راحيل. فرضي يعقوب، فعمل سبع سنين ثانية، ثم تزوج راحيل.
فكان له من زوجتيه
_ليّا: أنجبت له (روبيل، شمعون، لاوي، يهوذا، يساكر، زبولون، ودينة (ابنة وحيدة).
_راحيل: أنجبت له( يوسف وبنيامين).
وكانت لكل منهما جارية أهداها خاله لهما، فوهبتا الجاريتان ليعقوب عليه السلام كما وهبت ساره جاريتها هاجر الى نبي الله ابراهيم فتزوج بهما فاصبح ليعقوب (حرتان وأمتان )
_بلهة: (أنجبت دان ونفتالي)
_زلفة: (أنجبت جاد وآشير)
فكان عدد أبناء يعقوب: 12 ولدًا وبنت واحدة، وهؤلاء هم أسباط بني إسرائيل، وتعود إليهم أنساب اليهود.
كلمة إسرائيل بالعبرية تعني: عبد الله أو صفوة الله.
وكذلك معنى اسرائيل (الساري الى الله المهاجر الى الله) وكلمة (ئيل ) في اللغة العبريه لفض الجلاله (الله )
لا تُذكر تفاصيل كثيرة عن مرضه، لكن أشهر ما ذكر أن نبي الله يعقوب أصيب بالحزن الشديد حتى ذهب بصره حين فقد ابنه يوسف:
﴿وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ﴾ (يوسف: 84)
ويُقال إن من الأمراض التي أصابته أيضًا ألم في الورك، فحرّم على نفسه لحم الإبل، كما في بعض الروايات الإسرائيلية
روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أَن جماعة من اليهود جاءوا إلى النبي ﷺ وقالوا
(يا أبا القاسم، حدثنا عن أمور لا يعلمها إلا نبي.)
فقال لهم النبي ﷺ:
(اسألوني ما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله مثلما فعل يعقوب مع أولاده؛ إن أخبرتكم صدقتم بما تعرفونه فأسألكم أن تتبعوني في الإسلام.)
فوافقوا، وقال رسول الله ﷺ:
(اسألوا ما شئتم)
فقالوا
(ما الأشياء التي حرّمها إسرائيل على نفسه ؟ )
أجاب النبي ﷺ:
(لقد مرض يعقوب (إسرائيل)، فجعله المرض يقدّر شيئًا عزيزًا عليه، فنذر أن يحرم على نفسه أفضل ما كان يحب: لحم الإبل ولبنها، إن شُفيتُ)
فأقرّوه وقالوا:(صدقتم)
قال تعالى
(كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ) (آل عمران: 93)
حين فرّ نبي الله يعقوب عليه السلام من بطش أخيه عيسو، بعد أن علم الأخير بما جرى من أخذ البركة، لم يكن فراره فرار خوف فقط، بل كان هجرة في سبيل الله، وأملًا في بناء أسرة مباركة، تمضي على نور التوحيد والإيمان.
توجّه يعقوب إلى حرّان في أرض العراق، حيث يسكن خاله لابان. وهناك، بدأت مرحلة جديدة في حياته، امتدت لعشرين سنة، كما ورد في كتب التفسير، وقيل في بعض الروايات: سبع سنين لكل من زوجتيه، وسبع إضافية مقابل خدمته.
وفي تلك السنوات الطويلة، كان يعقوب:
_يرعى الغنم خالصًا لله، صابرًا محتسبًا.
_يتزوّج من ليئة ثم من راحيل، وتنجب له الاثنتان مع جاريتين ذرية طيبة.
_يُعلِّم أبناءه الإيمان والتوحيد، ويغرس فيهم عبادة الله وحده.
لقد كان يعيش في أرض غريبة، بعيدًا عن أمه (رفقة) وأبيه (إسحاق)، وأخيه (عيسو)، دون أن ينسى لحظة واحدة رسالته: أن يكون أبًا لأمة مباركة، تمضي على نهج التوحيد.
ومضت السنين، وكبر يعقوب، وتكاثر أبناؤه، وصارت له ماشية وأهل، حتى جاءه وحي من الله تعالى أن يرجع الى ارض كنعان واهله
استجاب يعقوب لوحي ربه، فجمع أهله وماله، وسار عائدًا إلى دياره، متوكلًا على الله، طامعًا في رحمته، وعازمًا على مواصلة طريق النبوة في أرض كنعان بفلسطين، الأرض التي بارك الله فيها للعالمين.
_الصبر على البُعد والابتلاء قد يصنع أجيالًا من الأنبياء.
_الهجرة في سبيل الله وإن كانت مؤلمة، فهي بذرة الخير العظيم.
_يعقوب عاش غريبًا، لكنه لم يكن وحده، بل كان الله معه.
_من أرض حران، رجع نبيًّا وأبًا لأنبياء، يحمل النور إلى الأرض المباركة.
هكذا، كانت حياة نبي الله يعقوب عليه السلام مليئةً بالصبر والإيمان، تنقّل فيها بين الابتلاء والنعمة، والهجرة والرجوع، فكان في كل أحواله عبدًا شكورًا، ونبيًّا صادقًا.
عاش غريبًا عن أهله عشرين عامًا، لكنه لم ينسَ رسالته، فعاد ليُكمل مسيرته في الأرض المباركة، تاركًا لنا دروسًا عظيمة في الوفاء، والصبر، والتوكل على الله.
رحم الله يعقوب، وجعلنا ممن يقتدي به في الثبات على طريق الحق.
إنه هو السميع العليم.
إعداد: رامة محمود دللي
من الغيرة إلى الجب… ثم إلى قدر الله المكتوب
في أرض( كنعان) كان يعيش نبي الله (يعقوب عليه السلام ) مع أبنائه، وكان له من الأبناء اثنا عشر ولدًا. ومن بينهم، كان يوسف هو أحبّ أولاده إليه، ليس لميل القلب فقط، بل لما رأى فيه من النور والصفاء، ولأنه ابنُه من زوجته (راحيل) وكان ناعم الخَلق، حسن الصورة، رقيق القلب، طاهر النفس.
ولكن هذه المحبة الشديدة أثارت غيرة إخوته. لقد كانوا يرون أباهم يميل ليوسف، ويهتم به أكثر منهم. فتولّد في قلوبهم الحسد والغل، حتى أعمى الغيرة قلوبهم.
فقالوا فيما بينهم، كما قصّ القرآن الكريم:
(إِذۡ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ) (يوسف: 8)
قالوا: كيف يُحب أبونا ( يوسف) وأخاه الصغير (بنيامين ) أكثر منا، ونحن الأقوياء الكبار؟ إن أبانا مخطئ
ثم بدأوا يخططون للخلاص من يوسف
(ٱقۡتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضٗا يَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِيكُمۡ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمٗا صَٰلِحِينَ) (يوسف: 9)
اقترحوا القتل، أو النفي بعيدًا في غيرمدينة، ثم وعدوا أنفسهم بالتوبة لاحقًا وهكذا تُفسد الغيرة قلب صاحبها وتجعله يخطط للإثم باسم التوبة.
لكن أحدهم ويُقال إنه (روبيل) قال
(قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ) (يوسف: 10)
أي: لا تقتلوه، ولكن ارموه في بئر عميقة مهجورة، لعله يُؤخذ من قافلة تمرّ من هناك.
ثم ذهبوا إلى أبيهم يعقوب عليه السلام، وبدؤوا يخدعونه بكلمات ظاهرها حبّ، وباطنها مكر
(قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَالَكَ لَا تَأۡمَ۬نَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُۥ لَنَٰصِحُونَ (11) أَرۡسِلۡهُ مَعَنَا غَدٗا يَرۡتَعۡ وَيَلۡعَبۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ) (يوسف: 11-12)
طلبوا أن يذهب يوسف معهم للرعي واللعب، وأكدوا أنهم سيحرصون عليه. لكن قلب يعقوب لم يكن مرتاحًا، فأجابهم بقلق
(قَالَ إِنِّي لَيَحۡزُنُنِيٓ أَن تَذۡهَبُواْ بِهِۦ وَأَخَافُ أَن يَأۡكُلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَأَنتُمۡ عَنۡهُ غَٰفِلُونَ) (يوسف: 13)
فقالوا ساخرين
(قَالُواْ لَئِنۡ أَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّآ إِذٗا لَّخَٰسِرُونَ) (يوسف: 14)
وفي اليوم التالي، خرجوا بيوسف، وفرح يوسف بالبقاء مع إخوته، لكنه لم يعلم ما يبيتونه له
ثم اصطحبوه إلى الجُبّ (البئر العميق) وهناك، أخذوه بقسوة، ونزعوا قميصه، ورموه في قاع البئر
(فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ) (يوسف: 15)
وبينما يوسف في ظلام البئر، وحيدًا خائفًا، أوحى الله إليه أن هذا لن يكون نهاية القصة، بل ستأتي لحظة، يُخبرهم بما فعلوه، وهم لا يعرفونه.
ثم عاد الإخوة إلى أبيهم، يحملون قميص يوسف، وقد لطّخوه بدم كاذب، دم من حيوان، ليقنعوا أباهم أن الذئب أكله
(وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ (16) قَالُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبۡنَا نَسۡتَبِقُ وَتَرَكۡنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُؤۡمِنٖ لَّنَا وَلَوۡ كُنَّا صَٰدِقِينَ (17) وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ)
(يوسف: 16-18)
لكن نبي الله يعقوب، وهو الخبير الحكيم، لم يُصدقهم. رأى القميص، فإذا به سليم لم يُمزق، فكيف أكله الذئب ولم يمزق القميص ؟
فقال قولته المشهورة
(قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18)
أي: ليست القصة كما تزعمون، لكني أتحلى بالصبر الجميل، لا شكوى فيه إلا لله.
في اليوم التالي، مرّت قافلة من المسافرين بالبئر، فأرسلوا واردهم ليستقي الماء، فأنزل دلوه، فإذا بيوسف يتمسك بالحبل ويصعد
(وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ) (يوسف: 19)
فرحوا بالغلام، ولم يعلموا أنه ابن نبيّ فأخفوه كأنهم وجدوه بضاعة مجهولة، ثم قرروا بيعه.
(وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ) (يوسف: 20)
باعوه بثمن زهيد جدًا، دراهم معدودة لا يعلمون قدره، فالله وحده من يعرف شأنه. هكذا بدأت رحلة يوسف من بيت أبيه إلى أرض مصر، ليبدأ الله له قدرًا عظيمًا.
الغيرة والحسد قد تدفع الإنسان إلى أبشع الجرائم حتى مع أقرب الناس.
القلوب النقية، مثل قلب يوسف، قد تُؤذى، لكنها لا تُهزم.
الله يُمهّد لأوليائه طريق النجاة، ولو بدا أن الظلم قد انتصر.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) هي كلمة العظماء عند الشدائد.
وهكذا بدأت رحلة يوسف عليه السلام، من ظلمة الجب إلى نور العناية الإلهية، ومن كيد الإخوة إلى تدبير الله الحكيم. وفي كل محطة من محطات حياته، كان الصبر زاده، والإيمان طريقه، واليقين بربه نجاته. إنها قصة تعلّمنا أن الأذى لا يدوم، وأن الفرج قد يأتي من حيث لا نحتسب، فقط إن أحسنا الظن بالله.
(إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) (يوسف: 90)
إعداد: رامة محمود دللي
رؤيا طفل... وبداية النبوة
في بيت النبوة، وتحديدًا في أرض( كنعان ) في فلسطين، وُلد صبيٌّ جميل الوجه، طيب الخُلق، نقي القلب. إنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وكان يوسف من أحبّ أبناء يعقوب إليه، لما يرى فيه من صفاءٍ وبراءة، بل وبوادر النبوة منذ صغره.
وذات ليلة، وبينما يوسف نائمٌ في فراشه، رأى رؤيا عجيبة، غريبة، عظيمة ، فاستيقظ على نورها يملأ قلبه، وذهب مسرعًا إلى والده يعقوب عليه السلام، يروي له ما رآه.
قال يوسف
(إِذۡ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ) (يوسف: 4)
رؤيا عجيبة… أحد عشر كوكبًا، والشمس، والقمر، كلهم يسجدون له
تفكر نبي الله يعقوب في هذا المنام، وفهم ما فيه من بشارة عظيمة، هذا الصبي سيكون له شأن كبير نعم، إنه الاصطفاء من الله، وهذا السجود رمزي، يدل على رفعة يوسف وتحقق أمر عظيم له، حتى إن أمه وإخوته وأباه سيُجَلُّونه احترامًا وتعظيمًا ذات يوم.
لكن يعقوب كان حكيمًا، يعرف طباع أولاده الآخرين، ويعلم مدى غيرتهم وحسدهم، فخاف على يوسف من كيد إخوته إن عرفوا بالرؤيا. فقال له برفقٍ وحذر:
(قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ) (يوسف: 5)
أي: لا تحك رؤياك لإخوتك، حتى لا يدخل الحسد في قلوبهم، ويكيدوا لك مكيدة، فإن الشيطان يحرّض الإنسان على العداوة والغلّ.
ثم بشّره يعقوب بما ألهمه الله من علم وتعبير رؤى، فقال له
(وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ) (يوسف: 6)
أي أن الله سيختارك ويُعلّمك تفسير الرؤى والكلام العميق، كما أتم نعمته من قبل على أجدادك إبراهيم وإسحاق. فالله أعلم بمن يصطفي، وهو الحكيم في عطائه وتقديره.
وهكذا بدأت رحلة النبوة منذ الطفولة، برؤيا فيها إشارة لمستقبل نبي كريم، ستمر به محن وشدائد، ثم تتحقق الرؤيا يومًا ما، حين يسجد له إخوته وأبواه تعظيمًا لمقامه، بعد أن صار عزيز مصر.
الرؤى الصالحة من الله، وهي بداية إلهام للأنبياء.
الحكمة في كتمان بعض النعم خوفًا من الحسد والكيد.
الحسد قد يجعل الأقرباء أعداءً، لذا وجب الحذر.
الله يصطفي من يشاء، ويرفع من يشاء، حتى وإن كان طفلًا صغيرًا.
لا تتعجل تفسير الرؤى، فالرؤى حق، ولكنها قد تتحقق بعد سنين طويلة.
وهكذا كانت رؤيا يوسف عليه السلام بداية رحلة عظيمة في طريق النبوة، بدأت بحلم في طفولته، وحمل في طياته بشارة من الله. علّمنا هذا المشهد أن من يحفظه الله ويرعاه، فلا خوف عليه، وأن الأحلام الصادقة قد تكون نبوءة تُبشّر بالمستقبل، لكن الحكمة أن نصونها ولا نكشفها لكل أحد. فالرؤيا كانت سرًّا بين الأب والابن، لكنها كانت وعدًا سيتحقق..في الوقت الذي يريده الله.
إعداد: رامة محمود دللي
كانت مصر تغلي بأحداث متسارعة وقد وصل إخوة يوسف إلى ذروة الحيرة بعد أن اتُّهِم (بنيامين) بالسرقة وأُمسك عند العزيز. ورفض يوسف عليه السلام أن يأخذ أحدًا سواه
وهنا ضاقت بهم السبل، فعادوا إلى أبيهم في كنعان، وقالوا له ما جرى، وأخبروه بما فعل الملك( ببنيامين) فقال لهم نبي الله يعقوب
(قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ) (يوسف: 83)
ثم قالها بصدق الأنبياء:
(عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ) (يوسف 83)
وبكى حتى ابيضّت عيناه من الحزن، لكنه ظل كاظمًا، مؤمنًا، رابط الجأش
(وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ ) (يوسف: 84)
نبي الله يعقوب عليه السلام كان
ممتلئًا بالحزن العميق على يوسف، حتى ابيضّت عيناه من البكاء، لكنه لم يشكُ حزنه للناس، ولم يصرخ أو يجزع، بل كتمه في قلبه
فهو كاظم للحزن والغم، متحملٌ لصدمته، صابرٌ على البلاء، ولا يُظهر الألم إلا لله
(قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ) (يوسف 85)
قال أبناء يعقوب لأبيهم في لهجة استعجاب وشفقة
تالله يا أبانا، إنك لا تزال تذكر يوسف، ولاتتوقف عن البكاء عليه، حتى تُهلك نفسك حزنًا، أو تُصاب بالهلاك والضعف والمرض الشديد.
وكانوا يرون أن استمرار يعقوب في البكاء على يوسف سيهلكه أو يضعفه جدًا.
لكن يعقوب لم يتوقف عن الذكر والبكاء، لأن قلبه مليء بالحب والحنين واليقين بأن يوسف حي، وقد قال بعد ذلك
(قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ) (يوسف: 86)
(يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ) (يوسف 87)
يعقوب عليه السلام وقد بلغ به الحزن مبلغه، ومع ذلك لم يفقد إيمانه ويقينه بالله، يقول لأبنائه
يا أبنائي، اذهبوا إلى مصر، وابحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين، ولا تيأسوا من رحمة الله، فالله قادر على كل شيء، ولا ييأس من رحمته إلا من كفر به وجحد إحسانه.
في هذه الآية تتجلّى قوة إيمان يعقوب وثقته في ربه، حتى بعد مرور السنين الطويلة على فقدان يوسف، لم يفقد الأمل، وظل قلبه متعلقًا بالرحمة والفرج.
وعندما عاد إخوة يوسف إلى مصر، اعترف لهم يوسف بهويته
(قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ) (يوسف: 90)
وغفر لهم:
(قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ) (يوسف: 92)
عندما اجتمع يوسف عليه السلام بأخوته أخيرًا، وتعرفوا عليه بعد كل ما جرى من فراق، وظلم، وحسد، وبكاء، ومؤامرات… كانوا يظنون أنه سينتقم منهم.
لكن يوسف قابلهم بعظمة خلق الأنبياء، وقال:
(لا عتابَ عليكم اليوم، لن أذكّركم بما فعلتم، ولن أعاتبكم عليه. أسأل الله أن يغفر لكم، وهو أرحم الراحمين.)
ثم أخرج قميصه وقال:
(ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا) (يوسف: 93)
وهذا القميص كان - كما قال بعض المفسرين - قميص جدهم (إسحاق عليه السلام) وكان فيه أثر من النبوة والبركة
(وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ) (يوسف 94)
عندما غادرت القافلة مصر وهي تحمل قميص يوسف متجهة إلى أرض (كنعان) حيث يعقوب عليه السلام، أحس يعقوب برائحة ابنه يوسف التي كان قلبه يشتاق إليها منذ سنوات.
وقال لمن حوله:
إني أشم رائحة يوسف تفوح في الجو... لو لا أنكم تظنون بي الجنون أو تهزؤون بي، لقلت لكم بثقة إنه حي وأنه قادم.
وهذا الموقف يكشف قوة إيمان يعقوب ويقينه بأن الله سيرد إليه يوسف، رغم مرور الزمن، ورغم ما بدا مستحيلًا.
(فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) (يوسف 96)
فعاد نور البصر إلى عيني يعقوب عليه السلام، ومعه عاد النور إلى قلبه.
(فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَبَوَيۡهِ وَقَالَ ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ) (يوسف: 99)
احتضن يوسف أباه وأمّه، وبكيا طويلًا
ثم رفع يوسف والديه على العرش
(وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ) (يوسف: 100)
وكان هذا سجود تحية وتكريم، وليس عبادة، وكان جائزًا في شريعتهم.
قال يوسف عليه السلام متأثرًا
(وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ) (يوسف: 100)
الرؤيا التي رآها يوسف وهو صغير، حيث رأى أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر يسجدون له
ها هي تتحقق الآن، إخوته الأحد عشر ووالداه أمامه
ثم شكر الله على كل شيء، حتى فراقه وسجنه، وامتحانات العمر، فقال
(رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ) (يوسف: 101)
قصة يوسف مع أبيه تُجسّد اليقين العميق بقدرة الله، والثقة بوعده مهما تأخّر. يعقوب فقد ابنه، ثم ابنه الآخر، ثم بصره، لكنه لم يفقد إيمانه بالله.
ومن هذه القصة نستلهم
_أن الابتلاء طريق التمكين.
_وأن الرؤيا الحق تتحقق مهما طال الزمان.
_وأن السجود لله وحده، لكن التقدير والتكريم مشروعٌ في شريعتهم.
_وأن الغفران يرفع العبد، ويُسكنه الملوك، ولو بعد ظلمٍ عظيم.
(لا تيأس من روح الله، ولو أُغلقت كل الأبواب. فالله وحده يفتح الأبواب من حيث لا تحتسب)
إعداد: رامة محمود دللي
سنابل الرحمة في أرض الجراح
بعد أن أُعجب ملك مصر بحكمة نبي الله يوسف، وظهرت براءته، قال له
(إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ ) (يوسف: 54)
أي: لك عندنا المكانة والسلطة، ونحن نثق في أمانتك.
فاغتنم يوسف عليه السلام هذه الفرصة، لا طمعًا في منصب، بل رغبة في إنقاذ الناس من الجوع القادم، فقال بكل ثقة وتواضع:
(قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ) (يوسف: 55)
أي: اجعلني المسؤول عن الحبوب والغلال والمؤن، فأنا (حفيظ) أي أمين أحفظ ما أوتمنت عليه، و(عليم ) أي أعلم كيف أديرها وأخطط لها.
فوافق الملك، وقال تعالى:
(وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) (يوسف: 56)
أي: جعلنا له سلطانًا يختار ويأمر ويقرر كما يشاء.
بدأت السنوات السبع الخصبة، فطبّق يوسف خطته بحكمة
أمر الفلاحين بالزراعة المكثفة، وقال لهم: احفظوا الغلال في سنابلها لتبقى محفوظة من الفساد، كما في تفسير رؤيا الملك.
فكان يُخزِّن من الحنطة والغلال في المخازن، ولا يستهلك إلا القليل، ويُنظّم توزيعها بدقة، حتى امتلأت مصر بالخير المؤجَّل.
ثم بدأت السنوات السبع العجاف التي لا زرع فيها ولا مطر، فجاع الناس، وعمّ القحط جميع البلاد، وأخذ الناس يتوافدون من الدول المجاورة إلى مصر يشترون الطعام من يوسف، الذي نظّم البيع بعدالة.
قال تعالى:
(وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ) (يوسف: 58)
جاء إخوته من فلسطين، بعد أن اشتد بهم الجوع، ودخلوا على يوسف (وهو في هيئة عزيز مصر) فعرفهم يوسف بمجرد أن رآهم، ولكنهم لم يعرفوه، إذ لم يتوقعوا أن يصبح أخوهم الذي باعوه عبدًا، حاكمًا على أرض مصر.
استقبلهم يوسف بالحسنى، وسألهم عن أهلهم، فذكروا أن لهم أخًا صغيرًا (بنيامين)، فطلب منهم أن يأتوا به في المرة القادمة.
قال تعالى:
(وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ٱئۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنۡ أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي ٱلۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ) (يوسف: 59)
أي: جهّزهم يوسف بالطعام والزاد، ثم طلب منهم أن يأتوا بأخيهم الأصغر، ووعدهم أنه سيكرمهم ويعطيهم أكثر.
لكنه فعل أمرًا آخر يدل على حنانه وخطته الحكيمة
ثم قال لهم يوسف عليه السلام
(فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِي بِهِۦ فَلَا كَيۡلَ لَكُمۡ عِندِي وَلَا تَقۡرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَٰوِدُ عَنۡهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَٰعِلُونَ)
أي: إن لم تحضروا أخيكم الأصغر بنيامين في الزيارة القادمة.لن أعطيكم شيئًا من الطعام بعد ذلك، لأنكم خالفتم شرطي. لا تقتربوا من بلاطي، ولا تدخلوا عليّ، لن أتعامل معكم مستقبلًا.
هذه كلمات قالها يوسف عليه السلام لإخوته بأسلوب حازم، حتى يحملهم على تنفيذ شرطه، ويأتوا بأخيه بنيامين الذي اشتاق إليه.
(قَالُواْ سَنُرَٰوِدُ عَنۡهُ أَبَاهُ)
أي: سنجتهد في إقناع أبينا يعقوب عليه السلام بأن يُرسله معنا.
(نُرَاوِد ) مأخوذة من المراودة أي المحاولة بلطف أو دهاء لإقناع شخص ما.
يوسف عليه السلام استخدم الحكمة والمكر الحلال ليرى أخاه الشقيق بنيامين.
كان حازمًا في شرطه، مع أنه أخوهم، لأنه يُخطط بذكاء لإعادة جمع العائلة.
إخوة يوسف وافقوا فورًا، مما يدل على أن الحاجة (الجوع) بدأت تُظهر خضوعهم.
(وَقَالَ لِفِتۡيَٰنِهِ ٱجۡعَلُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ فِي رِحَالِهِمۡ) (يوسف: 62)
أي: أمر يوسف خدمه أن يُعيدوا إليهم المال الذي دفعوه للطعام سرًّا، حتى إذا رجعوا، يجدوا بضاعتهم، فيتشجعوا للعودة ومعهم أخوهم.
بعد أن عاد إخوة يوسف إلى أبيهم يعقوب عليه السلام، أخبروه بما طلبه عزيز مصر (يوسف)، وقالوا
(فَلَمَّا رَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيهِمۡ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلۡكَيۡلُ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَآ أَخَانَا نَكۡتَلۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ) (يوسف: 63)
لكن يعقوب خاف على بنيامين كما خاف من قبل على يوسف، فقال:
(قَالَ هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَيۡهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبۡلُ) (يوسف: 64)
حتى وجد أن البضاعة التي أُعيدت إليهم لا تزال معهم، فاقتنع أخيرًا، لكنه استحلفهم بالله أن يحافظوا على بنيامين
(قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡۖ) (يوسف: 66)
أي: قال يعقوب عليه السلام: لن أوافق على أن يأخذ أحدٌ منكم بنيامين، لأنه لا يزال يتذكر فقد يوسف ويخشى عليه.
حتى تعطوني عهدًا مؤكدًا باسم الله، أي أن تُقسموا لي بالله قسمًا غليظًا.
وعهداً موثقًا بالله، غير قابل للنقض.
أن تُحضروا بنيامين مرة أخرى، وتعيدوه إليّ سالمًا.
إلا إذا وقع عليكم أمر قاهر لا تستطيعون دفعه، مثل هلاككم أو حصار أو منعٍ قهري، فحينها يكون العذر مقبولًا.
شدة حذر يعقوب عليه السلام بعد ما جرى مع يوسف، فلم يُسلم بنيامين بسهولة.
توكل يعقوب على الله واضح، فهو لم يطلب عهدًا باسمهم، بل ربط الميثاق باسم الله.
أعطى استثناءً إنسانيًا واقعيًا: (إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡ) أي قضاء الله يغلب الجميع.
نرى في يعقوب عليه السلام الأب الذي يحكم بين المحبة والخوف والإيمان.
(فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ ) (يوسف 66)
فلما أعطوا أباهم يعقوب العهد الذي طلبه منهم، وأقسموا بالله أنهم سيرجعون ببنيامين، إلا أن يُحاط بهم ويُغلبوا.
أي أنهم وفّوا شرط يعقوب بعد أن ألحوا عليه وأقنعوه بحاجتهم للطعام، وأن العزيز لن يعطيهم شيئًا إن لم يأتوا بأخيهم.
(قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ)
قال يعقوب: الله هو الشاهد والرقيب على هذا العهد الذي بيني وبينكم.
وكأن يعقوب يقول لهم: أنا لا أعتمد على وعودكم فقط، بل أجعل الله ضامنًا بيننا، لأنه يعلم من تجربة يوسف أن الثقة لا تكفي دون التوكل الحقيقي.
العهود لا تُؤخذ بالكلام فقط، بل بالتوثيق الجاد والمقدّس، ويعقوب طلب توثيق العهد بالله.
التوكل الحقيقي يتجلى في قول: (الله على ما نقول وكيل) لا حماية حقيقية إلا من الله.
هذه الآية تُعلمنا: إذا اضطررت للثقة بمن خانك سابقًا، فاجعل الله هو الضامن والشاهد.
ثم ودعهم، وقال:
(يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ ) (يوسف: 67)
خوفًا من العين أو الحسد لكثرتهم وحسنهم.
بعد أن رجع إخوة يوسف إلى مصر ومعهم أخوهم الشقيق بنيامين، استقبلهم يوسف عليه السلام بكرم كعادته. لكنه أراد الآن أن يبقي بنيامين عنده، ليجمع شمله به كما جمع الله شمله من قبل.
فما الذي فعله؟
(وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَخَاهُۖ قَالَ إِنِّيٓ أَنَا۠ أَخُوكَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ) (يوسف: 69)
أي: لا تحزن، أنا يوسف، وسأحتضنك وأحميك.
ثم دبّر يوسف خطة لبقاء بنيامين عنده، فوضع (كأس) الملك في متاعه دون علمهم،
(فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ)
(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ) (يوسف: 70)
كان إخوة يوسف عليه السلام قد استوفوا كيلهم، وجهّزوا رحالهم، وهمّوا بالانطلاق من مصر عائدين إلى( كنعان ) حيث والدهم يعقوب عليه السلام.
لكن، فجأة… دوّى صوت منادي القصر في الأسواق، ونادى نداءً أربك القافلة كلّها:
(وَأَقۡبَلُواْ عَلَيۡهِم مَّاذَا تَفۡقِدُونَ ) (يوسف 71)
أي: أسرع الإخوة مذعورين إلى منادي القصر، وقالوا له:
ماذا هناك؟ ماذا ضاع منكم؟ ما الذي فقدتموه؟
لقد فوجئوا باتهامهم بالسرقة، وهم أبناء نبي، لم يعتادوا هذا النوع من الظنون، وقد سبق أن حلفوا أنهم ليسوا فاسدين ولا سارقين
ثم أضافوا
(وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ)
أي: من يعثر عليه ويُعيده، له مكافأة عظيمة: حمولة جمل كاملة من الطعام والقمح، وهي كنز عظيم في زمن القحط
(وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ ) (يوسف 72)
أي: قال المنادي: وأنا أضمن لكم هذه الجائزة، وأتكفّل بإعطائها بنفسي
كأنّه يقول: أنا الضامن... وأنا الشاهد... وأنا المسؤول شخصيًا عن تسليم المكافأة لمن يجد الصُواع
_إخوة يوسف لا يعلمون أن ما يحدث هو تدبير إلهي عظيم من أجل أن يبقى بنيامين.
_هم يواجهون تهمة السرقة التي توقظ فيهم ذاكرة الذنب القديم مع يوسف.
_يوسف لم يتّهمهم بنفسه، بل جعل الأمر يجري من خلال رجال القصر، حتى لا تنكشف خطته مبكرًا.
فوقف الإخوة مذهولين، وقالوا
(قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ عَلِمۡتُم مَّا جِئۡنَا لِنُفۡسِدَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كُنَّا سَٰرِقِينَ) (يوسف: 73)
فسألهم يوسف: ما جزاء من وُجد في رحله المتاع ؟ قالوا
(قَالُواْ فَمَا جَزَٰٓؤُهُۥٓ إِن كُنتُمۡ كَٰذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ) (يوسف: 75)
أي: قال رجال يوسف للإخوة:
إن كنتم كاذبين، وكان أحدكم قد سرق فعلاً... فما هو الجزاء (العقوبة) التي ترونها مناسبة للسارق
كان هذا سؤالًا مقصودًا وحاسمًا. يوسف عليه السلام أراد أن يُطبق قانونهم هم، لا قانون مصر، حتى يحتجز بنيامين بطريقة لا تثير الريبة.
(قَالُواْ جَزَٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَٰٓؤُهُ )
رد الإخوة بكل ثقة:
من وُجدت السقاية في متاعه، فهو نفسه جزاؤه أي: يُؤخذ عبدًا عقوبة له.
هذا كان شرع (يعقوب ) عليه السلام (شريعة بني إسرائيل) في زمانهم: أن السارق يُسلَّم إلى المسروق منه.
(كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ ) (يوسف 75)
أي: هكذا نُعاقب من يظلم الناس بالسرقة والخيانة.
وهنا... وقعوا في الفخ الذي وضعوه بأيديهم، ولم يعلموا أن الكأس كان موضوع عمدًا في متاع بنيامين، وأن منطقهم هذا سيكون وسيلة ليأخذ يوسف أخاه بطريقة شرعية في أعينهم، دون أن يكشف الحقيقة بعد.
(فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ )
أي: بدأ يوسف بتفتيش أوعية إخوته الأخرى أولًا، حتى لا يُلفت الانتباه، ثم أخيرًا
(ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ )
أي: أخرج سقاية الملك (الكأس) من وعاء بنيامين، حيث كان قد وضعها فيه من قبل بإذن الله وتدبيره.
(كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ)
أي: هذا التدبير الحكيم ليس من يوسف وحده، بل هو من الله تعالى، فقد ألهمه هذه الخطة.
(مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ )
أي: في شريعة مصر وقانونها آنذاك، لا يجوز أن يأخذ شخص ويحتجزه بتهمة السرقة. لكن يوسف وضع الكأس في رحل أخيه ليجعله كمن سرق، حتى يُطبق حكمهم هم:( قانون ال يعقوب اهل كنعان ) من وُجدت في رحله فهو جزاؤه ، وبالتالي يبقى بنيامين عنده بطريقة مشروعة في أعينهم.
(قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ )
قال إخوة يوسف: إن كان هذا الأخ سرق، فأخوه من قبل قد سرق أيضًا اتهموه اخوته بسرقة حزام جدهم (اسحاق عليه السلام)
(وهم يشيرون إلى يوسف، دون أن يعلموا أن يوسف يسمعهم ويفهمهم)
(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ)
كأنهم ما زالوا يذكرون يوسف بسوء حتى بعد فراقه الطويل
أي: يوسف أخفى غيظه وحزنه وألمه في قلبه، ولم يُظهر لهم أي رد فعل.
(قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ )
قالها يوسف في نفسه: بل أنتم أسوأ حالًا ممن تتهمونه بالسرقة، فقد ظلمتم أخاكم وبعتموه.
(قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) (يوسف 78)
قال الإخوة ليوسف متوسلين:
أيها العزيز، إن لهذا الغلام أبًا شيخًا طاعنًا في السن، سيموت حزنًا إن لم يرجع إليه ابنه، خذ واحدًا منا مكانه نحن نراك رجلًا محسنًا رحيمًا عطوفًا.
بعد أن توسّل إليه إخوة يوسف أن يأخذ أحدهم بدلًا من بنيامين، رفض يوسف هذا الطلب بحزم ورحمة:
(قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَٰعَنَا عِندَهُۥٓ إِنَّآ إِذٗا لَّظَٰلِمُونَ) (يوسف 79)
أي: نعوذ بالله أن نظلم أحدًا ونأخذ بريئًا مكان المذنب وهنا تأكد الإخوة أن لا سبيل لإنقاذ بنيامين.
(فَلَمَّا ٱسۡتَيۡـَٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ )
اجتمع الإخوة في خلوة، يتناقشون سرًّا، ويفكرون في مصيرهم... وهنا وقف أكبرهم وقال بكلمات تدمع لها العيون
(قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ)
كأنّه يقول: أما كفاكم ما فعلتم بيوسف؟ الآن نكرر المأساة ؟ لن أعود حتى يأذن لي أبي، أو يقضي الله لي أمرًا.
(ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ) (يوسف 81)
طلب كبيرهم أن يذهبوا ويبلغوا يعقوب بما حدث، ويؤكدوا أنهم لم يشهدوا إلا بما رأوا، ثم قالوا
(وَسۡـَٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ) (يوسف 82)
أي: اسأل أهل مصر، والقافلة التي معنا… نحن لم نكذب هذه المرة
(قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ) (يوسف 83)
قال يعقوب: نفوسكم لا تزال تخدعكم… لكن ليس لي إلا الصبر الجميل. عسى الله أن يردّ إليّ يوسف وبنيامين وكبيركم.
(وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ)
تحوّل يعقوب عنهم، ولم يحتمل الحزن… وبكى حتى
(وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ) (يوسف 84)
أي: أصابه العمى من كثرة البكاء، لكنه كظم حزنه ولم يشتكِ لأحد… بل قال:
(قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ )
يا الله، يا لعظمة الصبر واليقين يعقوب عليه السلام كان يحمل جبالًا من الألم، لكنه لم يضعف إيمانه.
ثم قال لأبنائه:
(يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ) (يوسف 87)
يا له من درس خالد: لا تيأس مهما اشتدت الأحزان، فالله لا يضيع عباده.
رجع الإخوة إلى مصر مرة أخرى، وقد بلغهم الجوع والحاجة، فتوسلوا ليوسف
(قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا ٱلۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجۡزِي ٱلۡمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف88)
فقال لهم يوسف بلطف، دون أن يكشف هويته فجأة
(قَالَ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذۡ أَنتُمۡ جَٰهِلُونَ) (يوسف 89)
فتنبهوا وارتجّت قلوبهم:
(قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ)
قال
(قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) (يوسف 90)
(قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ) (يوسف 92)
يوسف لم يُعاتبهم، لم يُهِنهم… بل سامح وغفر، لأن من يتقِ الله ويصبر… فإن الله لا يضيع أجره.
قصة يوسف هي ملحمة من:
_الصبر الذي لا ينكسر.
_الإيمان الذي لا ييأس.
_المغفرة التي تعلو فوق الجراح.
_الكيد البشري الذي يهزم أمام تدبير الله.
من اتقى وصبر... رزقه الله الرفعة.
ومن سامح الناس... ملك القلوب.
ومن اشتكى لله... وجد فيه الراحة والفرج.
إعداد: رامة محمود دللي
من ظلمات السجن إلى عرش مصر: قصة تأويل رؤيا الملك وتمكين يوسف
في إحدى ليالي القصر، نام ملك مصر فرأى رؤيا عجيبة حيّرت عقله وأقلقته في نومه. رأى في المنام
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ) (يوسف: 43)
واستيقظ الملك فزعًا، فجمع العرّافين والكهنة ومفسري الأحلام، وقال لهم
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ) (يوسف: 43)
لكنهم عجزوا أمام عظمة الرؤيا وغرابتها، فلم يجدوا لها تفسيرًا، وقالوا له
(قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمٖۖ وَمَا نَحۡنُ بِتَأۡوِيلِ ٱلۡأَحۡلَٰمِ بِعَٰلِمِينَ) (يوسف: 44)
أي: مجرد خيالات وأحلام مختلطة لا معنى لها.
في تلك اللحظة، تذكّر ساقي الملك، الذي خرج من السجن سابقًا، ما حدث معه ومع زميله في السجن، وكيف فسّر يوسف رؤياهما بدقّة. فقال للملك:
(وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنۡهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ) (يوسف: 45)
أي: تذكّر يوسف بعد مدة طويلة (أُمَّةٍ)، وقال: دعوني أذهب إلى السجن لآتيكم بالخبر.
فأسرع إلى السجن وقال ليوسف عليه السلام
(يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ) (يوسف: 46)
فقال يوسف بكل وضوح
(قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا) (يوسف: 47)
أي ستأتي سبع سنوات خصب وخير متواصل، فاجتهدوا فيها بالزراعة والحرث بلا كسل، فـ (دأبًا) تعني: باجتهاد واستمرار دون فتور.
(فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ )
أي: إذا حصدتم الزرع، فلا تفصلوا الحبوب عن السُّنبل (القِطاف)، بل اتركوها محفوظة في سنابلها.
ترك الحب في السنبل يحميه من التلف والسوس والرطوبة، وهي طريقة ذكية للتخزين طويلة الأمد، خاصة في انتظار السنوات السبع العجاف التي ستليها.
(إلا قليلًا مما تأكلون)
أي: لا تستهلكوا إلا جزءًا قليلاً للمعيشة اليومية، وادخروا الباقي لأيام القحط القادمة.
ثم قال
(ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ) (يوسف: 48)
أي: ستأتي بعدها سبع سنوات جفاف وقحط، تأكل ما ادخرتموه سابقًا.
ثم ختم بقوله
(ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ) (يوسف: 49)
أي: سنة فيها مطر وخير وبركة، يعود فيها الناس لعصر الزيت والعنب.
رجع الساقي بالخبر المذهل، فأُعجب الملك بحكمة يوسف، وقال
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِ) (يوسف: 50)
لكن يوسف عليه السلام، رغم حبسه الطويل، رفض الخروج قبل تبرئة نفسه، وقال
(فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ) (يوسف: 50)
فأُقيمت جلسة التحقيق، وقالت النسوة
(قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ) (يوسف: 51)
ثم اعترفت امرأة العزيز:
(قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ) (يوسف: 51)
بعد أن ظهرت براءة يوسف، قال الملك:
(ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ) فلما كلمه قال: (إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ) (يوسف: 54)
﴿ائتوني به أستخلصه لنفسي﴾
أي: قال ملك مصر: أحضروا لي يوسف عليه السلام، أريده أن يكون قريبًا مني ومخصوصًا بخدمتي.
(أستخلصه لنفسي ) تعني: أجعله من مستشاريّ وخواصيّ المقربين، بعد أن رأى عِلمَه وحكمته وأمانته في تفسير الرؤى.
﴿فلما كلمه﴾
أي: حين تحدث معه الملك وجهًا لوجه، واختبره في الحكمة، والخلق، والفطنة، ازداد إعجابه به.
﴿قال إنك اليوم لدينا مكين أمين﴾
الملك قال له
(مَكِينٌ) أي ذو مكانة عالية، ومنزلة رفيعة، ومن يُمَكَّن في الأرض يُعطى سلطة ونفوذًا.
(أمين) أي موثوق به، صادق، لا يخون ولا يغش.
فجمع له التمكين في السلطة مع الثقة في الأمانة، وهما شرطان أساسيان لأي مسؤول عظيم.
فطلب يوسف منصبًا يدير فيه الاقتصاد وقت الأزمة
(قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ) (يوسف: 55)
وبذلك، أصبح يوسف عزيز مصر، وسخّر علمه وإيمانه لحماية الأمة من المجاعة القادمة.
_الصبر الطويل يُثمر عزًا وتمكينًا.
_يوسف عليه السلام لم يساوم على براءته، وأبى الخروج من السجن حتى تُكشف الحقيقة.
_من حفظ الأمانة وصدق في البلاء، جعله الله سببًا لإنقاذ أمة بأكملها.
_الرؤى الصادقة من دلائل النبوة، وأحسن من يؤولها هم الأنبياء.
إعداد: رامة محمود دللي
بعد أن رفض يوسف عليه السلام فتنة امرأة العزيز، وفضّل السجن على الوقوع في معصية الله، قال
(قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ ) (سورة يوسف: 33)
استجاب الله دعاءه، فدخل السجن. لكن يوسف، كما كان نبيًّا في قصر العزيز، كان نبيًّا في ظلمات السجن، ينشر النور بين الجدران الباردة بالإحسان والكلمة الطيبة.
رغم ما ألمّ به من الظلم، لم يكن يوسف عليه السلام سجينًا عاديًّا، بل كان من المحسنين
حين سأل السجينان يوسف عن رؤياهما، لم يُجبهما مباشرة بتفسير الأحلام، بل قال لهما
(قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ) (يوسف: 37)
أي: لن يأتيكما طعام من رزق الله إلا وأخبرتكما بتفسير رؤياكما قبل أن يأتي الطعام. وهذا من إلهام الله ليوسف، فهو يُظهر لهم برهانه أولًا ليُصدّقوه، ثم يدعوهم بعد ذلك إلى التوحيد والإيمان بالله.
ثم تابع
(ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ ) (يوسف: 37)
أي: هذا العلم ليس من نفسي، بل من ربي، أكرمني به.
وبهذا ربط يوسف بين العلم والدعوة، وجعل من تفسير الأحلام بابًا للدخول إلى قلوب الناس.
في السجن، كان يوسف عليه السلام معروفًا بالصدق، حسن الخلق، وطمأنينة النفس، وتفسير الاحلام لذلك لما دخل معه رجلان السجن، لجآ إليه بعدما رأيا رؤيا غريبة، قالا له
(إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) (يوسف: 36)
هكذا خاطبه رجلان دخلا السجن معه، أحدهما كان ساقي الملك، والآخر خبازه، وكانا قد رأيا رؤيا، فقصّاها عليه
يوسف عليه السلام لم يكن مجرد سجين عادي، بل كان داعية إلى الله في كل مكان. وقد بدأ حديثه مع السجينين بحكمة ورحمة، فاستغل طلبهما لتفسير الرؤيا ليُبيّن لهما توحيد الله أولاً، وقبل أن يُفسّر لهما، قال لهم
(يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ (39) مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ) (يوسف 40)
(يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ)
أي: يا زميليَّ في السجن، يناديهما بلطف ورفق ليؤثر في قلبيهما.
(ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ)
أي: هل من الأفضل أن تُعبد آلهة كثيرة، متفرقة، لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر؟ وهي أصنام لا تملك لأنفسها ضرًا ولا نفعًا؟
(خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ )
هل عبادة هذه الآلهة خير؟ أم عبادة الله الواحد القهار، الذي لا شريك له في الملك، وهو الغالب الذي لا يُغلب، القاهر لعباده، القادر عليهم، بيده ملكوت كل شيء؟ تم بداء يستمع لهما
قال أحدهما:
(إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ) (يوسف: 36)
أي رأى في منامه أنه يعصر عنبًا ليُخمّر، وهذا يدل على أنه سيعود إلى عمله الأصلي في خدمة الملك، ويسقيه الخمر كما كان.
قال يوسف له:
(أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسۡقِي رَبَّهُۥ خَمۡرٗاۖ) (يوسف: 41)
أي سيرجع إلى منصبه عند الملك، ويقدم له الشراب كما كان يفعل من قبل.
قال الثاني:
(وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ) (يوسف: 36)
رأى أنه يحمل الخبز على رأسه، وكانت الطيور تأتي وتأكل منه.
قال يوسف:
(وَأَمَّا ٱلۡأٓخَرُ فَيُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِن رَّأۡسِهِ) (يوسف: 41)
أي سيتم قتله صلبًا، حتى تأتي الطيور فتنهش رأسه، كما في الرؤيا.
وهذا يدل على أن يوسف عليه السلام لم يُجامل أحدًا في التفسير، بل قال الحق كما أطلعه الله، ثم أكّد عليهما أن ما أخبرهما به حُكمٌ قطعي
(قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسۡتَفۡتِيَانِ) (يوسف: 41)
أي: فُصِل في أمركما وانتهى، ولن يتغير.
ثم قال يوسف لِمن علم أنه سينجو:
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ) (يوسف 42)
أي: اذكرني عند الملك، لعله ينظر في قضيتي ويخرجني من السجن.
لكن الله تعالى أراد ليوسف أن يبقى في السجن ليمرّن على مزيد من الصبر، فقال:
(فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ) (يوسف: 42)
فنسي الناجي أن يذكر يوسف للملك، فطال مكوث يوسف في السجن.
الإحسان لا يُقيد بالسجون: كان يوسف محسنًا في القصر والسجن.
الدعوة إلى الله لا تحتاج منبرًا: بل تحتاج قلبًا صادقًا وموقفًا حكيمًا.
الابتلاء طريق التمكين: فالسجن لم يكن نهاية المطاف، بل بدايته.
القلوب لا تُفتح إلا بالتوحيد: وقد جعل يوسف من تفسير الأحلام طريقًا للدعوة.
لا تعتمد على البشر كليًّا: فـ (اذكرني عند ربك ) لم تكن كافية، بل كان التوكل على الله هو السبيل للخلاص.
في ظلمة السجن، تجلّى نور النبوة. يوسف الذي دخل السجن ظلمًا، خرج منه عزيزًا مكرّمًا. كانت تلك السنين محطة إعداد وتهذيب، أثمرت حكمًا ونصرًا عظيمًا
إعداد: رامة محمود دللي
السجن أحب إليّ: قصة يوسف والمحنة في القصر
في أرض مصر، حيث كانت الحضارة مزدهرة والقصور مزينة، بيع (يوسف عليه السلام) عبدًا وهو من نسل الأنبياء. دخل بيت عزيز مصر، كبير وزرائها، وكان الله قد آتاه جمالًا باهرًا وأدبًا وأخلاقًا عالية. رباه العزيز في بيته، وقال لزوجته
(وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦٓ أَكۡرِمِي مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ) [يوسف: 21].
نشأ يوسف في بيت العزيز، وكان محبوبًا لدى الجميع، حتى تسللت فتنة خفية إلى قلب امرأة العزيز، وبدأت تفتن بهاجس الجمال، حتى بلغت بها الجرأة أن تراود يوسف عن نفسه، كما قال الله تعالى
(وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ ) [يوسف: 23]
فما كان من يوسف إلا أن استعاذ بالله، وقال:
(مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ) (يوسف 23)
(وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ ) [يوسف: 24]
هذه الآية قد ورد فيها عدة أقوال للمفسرين، وأحد التفاسير الواردة
(همّت به) أي: أرادت أن يراودها.
(وهمّ بها) أي: همّ أن يدفعها أو يضربها أو يهرب منها، وليس همًّا بمعنى الرغبة بالمعصية.
قاله العلامة (الزمخشري ) في تفسيره الكشاف، وهو من أقوال تُفهم أن همّ يوسف لم يكن رغبة في الفاحشة، بل رد فعل دفاعي أو فرار من الخطر.
ومن هذا التفسير:
أن امرأة العزيز أمسكت بيوسف لتراوده، فهمّ أن يدفعها عنه أو يضربها ليهرب، فلما رأى برهان ربه (أي: جاءه وحي أن لا يستخدم العنف ولا يضرب امرأة)، اتجه ناحية الباب فرارًا لا مواجهة.
بذلك يكون معنى الآية:
همّت به _ أرادت أن تغويه وتوقعه في المعصية.
وهمّ بها _ أن يضربها أو يدفعها فرارًا منها.
لولا أن رأى برهان ربه _ أي تذكير إلهي أو وحي: أن لا يستخدم العنف، بل يفرّ، فيفتح الله له الأبواب.
وهذا المعنى ينسجم تمامًا مع ما ورد عن بعض السلف الصالح، في أن يوسف عليه السلام لم يهمّ بالفاحشة قط ، بل همّه كان ردّ فعل دفاعي.
كل ما في هذا الموقف يعكس طهارة نبي الله يوسف عليه السلام، ويُظهر كيف أن الله يصرف عن عباده المخلَصين السوء والفحشاء، فالمعصية قد تُعرَض على القلب، لكن نور الإيمان وبرهان التقوى يبدّدها.
هرب منها مسرعًا نحو الباب، وهي خلفه، تمسك بثوبه فمزقته من الخلف، وإذا بزوجها عند الباب
(وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ )
وفجأة، فتح الباب، وإذا بزوجها العزيز يقف أمامهما! فبادرت المرأة، تريد أن تُخفي جريمتها وتلصق التهمة بيوسف، فقالت بسرعة
مدافعة عن نفسها:
(قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ) [يوسف: 25].
أي: هذا الشاب أراد أن يعتدي عليّ فيجب أن يُسجن أو يُعذّب.
لكن يوسف، عليه السلام، لم يسكت عن الظلم، فقال بكل ثقة:
(قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ)
هنا جاء شاهد من أهلها (أي من أهل امرأة العزيز) ليفصل في الأمر بحكمة، فقال:
لننظر إلى القميص، فهو الشاهد الصامت الصادق
إن كان قميصه قُدّ من قُبُل (الأمام)، فمعناه أنه هو من كان يهاجم، وهي تدافع، فهي صادقة.
وإن كان قُدّ من دُبر (الخلف)، فهو كان يهرب، وهي كانت تلاحقه، فهي الكاذبة، وهو الصادق.
ثم نظروا إلى القميص، فوجدوه ممزقًا من الخلف
(إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (27) فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ) [يوسف: 28]
فقال العزيز: هذا كيدٌ من كيدكنّ، وإن كيدكن عظيم ثم قال ليوسف
(يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِي لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔينَ ) ( يوسف 29)
بعد أن انكشف كذب امرأة العزيز، وتبيّن بوضوح من تمزق قميص يوسف من الخلف أنها هي التي راودته عن نفسه، وليس هو
قال العزيز (زوجها) بحكمة وهدوء، حرصًا على ستر الفضيحة، ولحفظ ماء وجهه أمام الناس:
(يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ)
أي: لا تتحدث في الأمر، ولا تذكره لأحد، دع الأمر يمرّ، فلا فائدة من نشره، فقد عُرف الحق.
ثم توجه إلى زوجته، وقال لها بعتب شديد وتوبيخ
(وَٱسۡتَغۡفِرِي لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔينَ)
أي: توبي إلى ربك، واطلبي مغفرته، لأنك أذنبتِ ذنبًا عظيمًا، بما فعلتِ من خيانة للأمانة، وسوء الخلق، ومحاولة الإيقاع بيوسف الطاهر العفيف.
دعوة النساء وجرح الأكفّ
انتشر خبر عشقها ليوسف، فسخر نساء المدينة منها، فقالت: سأنهي سخريتهنّ بصدمة الجمال.
(وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ)
علمت زوجة العزيز بمكرهن فجمعت النسوة في مجلس أنيق، وقدمت لهن متكأً (مكانًا للجلوس والفواكه)، وأعطت كل واحدة سكينًا، ثم أمرت يوسف أن يدخل عليهن.
(فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ)
فلمّا رأينه، بهتت أبصارهن من جماله
(فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ) [يوسف: 31].
وهنا قالت امرأة العزيز لهن:
(فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ ٱلصَّٰغِرِينَ) (يوسف 32)
فما كان من يوسف إلا أن قال:
(قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ) [يوسف: 33]،
فاستجاب الله له، ودخل السجن وهو الطاهر العفيف.
إن هذه القصة مثال عظيم على ثبات الأنبياء أمام الفتنة، فقد ثبت يوسف عليه السلام أمام أعظم فتنة قد تضعف لها القلوب.
وأن الله يدافع عن الذين آمنوا، ولو ظُلموا وسُجنوا، كما قال الله:
﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90].
مرت السنوات ونبي الله يوسف عليه السلام في السجن، صابرًا محتسبًا، يعلّم الناس التوحيد، ويُفسّر الرؤى بصدق من عند الله. وفي أحد الأيام، رأى ملك مصر رؤيا عجيبة أرقته، فقال لأهل مجلسه الرؤيا
عندها تذكّر فتى من خدم الملك، كان قد سُجن مع يوسف، وتحقّقت له رؤيا فسّرها له يوسف من قبل. فقال:
(أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ) (يوسف 45)
فذهب إلى يوسف في السجن، وسأله تفسير الرؤيا. فأجابه يوسف بكل دقّة، فعاد الرجل إلى الملك وأخبره، فأُعجب الملك بحكمة يوسف، وقال:
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِ) [يوسف: 50]
لكن يوسف، رغم اشتياقه للحرية، رفض الخروج من السجن دون أن يُظهِر الله براءته، فقال:
(فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ) [يوسف: 50]
لم يرضَ أن يخرج متهمًا، بل أراد أن تُكشف الحقيقة.
فدعا الملك النسوة، وسألهن عمّا حدث مع يوسف
(قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ) [يوسف: 51]
فأجابن بصدق:
(قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ)
وهنا، تكلمت امرأة العزيز بنفسها، بعد أن أعياها الكتمان، وأرادت أن تُظهِر صدق يوسف بعد كل هذه السنين، وقالت:
(قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ) [يوسف: 51]
ثم تابعت بقولها، نادمةً، خاشعة
(ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ) [يوسف: 52]
بعد هذا الاعتراف العظيم، أمر الملك بخروج يوسف من السجن مكرمًا مرفوع الرأس، وقد ظهرت براءته أمام الجميع، وصدق الله وعده، فرفع مقام يوسف كما قال تعالى
(وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ ) [يوسف: 56]
الخاتمة والعبرة
قصة يوسف مع امرأة العزيز والنسوة، ثم رفضه الخروج من السجن حتى تظهر براءته، درس عظيم في الصبر والثقة بالله، والتمسك بالعفّة والكرامة حتى في أشد المحن.
_حين يكون الإنسان بريئًا، فإن الله لا يخذله أبدًا.
_العفةُ والإيمانُ أعظم من كل مغريات الدنيا.
_الصبر على الظلم طريقٌ إلى التمكين.
قال النبي محمد ﷺ عن يوسف نبي الله
(الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) [رواه البخاري]
إعداد: رامة محمود دللي
ذو القرنين: حين يصنع الإيمان حضارة
في زمن بعيد، بُعث رجلٌ صالح، أوتي العلم والحكمة، ومُكّن له في الأرض، حتى بلغ حدودها، شرقًا وغربًا لم يكن نبيًّا على الراجح، لكنه كان ملكًا مؤمنًا عادلًا، سَارَ بجيشه يفتح الأرض لا من أجل غنيمة، بل لنشر الخير، وردع الظلم، وإقامة الحق.
اسمه (ذو القرنين) واختلف العلماء من هو، فقيل إنه (الإسكندر المقدوني) وقيل بل هو ملك مؤمن قبل الإسكندر بزمن بعيد، والراجح (كما رجّح ابن كثير ) أنه ملك صالح من عباد الله المكرّمين، آتاه الله من الأسباب والقوة ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين.
(وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا) (سورة الكهف: 83)
سألك يا( محمد ) قوم من أهل الكتاب أو قريش عن هذا الرجل الغامض، فقل لهم سأتلو عليكم خبرًا من شأنه، لا يروى من أساطير، بل هو وحي حقٌّ من ربّ العالمين.
كان ذو القرنين قائدًا عظيمًا، يتقدمه جيش هائل، وعقل راجح، وقلب مؤمن. سار بجنوده حتى بلغ مغرب الشمس، أي أبعد نقطة غربًا يمكن الوصول إليها.
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا (84) فَأَتۡبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ) (الكهف: 84-86)
مكّنا له في الأرض، أي أعطيناه سلطة عظيمة، وفتحنا له أبواب الأسباب، كالعلوم، والقوة، والعدل، فسار يتّبع الأسباب. حتى إذا بلغ المكان الذي تغرب فيه الشمس في عينه، بدا له كأن الشمس تغيب في بحر أسود الطين لكثرة الحمأة (الطين الأسود).
(وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا) (الكهف: 86)
فخيّره الله بين العدل والبطش، فاختار طريق الحكمة.
(قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا (87) وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا(88)) (الكهف: 87-88)
ذو القرنين لم يكن ظالمًا طاغية، بل حاكمًا عادلًا يزن الأمور، ويؤمن بالجزاء.
ثم توجّه إلى الطرف الآخر من الأرض.
(ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا) (الكهف: 89-90)
وصل إلى قوم يعيشون في شرق الأرض، لا يحتمون من الشمس ببنيان أو ملابس، ربما لبدائيتهم أو لأنهم في أرض مكشوفة حارّة.
لكنه لم يتدخل، لأنهم لم يكونوا ظالمين، فتركهم وشأنهم، واحترم حالتهم.
واصل ذو القرنين المسير، حتى بلغ أرضًا بين جبلين عظيمين.
(حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا) (الكهف: 93)
كان القوم يعيشون في خوف دائم من قبيلتين متوحشتين: (يأجوج ومأجوج) يفسدون في الأرض ويهلكون الزرع والنسل.
(قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا) (الكهف: 94)
طلبوا منه أن يقيم لهم سدًّا يمنع عنهم هذين الشعبين الهمجيين، مقابل مال. لكنه رفض الأجر.
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا) (الكهف: 95)
وبدأ ببناء أعظم سدّ عرفه التاريخ
جمع الحديد، حتى ملأ بين الجبلين، ثم أمرهم أن يشعلوا النار فيه حتى صار نارًا مشتعلة، ثم صبّ عليه النحاس المُذاب فتماسك كالفولاذ.
(ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا) (الكهف: 96)
فصار سدًا عظيمًا لا يُهدم، ولا يُخترق.
رغم عظمته بناء السد قال لهم بتواضع
(قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا) (الكهف: 98)
أي: هذا السدّ من رحمة الله، ولكن إذا جاء وعد الله (يوم القيامة)، فإنه سينهدم، ويخرج يأجوج ومأجوج مرة أخرى كما في آخر الزمان.
قيل لأنه بلغ قرني الأرض (مشرقها ومغربها)، وقيل لأن له تاجًا بقرنين، وقيل لأنه ضُرب على قرنه (رأسه) مرتين، والراجح أنه لعلوّه وبلوغه أقصى الأرض.
ذو القرنين لم يغترّ بسلطانه، بل نسب كل فضلٍ لله.
استخدم قوته في الخير، ولم يستعبد الناس.
الفساد نهايته العزل والسد، والظلم نهايته العذاب.
العلم والإيمان والعمل الجماعي هي أدوات الصلاح والبناء.
قصة ذو القرنين نموذج فريد لقائد ربّاني عادل، جمع بين القوة والتقوى، بين السلطان والخشوع. أظهر الله من خلاله أن أعظم الملوك من يسيرون على صراط الله، وأن النصر الحقيقي لا يكون بالسلاح وحده، بل بالعقيدة، والعقل، والعدل.
إعداد: رامة محمود دللي
ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. سر البقاء
في زمن من الأزمان، يروي الله تعالى في سورة الكهف قصة رجلين: من بني اسرائيل أحدهما فقيرٌ مؤمن، والآخر غنيٌّ جاحد، كانت بينهما مُحاورةٌ عظيمة كشفت عن الفرق بين من يعوّل على الدنيا، ومن يثق بالله ويؤمن بالآخرة.
قال الله تعالى
(وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا) (الكهف: 32)
كان أحد الرجلين يمتلك جنتين عظيمتين مزروعتين بالكروم (العنب)، وقد أحاط الله هاتين الجنتين بأشجار النخيل، وجعل بينهما أرضًا مزروعة بالخضروات والحبوب. نعمٌ عظيمة متكاملة، فيها ثمارٌ وماءٌ وزروع
(كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا) (الكهف: 33)
هاتان الجنتان كانتا تنتجان الثمار بكمالها، دون نقصان. وكان الماء يتدفّق بينهما بنهرٍ جارٍ، يسقي الزرع، ويزيده نضارة وبركة.
(وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ)
(الكهف: 34)
أي: كان عنده ثروة هائلة من الثمار، بالإضافة إلى أموال وممتلكات أخرى.
غرور صاحب الجنتين
لكن هذا الرجل تكبّر واغتر. فنظر إلى صاحبه الفقير، وقال له بتعالٍ
(فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا) (الكهف: 34)
أي: أنا أغنى منك، وأقوى في المكانة الاجتماعية، وعندي أولادٌ وأتباع
ثم زاد طغيانًا وتمادى، فدخل جنتيه وهو متكبّرٌ كأنها لن تفنى أبدًا
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا) (الكهف: 35)
وهذا عين الكفر: أن يظن أن نعم الدنيا باقية، وأنها لا تهلك، وأنه في أمانٍ دائم.
ثم زاد كفرًا فقال
(وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا) (الكهف: 36)
أي: لا أعتقد أن هناك بعثًا، وإن كان، فأنا سألقى عند الله أفضل من ذلك
وهذا من أقبح أنواع الغرور: أن يجمع بين الشك في البعث وادعاء الفضل على الله.
ردّ الرجل المؤمن
فرد عليه صاحبه المؤمن، بالتذكير بالله، وأنه خلقه من تراب ثم نطفة، ثم سواه رجلاً.
(قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا) (الكهف: 37)
ثم أضاف:
( لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا) (الكهف: 38)
واستغرب منه كيف لم يشكر الله حين دخل جَنَّتَه، وقال له
(وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا)
(الكهف: 39)
فالتواضع والاعتراف بأن كل شيء من الله هو الطريق للثبات والنجاة.
ثم قال له المؤمن محذراً
(فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا) (الكهف: 40)
أي: قد يُهلكها الله في لحظة، فتصبح أرضًا جرداء، لا يُثبت فيها قدم.
(أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا) (الكهف: 41)
أي: يغور ماؤها في الأرض، فلا تستطيع إخراجه.
وقوع العقوبة
وما هي إلا لحظاتٌ أو أيامٌ حتى جاء القضاء الإلهي:
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) (الكهف: 42)
أي: أهلك الله جنّتيه، وأحاط الخراب بكل ما فيها. فندم أشد الندم
(فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا) (الكهف: 42)
أي: كان يضرب يديه من الحسرات، وينظر إلى بقايا الجنتين وقد انهارت الأسقف، وتداعت الأعمدة.
(وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا) (الكهف: 42)
لكن التوبة بعد الفناء لا تنفع، وقد فات الأوان.
(وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا) (الكهف: 43)
لم ينفعه أحد. لا مال، ولا أولاد، ولا أنصار.
(هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا) (الكهف: 44)
عند ذلك يظهر من هو المالك الحقيقي: الله وحده، صاحب النعم والعقاب والثواب.
هذه القصة العظيمة تحوي عبرًا جليلة:
لا تغتر بالدنيا... فهي زائلة.
الشكر على النعمة يحفظها، والكفر بها يهلكها.
الإيمان بالآخرة هو المقياس الحقيقي للنجاة.
المتواضع الشاكر محبوب عند الله، أما المغرور المتكبر فمهزومٌ ولو ملك الأرض.
قصة الرجلين في سورة الكهف ليست خيالًا، بل درسًا خالدًا للبشرية كلها. تذكّر دومًا إن قلت (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) فإن الله يبارك لك. وإن تكبرت، فقد تُفاجأ بزوال كل شيء.
(اللهم اجعلنا من الشاكرين الذاكرين، واغننا بك عن غيرك، وارضَ عنا، واغفر لنا زلاتنا)
إعداد: رامة محمود دللي
إنه أوّاب – سليمان عليه السلام بين البلاء والإنابة
في زمن عزّ فيه الحق، وساد فيه العدل تحت حُكم نبي الله سليمان بن داوُد عليهما السلام، منح الله نبيَّه ملكًا لم يُعطِه لأحدٍ من بعده
ملك الجن والإنس، وتسخير الرياح، والطير، والدواب، وحتى فهم لغة النمل والهدهد، كلّها كانت من نعم الله عليه.
كان سليمان عليه السلام نبيًا عابدًا زاهدًا، حريصًا على شكر الله، لكنه ذات يوم ابتُلي بفتنة عظيمة، امتحانٌ من الله عز وجل، فانتزع الله منه الملك وألقى على كرسيّه جسدًا.
قال الله تعالى:
(وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ ) (ص 34)
( وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ)
أي: اختبرناه وامتحناه امتحانًا عظيمًا.
(وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا)
أي: وضع الله على عرش سليمان جسدًا بلا روح، وهو دليل على زوال هيبة الملك والسلطان. واختلف العلماء في تفسير هذا (الجسد)
أقوال المفسرين:
قيل هو شيطان استولى على خاتم سليمان (الذي به سر الملك) وجلس مكانه، وسلب منه الحكم لفترة.
وقيل هو جسد سليمان نفسه بعدما أصيب بمرض شديد ففقد سلطانه مؤقتًا.
وقيل هو ولدٌ له، وُلد فجأة ومات قبل أن يعيش، فأيقن سليمان أن الله لا يُعطي الملك إلا من يشاء وبحكمة.
لكن أرجح التفسيرات – عند جمهور العلماء – أن سليمان عليه السلام فقد ملكه مؤقتًا، ثم أعاده الله إليه بعدما تاب وأناب.
(ثُمَّ أَنَابَ)
أي رجع إلى الله واستغفره، وعلم أن الله هو وحده الذي يملك أن يعطي ويأخذ، وأن المُلك الحقيقي لا يُطلب لذاته بل لخدمة الدين والعدل.
كثير من المفسرين رجّحوا أن القصة تبدأ بانشغال سليمان بالخيل عن ذكر الله، ثم تلا ذلك الفتنة التي أزال الله فيها مُلكه مؤقتًا، فكانت درسًا تربويًا لسليمان عليه السلام
القرآن لم يُصرّح بتفاصيل الفتنة، لكن العلماء والمفسرين ذكروا أقوالًا كثيرة في سببها، أشهرها قولان رئيسيان:
بعدما رد الله عليه سلطانه، توجّه سليمان عليه السلام بدعاء خاشع
(قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ)
(ص: 35)
فاستجاب الله دعاءه، وسخّر له
الريح
(فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ) ( ص 36)
والشياطين
(وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ (37) وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ) (ص: 36-38)
جاء في بعض الروايات الإسرائيلية (وليست من القرآن أو الحديث الصحيح) أن سليمان كان يحتفظ بصندوق فيه التوراة، وبعض مواريث النبوة، وربما خاتمه الذي كان عليه اسم الله، وسُلب منه خلال الفتنة، ثم أعاده الله إليه.
وليس هناك دليل قطعي من القرآن أو السنة يُثبت تفاصيل هذا الصندوق، بل أكثرها من روايات بني إسرائيل، فنذكرها للتوضيح فقط.
انتهت حياة نبي الله سليمان عليه السلام وهو واقف يُشرف على عمل الجن. وكان قد سأل ربه ألا يُعلم أحدٌ من الناس بموته حتى يثبت للجن أنهم لا يعلمون الغيب
(فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ)
(سبأ: 14)
ظل واقفًا ميتًا، متكئًا على عصاه (منسأته)، حتى أكلتها دابة الأرض (ربما الأرضة)، فسقط جسده، فعلمت الجن أنه قد مات.
الملك والعلم والنبوة كلها منح من الله، يسلبها ويعطيها بحكمة.
الانشغال بغير الله حتى لو كان خيرًا إذا نسي القلب ربه، كان نقصًا ينبغي التوبة منه.
لا تسأل الله شيئًا إلا وأنت مفوض إليه الأمر، قائلاً: (إن شاء الله)
كل ما في الدنيا زائل، فلا تعلّق قلبك بالملك أو الولد أو الجند، بل بالله وحده
سليمان عليه السلام كان نموذجًا فريدًا في العدل والعبادة والتواضع رغم ملكه العظيم.
سليمان عليه السلام، نبي وملك، عبد الله بإخلاص، فآتاه من كل شيء. امتحنه الله فصبر، وأعاده إلى أعظم مما كان عليه. تذكّر دائمًا أن كل ما بين يديك، إنما هو أمانة، وأن الرجوع إلى الله هو أعظم سبيل للثبات على الحق.
﴿رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًۭا لَّا يَنۢبَغِى لِأَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ﴾
إعداد: رامة محمود دللي
من عرش المجد _ إلى سجدة الحق
في لحظة مصيرية من قصة نبي الله سليمان عليه السلام، وبعد أن علم من الهدهد بخبر ملكة سبأ (بلقيس) ومملكتها الغنية، وقومها الذين يسجدون للشمس من دون الله، أرسل لها سليمان رسالة قوية تأمرها بترك الشرك بالله والدخول في الإسلام.
بلقيس، بدهائها وحكمتها، فهمت أن سليمان ليس ملكًا عادياً، لكنها أرادت التأكد من أمره، فأرسلت إليه هدية عظيمة، فرفضها، وأظهر لها أنه نبيٌ مؤيد من رب السماوات والأرض، لا يريد كنوزها، بل إيمانها
ثم جاءت اللحظة التي قررت فيها بلقيس أن تزور سليمان بنفسها لتقف على الحقيقة.
ولأن سليمان عليه السلام أراد أن يُظهر لها آية مدهشة قبل أن تصل، التفت إلى من حوله من الجن والجنود، وقال:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ) (النمل: 38)
فردّ عفريتٌ من الجن، وكان قويًا سريعًا
(قَالَ عِفۡرِيتٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّي عَلَيۡهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٞ) (النمل: 39)
(قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ) (النمل: 40)
أي: قبل أن تغمض عينك وتفتحها وإذا بالعرش العظيم – وهو من أثمن ما تملكه بلقيس – أمام سليمان مباشرة
فبُهِت سليمان، وشكر ربه فقال
(فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ) (النمل 40)
وبالفعل، نُقل العرش في طرفة عين وهذا الذي عنده علم من الكتاب، قيل هو (آصف بن برخيا) وزير نبي الله سليمان، وكان من المؤمنين الصالحين، وقيل: هو (ابن أخته) كان عنده علمٌ من الكتاب
عندما جاءت بلقيس، أمر سليمان بتغيير بعض ملامح عرشها، ولن يستقبلها بنفسه بل كلف اعوانه يختبروها قالوا: أهكذا عرشك؟
(قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرۡشَهَا نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِيٓ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهۡتَدُونَ) (النمل: 41)
فلما رأته، قالت:
(فَلَمَّا جَآءَتۡ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ وَأُوتِينَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِينَ) (النمل: 42)
قالت: كأنه هو، ولم تجزم لأنها رأت التشابه العجيب، لكنها شكّت بسبب اختلاف بسيط.
في هذه اللحظة، بدأت بلقيس تدرك أن سليمان نبيٌ مؤيد من رب العالمين، وأن هذا أمر فوق قدرات البشر.
ثم دُعيت بلقيس إلى القصر، وكان قصرًا عجيبًا، ممره من زجاج شفاف يمر الماء من تحته.
فما إن رأت هذا المشهد العظيم، وقدرتها على رؤية الماء من تحت قدميها، أدركت أن هذا ليس عمل ملك عادي، بل نبيّ من عند الله.
(قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ) (النمل: 44)
عندما رأت بلقيس أرضية القصر الزجاجية الشفافة، وتحتها ماء، ظنت أنها مياه عميقة (لُجَّة)، فخافت أن تدخل وقد تغرق أو تتبلل، ولهذا:
(وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ)
أي رفعت ثيابها لتدخل وكأنها ستخوض في ماء عميق
لكن سليمان عليه السلام قال لها:
(إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ)
أي: إنه أرضية زجاجية محكمة فوق الماء.
فعلمت أن في الأمر إعجازاً، وأن سليمان ليس ملكًا عاديًا، بل نبي من عند الله عندها، آمنت بلقيس بالله وقالت:
(قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) (النمل: 44)
لم يرد في القرآن أو في حديث صحيح أن نبي الله سليمان تزوج بلقيس، لكن وردت أقوال في كتب المفسرين والقصاصين، لا ترقى إلى مرتبة الثبوت، وهي محل اختلاف، وأقرب ما يُقال أنه لم يتزوجها، بل أقرّ ملكها على قومها بعد إسلامها.
الهدهد طائر صغير، لكن الله جعله سببًا في هداية أمة.
بلقيس كانت ملكة حكيمة، لم تأخذ القرار بالحرب دون مشاورة، ثم انقادت للحق لما تبين لها.
سليمان عليه السلام لم يغترّ بالقوة والملك، بل استخدمها في نشر التوحيد وبيان الحق.
العلم والإيمان هما أعظم من المال والهدايا.
من آيات الله في الكون: ما يُظهره لأنبيائه في طي المسافات والزمان، كما في إحضار العرش
وهكذا أسلمت بلقيس ملكة سبأ، التي كانت تسجد للشمس، وسجدت الآن لرب الشمس.لقد ختمت بلقيس رحلتها من مملكة الذهب والعروش إلى مملكة الإيمان والخضوع لله رب العالمين.
إعداد: رامة محمود دللي
حكمة امرأة _ وكرامة نبي
بعد أن أرسل النبي سليمان عليه السلام الهدهد برسالة إلى ملكة سبأ، بلقيس، وصلت إليه الأخبار عن هذه الرسالة، التي دعت بلقيس إلى الدخول في دين الله تعالى، فاستعدت بلقيس لمقابلة هذه الدعوة غير المسبوقة. استشارت ملكة سبأ حكّامها وأعيانها، ورأت منهم ردوداً متباينة، فتدبرت الأمر وقالت لهم:
(قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ) (سورة النمل: 32)
هذه الكلمات لم تكن مجرد إعلان، بل كانت بداية حوار جاد بين الملكة وقومها حول ما هو أفضل لهم، فأجابها قومها
(قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ) (سورة النمل: 33)
هنا يعبّر قومها عن ثقتهم بقوتهم المادية والعسكرية، فهم يرون أن القوة هي الضامن لسلامتهم واستقلالهم، ويرفضون الدخول في أمر جديد قد يغير نظامهم.
لكن بلقيس كانت حكمتها أكبر، فرأت أن القوة وحدها لا تكفي، وأن هناك بعدًا آخر للحكم هو الحكمة والعدل، فقالت لهم
(قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ) (سورة النمل 34)
كأنها تؤكد على أن حكم الله وعلمه بما في النفوس هو الغاية، وأن النهاية كلها إليه، فتتمسك بالرأي السديد.
تشير هنا إلى أن وجود ملك عادل وواعي مثل سليمان عليه السلام هو أمر مهم، وأنها جاءت لتبصر قومها بالحقيقة، وتطلب منهم المساعدة، لأنهم شركاء في القرار.
الحوار بين بلقيس وقومها يعكس صراعًا بين العقلانية والجهل، بين قوة السلاح والروحانية، بين التمسك بالعادات القديمة والاستعداد للتغيير.
بلقيس تمثل الملكة الحكيمة التي تستمع إلى رأي قومها، لكنها لا تنسى أنها مسؤولة عن الخير العام، فهي تبحث عن الحق، ولو كان مخالفًا لما هو مألوف. أما قومها فبدأوا بالاعتماد على القوة فقط، ثم تذكروا أن القوة لا تعني كل شيء، بل أن هناك قدر الله وما هو متحقق في النفوس.
بعد أن استشارت ملكة سبأ قومها، ووقفت على قوة سليمان وجبروته، أرادت أن تختبر إن كان سليمان ملكًا عاديًا أو نبيًا مرسلًا من الله، فقررت إرسال هدية عظيمة له، لتعرف رده.
أرسلت بلقيس إلى سليمان من خزائنها كنوزًا كثيرة، من ذهبٍ وفضةٍ وأشياء نفيسة، لتكون هديتها رمزية على غناها وقوتها، لكن في نفس الوقت، كانت هذه الهدية اختبارًا له.
قالت
(وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ) (سورة النمل: 35)
وكانت الهدية بهذا القدر من الفخامة والقوة التي أثارت انتباه سليمان عليه السلام، لكنها لم تكن المعيار الحقيقي، بل رد فعل سليمان هو ما كشف عن نبوته وعلو مقامه.
سليمان عليه السلام، حين رأى الهدية، لم يُهَمّه المظهر الخارجي، بل طلب من الله العلم والحكمة
(فَلَمَّا جَآءَ سُلَيۡمَٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ) (سورة النمل: 36)
لم ينشغل سليمان بالهدية كملك يحسب على ماله، بل استقبلها كرسالة ودعوة، وأراد أن يظهر لطف الله وحكمته كشف سليمان خطة بلقيس وسبب ارسال الهدية فرد على رسول بلقيس وقال
(ٱرۡجِعۡ إِلَيۡهِمۡ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَآ أَذِلَّةٗ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ) (سورة النمل: 37)
وهذا ما يدل على ملكه الخاص الذي لا يشبه ملوك الأرض فقط، بل هو نبي يملك قوة روحية ومعجزة الاهية
هدية بلقيس كانت اختبارًا لمعرفة حقيقة سليمان، هل هو ملك كباقي الملوك، أم نبي مرسل، والحكمة في القصة أن الأموال والكنوز ليست المعيار الحقيقي للملك أو القوة، بل العلم، والحكمة، والتقوى.
سليمان لم يفرح بالهدية، بل استقبلها بحكمة، وأظهر عظمة الله من خلال ما وهبه له من ملك ونبوّة.
إعداد: رامة محمود دللي
(نَبَأٌ يَقِينٌ... من طائر في السماء إلى نبي على الأرض)
في مملكة عظيمة ساد فيها العدل والنبوة والعلم، كان نبي الله سليمان بن داوُد عليهما السلام، يحكم بين الناس والجن والطير والنمل، فآتاه الله ملكًا لم يؤته أحدًا من العالمين.
وذات يوم، جمع سليمان جنده من الإنس والجن والطير في عرض عظيم منظم، وسار بهم في الأرض المقدسة، يقودهم بنفسه، يتفقد أحوالهم بعين الراعي المسؤول.
وبينما هو يتفقد الطير، لاحظ غياب أحدهم، الهدهد، فقال سليمان
(مَا لِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ) (النمل: 20–21)
وسبب هذا الغضب أن الهدهد كان مسؤولًا عن نقل الأخبار ومراقبة المناطق البعيدة، ولا يجوز له الغياب إلا لعذر.
لم يكن غيابه هيِّنًا، فغياب الجندي دون إذن يستحق العقوبة، لكن هذا الهدهد كان يحمل سرًّا عظيمًا
(فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ) (النمل 22)
أي: تأخر الهدهد غيابًا يسيرًا، ثم عاد بسرعة، فلم يكن مكثه طويلاً.
والمعنى أن:
الهدهد غاب عن مجلس نبي الله سليمان عليه السلام دون إذن.
لكن هذا الغياب لم يطل كثيرًا.
عاد قبل أن يُنفذ فيه سليمان العقوبة التي توعّد بها (بالذبح أو التعذيب).
وقد قال المفسرون:
الطبري: أي لبث وقتًا غير طويل ثم حضر.
ابن كثير: أي لم يلبث إلا قليلًا حتى جاء.
القرطبي: هذا يدل على ذكاء الهدهد وسرعته، فهو لم يطل الغياب، وعاد ومعه خبر عظيم غير مجرى الاحداث
عاد الهدهد سريعًا، والنبأ في صدره كالشرارة، فوقف أمام سليمان عليه السلام وقال بثقة
(أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ) (النمل: 22)
لقد رأى في مملكة سبأ، في أرض اليمن، أمرًا عجيبًا ,امرأةً تحكمهم وتملك عرشًا عظيمًا، وقومًا يعبدون الشمس من دون الله.
قال الهدهد:
(إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ)(النمل: 23–24)
ثم ارتفعت نبرة الهدهد، ليس فقط ناقلًا للخبر، بل منكرًا متعجبًا
(وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ (24) أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ (25) ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ۩) (النمل: 24–26)
لم يكن الهدهد يدعو أهل سبأ بنفسه، لكنه أبدى إنكارًا فطريًا للشرك وتعظيمًا لله الواحد القهار، كأنما يقول لسليمان: كيف لا يسجدون لله؟
حينها، قرر نبي الله سليمان التحقق وعندها قال سليمان
(سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ) (النمل: 27)
وأمره أن يحمل رسالة من ملك عظيم إلى ملكة سبأ
رسالة فيها قوة وبلاغة
ثم كتب لهم رسالة دعوة للتوحيد، وأرسلها مع الهدهد
(ٱذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ) (النمل: 28)
وهكذا، كان الهدهد رسول صدق، بفضل الله، بلغ الخبر، وأيقظ في قلب الملك النبي الغيرة للدين، فكانت بداية هداية قوم سبأ وإيمان ملكتهم، وانتصر التوحيد على عبادة الشمس، ببركة هدهدٍ صغير، وعقل نبي عظيم
لا تحتقر أحدًا مهما بدا صغيرًا، فقد يكون حاملًا لأعظم رسالة.
الغياب بعذر وصدق يُقابَل بالرحمة، لا بالعقوبة.
الهدهد كان داعية إلى التوحيد وهو طائر فما بالك بالبشر
الإيمان لا يعرف المكان، حتى ملكة في قصر ها خضعت لله بعد أن عرفت الحق.
نبي الله سليمان استخدم الحكمة والعقل، لا البطش، لنشر رسالة التوحيد.
إعداد: رامة محمود دللي
أضعف خلق الله... وأعظم أثر
في زمنٍ مضى، في عهد نبيٍ عظيمٍ، آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وعلّمه منطق الطير، وسخّر له الجنّ والريح..كان نبي الله سليمان بن داوُد عليهما السلام يسير بجيشه العظيم.
جيشٌ لم يكن كأي جيش، بل كان فيه الإنس والجنّ والطير، صفوفٌ تمشي في نظامٍ مهيب، لا يتقدّم صنف على آخر، فكلٌّ يعرف مكانه. وكانت الريحُ تسوقهم حيث أمر سليمان عليه السلام.
قال الله تعالى واصفًا هذا المشهد الجليل:
(وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ) (النمل: 17)
وفي طريقهم مرّوا على وادي النمل. هناك، على جانب أحد الجبال، كانت تعيش مستعمرة من النمل. ووسط تلك الجموع الصغيرة، كانت نملةٌ ذكيةٌ، تراقب السماء والأرض، فرأت الغبار يتصاعد من بعيد، والريح تحمل معها وقعَ أقدام الجنود، وصوت الطير التي تحلق فوق رؤوسهم.
فأدركت النملةُ أن جيش سليمان قادم
لكن من يستطيع أن يوقف هذا الجيش ؟
ومن يُنذر النمل ؟
ومن يُنقذهم من الموت تحت الأقدام ؟
عندها رفعت النملة صوتها الصغير، وقالت كمن ينادي في أمّة كاملة
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ) (النمل: 18)
سمع نبي الله سليمان عليه السلام صوت النملة
نعم، فقد آتاه الله معجزةً من أعجب المعجزات: فهم كلام الحيوانات.
فابتسم نبي الله ابتسامة المُعجَب بتدبير الله، وبحكمة هذه النملة الصغيرة التي غيّرت مسار جيشٍ كاملٍ بكلمةٍ صادقة.
(فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ) (النمل: 19)
كان سليمان عليه السلام يستطيع أن يدهس الوادي بكامله، لكنه لم يكن طاغيةً، بل نبيًّا عظيمًا، يتواضع للضعفاء، ويشكر الله على كل نعمة.
في وقت آخر، وفي عامٍ اشتدّ فيه القحط، خرج سليمان عليه السلام وقومه إلى البراري يستسقون الله. وقف النبي الجليل يدعو ربه، وكان معه جيشه، وأهل المملكة.
وبينما هم كذلك، رأى سليمان نملة رفعت قوائمها إلى السماء، وقالت -كما جاء في بعض الروايات
(اللهم إنا خلق من خلقك، لا غنى لنا عن سقيك ورحمتك، فاسقنا ولا تعذبنا بذنوب غيرنا)
فقال سليمان:
(ارجعوا، فقد سقيتم بدعاء غيركم)
فأمر القوم بالعودة، ونزل المطر على الأرض، ورحمة الله غمرت البلاد.
هكذا غيّرت نملة مسار جيش، وهكذا رفعت نملةٌ أخرى الدعاء إلى السماء، فاستجاب الله لها دون أن يُسمع صوتها بين البشر
لقد أراد الله أن يُظهر لعباده أن الضعف لا يمنع التأثير، وأن التواضع هو طريق الشكر، وأن من كان قلبه مع الله، فإن الله معه.
من لا يُقدّر الضعفاء، لا يستحق القيادة.
ومن لا يسمع صوت النملة، لن يفهم همّ الأمة.
وأن أصغر المخلوقات إذا صدقت، استجابت لها السماء.
وسليمان عليه السلام، رغم مُلكه، لم ينسَ الشكر والتواضع والرحمة.
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌۭ يُوحَىٰ﴾
(النجم: 3–4)
إعداد: رامة محمود دللي
حين بكى ملك الجن والإنس لأجل صلاة
في يوم من أيام ملكه المهيب، جلس نبي الله سليمان عليه السلام، يتفقد خيله الكثيرة، التي أعدّها للجهاد في سبيل الله. كانت خيولًا فريدة من نوعها سريعة، قوية، جميلة، تُعرف بـ (الصفنات الجياد) تقف بثبات وقوة، وتنطلق بسرعة خارقة، وتعلوها الأعراف الطويلة كأنها رايات ترفرف في الأفق.
جلس سليمان عليه السلام يتأملها ويستعرضها، وكان يحبها حبًا شديدًا، لا لأجل الزينة أو التفاخر، بل لأنها خيل الجهاد، سلاحه لنشر التوحيد وكلمة الله.
قال تعالى
(إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ) (33 سورة ص )
ولكن ما لم ينتبه له، أن الشمس قد غربت وهو لا يزال منشغلًا بها ففاتَه وقت الذكر والصلاة التي كان يحرص عليها أشد الحرص. وعندها تنبّه سليمان إلى ما فاته، فبكى وتألّم، وقال نادمًا:
(إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ) (ص: 32)
ثم أمر بردّ الخيول إليه، وقال:
(رُدُّوهَا عَلَيَّۖ) (ص: 33)
وفي لحظة من التوبة العميقة، جاء التعبير القرآني الدقيق
(فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ) (ص33 )
وهنا وقعت الخلاف بين العلماء والمفسرين:
قال بعض السلف كـ (مجاهد وقتادة) : إن سليمان عليه السلام، حين اشتد ندمه، أخذ يذبح الخيول بنفسه، يضرب أعناقها وسوقها بيده أو بسيفه، فداءً لذكر الله، وتوبةً من انشغال قلبه.
واعتبروا أن (المسح بالسوق والأعناق) هنا، كناية عن الذبح والقتل، أي: قطع الرقاب والسيقان.
قال الإمام الطبري: المسح هنا بمعنى القطع، وكان ذلك توبة لله، وتركًا لما شغله عن العبادة.
وقال فريق آخر من المفسرين كـ (الرازي وأبو حيان والقرطبي): إن (المسح) هنا هو المسح الحقيقي بيده، مرَّ يده على أعناق الخيول وسوقها، محبةً لها وتهيئةً للجهاد، وربما تكفيرًا عن تأخره عن الذكر.
واستدلوا بأن نبيًا مثل سليمان لا يذبح خيولًا أعدها في سبيل الله، ولا يضيع نعمة وهبها الله له بلا أمرٍ شرعي.
ورجّح بعض العلماء أن كلا القولين محتمل، وأنه قد يكون ذبح بعضها وتصدّق بلحمها، وأوقف بعضها للجهاد، ومسح عليها بنفسه، في إشارة إلى حبه لها وتوبته في آنٍ معًا
وهكذا، كان سليمان عليه السلام نموذجًا للعبد الأوّاب، الذي إذا أخطأ عاد، وإذا انشغل بشيء عن الله، ضحّى به حبًا لله.
كانت الخيول عند سليمان وسيلة للجهاد، لا زينة أو لهوًا. وقد قال رسول الله ﷺ:
(الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم)
(رواه البخاري ومسلم)
وسليمان كان من أعظم من عرف فضل الخيل، ولكن حين أحس أن حبها أخذ من قلبه مساحةً كان ينبغي أن تكون لله، ضحى بكل شيء فداءً للذكر.
لا خير في مال أو ملك يشغل عن ذكر الله.
والعبد الحق هو من يرجع إلى الله فور خطئه.
وأحيانًا، يكون التخلي عن بعض النعم طريقًا للتقرب إلى الله، إذا شغلت القلب عن خالقه.
في مشهدٍ يتجلى فيه صدق النبوة، وقوة الإيمان، وعظمة التوبة... رأينا نبيًّا ملكًا، سخّر الله له الريح، وأطاعه الجن والإنس، ومع ذلك لم يكن قلبه متعلّقًا بما بين يديه، بل كان قلبه معلقًا بذكر الله وحده.
حين شغله حُب الخيل عن الصلاة، لم يُبرّر، ولم يُجادل، بل بكى وتاب واعتذر، ووقف أمام نفسه وقفة صدق، وعاد إلى ربه عودة الأوّابين. فصار مثالًا خالدًا لكل من أراد أن يعرف: كيف تكون القيادة مع الإيمان وكيف تكون التوبة علامة القوة لا الضعف
لقد علمنا سليمان عليه السلام أن الملك والمال والجيش، مهما عظمت، لا تساوي شيئًا إن أضعنا لحظة من الذكر، أو غفلنا عن الصلاة.
وعلّمنا أن الرجوع إلى الله، وتقديم مرضاته على كل محبوب، هو الطريق إلى الشرف الحقيقي، وأن لا شيء أغلى من لحظة قربٍ من الله.
فسلام على نبي الله سليمان، الملك العادل، والنبي التائب، والمجاهد الذي لم تفتنه زينة الدنيا، بل جعل منها سلّمًا يرتقي به في حب الله.
﴿نِعْمَ ٱلْعَبْدُ ۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ﴾ (ص: 30)
إعداد: رامة محمود دللي
ملكٌ لا ينبغي لأحدٍ من بعده.. سيرة نبي الله سليمان عليه السلام
في أرض مباركة، ولد غلام من نسل النبوة والملك. كان اسمه سليمان بن داوُد، نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، ابن ذلك العابد القائد الملك داوُد عليه السلام، الذي سجدت معه الجبال وسبّحت الطير.
شبّ سليمان في بيت النبوة والحكمة، يرى والده يحكم بين الناس بالعدل، ويقضي بين المتخاصمين بوحي الله. كان ذكياً، فطناً، نقياً في قلبه، وكان داوُد يلحظ فيه آيات النبوغ.
وذات يوم، جاء رجلان إلى داوُد، يختصمان في غنم دخلت على حرث أحدهما. فحكم داوُد أن يأخذ صاحب الحرث الغنم تعويضًا، لكن الشاب سليمان، الصغير في سنه، رفع يده قائلاً:
(يا نبي الله، بل يُعطى الغنم لصاحب الزرع لينتفع بها حتى يعود الحرث كما كان، ثم يُعاد الغنم لصاحبها)
فأعجب داوُد بحكم ابنه، وأوحى الله إليه أنه قد خصّ سليمان بالحكمة.
قال الله تعالى:
(فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ) (الأنبياء: 79)
وحين حضرت داوُد الوفاة، أوحى الله إليه أن يُورث الملك والنبوة إلى ابنه سليمان. وهكذا، صار سليمان نبيًّا وملكًا، يجمع بين وحي السماء وسلطان الأرض، وقد اختصه الله بملْك لم يعطِه لأحد من بعده.
قال تعالى:
(وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ) (النمل: 16)
دعا سليمان ربَّه دعوة عظيمة، فقال:
(رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ) (ص: 35)
فاستجاب الله دعاءه، ووهبه ملكاً لا نظير له في تاريخ البشر. وسخّر له ما لم يُسخّر لغيره:
الرياح: تجري بأمره حيث يشاء.
(وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ) (سبأ: 12)
الجنّ: يعملون له ما يريد، من قصور، وأساطين، وتماثيل، وقدور.
(وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ (37) وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ) (ص: 37–38)
فهم منطق الطير والحيوان:
(وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡر) (النمل: 16)
كان سليمان يعلم أن بيت الله في الأرض ينبغي أن يكون أعظم بناء، فشرع في بناء بيت المقدس في موضعه المبارك، بأمر الله.
فأمر الجن أن يقطعوا الأحجار من الجبال، وينقلوها، ويصنعوا الذهب والزخارف، ويجلبوا الأخشاب من لبنان.
وكان البناء مقدسًا عظيمًا، لم يُرَ مثله. وبناه من دون أن يُحدّد نصوص القرآن ذلك تفصيليًا، لكنه ثابت في السنة.
قال النبي ﷺ:
(إن سليمان بن داود لمّا بنى بيت المقدس سأل الله ثلاثًا... فأعطاه الله إياها كلها)
(رواه النسائي وصححه الألباني)
وفي أحد مشاهد العظمة في حياة نبي الله سليمان عليه السلام، خرج بجيشه الجرّار، جيشٍ لم يعرف التاريخ له مثيلًا: جنٌّ مسخّرة، وإنسٌ مطيعون، وطيورٌ محلّقة تحرسه من فوق، وقد اجتمعوا له جميعًا في نظام بديع لا يتقدمه ولا يتأخر منه أحد.
قال الله تعالى:
(وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ) (النمل: 17)
أي جُمِعَ له الجنود من كل صنف، وأُمرت الجنُّ والإنس والطير بالانضباط، لا يتقدّم أحدٌ على أحد، بل يُدفع المتقدّم ليتساوى مع البقية، وكأنهم في عرضٍ عسكري سماوي
وكان سليمان عليه السلام يتفقدهم بعينه النبوية، يعلم كل فرد في هذا الجيش العظيم، حتى إذا فقد الهدهد، علم بذلك وقال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾.
وكانت الريح جنداً من جنود الله في ملك نبيه سليمان عليه السلام، لا تهبّ إلا بأمره، ولا تهدأ إلا بإذنه، تُصبح فتطوي له الأرض في يوم كما يطوي الناس مسافة شهر، وتروح كذلك في المساء مسيرة شهر آخر، كأن الزمان انحنى بين يديه.
قال الله تعالى:
(وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ) (سبأ: 12)
وكان إذا أراد أن يسافر، جلس على بساطه العظيم، فحملته الرياح كما تحمل الأم طفلها، تسير به بغاية الانضباط والرحمة، فوق الأرض والبحار.
وقد أكّد الله تعالى هذه المعجزة العظيمة في موضع آخر فقال:
(فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ) (ص: 36)
أي جعلناها مطيعة له، رخاءً لا عاصفة، تحمل ملكه وجنوده حيث أراد، في سكينة وسرعة خارقة، وبهذا ساد البلاد والعباد، ونشر دعوة التوحيد في أقاصي الأرض.
ولم تكن الريح تُطيع نبي الله سليمان عليه السلام برفق فقط، بل سُخّرت له أيضًا حين احتاجها عاصفةً قوية هادرة، تُطيح بما شاء، وتقذف ما شاء، وتحمل جنوده وسفينته وبساطه حيث يشاء.
فقد قال الله تعالى:
(وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ) (الأنبياء: 81)
كانت هذه الريح العاصفة تسير بأمر نبي الله سليمان إلى الأرض المباركة، وهي أرض الشام وما حولها، فتنشر جنود التوحيد، وتحقق الأمن في الأرض، وتبني حضارة الإيمان تحت راية السماء.
وهكذا كانت الريح في يد سليمان عبدًا مأمورًا، تارةً رُخاءً حيث أصاب، وتارةً عاصفةً بأمر الله، في سابقة لم يُعطها الله لنبي غيره.
وكان نبي الله سليمان عليه السلام لا يفتخر بما سُخّر له من الجن والشياطين، بل كان يسخّرهم في طاعة الله وخدمة عباده، فيأمرهم ببناء القصور، وحفر الأنهار، وصناعة التماثيل للزينة (لا للعبادة ) وتجهيز القدور الضخمة التي يُطهى فيها الطعام للفقراء والمساكين، بل وحتى للحيوانات.
قال الله تعالى:
(يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ)(سبأ: 13)
المحاريب: هي القصور العالية المزخرفة التي كان يقيم فيها الصلاة والعبادة،
والتماثيل: مجسّمات على شكل طيور وأسود، تُستخدم في الزينة وليس للعبادة،
والجِفان كالجَواب: أوانٍ ضخمة كالأحواض، يُطهى فيها الطعام،
والقدور الراسيات: قدور عظيمة لا تُنقل من مكانها من شدّة ضخامة حجمها، يُعدّ فيها الطعام للمحتاجين والدواب على السواء.
وكان هذا كله يتم بأمره، والجن مسخّرة له لا تعصي أمرًا، وكان سليمان يستخدم ملكه هذا في نفع العباد ونشر الرحمة، لا للترف أو التسلّط، وقد وجّهه الله تعالى بقوله:
(ٱعْمَلُوا آلَ دَاوُۥدَ شُكْرًۭا)
(سبأ: 13)
أي اعملوا بطاعة الله وعمارة الأرض، شكرًا له على هذه النعمة الجليلة، التي لا يُرزقها إلا القليل.
إعداد: رامة محمود دللي
الملك الزاهد: داوُد عليه السلام بين الحكم والعبادة
في زمنٍ من أزمنة بني إسرائيل، وبعد وفاة نبي الله موسى عليه السلام بقرون، بعث الله نبيًّا من أعظم أنبيائه، اجتمع له النبوة والملك، وكان عبدًا صالحًا، زاهدًا، قاضيًا عادلاً، ومحاربًا شجاعًا… إنه نبي الله داوُد بن إيشا من نسل يهوذا بن يعقوب عليه السلام.
ولد داوُد في بيت لحم قرب القدس، وكان راعيًا بسيطًا في شبابه، لكنه أصبح بعد ذلك ملكًا على بني إسرائيل ونبيًا من أولي العزم، بل آتاه الله ملكًا لم يُؤتِه أحدًا قبله، وأنزل عليه الزبور، وأعطاه صوتًا عجيبًا، إذا رتّل به آيات الله، سَبح الطير والجبال معه، وذابت القلوب خشوعًا!
من ذريته جاء نبي الله سليمان، النبي الملك المعروف بالحكمة والتسخير، وكان من نسله أيضًا أنبياء كُثُر في بني إسرائيل، وقد ورد في القرآن قوله:
(وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ) (ص: 30)
أنزل الله على داوُد عليه السلام كتابًا سماويًا اسمه الزبور، وهو من الكتب الإلهية الأربعة (التوراة، الزبور، الإنجيل، القرآن)، قال تعالى:
(وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا) (النساء: 163)
والزبور كتاب مواعظ وابتهالات وتسبيحات، فيه تمجيد لله وتذكير باليوم الآخر، وليس فيه تشريعات كالتوراة.
ومن أعجب ما أعطى الله لنبيه داوُد، أن الله ألان له الحديد ليصنع منه الدروع، وجعل الطير والجبال تردد تسبيحه، قال تعالى:
(وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ) (سبأ: 10)
وقال أيضًا:
(إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ (18) وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ) (ص: 18–19)
وكان إذا قرأ الزبور، سكنت الطيور في السماء، ووقفت الوحوش في الغابات، كأنها تُنصت لداوُد، ثم تردد التسبيح معه
(أوّبي) : أي رَدِّدي التسبيح معه.
(محشورة) : أي مجتمعة له في طاعته وتسبيحه، كما لو أنها تتبع أمره وتُحشر لسماع صوته.
قال رسول الله ﷺ:
(كان داوُد عليه السلام أحسن الناس صوتًا بقراءة الزبور، وكان إذا قرأ الزبور، وقفت الطير في الهواء، تسبّح معه، وما مرّ به أحدٌ إلا وقف يستمع لصوته)
(أخرجه أحمد والطبراني، وصححه الألباني)
كان صوته عذبًا رخيمًا، يرق له الحجر، وقد وصفه العلماء بأنه أعذب من مزامير داوُد (أي آلات العزف ) لأن قلبه كان ممتلئًا بخشية الله.
آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وكان قاضيًا بالعدل، لا تأخذه في الله لومة لائم
(وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ) (ص: 20)
ومن عدله أن الله اختبره في قصة الخصمين الذين تسوّرا عليه المحراب ليحكما بينهما (سورة ص: 21–26)، وعلّمه كيف لا يحكم إلا بعد أن يسمع من الطرفين، فتاب إلى الله وخرّ ساجدًا.
قبل أن يصبح نبيًا، اشتهر داوُد بشجاعته، إذ قتل جالوت الجبّار قائد جيوش العدو في معركة حاسمة، وكان ذلك في عهد نبي الله شموئيل (صموئيل)، وبعد مقتل جالوت، أعطاه الله الملك والنبوة
(فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ) (البقرة: 251)
ومن هنا بدأ نجم داوُد يسطع، ليكون نبيًّا عظيمًا وملكًا عادلاً.
قال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح
(أحبّ الصيام إلى الله صيام داوُد، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا. وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داوُد، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه.)
(صحيح البخاري ومسلم)
عبادته كانت مثالًا في الاجتهاد والتوازن، لا إفراط ولا تفريط، يجمع بين الجهاد في النهار وقيام الليل في السحر.
ورد اسمه في القرآن 16 مرة في سور متعددة.
مدحه الله بأنه:
أواب (كثير الرجوع إلى الله)
عبد صالح
قاضٍ عادل
مجاهد شجاع
صاحب صوت عذب
قال تعالى:
(وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ) (ص: 17)
سيرته ملأى بالدروس التربوية والإيمانية، ومنها
العدل في الحكم: داوُد عليه السلام كان نبيًا قاضيًا عادلًا، وقصته مع الخصمين نموذج في ضرورة التثبت قبل الحكم.
العبادة والتوازن: النبي محمد ﷺ قال عن داوُد:
(أحبّ الصيام إلى الله صيام داوُد... وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داوُد)
(رواه البخاري ومسلم)
العمل باليد: كان داوود لا يأكل إلا من عمل يده، وقد علّمه الله صنعة الحديد وصناعة الدروع، قال ﷺ:
(كان داوُد عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده)
(رواه البخاري)
الشجاعة والجهاد: المسلمون يتعلمون من قصة قتاله لجالوت شجاعة الإيمان، والتوكل على الله.
كان هذا من فضل الله العظيم عليه ومن خصوصياته النبوية التي لم تُعطَ إلا لعدد قليل من الأنبياء.
روى ذلك الإمام ابن أبي حاتم في تفسيره، وذكره الثعلبي والقرطبي، ونسبوه لأبي سعيد الخدري، وجاء فيها:
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه
( رأيت في المنام كأني أقرأ سورة (ص) تحت شجرة، فكانت الشجرة تقرأ معي حتى إذا بلغت السجدة،
قالت الشجرة:
(اللهم اكتب لي بها أجرًا، وحُطّ عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داوُد.)
فذكرت ذلك للنبي ﷺ، فقال:
(يا أبا سعيد، لقد رأيت شجرة تسجد كما كانت تسجد مع داوُد عليه السلام.)
سورة ص: من السور التي فيها سجدة تلاوة، وفيها ذكر داوُد عليه السلام، فكان في الرؤيا ارتباط بين تسبيح داوُد وسجود الشجرة.
دعاء الشجرة عند السجود فيه:
طلب الأجر.
غفران الذنوب.
القبول من الله.
الاقتداء بداوود عليه السلام.
إقرار النبي ﷺ للرؤيا يُظهر:
عظمة السجود لله.
أن الكون كله يسبح ويخضع لله.
أن من أخلص لله في العبادة، يُكرمه الله برؤى صالحة ومواقف شريفة.
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ) (الجمعة: 1)
(أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ) (الحج: 18)
توفي داوُد عليه السلام عن عمرٍ يناهز المئة عام، وقيل: عاش مئة سنة تمامًا.
ومات في القدس (أورشليم)، وهناك دُفن، وقام بعده ابنه سليمان عليه السلام بالملك والنبوة، وكان خير خلف لخير سلف.
كان نبي الله داوُد عليه السلام نموذجًا نادرًا للقيادة والعبادة، اجتمعت فيه قوة الحكم وعدل القضاء وجمال الصوت وخشية الله.
وقد خُلّد ذكره في القرآن، ليكون عبرةً لكل من يتولى أمر الناس، أن العدل أساس الملك، وأن الصوت العذب لا يساوي شيئًا دون قلبٍ خاشعٍ لله.
إعداد: رامة محمود دللي
التيه… ضياعٌ في الأرض وعِبرةٌ للأمم
في زمن نبي الله موسى عليه السلام، وبعد أن أنقذهم الله من ظلم فرعون، ونجّاهم من البحر، وفتح لهم طريق الحرية… مضى موسى بقومه بني إسرائيل إلى رحلة عظيمة، هدفها الدخول إلى الأرض المقدسة.
كانت وجهتهم إلى بيت المقدس، الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، تلك الأرض التي وعدهم الله بدخولها، بشرط أن يكونوا مؤمنين صابرين.
قال الله تعالى:
(يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ) (المائدة: 21)
لكن بني إسرائيل، وكما هي عادتهم، لم يُحسنوا الظن بالله، ولا صدّقوا وعده، بل جبنوا وتخاذلوا، وخافوا من القوم الجبابرة الذين يسكنون الأرض، فقالوا:
(إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ)
(المائدة: 22)
رغم كل النعم التي أُفيضت عليهم، ورغم أنهم رأوا البحر ينفلق، وعصا موسى تتحول حيّة، ويده تخرج بيضاء، إلا أنهم قالوا لموسى:
(فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ) (المائدة: 24)
يا لها من كلمات وقحة, رفضوا القتال، ولم يكتفوا بذلك، بل اتهموا ربهم بالعجز عن النصر
ولمّا رأى موسى عليه السلام تخاذل قومه وجبنهم عن الدخول إلى الأرض المقدسة، ورفضهم للجهاد في سبيل الله، ذكّرهم بنعمة الله العظمى، ليحرّك في قلوبهم الإيمان والحياء، فقال لهم خطابًا مؤثّرًا:
(يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ) (المائدة: 20)
أي يا قوم، أليس فيكم إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وهارون ؟
أليس الله قد جعل فيكم النبوة والقيادة ؟
أليس الله قد أعطاكم الملك والحرية بعد أن كنتم عبيدًا تحت ظلم فرعون ؟
فكيف تُكافئون هذا الإحسان بالنكران ؟
كيف ترفضون أمر الله بعد أن آتاكم ما لم يُعطه لأحد من العالمين ؟
وهكذا، أراد موسى أن يوقظ قلوبهم الغافلة… لكنّهم استمرّوا في العناد، فاستحقوا التيه. حينها قال موسى
(قَالَ رَبِّ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِي وَأَخِيۖ فَٱفۡرُقۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِين) (المائدة _25)
وسط هذا الجبن الجماعي، وقف رجلان مؤمنان من قوم موسى، شجعان واثقان بوعد الله، يردّدان:
(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ) (المائدة: 23)
لكنهم لم يُسمَع لهم، واستمر القوم في العصيان والتخاذل
فغضب الله عليهم غضبًا شديدًا، ونزل القضاء الإلهي الصارم على هذا الجيل الضعيف
فقال تعالى:
(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ) (المائدة: 26)
التيه: هو الضياع في الأرض بلا هدى.
ظلّ بنو إسرائيل يدورون في صحراء سيناء لا يعرفون طريقًا للخروج، لمدة أربعين سنة كاملة، كلما ساروا ظنّوا أنهم اقتربوا من الخروج، لكنهم يعودون لنفس النقطة
لم يُسمح لهم بالدخول إلى الأرض المقدسة حتى مات ذلك الجيل الجبان الذي رفض الجهاد.
رغم قسوة العقوبة، إلا أن الله لم يتركهم. بل أنزل عليهم المنّ والسلوى، وأظلّهم بالغمام، وضرب لهم موسى الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، ولكنّهم حتى في التيه كفروا النعمة، وبدّلوا ما أُمروا به.
قال الله تعالى
(وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ) (البقرة: 57)
(وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ) (البقرة: 60)
لكنهم قالوا لموسى باستهزاء
(لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ) (البقرة: 61)
وطلبوا طعامًا دنيويًا، فحرمت عليهم بركات السماء.
انتهت الأربعون سنة، ومات فيها موسى وهارون عليهما السلام، ولم يُكتب لهما دخول الأرض.
لكن الله هيأ جيلًا جديدًا، نشأ في صحراء التيه، لم يعرف الذل ولا الجبن، فكان على يديه الفتح، بقيادة يوشع بن نون، تلميذ موسى الأمين.
وهكذا تحقّق وعد الله لمن آمن وصبر
قصة التيه ليست فقط عن بني إسرائيل، بل هي درسٌ خالد لكل أمة
من تخاذل عن أمر الله، وتردّد عن نصرة الحق، وعصى أوامر السماء , فجزاؤه الضياع والتيه، ولو كان في قلب النور
أما من وثق بالله، واستقام على أمره، وصبر, فله الفتح والنصر، ولو بعد حين.
(يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ قَدۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَٰعَدۡنَٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ (80) كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ) (طه: 80–82)
إعداد: رامة محمود دللي
فتح بيت المقدس… من التيه إلى النصر
يوشع بن نون هو (فتى نبي الله موسى عليه السلام) وتلميذه المخلص، ومرافقه في الرحلة إلى العبد الصالح الخضر كما جاء في سورة الكهف:
(وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا) (الكهف: 60)
وقد ورث يوشع القيادة بعد وفاة موسى عليه السلام، وكان من أبرّ الناس، وأكثرهم إيمانًا وثباتًا على أمر الله، حتى اصطفاه الله نبيًا لبني إسرائيل، وأمره أن يقودهم إلى الأرض المقدسة ليقاتلوا فيها.
كان بنو إسرائيل يعيشون في التيه في صحراء سيناء بعد خروجهم من مصر، أربعين سنة، بسبب عصيانهم وجبنهم عن دخول بيت المقدس في عهد موسى عليه السلام. قال الله تعالى عنهم:
(قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ) (المائدة: 22)
لكن رجلين فقط منهم كانا مؤمنين شجاعين، ثبتا على الحق، أحدهما هو يوشع بن نون، كما قال الله:
(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ) (المائدة: 23)
ولما مات موسى وهارون عليهما السلام، جاء أمر الله ليوشع أن يقود الجيل الجديد إلى فتح بيت المقدس.
وقبل أن ينطلق يوشع إلى المعركة، خطب في قومه وأخبرهم بأمر الله: أن لا يخرج معه إلا من كان قلبه ثابتًا، لا مشغولًا بدنياه.
فقال، كما جاء في الحديث الصحيح:
عن النبي ﷺ قال:
(غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجلٌ مَلَكَ بُضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها ولم يبنِ. ولا أحد بنى بيتًا ولم يرفع سقفه. ولا أحد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر ولادها)
(رواه البخاري ومسلم)
فاستبعد ثلاث فئات
من عقد قرانه على امرأة ولم يدخل بها.
من بنى بيتًا ولم يكمله.
من اشترى مواشي وينتظر نتاجها.
لقد أراد جيشًا مؤمنًا خالصًا لا يشغله شيء عن القتال في سبيل الله.
اصطفّ الجيش المؤمن بقيادة نبي الله (يوشع بن نون) عليه السلام أمام أسوار (بيت المقدس) وكان القتال عنيفًا شديدًا، فعدوهم من العمالقة أو الكنعانيين، قومٌ جبارون، يملكون من القوة والعدة والعتاد ما يعجز عنه الكثير.
لكن جيش يوشع كان أقوى بالإيمان... فاندفع الجنود بنفوس مطمئنة، وقلوب مملوءة بالثقة في وعد الله.
ارتفعت صيحات القتال، وتساقطت الجدران، وبدأت علامات النصر تلوح في الأفق... ولكن
ها هي الشمس تميل إلى المغيب.. وظلالها تتطاول على الأرض.
وعلم يوشع أن الأمر خطير
فقد كان ذلك اليوم يوم الجمعة عند الغروب، فإذا غابت الشمس، دخل عليهم يوم السبت، وبني إسرائيل لا يجوز لهم العمل ولا القتال فيه، كما أمرهم الله. وإذا توقف القتال، ضاع النصر، وضاعت ثمرة الجهاد، وعاد العدو ليحتمي بالليل ويُعيد دفاعه.
وهنا رفع نبي الله يوشع بن نون كفيه إلى السماء، وتوجه إلى ربه بثقة عظيمة، ونادى:
(أيتها الشمس ؛ إنك مأمورة ، وأنا مأمور.. اللهم احبس هذه الشمس)
يا لها من كلمات تُكتب بالنور
أمر الله الشمس أن تظل في مكانها... وأمر عبده أن يُجاهد في سبيله... فإذا تعارض الأمران، فإن إرادة الله تتدخل لتنصر أولياءه.
فاستجاب الله دعاء نبيّه وحبَسَ الشمس في كبد السماء، فلم تغب حتى تمّ فتح المدينة المباركة.
روى النبي ﷺ:
(ما حُبست الشمس على بشر إلا ليوشع بن نون، ليالي سار إلى بيت المقدس)
(رواه أحمد وصححه الألباني)
لقد أوقف الله دوران الأرض عن المغيب، لأجل نبيٍّ يقاتل في سبيله... فكان هذا من أعظم الكرامات.
دخل يوشع ومن معه بيت المقدس فاتحين، ونصرهم الله على الجبابرة. وأمرهم أن يدخلوا الباب سُجّدًا (خاضعين متذللين لله)، ويقولوا: "حطة" أي: اغفر لنا.
قال الله تعالى:
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُوا۟ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُوا۟ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا۟ حِطَّةٌۭ وَٱدْخُلُوا۟ ٱلْبَابَ سُجَّدًۭا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيـَٔـٰتِكُمْۚ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾
(البقرة: 58)
لكن بعض بني إسرائيل خالفوا الأمر، فبدّلوا ما قيل لهم، وسخروا، فأنزل الله عليهم البلاء.
استكمل المؤمنون القتال، فدخلوا المدينة، وتحقق وعد الله.
وهكذا، كانت كرامة حبس الشمس شاهدًا على صدق الإيمان، وعلى أن الله لا يُضيّع من جاهد في سبيله.
﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
(محمد: 7)
لقد جسّدت قصة يوشع بن نون معنى الإيمان الحقيقي، والإخلاص، والثبات في وقت المحنة.
وذكرنا الله بها في القرآن والحديث لتكون عبرة للمؤمنين في كل زمان.
ويوشع عليه السلام هو النبي الوحيد بعد موسى الذي استطاع أن يُدخل بني إسرائيل الأرض المقدسة، ليس بالقوة المادية، بل بالتصفية الروحية والطاعة الكاملة.
سورة الكهف:( 60–65 ) ذكره كفتى موسى (لم يُسمَ في القرآن لكن فسّره العلماء أنه يوشع)
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ...﴾
سورة المائدة: (20–26 ) ذكر القصة في عهد موسى، ورفض بني إسرائيل دخول الأرض، إلا رجلين (يوشع وكالب بن يوفنا)
﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ...﴾
سورة البقرة:( 58 ) دخول الأرض المقدسة وأمر الله لهم بالطاعة
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُوا۟ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ...﴾
الأحاديث النبوية – ذكر حبْس الشمس ليوشع، واشتراط الجند الصالح.
إعداد: رامة محمود دللي
رحلة العلم والصبر: موسى في مدرسة الخضر
في يوم من الأيام، وقف نبي الله موسى عليه السلام يخطب في بني إسرائيل، يعلمهم ويذكّرهم بالله، وكان من أعلم الناس في زمانه.
فجاءه أحدهم فقال:
يا موسى، هل هناك أحد أعلم منك؟
فقال موسى، من غير أن يرجع إلى الله
(لا، أنا أعلم أهل الأرض)
وهنا، عاتبه الله –وهو نبي كريم– على أنه لم ينسب العلم إلى الله، فعلمه أنه يوجد عبدٌ صالح، عنده علم لم يُعلِّمه الله لموسى
قال النبي ﷺ:
(قال بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إلى موسى: بل عبدنا خضر)
(رواه البخاري ومسلم)
فتشوّق موسى لرؤية هذا العبد الصالح.
قال: يا رب، كيف أصل إليه ؟
فقال الله له: احمل معك حوتًا (سمكة مملحة)، حيثما تفقد الحوت، فهناك ستجد العبد الصالح.
انطلق موسى وفتاه (يوشع بن نون) يحملان الحوت في مكتل (سلّة)، كما أمرهما الله، وسارا حتى وصلا إلى مكانٍ يُسمّى "مَجْمَع البحرين"، أي الموضع الذي يلتقي فيه بحرٌ ببحر، وقيل إنه عند التقاء بحر فارس (الخليج العربي) ببحر الروم، وقيل غير ذلك، ولم يحدده القرآن.
فلما وصلا إلى صخرةٍ عند البحر، نام موسى، وبينما هو نائم، دبّت الحياة في الحوت بسبب بلل من ماء البحر، وقفز إلى البحر، واتخذ لنفسه طريقًا عجيبًا كالنفق في الماء!
(فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا) (الكهف: 61)
ولم يخبر الغلام نبي الله موسى، مالذي حدث للحوت فقد نسيه الشيطان
(فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ) (الكهف: 63)
ثم تابع موسى السير، ولم يُخبِره الغلام حتى شعر موسى بالتعب
(فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا) (الكهف: 62)
وبعد أن مشيا مسافة، شعر موسى بالتعب وطلب طعامه، فتذكّر الفتى الحوت، وأخبَر نبيّ الله بما جرى.
فقال له يوشع متذكّرًا:
(قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا )(الكهف: 63)
فقال موسى بفرح:
(قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا (64) فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا)
(الكهف: 64-65)
لقد كان ذلك الموضع –عند الصخرة التي تسلل منها الحوت إلى البحر– علامة الوصول، وهناك بالضبط وجد موسى (الخضر) العبدَ الصالح الذي أرسله الله له، ليعلّمه من العلم ما لم يكن يعلم.
الخضر عبدٌ صالح، أعطاه الله علمًا لدنيًا خاصًا، لا يعلمه أحد إلا بإذن الله:
(فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا) (الكهف: 65)
واسمه في كتب التفسير: (الخضر) وقيل سُمّي بذلك لأنه كان إذا جلس على الأرض اليابسة، اخضّرّت من تحته.
قال له موسى بكل أدب:
(هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا) (الكهف: 66)
فأجابه الخضر بتحذير:
(إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا)(الكهف: 67)
لكن موسى أصرّ وقال:
(قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا) (الكهف: 69)
فقال له الخضر:
(قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا )(الكهف: 70)
ركبا في سفينة فقيرة، فخرقها الخضر
فتعجب موسى، وقال
(أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا) (الكهف: 71)
فذكّره الخضر بوعده:
(أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا) (الكهف 72)
ثم لقيا غلامًا صغيرًا، فقتله الخضر
فثار موسى وقال:
(أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا) (الكهف: 74)
فقال له الخضر:
(أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا)
ودخلوا قرية، فاستضافوا أهلها، لكنهم أبوا أن يضيفوهما.
ثم وجد الخضر جدارًا مهدّمًا، فأقامه
فتعجب موسى: كيف تبني لهم جدارًا مجانًا ؟ لو شئت لأخذت أجرًا
(لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا) (الكهف: 77)
فقال له الخضر:
(هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا) (الكهف 78)
وهنا بدأ الخضر يكشف السر:
السفينة
كانت لمساكين يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك ظالم يأخذ كل سفينة صالحة.
فخرقها حتى لا تُغتصب منهم:
(فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا) (الكهف 79)
الغلام
كان كافرًا، ولو كبر لأرهق أبويه المؤمنين.
فأراد الله أن يأخذ روحه صغيرًا، ويعوض والديه خيرًا
(فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا) (الكهف 81)
الجدار
كان كنزتحت الأرض لغلامين يتيمين، وكان أبوهما صالحًا، فأراد الله أن يكبرا ويستخرجا كنزهما
(فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ)
ثم قال الخضر:
(وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا) (الكهف: 82)
وبعد أن التقيا وبدأت رحلتهما العجيبة، جلس موسى عليه السلام والخضر على ساحل البحر، وكان البحر واسعًا ممتدًا لا يُرى له طرف.
وبينما هما يتحدثان، وإذا بطائر صغير يهبط أمامهما، ويغمس منقاره في البحر ثم يرفعه، وقد أخذ قطرة ماء واحدة.
فنظر الخضر إلى موسى، وأراد أن يضرب له أعظم مثال على ضآلة علم البشر مهما بلغوا، فقال له:
(يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما أخذ هذا الطائر بمنقاره من هذا البحر)
(رواه البخاري )
يا له من مشهد
▪️ بحرٌ واسع لا يُرى له حد
▪️ ونبيٌ كريم معه عبدٌ صالح أُوتي علمًا من الله
▪️ ثم طائر صغير لا يُرى إلا بصعوبة، ينقر قطرة من البحر
▪️ فيُقال لهما: هذا هو حجم علمكما بجانب علم الله
العلم الحقيقي من الله، ولا ينبغي لأحد أن يزعم الكمال في العلم.
قد يكون للابتلاء وجه رحمة خفي لا نراه.
الصبر مفتاح الفهم، وبدونه لا يُدرك عمق الأحداث.
برّ الوالدين يحفظ الأبناء، حتى بعد موتهم.
وهكذا انتهت الرحلة العجيبة، التي لم تكن مجرد سفر في الأرض، بل رحلة في عمق الحكمة الإلهية، حيث تعلّم نبيٌّ كريم –هو كليم الله موسى عليه السلام– أن العلم ليس حكرًا على أحد، وأن لله عبادًا علّمهم من لدنه علمًا، لا يُدرك إلا بصبرٍ وإيمانٍ وتسليم.
لقد أراد الله أن يُربي في نبيّه الصبر، والتواضع، والتريّث في الأحكام، فبعثه إلى رجلٍ صالح يُقال له الخضر، لا نعرف نسبه ولا زمانه يقينًا، لكننا نعلم أنه من أولياء الله، أُوتي علمًا خاصًّا ورحمةً خاصة.
وعلّمنا الله بهذه القصة أن الأمور التي نراها شرًّا، قد يكون في باطنها خيرٌ عظيم.
طفل يُقتل... سفينة تُخرق... جدار يُبنى في بلدة لئيمة، كلها أحداث ظاهرها قاسٍ، لكن حقيقتها رحمةٌ ورفقٌ وعدلٌ من رب العالمين.
إنها رسالة خالدة إلى كل إنسان
لا تغترّ بعلمك، ففوق كل ذي علمٍ عليم.
لا تستعجل الأحكام، فما تراه ظلمًا قد يكون لطفًا.
لا تيأس من لطف الله، فما من مصيبة إلا وخلفها حكمة.
وكن كأب اليتيمين الصالح، الذي حفظ الله له أبناءه بعد موته.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76)
فليتعلّم البشر من هذه القصة كيف يكون العلم لله، والحكمة من عند الله، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله.
إنها رسالة خالدة من نبي وعبد صالح إلى كل من حمل علمًا أو ظن أنه بلغ شيئًا من المعرفة:
تواضع، فإنك لا تعلم من العلم إلا قليلا.
قال تعالى:
﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًۭا﴾ (الإسراء: 85)
إعداد: رامة محمود دللي
حين بكت السماء نارًا: نجاة لوط وهلاك سدوم
كان لوط بن هاران، ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد نشأ في بيت الإيمان والتوحيد. فآمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض العراق إلى أرض الشام.
قال الله تعالى
(فَـَٔامَنَ لَهُۥ لُوطٞۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) (العنكبوت: 26)
ثم بعثه الله نبيًا إلى قرى سدوم وما حولها، وهي منطقة تقع في جنوب البحر الميت في فلسطين اليوم، وكانت تضم خمس مدن، أشهرها سدوم.
كان قوم لوط قد ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم بها أحدٌ من العالمين، وهي إتيان الرجال شهوةً من دون النساء، إضافة إلى قطع الطريق، والفساد العلني في مجالسهم.
وقال الله تعالى على لسان لوط
(وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ (80) إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةٗ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ) (الأعراف: 80–81)
ودعاهم لوط مرارًا، لكنهم رفضوا واستكبروا، بل وهددوه بالطرد
(قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُخۡرَجِينَ) (الشعراء: 167)
في ذات اليوم الذي بشر فيه الملائكة إبراهيم بميلاد إسحاق، حملوا معه خبراً رهيبًا: عذاب قوم لوط قد اقترب.
فجاءت المجادلة المشهورة، حيث راح إبراهيم يناقشهم رحمةً وشفقةً على ابن أخيه لوط ومن آمن معه
قال الله تعالى
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ) (هود: 74–75)
لكن الملائكة قالوا:
(يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ) (هود: 76)
وصلت الملائكة إلى سدوم في هيئة شباب حِسان الوجوه، فاستاء لوط وخاف عليهم من قومه:
(وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ ) (هود: 77)
فجاء القوم يركضون، يطلبون فعل الفاحشة بالضيوف، فقال لهم لوط
(وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ) (هود: 78)
وكان يقصد نساء قومه، لا بناته من صلبه فقط، أي تزوجوا بالحلال، واتركوا الحرام.
لكنهم أصروا، عندها كشفت الملائكة حقيقتهم للوط
(قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ) (هود: 81)
قالت الملائكة للوط
(فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ) (هود: 81)
زوجة لوط لم تكن مؤمنة، بل كانت تُفشي أسرار بيته وتُناصر قومها في فسادهم، لذا استحقت العذاب معهم.
(فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ) (الأعراف: 83)
خرج لوط وأهله ليلاً، فلما طلع الفجر، جاء أمر الله
(فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ) (هود: 82)
فما إن التفتت خلفها، مخالِفةً أمر الله، متحسرة على قومها، أو متشككة في صدق العذاب، حتى جاءها حجرٌ من السماء، قد سُمِّي باسمها، فصُعِقت به في الحال، وسقطت صريعة، مع القوم الظالمين.
حُجّة الله قامت عليها: كانت في بيت نبي، وسمعت الحق، لكنها اختارت الباطل، فاستحقت نصيبها من الغضب الإلهي.
وقد ختم الله هذا المشهد بقوله:
(ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ) (التحريم: 10)
السِّجِّيل: حجارة من طين متحجر ناري.
مُسَوَّمَة: أي مُعَلّمة بعلامات مخصوصة، وكل حجر مكتوب عليه اسم من يُصاب به.
قال تعالى
(مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ) (هود: 83)
(فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ) (النمل: 69)
وقال أيضًا
(وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِينَ) (الشعراء: 173)
وهكذا لم تشفع لها القرابة، ولا المكانة فكان ختامها حجرًا نزل من السماء، باسْمها، نزع روحها، وألقاها مع الهالكين.
رجلٌ نبي، يسير في ظلام الليل، في صمت وهيبة، يدفع بابنتيه أمامه، ويُسرع الخطى، وقلبه معلق بربه، ينتظر الأمر السماوي بالقصاص، وفي الخلف، زوجته تلتفت وراءها فتُصعق بالحجر المسوّم الذي نزل باسمها.
فيا له من فصلٍ بين الحق والباطل
القلوب المؤمنة تتجه نحو النجاة… والقلوب الفاسدة تنظر إلى الماضي المظلم، فتُباد به.
قال الله تعالى
(وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ (171) إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ) (الصافات: 170–171)
وقد اتفق المفسرون على أن أهله الذين خرجوا معه هم ابنتاه فقط، وهما اللتان كانتا تؤمنان بالله وتدعمان والدهما، ولم تتلوثا بفاحشة القوم، ولا رضين بها.
قال تعالى
(فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ)
(الأعراف: 83)
فلم يكن مع لوط من الرجال أحد، فلم يؤمن به رجلٌ واحد من قومه، بل خرج في تلك الليلة الحاسمة، هو وابنتاه فقط، تاركين خلفهم مدينةً تموج بالفساد، وزوجةً خانت الأمانة.
نجّى الله لوطًا ومن آمن معه، وكانت نجاتهم برهانًا على أن من اتبع الحق لا يضيع، ولو كثُر الفساد.
وهكذا انتهت قصة نبي الله لوط عليه السلام، لكنها لم تنتهِ كعبرة.
إنها درسٌ خالد أن الفساد، إذا عمّ، أهلك الله الجميع، إلا من رحم.
وأن الحياة الطاهرة والعفّة، ليست مجرد أخلاق، بل نجاة في الدنيا والآخرة.
وأن القرابة لا تشفع، إن لم يكن معها إيمان فانظر إلى امرأة لوط.
إعداد: رامة محمود دللي
بشارة السماء: حين تضحك العجوز وتولد النبوة
في تلك الأرض الهادئة، وتحديدًا في منطقة الخليل بفلسطين، كان يعيش خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام، مع زوجه الصالحة سارة، وقد بلغا من الكبر عتيًّا، ولم يُرزقا بولد. كانت سارة قد استسلمت لأمر الله، راضية بقضائه، وقلّما كانت تتحدث عن أمنية الأمومة، لكن الله، في حكمته، كان يُدّخر لها معجزة لم تخطر على قلب بشر.
ذات يوم، جاء ثلاثة رجال، لا يُرى عليهم أثر السفر ولا تعب الطريق. دخلوا على إبراهيم، فاستقبلهم كما يُستقبل الضيف الكريم. لم يكن يعلم أن هؤلاء الرجال ملائكة أرسلهم الله في صورة بشر.
فما كان من إبراهيم إلا أن بادر بالضيافة، فسارع إلى أهله وجاء بعجلٍ سمين مشويّ، قال تعالى:
(فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٖ سَمِينٖ (26) فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيۡهِمۡ قَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ)
(الذاريات: 26-27)
لكن الملائكة لم يمدّوا أيديهم، فخاف منهم إبراهيم. فطمأنوه أنهم رسل من عند الله، وجاؤوا بأمرَين: بشارة وعذاب. أما البشارة، فكانت أعظم بشرى تلقاها إبراهيم وزوجته.
(فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ) (الذاريات 28)
وعندها جاءت سارة، تستمع لما يُقال، وإذا بها تُفاجأ بهذه البشرى. كيف لها أن تلد وهي عجوز؟
(فَأَقۡبَلَتِ ٱمۡرَأَتُهُۥ فِي صَرَّةٖ فَصَكَّتۡ وَجۡهَهَا وَقَالَتۡ عَجُوزٌ عَقِيمٞ (29) قَالُواْ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡعَلِيمُ (30)) (الذاريات 29-30)
هنا لم تكن البشرى فقط بإسحاق، بل وبحفيد منه، نبي الله يعقوب. فتعجّبت سارة
(وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ (71) قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ (72)) (هود 71-72)
فقالت الملائكة مطمئنة:
(قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ)(هود: 73)
وهكذا، شاء الله أن تتحقق المعجزة، وولدت سارة غلامًا سماه الله إسحاق، وكان غلامًا صالحًا، وأصبح من الأنبياء المصطفين.
وُلِد إسحاق في بيت النبوة، ونشأ في ظل والده إبراهيم عليه السلام، وكان من عباد الله المهديين. قال تعالى:
(وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ)
(الأنعام: 84)
وقال سبحانه:
(وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِينٞ)
(الصافات: 113)
كما قال:
(وَبَشَّرۡنَٰهُ بِإِسۡحَٰقَ نَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ) (الصافات: 112)
بعد أن كبر إسحاق، اصطفاه الله نبيًّا مرسلًا إلى أقوام الشام وفلسطين. وقد أورثه الله العلم والحكمة، وكان يدعو إلى عبادة الله وحده، كما فعل أبوه إبراهيم، وقد ورث الرسالة إلى ابنه يعقوب عليه السلام.
قال تعالى:
(وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَجۡرَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ )
(العنكبوت: 27)
وقال أيضًا:
(وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ نَافِلَةٗۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا صَٰلِحِينَ (72) وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا)
(الأنبياء: 72-73)
عاش إسحاق في أرض كنعان، وهي اليوم تُعرف بفلسطين.
تحديدًا، سكن في منطقة الخليل، التي دفن فيها أبوه إبراهيم، وهي تُعد من أقدس المناطق في تاريخ الأنبياء.
وقد أوصى عند وفاته أن يُدفن بجانب والده إبراهيم، في مغارة (المكفيلة)
بكل خشوع وسكينة، نُسدل الستار على هذه القصة العظيمة… قصة البشرى، الإيمان، والثقة بوعد الله.
لقد علمتنا حكاية إبراهيم وسارة، وولدهما إسحاق، أن الرجاء لا ينقطع أبدًا، حتى وإن أُغلقت الأبواب، وشابت الرؤوس، وجفّت المآقي من طول الانتظار.
سارة، تلك العجوز العقيم، بَشّرها الله بولد، لا فقط غلام، بل نبي من الصالحين، ومن ذريته سيخرج نبي الله يعقوب، ويوسف، وموسى، وداوود، وسليمان، وعيسى، وغيرهم من صفوة خلق الله.
في قصتهم رسالة خالدة:
أن الله إذا أراد شيئًا، قال له كن، فيكون.
وأن الصبر والثقة بالله لا تضيّع أبدًا.
وأن الأنبياء ليسوا حكايات للماضي، بل قدوة في الحاضر، وأمل للمستقبل.
وإسحاق عليه السلام، ليس مجرد اسم في كتب الأنبياء، بل هو حلقة في سلسلة النور، التي تربط السماء بالأرض، وتُعلمنا أن الله لا ينسى عباده، ولا يتركهم مهما طال البلاء.
تُعلمنا أن المستحيل لا يقف في وجه إرادة الله.
تُرينا أن الأنبياء بشر، يمرّون بالضعف والحزن، لكنهم ينتصرون بإيمانهم.
تفتح أعيننا على أن البركة ليست في المال ولا الجاه، بل في الذرية الطيبة، والعمل الصالح، والقرب من الله.
فمن كان ينتظر فرجًا، فليتأمل سارة.
ومن ظن أن رزقه تأخر، فليتعلّم من إبراهيم.
ومن أراد أن يُبارك الله في ذريته، فليدعُ كما دعوا ويصبر كما صبروا.
قال الله:
﴿فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ﴾
(الروم: 60)
فهنيئًا لمن جعل قصص الأنبياء نبراسًا يهديه في ظلمة الحياة.
إعداد: رامة محمود دللي
إبراهيم وسارة : الهجرة والابتلاء
والنجوم، وقال لهم ربُّهم
(مَا هَٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيٓ أَنتُمۡ لَهَا عَٰكِفُونَ) [الأنبياء: 52]
فما زال يدعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة، ويُبطل عبادة الكواكب التي كانوا يقدّسونها، حتى ضاق بهم وبدينهم، واشتاقت روحه لبلاد يعبد فيها الله، لا الأصنام
فقال بقلب المؤمن الصادق
(وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهۡدِينِ) [الصافات: 99]
نطقها إبراهيم لا فرارًا من قومه، بل إقبالًا على الله، راغبًا في أرض يفتح الله له فيها بابًا للدعوة، ويبني بها لبنة جديدة في مسيرة التوحيد
ترك إبراهيم مدينة حران، حيث كان قومه يعبدون الكواكب، فهاجر منها ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط، وقلوبهم عامرة بالإيمان واليقين، يتلمّسون بركة الأرض التي وعد الله بها عباده المخلصين
(فَـَٔامَنَ لَهُۥ لُوطٞۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) [العنكبوت: 26]
وبعد أن أقام في الشام زمنًا، وقع فيها قحط وجدب، فقرر أن يتوجه جنوبًا إلى أرض مصر، التي كانت آنذاك عامرة بالنيل والخيرات، عسى أن تكون ميدانًا جديدًا للدعوة، ومعبرًا إلى ما كتبه الله له من البلاء والتمكين
ولمّا دخل إبراهيم مصر، سمع أعوان الملك بجمال سارة، فذهبوا يخبرونه
(إن هنا امرأة لا تصلح إلا لك)
فسارع الملك يأمر بجلبها إليه
وقبل أن يصلوا إليها، قال إبراهيم لسارة قولاً مؤثرًا
(يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا يسألني عنك، فإن سألك فقولي: هو أخي، فإنك أختي في الله، فإني لا أكذب، وأنا وأنت على دين واحد)
ولم يكن ذلك كذبًا، بل تورية، لأنها أخته في الإيمان، وليس هناك غيرهما من المؤمنين في الأرض آنذاك
دخلت سارة على الملك، وقلوب الحرس تنتظر إذنه ليلمسها ويأخذها
لكنها لم تكن امرأة عادية… كانت صاحبة يقين ودعاء وثقة بالله
فما إن مدّ يده ليلمسها، حتى شُلّت يده تمامًا
ارتبك الملك وقال:
(ادعي الله أن يطلق يدي، ولن أؤذيك)
فدعت سارة الله بإخلاص، فأطلق الله يده.
لكنه عاد وحاول مرة ثانية… فشُلّت يده من جديد
فقال مرعوبًا:
(ادعي الله أن يشفيني، ولكِ عليّ ألا أمسك بسوء)
فدعت، فشفي
أدرك الملك أن هذه المرأة ليست بشرًا عاديًا، بل محفوظة من الله، فصاح
(أخرجوا هذه المرأة، فإنها شيطانة! وأعطوها هدية)
فأعطاها جارية مصرية شريفة طاهرة اسمها (هاجر) وقال لها:
(خذيها لكِ خادمة، هدية مني)
وخرجت سارة من القصر منتصرة، وعادت إلى إبراهيم، وقد نجّاها الله من ظلم الملك، وأهداها خادمة ستكون من أعظم النساء بركة في التاريخ.
خرجت سارة من قصر الملك وهي تمسك بيد جاريتها الجديدة (هاجر) وفي قلبها شكر لله لا ينقطع. لقد نجاها الله من كيد الطاغية، وردّ كيده في نحره، وأظهر لها معجزة حفظ الله لعباده المؤمنين.
ومشت مع خدم القصر، حتى اقتربت من الموضع الذي تركها فيه إبراهيم عليه السلام، وقلبها يخفق لرؤية زوجها ونبي الله من جديد.
وما إن اقتربت حتى رأته من بعيد راكعًا ساجدًا يناجي ربه.
لم يكن قلقه صراخًا ولا جزعه ارتباكًا بل كان صلاته ملاذه وسجوده باب رجائه.
كانت قد تركته من ساعات، والآن هو كما كان في قيام طويل، ودموع خاشعة، ويدين مرفوعتين إلى السماء.
فلما رأته، أدركت أن إبراهيم لم يكن غافلاً عن محنتها
بل كان يُمطر السماء دعاءً، أن يحفظ الله سارة، وأن لا يقدر الملك على مسّها بسوء.
فلما أنهى إبراهيم صلاته، التفت فرأى سارة قادمة ومعها الجارية.
سألها بشغف المؤمن:
(مهيم؟) أي: ما الخبر؟
فقالت له بثقة وابتسامة خاشعة
(ردّ الله كيد الكافر، وأخدمني هاجر)
فسجد إبراهيم لله شكرًا، وحمده أن نجّى زوجته، وأكرمهم بمن ستكون سببًا في امتداد الذرية المباركة.
وهكذا دخلت هاجر بيت النبوة، لتكون الزوجة الثانية لإبراهيم، والتي ستلد له إسماعيل عليه السلام، وتُشارك في بناء أمة الإسلام، وتكتب فصلاً جديدًا من الهجرة، والوحي، والماء المنبثق من تحت قدمي ولدها (زمزم)
وكانت بداية قصة النبوة والنسل الطيب الذي منه خرج (محمد ﷺ) من تلك اللحظة في قصر ذلك الملك الجبار.
وهكذا هم الأنبياء، لا يعرفون في الشدائد ملجأ أعظم من باب الصلاة.
فكلما ضاقت عليهم الدنيا، فزعوا إلى السجود.
كما قال النبي ﷺ
(كان النبي إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة) (رواه أحمد وأبو داود)
وإبراهيم هو أبو الأنبياء، كيف لا يلوذ بالصلاة، وهي مفتاح الفرج وباب الطمأنينة ؟
إعداد: رامة محمود دللي
فداء المحبة.. دموع الأب ورضا الابن وأمر الله
مرت الأيام، وكبر إسماعيل عليه السلام، وترعرع في مكة، وكان قُرة عينٍ لأبيه إبراهيم، ذلك النبي الذي أفنى حياته في طاعة الله.
لم يكن قد رآه منذ زمن، فلما كبر إسماعيل واشتد عوده، وبلغ من العمر ما يُعين فيه والده، أراد الله أن يمتحن قلب إبراهيم بأغلى ما يملك.
وفي إحدى الليالي، رأى إبراهيم عليه السلام في المنام رؤيا، ورؤيا الأنبياء وحيٌ من الله… رأى نفسه يذبح ابنه إسماعيل
استيقظ إبراهيم عليه السلام من نومه، وقلبه يخفق.
أيعقل؟ أأذبح ابني الذي جاءني بعد سنوات من الدعاء؟ الابن الذي كبر في الطاعة والبر؟
لكن القلب المؤمن يُسلم… ويُطيع… ويُحب الله فوق كل شيء.
ذهب إبراهيم عليه السلام إلى إسماعيل، ولم يُفاجئه بالأمر، بل أظهر له ما رأى بكل صدق، ليكون له الخيار في الطاعة.
فقال كما في القرآن الكريم
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ) [الصافات: 102]
يا لها من لحظة… أن يُخبر الأب ابنه بأنه رآه يُذبح! ومع ذلك، تأمّل إيمان إسماعيل عليه السلام، وإذعانه لأمر الله…
قال إسماعيل بكل ثبات ويقين
(قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ) [الصافات: 102]
يا الله… أيّ إيمان هذا؟ أيّ قلب؟
شاب في ريعان شبابه، يُسلّم نفسه للذبح طاعةً لله دون تردّد
أخذ إبراهيم ابنه، وذهبا إلى موضع الذبح، يُقال إنه جبل مِنًى في مكة، وهناك
(فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ) [الصافات: 103]
أسلما… أي سلّما أمرهما لله،
وتلّه للجبين… أي أضجعه على الأرض، على جبينه، حتى لا يرى وجهه، فيكون أهون عليه.
رفع إبراهيم السكين، ووضعها على رقبة ابنه، لكنه لم تقطع…
لأن السكين مأمورة… والله أمرها ألا تذبح.
وفي اللحظة التي كاد أن يُتم الأمر، نادى الله عبده الحبيب
(وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ (104) قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ) [الصافات: 104–105]
يا إبراهيم… لقد صدّقت الرؤيا، وأطعت، وثبتّ، ونجحت
وفي تلك اللحظة، أنزل الله فداءً لإسماعيل
(وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ) [الصافات: 107]
فإذا بكبشٍ عظيم من الجنة، أبيض، له قرون، أنزله الله ليُذبح بدلاً من إسماعيل.
قال أهل العلم: إنه الكبش نفسه الذي قرّبه هابيل في أول الزمان، فرفعه الله في الجنة حتى جاء وقته في زمن إبراهيم.
فذبح إبراهيم الكبش، وسُجّل هذا اليوم في التاريخ ليكون عيدًا للمسلمين… عيد الأضحى.
قال الله عن هذا الحدث:
(إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ) [الصافات: 106]
(وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ (108) سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (110) إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) [الصافات: 108–110]
وهكذا، أصبح هذا الحدث شعيرة من شعائر الإسلام… الأضحية، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات… كلها تخلّد قصة الإيمان والتسليم.
إعداد: رامة محمود دللي
إسماعيل وجُرهم.. النبوة في ضيافة اللغة والقبيلة
في أرض لا زرع فيها ولا ماء، في وادٍ مقفر بين جبال مكة، وُلد غلام مبارك، إنه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، الذي قال الله عنه
(وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا) [مريم: 54]
ولد إسماعيل في حياة الغربة، وتربّى في حجر أمّه هاجر بعدما تركهما إبراهيم عليه السلام بأمر الله، في وادٍ غير ذي زرع.
حين تفجّر ماء زمزم تحت قدم إسماعيل، بدأت قبائل العرب تبحث عن الماء في الأرض القاحلة، فجاءت قبيلة جُرهم اليمنيّة، وكانوا عربًا أقحاحًا.
رأوا الماء، واستأذنوا هاجر أن ينزلوا بقربه، فقبلت على أن لا يملِكوا زمزم، بل تكون لها ولابنها.
كبر إسماعيل بينهم، وكان طفلًا ذكيًا، قوّيًا، سريع التعلّم.
وكانت لغته الأصلية السُّريانية أو الكلدانية، لغة أبيه إبراهيم القادم من العراق.
لكنه مع مخالطته لأهل جرهم، تعلّم اللغة العربية الفصيحة، حتى أصبح أفصحهم لسانًا، فصار يُقال له:
(أول من تكلّم بالعربية المبينة إسماعيل)
قال النبي ﷺ:
(أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة)
(رواه ابن سعد)
كان إسماعيل عليه السلام فتيًا شجاعًا، مهيبًا، محبًا للصيد والركوب.
وقيل: هو أول من ركب الخيل، وكان قد درّبها بنفسه، واستأنسها، بعدما كانت في البادية وحشية.
فأصبح فارسًا شجاعًا، قوي البدن، كريمًا، وهي صفات حملها عنه العرب من بعده.
عاش إسماعيل بين أهل جُرهم، وتعلّم منهم، وتزوج منهم، فكان زواجه الأول من امرأة من جُرهم، ولم تذكر الروايات اسمها بدقة، لكنّها كانت من أهل البادية.
ومع الزمن، صار له أولاد كثيرون، وأصبح له شأن عظيم في مكة.
وبعد سنوات طويلة، جاء إبراهيم عليه السلام لزيارة ابنه إسماعيل، ولم يكن إسماعيل موجودًا في بيته، فقابل زوجته.
فسألها إبراهيم عن حالهم، فقالت:
(نحن في شر، ضيق، وقحط، وشدة"، تشكو وتُظهر عدم الرضا)
فقال لها إبراهيم:
(إذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيّر عتبة داره)
فلما جاء إسماعيل، أخبرته، فعرف أن الزائر هو أبوه إبراهيم، وأنه يُشير عليه بتطليقها، لأنها لا تحمد الله ولا تصبر.
فتزوج بأخرى من جُرهم، وبعد مدة، زاره إبراهيم مرة أخرى، ولم يجده، فقابل زوجته الجديدة،
فسألها عن حالهم، فقالت:
(نحن في خير، والحمد لله، نحن في سعة وبركة)
فقال لها:
(إذا جاء زوجك، فقولي له: يُثبّت عتبة داره)
فلما عاد إسماعيل وأخبرته، فرح، وقال:
(ذلك أبي، وقد أمرني أن أمسكك، وأنت عتبة بابي)
كان إسماعيل نبيًا كريمًا، محبوبًا عند الله، وقد أثنى عليه في أكثر من موضع، منها:
(وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰبِرِينَ ) [الأنبياء: 85]
(وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا )[مريم: 54]
(وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا ) [مريم: 55]
كان إسماعيل عليه السلام هو أبو العرب المستعربة، ومن نسله جاء خاتم الأنبياء محمد ﷺ، فجمع الله له بين النبوة والشرف والنسب.
لقد عاش إسماعيل نبيًا، ودعا قومه إلى عبادة الله، ومات في مكة ودُفن فيها، بعد حياة من الجهاد، والصبر، والخدمة في بيت الله الحرام.
إعداد: رامة محمود دللي
هاجر.. التي علّمت العالم كيف نثق بالله
في زمن نبي الله إبراهيم عليه السلام، كان قلبه مفعمًا بالإيمان والطاعة، وقد اختبره الله مرارًا، فكان كلما ابتلاه، خرج من البلاء أقوى إيمانًا وأصدق يقينًا.
تزوج إبراهيم بسارة، لكنها لم تُنجب، فوهبته جاريتها هاجر، وكانت امرأة صالحة، مؤمنة بالله، مطيعة، ذكية، شجاعة.
ثم شاء الله أن يُرزق إبراهيم من هاجر بابنه إسماعيل عليه السلام، فقرّت عين إبراهيم، وامتلأ قلبه بحب هذا الغلام.
لكن الله أراد أن يبتليه بحبّه هذا، فأوحى إليه أن يأخذ زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل، ويذهب بهم إلى مكان لا بشر فيه، لا زرع، ولا ماء.
سار بهم إبراهيم، يقطع الصحاري القاحلة، حتى وصل إلى وادٍ جافّ بين الجبال، لا يُرى فيه شجر ولا يسمع فيه صوت إنسان.
أنزل إبراهيم زوجته وابنه، وترك عندهم كيسًا صغيرًا من تمر وقربة فيها ماء، ثم همّ بالرجوع.
تعجبت هاجر، ولحقت به تقول:
(يا إبراهيم، إلى أين تذهب؟ أتتركنا في هذا الوادي الذي لا أنيس فيه ولا شيء؟)
فلم يلتفت.
فقالت بلهفة ويقين:
(آلله أمرك بهذا؟)
فأشار برأسه: (نعم)
فقالت بثبات المرأة المؤمنة:
(إذاً، لا يُضيّعنا الله)
ورجعت إلى ابنها الصغير، وجلست تُرضعه، وعيناها ترقبان الأفق.
أما إبراهيم، فما إن ابتعد حتى وقف، ورفع يديه للسماء ودعا دعاءً خاشعًا، سجّله القرآن في خلوده:
(رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ) [إبراهيم: 37]
مرّت أيام قليلة، ونفد الماء والتمر، وجفّ لبن الأم، وجفّت شفتا إسماعيل من العطش، واشتد بكاؤه،
فأخذت هاجر تسعى بحثًا عن الماء، بين الصفا والمروة، سبع مرات، تصعد هذا الجبل، ثم تركض إلى الآخر.
وفي المرة السابعة، لمّا رجعت، رأت الماء ينبع من تحت قدم إسماعيل!
فجعلت تُحيط الماء وتقول:
(زمزم - زمزم)
أي: اجتمع، اجتمع
خوفًا أن يضيع الماء في الرمل.
قال رسول الله ﷺ:
(يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم، لكانت عينًا معينًا)
[رواه البخاري]
فكان هذا بئر زمزم، الماء المبارك الطاهر، الذي لا ينضب، ولا يفسد، ولا يشبهه ماء على وجه الأرض.
ما إن ظهر الماء، حتى بدأ الناس والقبائل تقترب من مكة، فجاءت قبيلة جُرهم، فرأت الماء، فاستأذنوا هاجر أن يسكنوا بجوارها.
قالت: (نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء)
أي أن الماء لها ولابنها، وأنهم شركاء في السكن فقط، لا في المصدر.
فوافقوا، وسكنوا، وبدأ العمران، وكبرت مكة، وتربّى إسماعيل بين ألسنتهم، فتعلم لغتهم، وصار منهم.
وكانت هاجر تُربيه، وتحرص عليه، وهو الولد الذي اختاره الله ليكون نبيًا، فربّته أمه على الإيمان، والطاعة، والقوة، والصدق.
بقيت هاجر نموذجًا خالدًا للثقة في الله،
تركتها الدنيا في وادٍ قاحل،
لكنّ الله لم يتركها.
تحولت قصتها إلى شعيرة خالدة من شعائر الحج
السعي بين الصفا والمروة،
وكل من يشرب من زمزم، يشرب من أثر سعيها وثقتها بربها.
(إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158]
إعداد: رامة محمود دللي
الكعبة.. من نور الملائكة إلى دعوة الخليل
في أول الخلق، قبل أن يُبعث نبي، وقبل أن يُخلق الإنسان،
كانت الأرض صافية، والسماء تزدان بنور الملائكة، وكان لله في السماء بيت يُسمى "البيت المعمور"، تطوف به الملائكة، لا يتوقفون عن التسبيح لحظة واحدة.
فأمر الله تعالى الملائكة أن تبني في الأرض بيتًا فبنت الكعبة على قواعد من النور، تطوف حوله كما تطوف حول البيت المعمور، وكان ذلك أول بيت وُضع للناس.
قال تعالى:
(إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ) [آل عمران: 96]
لكن الكعبة تهدّمت بفعل الطوفان، أو لعوامل الزمن، ثم أرسل الله آدم عليه السلام إلى الأرض، فهداه الله لمكان البيت، وأمره أن يعيد بناءه، فبناه بالحجارة، وطاف حوله.
وظل البيت يُرفع ويُصلح جيلاً بعد جيل، حتى بُلي بمرور الزمن، واندثرت معالمه، فقام بعض ذرية آدم بإعادة بنائه مرات، ثم طال عليه الأمد، فتهدّم مرة أخرى، حتى جاء وقت نبي الله إبراهيم عليه السلام.
أوحى الله إلى نبيه إبراهيم عليه السلام أن يذهب إلى أرض مكة،
أرض جرداء قاحلة، لا ماء فيها ولا زرع، لا بشر ولا سكان،
وأن يترك فيها زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل.
قال الله تعالى:
(رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ ) [إبراهيم: 37]
تركهم إبراهيم هناك، وابتعد، وهاجر تناديه:
(يا إبراهيم، الله أمرك بهذا؟)
فيُشير برأسه: (نعم)
فتقول بيقين المرأة المؤمنة: (إذاً لن يُضيّعنا الله)
جفّ اللبن، وعطشت الأم، وبكى الرضيع إسماعيل،
فأسرعت هاجر تبحث عن الماء بين جبلي الصفا والمروة، تسعى وتعود، سبع مرات، حتى أرسل الله جبريل عليه السلام، فضرب الأرض بجناحه أو بعقبه،
فانبثق ماء من تحت قدم إسماعيل
فقالت هاجر: (زمزم، زمزم)
عندما نبع ماء زمزم من الأرض تحت قدم إسماعيل الرضيع،
خافت أمه هاجر أن يضيع هذا الماء المبارك في الرمال،
فجعلت تُحيط به وتجمعه بيديها وتقول:
(زمزم، زمزم)
أي: اجتمع، اجتمع! أو توقف، توقف قليلاً
بمعنى أنها كانت تقولها لتكبح اندفاع الماء وتحافظ عليه، خوفًا من أن يضيع في الأرض،
فكان بئرًا عجيبًا، لا ينضب، ولا يجف،
وجاءت قبيلة جرهم فسكنت مكة، ونشأ إسماعيل بينهم.
مرت السنين، وكبر إسماعيل، وأمر الله إبراهيم أن يبني الكعبة من جديد،
فذهب إلى مكة، ونادى ابنه:
(يا إسماعيل، إن الله أمرني أن أبني له بيتًا)
فبدأ الأب وابنه يبنيان الكعبة حجرًا فوق حجر،
وإبراهيم يرفع الحجارة، وإسماعيل يناوله،
حتى إذا ارتفعت الجدران، جاء إبراهيم بحجرٍ يقف عليه – مقام إبراهيم – حتى يبلغ أعلى البناء.
وبينما هما يعملان، يلهجان بدعاء خاشع:
(وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ )[البقرة: 127]
ثم دعوا الله بدعاء مبارك:
(رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ )[البقرة: 128]
وبعد أن أتمّ إبراهيم بناء البيت، أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحج،
فوقف على جبل أبي قبيس أو على المقام، ورفع صوته قائلاً:
(يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج إلى بيته فحجوا)
فأسمع الله نداءه لكل الأرواح في أصلاب الرجال وأرحام النساء
فقال الله:
(وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ) [الحج: 27]
ومنذ ذلك اليوم، بدأ الحج…
وبقيت الكعبة قائمة، تهوي إليها القلوب، وتتوافد إليها الأرواح من كل فج،
وأصبحت قبلة المسلمين، وأقدس مكان على وجه الأرض.
هكذا بدأت قصة الكعبة
من نور الملائكة، إلى يد آدم، إلى دعوة إبراهيم، إلى شريعة محمد ﷺ.
فهي ليست حجارة فحسب، بل رمزٌ للتوحيد واليقين والوفاء بالعهد مع الله.
(ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ ) [الحج: 30]
إعداد: رامة محمود دللي
تلبية الأرواح.. ومناسك الغفران
في قلب الصحراء، عند وادٍ غير ذي زرع، قامت أول بيت وُضع للناس…
بيتٌ شُرّف وارتفعت قواعده على يد نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل، وطاف حوله الأنبياء، وبُعث فيه خاتمهم، محمد صلى الله عليه وسلم.
إنه البيت الحرام… وإنها الرحلة المباركة إلى مكة،
إنه الحج… الركن الخامس من أركان الإسلام.
قال النبي ﷺ:
( بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا ) ( رواه البخاري ومسلم )
الحج ليس مجرد تنقل بين المشاعر، أو شعائر تُؤدى بجسد خالٍ من الروح، بل هو رحلة إلى الله، هجرة بالقلب قبل القدمين، تجرد من الدنيا، وارتباط بالآخرة.
حين يلبس الحاج الإحرام، يخلع معه زينة الدنيا،
وكأن لسان حاله: "يا رب، جئتُكَ كما خلقتني، عبدًا فقيرًا، لا مال ولا جاه، فقط قلب يرجو رحمتك."
ثم يُعلي صوته بالتلبية:
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك،
إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)
وكأنها صرخة الولاء والتوحيد، إعلان الحب لله، وقطع كل علائق الشرك والخضوع لغيره.
قال النبي ﷺ
(ما من مسلم يُلبّي إلا لبّى من عن يمينه وعن شماله، من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا)
( رواه الترمذي وصححه الألباني)
أمر الله إبراهيم أن يُنادي الناس للحج، مع أن الأرض كانت خاوية، والناس متفرقون في أرجاء المعمورة… لكن إبراهيم لبّى أمر الله، ورفع صوته بنداء خُلد في الوجدان:
(وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ) [الحج: 27]
لقد نادى إبراهيم، فاستجاب له من كُتب له الحج، فها هم الناس يأتون إليه رجالًا على أقدامهم، وعلى كل ضامر – أي (ناقةٍ سريعةٍ قد أضناها السفر)
يأتون من كل فجٍ عميق… (أي من كل طريق بعيد، ومن كل قارة وأمة، منذ آلاف السنين، حتى قيام الساعة)
الحج إعلان عملي للتوحيد الخالص، من أول لحظة في التلبية، حتى آخر شعيرة. لا يُطاف إلا ببيت واحد، ولا يُسعى إلا بين صفا ومروة واحدة، ولا يُرجم إلا في منى… كلها طاعة لله وحده، لا يُشرك به شيء.
(فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ (30) حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيۡرَ مُشۡرِكِينَ بِهِۦۚ ) [الحج: 30-31]
قال النبي ﷺ
(من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه ) (رواه البخاري ومسلم)
يا لها من بشرى
ذنبك القديم يُمحى، وصفحتك تُطوى، وتعود بصفاء الطفولة ونقاء البداية.
في الحج، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لغني على فقير، الكل يرتدون نفس اللباس، يسيرون على ذات الطريق، يبيتون في مزدلفة، ويقفون بعرفة، ويجمعهم الدعاء والرجاء.
إنه مؤتمر إيماني عالمي، يذيب الفوارق، ويُظهر وحدة الأمة.
كل شعيرة في الحج، فيها أثر لنبي
الطواف حول الكعبة… من زمن إبراهيم
السعي بين الصفا والمروة… اقتداء بهاجر
الوقوف بعرفة… موقف النبي ﷺ
رمي الجمار… تذكير بثبات إبراهيم أمام الشيطان
قال النبي ﷺ
(خذوا عني مناسككم) ( رواه مسلم )
أي: تعلموا مني كيف تؤدون الحج، وقلّدوني في أقوالي وأفعالي، فكل ما أفعله في الحج من طواف وسعي ورمي ووقوف هو تشريعٌ من الله يُبلّغه النبي ﷺ عمليًا.
قال النبي ﷺ
(الحج عرفة) (رواه الترمذي)
وفي هذا اليوم، ينزل الله إلى السماء الدنيا، ويباهي ملائكته بالحجيج، ويغفر لهم الذنوب.
قال النبي ﷺ
(ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة) (رواه مسلم)
تُبيت ليلتك في مزدلفة، تحت السماء، لا فُندق ولا سرير… ثم تسير إلى منى، ترجم الشيطان، وتذبح الهدي، وتحلق رأسك… كلها إشارات للنصر على هوى النفس والشيطان.
بعد أن تكمل حجك، ترجع وقد غُفر لك ما تقدم، وكُتب اسمك في قائمة الزائرين لبيت الله، والواقفين بعرفة، والملبّين لنداء السماء.
يقول الله تعالى:
(ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ) (الحج: 32 )
_الحج فُرض في السنة التاسعة للهجرة
_ ويحج سنويًا أكثر من 2 مليون مسلم
_ والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
إعداد: رامة محمود دللي
الألواح والنور: من موسى إلى أمة محمد
بعد أن أنجى الله موسى عليه السلام وقومه من بطش فرعون، ومعجزة شق البحر لا تزال حاضرة في الأذهان، سار موسى ببني إسرائيل في الصحراء، يقودهم إلى ما كتبه الله لهم من الأرض المباركة، ويُرشدهم إلى عبادة الله وحده، بعد أن ذاقوا مرارة العبودية سنين طويلة.
وفي تلك المرحلة، أراد الله تعالى أن يُكرم موسى عليه السلام تكريمًا لم ينله بشرٌ من قبله، وأن يُنزّل عليه التوراة مكتوبة، فاختاره لميقات خاص، ليتلقّى فيه الوحي والكلام الإلهي المباشر.
فأوحى الله إلى موسى أن يختار من قومه سبعين رجلًا من خيار بني إسرائيل، ليشهدوا نزول التوراة ويكونوا حُجّة على غيرهم. وانطلق موسى إلى جبل الطور، تاركًا قومه مؤقتًا، على وعد أن يعود إليهم بالألواح التي تحمل شريعة السماء.
( وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ ) [الأعراف: 142]
صعد موسى عليه السلام الجبل، وانفرد بنفسه في حضرة الربّ جل جلاله، حيث بدأ الموقف العظيم، اللقاء الذي لم يحدث مثله في تاريخ البشرية. فكلّم الله موسى تكليمًا حقيقيًا، دون واسطة.
(وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ) [النساء: 164]
فقال موسى، وقد امتلأ قلبه شوقًا ورغبة
(قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ ) [الأعراف: 143]
ولكنه طلب ما لا يطيقه بشر. فقال الله له بلطف وجلال:
( قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ )[الأعراف: 143]
لقد تجلّى الله للجبل، لا لموسى، فاندكّ الجبل وتفتّت، فصُعق موسى عليه السلام وسقط مغشيًا عليه. فلما أفاق، علم أن رؤية الله في الدنيا لا تُطاق، فقال تائبًا خاشعًا
( قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ) [الأعراف: 143]
يا له من موقف! نبي الله يطلب رؤية ربّه، حُبًا واشتياقًا، فيُظهر الله له جزءًا من عظمته، فينهار الجبل ويخرّ موسى مغشيًا عليه من هول المشهد!
وبعد هذا اللقاء، أعطى الله موسى الألواح، وهي ألواح من حجر، كُتبت فيها شريعة الله، وتفاصيل الدين، ووصايا عظيمة فيها الهداية والنور، مكتوبة بيد الله
(وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ ) [الأعراف: 145]
الألواح كانت مقدسة، تحمل أحكام الله لبني إسرائيل: التوحيد، والعدل، وعدم القتل، وتحريم الزنا، والنهي عن الغش، ووصايا بِرّ الوالدين، وأحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة.
قال بعض المفسرين: إن الألواح كانت من (زبرجد أو ياقوت ) ليست من حجر عادي، وأنها كانت تتوهّج نورًا، لأن فيها كلام الله المكتوب.
وورد أن موسى لمّا تلقّاها، كان يحملها بكلتا يديه، بقوّة، ويأمر قومه بأن يلتزموا بما فيها من وصايا، لأنها هدي الله ونوره.
لكن ما الذي حدث أثناء غياب موسى عن قومه؟ لقد فُتن بنو إسرائيل، وأغراهم السامري، وصنع لهم عجلًا من ذهب له صوت، فأقبلوا عليه يعبدونه! كأنهم نسوا أنهم نجوا من فرعون بفضل الله!
وعاد موسى حزينًا غاضبًا، يحمل الألواح من عند الله، فإذا به يرى قومه قد انتكسوا:
( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ ) [الأعراف: 150]
كان الغضب عظيمًا، حتى أن موسى ألقى الألواح على الأرض – لا استخفافًا بها، وإنما من شدة الألم – ثم أمسك برأس أخيه هارون، وهو لا يدري أنه حاول منعهم.
فلما علم، هدأ، واستغفر له ولأخيه، وعاد إلى الله بالدعاء:
( قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِأَخِي وَأَدۡخِلۡنَا فِي رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ) [الأعراف: 151]
وأخذ موسى الألواح من جديد، وتمسك بها أكثر:
(وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلۡغَضَبُ أَخَذَ ٱلۡأَلۡوَاحَۖ وَفِي نُسۡخَتِهَا هُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ يَرۡهَبُونَ ) [الأعراف: 154]
كان لقاء موسى مع ربه أعظم لحظة في حياته، فموسى هو النبي الوحيد الذي كلمه الله مباشرة، واصطفاه برسالة، وشرّفه بالألواح، وأنزل عليه التوراة، وأظهر له من عظيم قدرته ما لا يُوصف.
( قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّي ٱصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ) [الأعراف: 144]
حين سلّم الله سبحانه لموسى عليه السلام الألواح المقدسة، لم تكن مجرد أوامر أو شرائع جافة، بل كانت موثقة بكلام الله، مليئة بالموعظة، والهداية، والنور.
( وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ ) [الأعراف: 145]
وكان موسى يُمسك الألواح بيديه بكل قوته، يشعر أنه يحمل كنزًا من السماء، وعهدًا مقدّسًا من الله لبني إسرائيل.
وقد ذكر بعض المفسرين – ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه – أن في الألواح التي أنزلت على موسى إشارة وذكر لأمة محمد ﷺ، وأن موسى تعجّب من فضلها، بل وتمنى أن يكون منها!
ورد عن عبد الله بن عمرو في الأثر، أنه قال:
«إن الله لما كتب التوراة لموسى، كتب فيها
"يا موسى، إني سأبعث أمة من بعدك، يحبّونني وأحبّهم،
يُؤْثرونني على أنفسهم،
يسبّحونني بالغدوّ والآصال،
أوتارهم الصلوات،
يقضون بها كما يقضي العبد الدَّيْن عن سيده..."»
وقال موسى:
"يا رب، اجعلهم أمتي!"
فقال الله:
"هم أمة أحمد."
جاء في بعض الروايات أن موسى عليه السلام، لما قرأ ذكر أمة محمد ﷺ في الألواح، قال
"يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق، السابقون في الدخول إلى الجنة، فاجعلهم أمتي!
فقال الله:
"تلك أمة أحمد."
وفي هذا إشارة إلى مكانة هذه الأمة، وشرفها، وأن الله كتب فضلها في التوراة نفسها، حتى قبل أن تُبعث.
وقد اشتملت الألواح على أعظم الوصايا التي نزلت من السماء، ومنها ما ذكره الله في القرآن، مثل:
تحريم الشرك بالله
بر الوالدين
تحريم القتل بغير حق
تحريم الزنا
تحريم السرقة
تحريم شهادة الزور
تحريم الطمع في أموال الناس وحياتهم
قال تعالى في موضع آخر، جامعًا بعض هذه الوصايا:
( قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (151) وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ) [الأنعام: 151–153]
فهذه الوصايا هي جوهر ما كان في الألواح، بل هي خلاصة التوراة، ولبّ الرسالة التي نزلت على موسى عليه السلام، وامتد تأثيرها إلى من بعده، حتى جاء محمد ﷺ، فنسخها وبيّنها وكمّلها في القرآن الكريم.
جلس موسى عليه السلام فوق جبل الطور، يتأمّل الألواح المقدسة التي أنزلها الله عليه، تقلبها يداه بخشوع، ويقرؤها ببصر يفيض دهشة وإجلالًا.
وبينما هو يتدبّر، وقع بصره على وصف أمة لم يرَ مثلها بين الأمم… فقرأ فيها:
"أمة أناجيلهم في صدورهم، يحفظونها غيبًا، يقرأونها قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، يذكرون الله كثيرًا، وقلوبهم متصلة بالسماء."
فتعجّب موسى، وقال من قلبه المؤمن:
"يا رب! أرى في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم! من هؤلاء؟"
فجاءه الرد الجليل من رب العالمين:
"هؤلاء أمة أحمد، أخوّك في النبوة، وخاتم النبيين. هم خير أمة أخرجت للناس."
سكت موسى لحظة، ثم رفع يديه بالدعاء، وقال
"اللهم اجعلني من أمة أحمد!"
لكن الله أجابه برحمته:
"يا موسى، إنهم أمة خُلقوا في آخر الزمان، ولكني قد خصصت لكل نبي زمنه وأمته، ولك أمتك ولأحمد أمته. ولكن أبشّرك يا موسى، أن أمة أحمد يؤمنون بك، ويقرؤون قصتك، ويحبّونك، كما يحبّون نبيّهم."
فابتسم موسى، واطمأن قلبه، وسجد لله شكرًا، أن ذُكر اسمه في أمة تحفظ كلام الله في صدورها، وتتناقل رسالته جيلاً بعد جيل.
كان لقاء موسى بربّه في جبل الطور لحظة مفصلية في تاريخ الوحي، إذ تسلّم فيها نبي الله ألواحًا تحمل كلام الله، وتشير ضمنًا إلى أمة خاتم الأنبياء.
ولم يكن موسى إلا عبدًا نقيًا، فرحًا بأن الله يذكر في شريعته أمة أخرى تأتي من بعده، تُسبّح الله وتذكره، وتحمل رسالته.
فسبحان من جمع بين موسى ومحمد، بين الطور وحراء، بين الألواح والقرآن.
لم يكن في الألواح فقط شرائع بني إسرائيل، بل كانت صفحاتها مشعّة بذكر أمة عظيمة، أمة تحمل القرآن في صدورها، وتُقيم الصلاة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
( كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ ) [آل عمران: 110]
فسبحان من جمع في جبل الطور بين الوحي القديم، والتمهيد لوحي جديد، وجعل في قلب موسى عليه السلام حنينًا لأمة محمد ﷺ قبل أن تولد.
إعداد: رامة محمود دللي
موسى وهارون: رسالتان في قلب واحد
في زمنٍ طغى فيه فرعون وتجبر، واستعبد بني إسرائيل وأذلّهم، شاء الله أن يولد غلامٌ في بني إسرائيل سيكون على يده الفرج، وسيهز عرش الطغيان، ويُظهر آيات الله للعالمين.
وُلد موسى عليه السلام في ذلك الزمن العصيب، حين أمر فرعون بذبح كل مولود ذكر من بني إسرائيل، خشيةً من نبوءة أنه سيولد فيهم من يكون سبب هلاكه. لكنَّ الله سبحانه أراد لموسى النجاة، فأوحى إلى أمّه:
( وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ) [القصص: 7]
وتمضي الأيام، ويكبر موسى في قصر فرعون، لكنه ما يلبث أن يتركه بعد أن قَتل رجلًا من بني إسرائيل خطأً، ويهرب إلى مدين، حيث يجد الأمان والزواج والعمل.
وبعد سنوات، وأثناء عودته من مدين، يُكلمه الله عند جبل الطور، ويأمره بالنبوة، ويكلّفه بمهمة عظيمة: أن يذهب إلى فرعون ويدعوه إلى عبادة الله وحده.
لكن موسى، بشدة تواضعه وخوفه من المهمة، يسأل ربه أن يرسل معه أخاه هارون، في مشهد من أروع مشاهد الأخوة الصادقة، حيث لا يرى في نفسه الكفاية وحده، بل يرى في أخيه عونًا وسندًا.
(وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي (29) هَٰرُونَ أَخِي (30) ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي (31) وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي )[طه: 29-32]
فاستجاب الله له، وأكرمه بما طلب:
( قَالَ قَدۡ أُوتِيتَ سُؤۡلَكَ يَٰمُوسَىٰ ) (طه: 36 )
وكانت العلاقة بين موسى وهارون ليست فقط علاقة دم، بل علاقة دعوة، ورسالة، وتعاون على أمر الله. أُرسل كلاهما إلى فرعون، يدعوانه بالحكمة والموعظة، ويُظهران له الآيات البينات.
( فَأۡتِيَا فِرۡعَوۡنَ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (16) أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ) [الشعراء: 16-17]
ولم يفتّ في عضدهما عناد فرعون أو استكباره، فقد كان كل منهما يقوّي الآخر، ويشد أزره.
ومضت الأيام، وخرج موسى ببني إسرائيل، بعد أن نجاهم الله من فرعون بمعجزة شق البحر، لكن في غيابه لبعض الوقت –حين ذهب لميقات ربه– وقع قومه في فتنة عبادة العجل التي صنعها السامري، وهنا يظهر موقف الأخ هارون، النبي الأمين، الذي حاول أن يرد القوم عن ضلالهم، لكنه لم يقدر عليهم.
(وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَٰرُونُ مِن قَبۡلُ يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوٓاْ أَمۡرِي ) [طه: 90]
وعندما عاد موسى ورأى ما حدث، غضب غضبًا شديدًا، وعاتب أخاه بشدة، ولكنه سرعان ما تذكّر أن هارون إنما حاول جهده، فاستغفر له
(قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِأَخِي وَأَدۡخِلۡنَا فِي رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ) [الأعراف: 151]
وهكذا، ظل موسى وهارون عليهما السلام مثالًا فريدًا للأخوّة التي اجتمعت فيها المحبة، والنبوّة، والدعوة إلى الله، والثبات على الحق، والتكامل بين القوّة والبيان، بين الشدّة واللين.
فموسى عليه السلام كان شديدًا قويًا، وهارون كان فصيحًا لينًا، قال الله تعالى:
(وَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّي لِسَانٗا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِيَ رِدۡءٗا يُصَدِّقُنِيٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ )[القصص: 34]
وقد كرّمهما الله معًا، وذكرهما في مواضع كثيرة، حتى إن الله جمع اسميهما معًا في قوله
(وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا ) [مريم: 53]
استمر موسى وهارون عليهما السلام في قيادة بني إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون، وكانا يوجهانهم إلى عبادة الله، ويقيمان فيهم شريعة السماء. ومع أن الله أغرق فرعون وأنقذهم بمعجزة، إلا أن بني إسرائيل لم يكونوا على المستوى المطلوب من الإيمان والطاعة، فكان منهم العناد، وكثرة الجدال، والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.
وكان من أعظم الأحداث بعد نجاتهم، أن أمر الله بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة (بيت المقدس) التي كتبها الله لهم، ولكنهم جَبُنوا ورفضوا القتال، وقالوا بكل وقاحة:
( قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ ) [المائدة: 24]
فتألم موسى من هذا الموقف، ودعا ربه أن يفرّق بينه وبين القوم الفاسقين، فكان الجزاء أن حُرِّمت عليهم الأرض المقدسة أربعين سنة، يتيهون في الصحراء:
( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ ) [المائدة: 26]
وبدأ التيه، وكان موسى وهارون يقودانهم في تلك السنوات، يعلّمانهم، ويحكمان بينهم، ويصبران على أذاهم. لكن اقترب الأجل، وبدأت رحلة الوداع.
تُوفي هارون عليه السلام قبل أخيه موسى، وقد جاءت وفاته أثناء التيه، على جبل الطور، وقد بكى عليه موسى وبنو إسرائيل، لفقدهم النبي الرحيم، والصاحب الكريم.
ويذكر المفسرون أن وفاته كانت هادئة مباركة، وأن الله أكرمه كما أكرم موسى، بأن توفاه طاهرًا نقيًا بعد حياة كلها دعوة وجهاد في سبيل الله.
(ليس هناك آية صريحة في القرآن تذكر وفاة هارون، ولكنّها مذكورة في التوراة، ووردت في آثار مفسري السلف.)
أما موسى، فقد بقي بعد وفاة أخيه، يُكمل المسيرة، ويقود بني إسرائيل حتى قُدر له هو الآخر أن يُتوفّى قبل دخول الأرض المقدسة، بسبب خطايا قومه.
وقد ورد في الصحيح عن النبي محمد ﷺ:
"لو كنت هناك لأريتكم قبره، عند الكثيب الأحمر."
(رواه مسلم)
فقد مات موسى عليه السلام على أبواب الأرض المقدسة، عند منطقة تُدعى "الكثيب الأحمر"، وقد سأله ملك الموت أن يستأذن قبل أن يقبض روحه، كما في الحديث الصحيح، مما يدل على مكانة موسى عند ربه.
وقد جاء في الحديث:
"جاء ملك الموت إلى موسى، فقال له: أجب ربك. فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأها..."
(رواه البخاري)
وفي هذا دلالة على قوة موسى وغيرته، وعدم علمه بأن هذا رسول من الله، ثم لما علم، سلّم واستجاب.
ومات موسى عليه السلام، الرجل الذي كلّمه الله، وقاد أمة، وأظهر من المعجزات ما لم يُظهره نبي قبله.
(وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ) [النساء: 164]
ودُفن قريبًا من الأرض التي حُرِمَ من دخولها بسبب قومه، وترك وراءه أمةً كثيرة، وشريعة عظيمة، وسيرة نبي لا تُنسى.
لقد اجتمع في موسى وهارون صفاء الأخوة، وقوة الدعوة، وعظمة الرسالة. تكاملت شخصيتهما فكان موسى القوة وهارون اللين، وكانا معًا يدًا واحدة في وجه الطغيان.
علّمونا معنى الإخلاص، والتضحية، والثبات، والصبر على الأذى، والقيادة النبوية.
سَلَٰمٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ( الصافات 120)
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ( الصافات 121)
إِنَّهُمَا مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ( الصافات 122)
إعداد: رامة محمود دللي
من الهروب إلى الأمان: رحلة موسى إلى مدين
في قلب مصر القديمة، وفي زمن يتسلّط فيه فرعون على بني إسرائيل بالقهر والذل، نشأ موسى عليه السلام شابًا قويًا، شريفًا في نفسه، رحيمًا ببني قومه، رغم أنه نشأ في قصر الطغيان.
كان يرى الظلم بعينيه، لكنه يكتم غضبه… حتى جاء اليوم الذي انفجر فيه كل شيء.
في أحد أيام المدينة الهادئة، دخل موسى إلى ساحة من شوارعها، فوجد فيها رجلين يقتتلان:
أحدهما من بني إسرائيل.
والآخر من القبط، من قوم فرعون.
وكان الرجل الإسرائيلي يستنجد بموسى، ويطلب عونه.
**(وَدَخَلَ ٱلۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَٱسۡتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ ) (القصص: 15)
ضربة واحدة من موسى، لم يقصد بها القتل، لكن الرجل القبطي خرّ صريعًا… ومات.
فصُدم موسى من هول ما حدث، وندم.
**(قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ)
(القصص: 15)
ثم توجه إلى الله:
**(قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي فَٱغۡفِرۡ لِي فَغَفَرَ لَهُۥٓۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ)
(القصص: 16)
في اليوم التالي، وبينما موسى لا يزال في حزن وقلق، يرى نفس الرجل الإسرائيلي يختصم مع رجل آخر!
فقال له موسى مستنكرًا:
**(إِنَّكَ لَغَوِيّٞ مُّبِينٞ ) ( القصص: 18)
لكن الإسرائيلي خاف أن يغضب عليه كما غضب بالأمس، فقال لموسى:
**(قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ أَتُرِيدُ أَن تَقۡتُلَنِي كَمَا قَتَلۡتَ نَفۡسَۢا بِٱلۡأَمۡسِۖ إِن تُرِيدُ إِلَّآ أَن تَكُونَ جَبَّارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ )
(القصص: 19)
تسرب الخبر… وسرعان ما وصل إلى فرعون وأعوانه، فقرروا قتل موسى.
وفي تلك اللحظة العصيبة، أقبل رجلٌ من أقصى المدينة، يركض بأنفاسٍ متقطعة، يحمل لموسى رسالة مصيرية:
**(وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلۡمَلَأَ يَأۡتَمِرُونَ بِكَ لِيَقۡتُلُوكَ فَٱخۡرُجۡ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ)
(القصص: 20)
لم يكن لموسى وقتٌ لوداع، ولا لحزم متاع…
**(فَخَرَجَ مِنۡهَا خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُۖ )(القصص: 21)
ينظر خلفه، يترقب إن كان أحد يتبعه، لا يملك شيئًا إلا دعاء القلب الصادق:
**(قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ )
(القصص: 21)
انطلق موسى وحده، عبر الصحراء، لا يعرف الطريق، ولا يحمل الزاد…
كان يمشي أيامًا طويلة تحت شمس محرقة، لا يأكل إلا من نبات الأرض، ولا يشرب إلا من قطرات ماء.
كان في قلبه خوف… لكنه كان مطمئنًا بوعد الله.
**(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلۡقَآءَ مَدۡيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يَهۡدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ )
(القصص: 22)
لقد خرج خائفًا… لكنه يسير نحو قدر الله، حيث سيبدأ فصل جديد من قصته، وحيث سيلتقي بشعيب، ويتزوج، ويتدرّب للرسالة العظيمة القادمة…
وصل موسى عليه السلام إلى مدين بعد رحلة طويلة ومرهقة في الصحراء، تعب فيها جسده وظمئت روحه، لكنه كان موقنًا أن الله لن يضيّعه. دخل المدينة غريبًا، لا يعرف أحدًا، ولا يحمل شيئًا، ولكنه دخل وهو يحمل قلبًا طاهرًا وإيمانًا عميقًا بأن ربه لن يتركه.
في أول لحظة من دخوله مدين، قادته قدماه إلى بئر ماء، حيث اجتمع الرعاة يسقون ماشيتهم، وكان المنظر مألوفًا… رجالٌ حول البئر، يزاحمون، ويغلبون الضعفاء.
لكنه لمح شيئًا غير مألوف…
امرأتان تقفان على الجانب، تحفظان حياءهما، وتمنعان غنمهما من الاقتراب.
**( وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ )
(القصص: 23)
اقترب منهما، وسألهما بلطف:
( قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ )
فأجابتا بصوت خافت يدل على الأدب والحياء:
** (قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ)
(القصص: 23)
ما كان من موسى عليه السلام، وهو الغريب المرهق، إلا أن نهض برجولته، وتقدم نحو البئر. مزاحمًا أولئك الرعاة الأقوياء، وسقى للمرأتين بنفسه.
** (فَسَقَىٰ لَهُمَا ) (القصص: 24)
ثم انصرف إلى ظل شجرة قريبة، لا يطلب أجرًا ولا شكرًا، فقط رفع يديه إلى السماء، يناجي ربه الذي لطالما لجأ إليه:
** (ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ )
(القصص: 24)
كانت تلك الدعوة الصادقة، من قلبٍ صادق… فكان الجواب أسرع مما يتخيل.
بعد قليل، عادت إحدى الفتاتين تمشي نحوه، بخطى حيية خجولة.
** (فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ )
(القصص: 25)
وقالت له:
** (قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ )
(القصص: 25)
مشى معها موسى عليه السلام، وهو لا يزال غريبًا لا يعرف من هذا الشيخ. حتى دخل بيت شعيب – كما فُسّر في كثير من التفاسير – النبي الصالح.
فحكى له موسى قصته كلها، بكل صدق:
**فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ
(القصص: 25)
فوجد موسى الراحة، والأمان… بعد الخوف والضياع.
بعد أن استراح موسى عند الشيخ، تشاور الرجل مع ابنتيه، فأعجبت إحداهن بأخلاقه وقوته وأمانته.
**قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا يَٰٓأَبَتِ ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ
(القصص: 26)
فقال له الأب الصالح:
**قَالَ إِنِّيٓ أُرِيدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَيَّ هَٰتَيۡنِ عَلَىٰٓ أَن تَأۡجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖۖ فَإِنۡ أَتۡمَمۡتَ عَشۡرٗا فَمِنۡ عِندِكَۖ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أَشُقَّ عَلَيۡكَۚ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ
(القصص: 27)
وافق موسى، وتم الزواج، وبدأ فصل جديد من حياته في أرض مدين، راعيًا، متعلمًا، متدربًا على الصبر والبأس، استعدادًا للرسالة العظيمة التي سيُبعث بها.
**قَالَ ذَٰلِكَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَۖ أَيَّمَا ٱلۡأَجَلَيۡنِ قَضَيۡتُ فَلَا عُدۡوَٰنَ عَلَيَّۖ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ
(القصص: 28)
وهكذا، بعد رحلة الهروب والخوف، وجد موسى عليه السلام في مدين الأمان، والحياة الكريمة، والزواج الطاهر، والتدريب النبوي… ليعود بعدها إلى مصر برسالة الله، ويواجه فرعون برسالة التوحيد.
وهكذا خرج موسى من أرض الطغيان، لاجئًا إلى أرض جديدة، لكن قلبه مملوء بالرجاء.
خرج مذنبًا… فغفر الله له،
وخرج خائفًا… فطمأنه الله،
وخرج وحيدًا… ليُعِدّه الله ليكون نبيًا ورسولًا.
إعداد: رامة محمود دللي
"نشأة نبي: بين نهرٍ خائف وقصرٍ غافل"
طفل رضيع، نجا من الموت بأعجوبة، التقطه جنود فرعون من النيل، وحُمل إلى القصر، ليُصبح ابنًا بالتبني لعدوّه الأكبر!
لقد شاء الله أن يُربّى موسى عليه السلام في بيت عدوه، وأن يكبر بين أيدي من أرادوا قتله، بل في أحضان من كانوا يذبحون أمثاله من الرضّع!
**﴿فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّۭا وَحَزَنًۭا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا۟ خَـٰطِـِٔينَ﴾
(القصص: 8)
ولأن الله قدّر له أن يكون نبيًّا، هيّأ له الحماية والعناية، رغم وجوده في أخطر مكان: قصر فرعون نفسه.
كبر موسى في بيئة مترفة.
تربّى في أبهى أروقة القصر، لبس الحرير، وتناول طعام الملوك، وكان الجميع يهابونه، ظنًّا أنه ابن فرعون بالتبني.
لكن… في داخل موسى، شعور غريب.
شيء ما لا ينتمي لهذا المكان.
هل هو لون بشرته؟ لغته؟ لهجته؟
أم هو الحنان الذي كان يتسلّل إليه من صدر امرأة يشمّ فيها رائحة الأم؟
تلك المرأة لم تكن سوى أمّه الحقيقية، التي ردّها الله إليه:
**﴿فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
(القصص: 13)
لقد أُعطيت أم موسى دور المرضعة الرسمية في القصر، فأصبحت تدخل وتخرج، ترضعه، وتحنو عليه، وتغذّيه بحنان الأم، وإيمان النبي.
وهكذا نشأ موسى بين عالمين:
قصر فرعون: حيث السلطة، والترف، والخطر، والنفاق.
بيت أمه من بني إسرائيل: حيث الحب، والصدق، والتقوى، والفقر.
وكان يرى في بيت أمه آلام قومه، يسمع حكايات الاضطهاد، يرى الدموع في عيون نساء بني إسرائيل، ويشمّ الخوف في أنفاس رجالهم.
فبدأ قلبه ينمو في الاتجاه الصحيح…
لم ينسَ أصوله، ولم يذُب في حياة القصور.
كبر موسى، وعاش بين جناحين:
جناح الرفاهية في القصر، وجناح الحنان والإيمان في بيت أمه.
لكن الله كان يُربّيه لأمر عظيم… يصقله بالأحداث، ويحميه من الفتن، ويغذّيه بالحكمة، فيكبر يومًا بعد يوم.
**﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾
(طه: 39)
أي أن الله يتولى تشكيل موسى، وصنعه، وتعليمه، وتربيته، تربية الأنبياء، لا البشر.
كبر موسى وأصبح شابًّا قويًّا.
وكان الله قد أعطاه حكمةً منذ صغره:
**﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَـٰهُ حُكْمًۭا وَعِلْمًۭا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ﴾
(القصص: 14)
وفي يوم من الأيام، بينما هو يتجوّل في المدينة، وجد مشاجرة بين رجلين:
واحد من قومه (بني إسرائيل)، والآخر من القبط (قوم فرعون).
استنجد به الذي من قومه، فدفع موسى القبطيّ، فمات من غير قصد.
**﴿فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَـٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَـٰنِ ۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ﴾
(القصص: 15)
هنا بدأت رحلة جديدة.
فقد أصبح موسى مطلوبًا للعدالة، وغضب فرعون، وقرّر قتله.
**﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًۭا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾
(القصص: 21)
خرج موسى من القصر، من الرفاهية إلى الصحراء، من النعيم إلى الطريق، لكن… خرج رجلًا ناضجًا، نبيًّا في طور التكوين، محمّلًا برسالة عظيمة قادمة.
الله تعالى ربّى نبيّه بين أعدائه.
ونشّأه بين الترف والخطر.
لكنه لم يفقد هويّته، بل ظلّ ابن أمه، ابن بني إسرائيل، نبيّ المستقبل.
إعداد: رامة محمود دللي
في قلب الظلم، وتحت حكم فرعون المتجبر، خاف الناس على أبنائهم، وتخفّوا في الظلام، وارتجفت البيوت في بني إسرائيل كلما علا صوت جنديٍّ يبحث عن مولود ذكر.
في هذا الجو الموحش… وُلد موسى.
كان طفلاً جميلاً، يشعّ وجهه نورًا، لكنّ هذا النور قد يكون نذير خطر في أرضٍ يحكمها الظلم.
أم موسى، تلك المرأة المؤمنة، حملت طفلها على صدرها، وأخذت تبكي في صمت. ماذا تفعل؟ كيف تنقذ رضيعها؟
ولم يطل تفكيرها، فالوحي أتاها، هادئًا، مطمئنًا، لكنه مهيب:
**﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾
(سورة القصص، الآية 7)
إنه أمرٌ عجيب... ترضعه، ثم تُلقيه بيدها في النهر!
لكنها لم تتردد، لأن الذي أمر… هو الله.
في هدوء الليل، صنعت له تابوتًا صغيرًا من الخشب، وفرشته بقماش ناعم، ووضعت فيه طفلها الغالي.
ثم مشت به إلى النهر، وقلبها يرتجف، ودموعها تسيل، لكنها واثقة بالوعد.
دفعت التابوت برفق إلى الماء...
وسار التابوت كما لو كان يعرف الطريق…
بينما كان نهر النيل يسير في هدوئه المعتاد، كانت الأقدار تُدبّر أمرًا عجيبًا.
فجأة… يقترب التابوت من ضفاف قصر فرعون!
تخيل المشهد: جنود يتجولون على الشاطئ، فيرون ذلك الصندوق الغريب يطفو، فيلتقطونه على الفور.
**﴿فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّۭا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا۟ خَـٰطِـِٔينَ﴾
(القصص: 8)
يركضون به إلى داخل القصر، وهناك… يُفتح التابوت أمام آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون.
تنظر إليه… فإذا هو طفل كالقمر، لم ترَ أجمل منه قط.
في هذه اللحظة، خفق قلبها به، وتعلّقت روحها به، وكأنها تعرف أن هذا الطفل ليس كبقية الأطفال.
فقالت لفرعون:
**﴿وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍۢ لِّى وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًۭا﴾
(القصص: 9)
وتخيّل هذا المشهد العجيب:
الرضيع الذي أراد فرعون قتله، أصبح في قصره، وتحت رعايته، يأمرون بتربيته والإنفاق عليه، ويجهزون له مرضعات القصر!
لكن… المفاجأة كانت قادمة.
جاءت المرضعات من كل مكان، لكن موسى… يرفض الجميع.
لا يقبل حليب أحد، ويبكي… ويبكي، حتى بدأ القلق ينتشر في القصر.
وكانت أخت موسى، بأمر من أمها، تراقب عن بُعد، دون أن يعرف أحد من هي.
فجاءت إليهم في لحظة حرجة، وقالت:
**﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰٓ أَهْلِ بَيْتٍۢ يَكْفُلُونَهُۥ لَكُمْ وَهُمْ لَهُۥ نَـٰصِحُونَ﴾
(القصص: 12)
فقالوا: نعم، دلّينا.
فذهبت تجري، تحمل البُشرى لأمها…
ويعود المشهد الساحر:
أم موسى تدخل القصر، وتحمل طفلها، فيسكن، ويهدأ، ويقبل ثديها فورًا… كأن قلبه عرف قلبها.
**﴿فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
(القصص: 13)
هكذا… دخل موسى قصر من أراد قتله.
ورضع من لبن أمّه في قصر أعدائه.
ونام تحت سقف فرعون، وهو المُرسل من ربّه لإسقاط هذا الظلم العظيم.
قصة تقودنا إلى الإيمان العميق أن:
"من كان الله معه… فلا شيء يُمكن أن يقف في طريقه، لا بحر، ولا قصر، ولا فرعون."
إعداد: رامة محمود دللي
بدمعة أمّ... بدأت النبوّة
في زمنٍ طغى فيه الظلم، وبسط فيه فرعون سلطانه الجائر على أرض مصر، كان بنو إسرائيل يئنّون من وطأة العبودية والذل، وقد رأى فرعون فيهم خطرًا يهدد عرشه، فاستشار الكهنة والسحرة، فأخبروه بأن طفلًا من بني إسرائيل سيولد ويكون على يديه زوال ملكه.
فأصدر فرعون أمرًا رهيبًا:
أن يُقتل كل غلام يولد من بني إسرائيل، ويُستحيا نساؤهم للخدمة والمهانة.
**﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًۭا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةًۭ مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾
(القصص: 4)
وفي هذا الجو المرعب، وُلد موسى عليه السلام… في بيت متواضع من بيوت بني إسرائيل. وكان وجهه نورًا، وعيناه تتفتحان على قدرٍ عظيم.
ارتجف قلب أمه حين وضعته بين يديها لأول مرة… كيف تحميه من سكاكين جنود فرعون؟ كيف تخبئ بكاءه؟ كيف ترضعه دون أن يسمع أحد صوته؟
كانت تسأل الله… وتبكي…
وفي لحظة من لطف الله…
جاء الوحي الإلهي:
**﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾
(القصص: 7)
كانت لحظة مؤلمة… لكنها لحظة إيمان.
في قلب الليل… أخفت أم موسى ابنها في تابوت صغير من خشب، ووضعت فيه بعض القماش، ثم حملته إلى النهر وهي تبكي.
يا الله! أي أم هذه التي تُلقي فلذة كبدها في النهر؟
لكنه أمر الله… ووعد الله… ووحي من فوق سبع سماوات.
**﴿فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّۭا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا۟ خَـٰطِـِٔينَ﴾
(القصص: 8)
وسبح التابوت في مياه النيل… حتى التقطه جنود فرعون، وحملوه إلى قصره!
دخل موسى قصر الطاغية الذي أراد قتله… لكنه لم يعرف أن هذا الطفل الصغير هو نهايته!
في بيتها الصغير، كانت أم موسى تبكي بحرقة…
وتشتعل نار قلبها… وتسأل نفسها: هل أكملت مهمتي؟ هل غرق؟ هل التهمته أمواج النيل؟ أين وعد الله؟
**﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَـٰرِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِۦ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾
(القصص: 10)
فالله جلّ جلاله ربط على قلبها، وثبت فؤادها، وإلا كادت تصرخ وتكشف سرها.
لما وصل موسى إلى قصر فرعون، أرادت آسية زوجة فرعون أن تتبناه، فأحبته من النظرة الأولى، وقالت:
**﴿وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍۢ لِّى وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًۭا﴾
(القصص: 9)
لكن الرضيع موسى… رفض أن يرضع من أي مرضعة!
احتار القصر كله… وجيء له بالعشرات، لكنه لا يقبل ثديًا.
وفي تلك اللحظة…
قالت أخت موسى، التي كانت تتبعه عن بعد بأمر أمه:
**﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰٓ أَهْلِ بَيْتٍۢ يَكْفُلُونَهُۥ لَكُمْ وَهُمْ لَهُۥ نَـٰصِحُونَ﴾
(القصص: 12)
فقالوا: نعم! دلينا.
فما هي إلا ساعات… وإذا بأم موسى تُدخل إلى القصر، وتحمل طفلها، وتُرضعه فيسكن… ويبكي الجميع من التأثر.
**﴿فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
(القصص: 13)
يا لها من نهاية عظيمة للمحنة…
أعطاها الله رضيعها، وأجراها برزق في قصر عدوّها، وجعل ابنها في أحضان عدوه… وهو لا يشعر!
طاعة الله تأتي فوق مشاعر الأمومة حين يكون الأمر من الله مباشرة.
وعد الله لا يُخلف، مهما بدت الظروف مستحيلة.
الله يربط على قلوب عباده الصالحين في أشد اللحظات.
من بكى من الشوق، قد يعود إليه من اشتاق… بأجمل مما تمنى.
إعداد: رامة محمود دللي
في زمنٍ من الأزمنة، كان نبي الله داوود عليه السلام نبيا عادلًا، يحكم بني إسرائيل بحكمة ورشاد. أعطاه الله مُلكًا وسُلطانًا، وأوتي من الفصاحة والبيان والعلم ما جعله مهابًا محترمًا في قومه.
وكان داوود كثير العبادة، شديد التنسك. يقضي كثيرًا من ليله في التسبيح وذكر الله، ويخلو إلى محرابه لعبادة ربه، بعيدًا عن الناس.
وفي إحدى الليالي، وبينما كان داوود عليه السلام قائمًا بين يدي ربه، خاشعًا متبتلًا في محرابه… حدث أمرٌ عجيب:
﴿وَهَلْ أَتَىٰكَ نَبَؤُا ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا۟ ٱلْمِحْرَابَ﴾
(ص: 21)
لقد تسوّر رجلان جدار المحراب، ودخلا عليه فجأة من غير إذن، ففزع داوود عليه السلام! لم يتوقع أن يراهما، لا حارس استوقفهم، ولا باب طُرق، بل وجدهما أمامه مباشرةً!
﴿إِذْ دَخَلُوا۟ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍۢ فَٱحْكُم بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ﴾
(ص: 22)
هدأ داوود قليلًا، وبدأ يستمع لشكوى أحد الخصمين:
﴿إِنَّ هَـٰذَآ أَخِى لَهُۥ تِسْعٌۭ وَتِسْعُونَ نَعْجَةًۭ وَلِىَ نَعْجَةٌۭ وَٰحِدَةٌۭ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ﴾
(ص: 23)
قال الرجل: يا نبي الله، هذا أخي عنده 99 نعجة، وعندي أنا واحدة فقط. ومع ذلك، طلب مني أن أضمها إلى نعاجه، وألحّ عليَّ بالكلام، وغلبني في الحجة والجدال!
فقال داوود عليه السلام، وهو يحكم سريعًا، متأثرًا بالموقف:
﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦ ۚ وَإِنَّ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِىٰ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَقَلِيلٌۭ مَّا هُمْۗ﴾
(ص: 24)
حكم نبي الله داوود أن الأخ الظالم تجاوز الحد، وطغى على صاحبه بطلبه غير العادل.
لكن بعد لحظاتٍ من التأمل... شعر داوود بشيءٍ غريب في قلبه. هل استعجل في الحكم؟ هل سمع من طرفٍ واحد؟
فهم حينها أن ما جرى ليس مجرد خصومة عادية، بل ابتلاء واختبار من الله.
﴿وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعًۭا وَأَنَابَ﴾
(ص: 24)
فخرّ داوود عليه السلام ساجدًا، يتوب إلى ربه، ويستغفره، لأنه حكم قبل أن يسمع من الطرف الثاني. وهي عبرة عظيمة، حتى للنبي الملك!
بعد هذه التوبة الخاشعة، جاءه الوحي من ربه:
﴿فَغَفَرْنَا لَهُۥ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـَٔابٍ ﴿25﴾
(ص: 25)
ثم أمره الله بحكم أعظم:
﴿يَـٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةًۭ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ﴾
(ص: 26)
الحكم لا يصحّ إلا بعد السماع من الطرفين.
حتى الأنبياء يُفتنون ويُختبرون ليكونوا عبرة للناس.
الرجوع إلى الله والتوبة من الخطأ صفة عظيمة في أولياء الله.
العدل أساس الخلافة في الأرض، والهوى طريق الضلال.
إعداد: رامة محمود دللي
فتنة العجل وصوت الشيطان
بعد أن واجه نبي الله موسى فرعون، وهلك فرعون وجنوده في البحر، نجا موسى ومن معه من بني إسرائيل، وساروا في الصحراء في طريقهم إلى الأرض التي وعدهم الله. وكان بنو إسرائيل قد عاشوا سنين طويلة تحت ظلم فرعون، ولما نجاهم الله، لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، وكان فيهم الجهل والتعلق بالماديات.
وهنا تبدأ قصة السامري، الرجل الغامض الذي زرع الفتنة بينهم.
السامري رجل من بني إسرائيل، قيل اسمه "موسى السامري"، وكان ممن نجا مع بني إسرائيل من مصر، وكان يُظهر الإيمان، لكنه كان منافقًا خبيثًا.
واسمه مرتبط بمنطقة تُعرف بـ"السامرة"، ويُقال إنه كان يعرف شيئًا من علوم السحر أو الطلاسم، وبعض الآثار.
كان السامري ذكيًّا، لكنه استعمل ذكاءه في الشر، فاستغل جهل بني إسرائيل، ووسوس إليهم وضللهم.
أمر الله نبيَّه موسى أن يصعد إلى جبل الطور ليتلقى التوراة، واختار له ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فكانت أربعين ليلة:
﴿وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِينَ لَيْلَةًۭ وَأَتْمَمْنَـٰهَا بِعَشْرٍۢ فَتَمَّ مِيقَـٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرْبَعِينَ لَيْلَةًۚ﴾
(الأعراف: 142)
ترك موسى أخاه هارون مسؤولًا عن قومه، وقال له:
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَـٰرُونَ ٱخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾
(الأعراف: 142)
في غياب موسى، جمع السامري حُليًّا كان بنو إسرائيل قد أخذوه من المصريين، ثم صنع منها عِجلاً جسدًا له خُوار (صوت كصوت البقر)!
﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًۭا جَسَدًۭا لَّهُۥ خُوَارٌۭ فَقَالُوا۟ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِىَ﴾
(طه: 88)
زعم السامري أن هذا العجل هو إلههم الحقيقي، وأن موسى نسيه وذهب يبحث عن شيء غيره! فصدقته طائفة كبيرة من بني إسرائيل، وضلّوا.
عندما سأله موسى لاحقًا عن فعلته، أجاب السامري قائلًا:
﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا۟ بِهِۦ فَقَبَضْتُ قَبْضَةًۭ مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى﴾
(طه: 96)
قال بعض المفسرين: إنه رأى أثرًا من أثر فرس جبريل عليه السلام حين نزل ينقذ بني إسرائيل، فأخذ شيئًا من التراب الذي وطئه حافر الفرس، ووضعه في الذهب المصهور، فصار له حياة ظاهرية، يُخرج صوتًا، فاغتر الناس!
لكن الحقيقة: لم يكن للعجل حياة حقيقية، بل كانت فتنة واختبارًا من الله.
هارون حاول أن يمنعهم، وأن ينهاهم عن عبادة العجل:
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَـٰرُونُ مِن قَبْلُ يَـٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوٓا۟ أَمْرِى﴾
(طه: 90)
لكنهم رفضوا، وقالوا:
﴿قَالُوا۟ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ﴾
(طه: 91)
عاد موسى من الميقات، وحين رأى ما حدث، اشتد غضبه:
﴿وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيْهِ﴾
(طه: 92)
ظنّ أن هارون فرّط في أمر الله، لكن هارون قال:
﴿قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا۟ يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ ٱلْأَعْدَآءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾
(طه: 94)
فهدأ موسى ودعا لأخيه بالمغفرة.
ثم التفت موسى إلى السامري، وقال له:
﴿فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى ٱلْحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًۭا لَّن تُخْلَفَهُۥ ۖ وَٱنظُرْ إِلَىٰٓ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًۭا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِى ٱلْيَمِّ نَسْفًا﴾
(طه: 97)
حكم عليه أن يعيش منبوذًا يقول للناس: "لا مساس"، أي لا يمسه أحد، ولا يمس أحدًا.
ثم أمر بحرق العجل ونسفه في البحر، ليُدمّر الوثن، ويُطهّر القوم.
﴿إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾
(طه: 98)
تلك القصة كانت امتحانًا لبني إسرائيل، وفضحت السامري ومكره، وأظهرت كيف أن الفتنة قد تأتي ممن يظهر الصلاح.
كما تعلّمنا أن الصبر والثبات على التوحيد أهم من المعجزة، فالمعجزة لا تُغني عن الإيمان.
إعداد: رامة محمود دللي
الطغيان الغارق: قصة لا تنسى
كان فرعون ملك مصر في زمن نبي الله موسى عليه السلام، حاكمًا جبارًا لا يعرف الرحمة. قال لقومه يومًا، متكبرًا:
﴿فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ﴾
(النازعات: 24)
وقال أيضًا:
﴿يَـٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلْأَنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىٓ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾
(الزخرف: 51)
بلغ به الكبر أن يدّعي أنه إله! فجاءه موسى عليه السلام برسالة من ربه، وقال له بكل ثقة:
﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ﴿18﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ﴾
(النازعات: 18–19)
لكن فرعون أبى واستكبر، وقال لموسى:
﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًۭا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾
(الشعراء: 18)
واعتبر الرسالة إهانة، ورفض أن يتنازل عن جبروته.
أظهر موسى آيات ربه أمام فرعون: العصا التي تحولت إلى حيّة، واليد البيضاء، ثم الطوفان، والدم، والجراد، والقُمّل، والضفادع:
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَـٰتٍۢ مُّفَصَّلَـٰتٍۢ فَٱسْتَكْبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوْمًۭا مُّجْرِمِينَ﴾
(الأعراف: 133)
ومع كل آية، كان فرعون يستكبر، حتى بعدما رأى السحرة يؤمنون بموسى، قال لهم:
﴿ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفٖ﴾
(طه: 71)
بعد أن طال أذى فرعون، أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلًا من مصر:
﴿وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِيٓ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾
(الشعراء: 52)
فتحرك موسى في الظلام، ومعه الآلاف من بني إسرائيل، متجهين نحو البحر.
وفي الصباح، علم فرعون بخروجهم، فاستشاط غضبًا، وجمع جيشه الكبير:
﴿فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ ﴿53﴾ إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ لَشِرۡذِمَةٞ قَلِيلُونَ﴾
(الشعراء: 53–54)
وتحرك جيشه الضخم خلف موسى وبني إسرائيل.
وصل موسى بقومه إلى شاطئ البحر. خلفهم جيش فرعون، وأمامهم البحر الهائج. فخاف بنو إسرائيل، وقالوا:
﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾
(الشعراء: 61)
لكن موسى، الواثق بوعد ربه، قال بثقة:
﴿قَالَ كَلَّآ ۖ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾
(الشعراء: 62)
فأوحى الله إليه أن يضرب البحر بعصاه:
﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ﴾
(الشعراء: 63)
شقّ الله البحر لموسى، فتحول إلى طريق يابس، والجبال المائية على الجانبين كأنها جدران ضخمة!
دخل موسى وقومه البحر المنفلق، فلما عبروا، دخل فرعون وجيشه خلفهم، يظن أنه سينتصر. ولكن ما إن دخلوا وسط البحر حتى أمر الله البحر أن يعود كما كان:
*﴿فَأَتْبَعُوهُمۡ مُّشۡرِقِينَ﴾ (الشعراء: 60)
﴿فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ﴾ (الشعراء: 68)
﴿فَأَغۡرَقۡنَـٰٓا فِرۡعَوۡنَ وَجُنُودَهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ﴾ (القصص: 40)
وفي تلك اللحظة، ومع الغرق، أظهر فرعون الندم، وقال:
﴿ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتۢ بِهِۦ بَنُوٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ﴾
(يونس: 90)
لكن الله لم يقبل توبته، فقد كانت توبة عند الموت:
﴿ءَٟلْـَٔـٰنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾
(يونس: 91)
ومع ذلك، قال الله:
﴿فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ﴾
(يونس: 92)
نجّى الله جثمان فرعون ليبقى عبرة على مر العصور.
كانت نهاية فرعون غرقًا وندمًا وذلًّا، بعد أن رفض الإيمان طيلة حياته. وظلّ جسده محفوظًا ليكون آية للعالمين.
﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ﴾
(النازعات: 26)
إعداد: رامة محمود دللي
النداء السماوي والتحدي الفرعوني
اللقاء العاصف: موسى عليه السلام في قصر فرعون
بعد أن تلقى موسى عليه السلام الوحي في الوادي المقدس "طُوى"، وعاد إلى مصر بأمر الله، بدأت رحلته النبوية. عاد لا كالهارب الخائف، بل كنبيٍ مرسل يحمل كلمة الله، يواجه أعتى طاغية في الأرض: فرعون، الذي قال: أنا ربكم الأعلى!
قال الله لموسى:
﴿ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ﴾
(طه: 24)
فرعون تجاوز كل حد، فاستعبد الناس، وقتّل الأبناء، وادّعى الألوهية.
فطلب موسى عليه السلام من ربه أن يعينه ويشرح صدره، ويُطلق لسانه، ويشرك معه أخاه هارون:
﴿قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَيَسِّرْ لِىٓ أَمْرِى * وَٱحْلُلْ عُقْدَةًۭ مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا۟ قَوْلِى * وَٱجْعَل لِّى وَزِيرًۭا مِّنْ أَهْلِى * هَـٰرُونَ أَخِى﴾
(طه: 25–30)
فقال له ربه:
﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـٰمُوسَىٰ﴾
(طه: 36)
دخل موسى وهارون على فرعون في قصره، حاملَين رسالة الحق. خاطباه بلين كما أمرهما الله:
﴿فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًۭا لَّيِّنًۭا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾
(طه: 44)
فقالا له بأدبٍ النبوة:
﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَـٰكَ بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ﴾
(طه: 47)
أي: نحن رسولا الله إليك، فلا تعذّب بني إسرائيل، وأطلق سراحهم، فقد جئناك بآية عظيمة من الله، وسلام الله على من اتبع الهدى.
ردّ فرعون ساخرًا:
﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَـٰمُوسَىٰ﴾
(طه: 49)
فأجابه موسى عليه السلام بثبات:
﴿قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾
(طه: 50)
أي: الله الذي خلق كل شيء كما هو، ثم هداه لوظيفته وطريقه في الحياة.
فرعون لم يقتنع، فأظهر له موسى آية من آيات الله:
﴿فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌۭ مُّبِينٌۭ * وَنَزَعَ يَدَهُۥ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـٰظِرِينَ﴾
(طه: 20–22)
رأى فرعون العصا تتحول إلى ثعبان عظيم حي يتحرك أمام الناس، ثم رأى يد موسى تضيء نورًا أبيض دون علة أو سوء.
لكن بدل أن يُؤمن، بدأ يُكابر ويكذب، وخاف أن يُفتن الناس.
قال فرعون متحديًا:
﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَـٰمُوسَىٰ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍۢ مِّثْلِهِۦ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًۭا لَّا نُخْلِفُهُۥ نَحْنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانًۭا سُوًى﴾
(طه: 57–58)
قال موسى:
﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًۭى﴾
(طه: 59)
تم تحديد موعد علني، في يوم الزينة، أمام الناس جميعًا، ليكون النصر للحق جهارًا.
جمع فرعون السحرة من كل مصر، وقال لهم:
﴿فَأَجْمِعُوا۟ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُوا۟ صَفًّۭا ۚ وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ﴾
(طه: 64)
بدأ السحرة أولًا:
﴿فَأَلْقَوْا۟ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا۟ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَـٰلِبُونَ﴾
(طه: 73)
فتحولت الحبال والعصي إلى حيات تتحرك كأنها حقيقية، بسحر أعين الناس، لا حقيقة.
ثم ألقى موسى عصاه:
﴿فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾
(طه: 69)
ابتلعت عصاه كل ما صنعوه من سحر، أمام أعين الناس.
فانقلب المشهد، وانكشفت الحقيقة. السحرة أنفسهم آمنوا بالله!
﴿فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًۭا * قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ﴾
(طه: 70)
جن جنون فرعون، فقال:
﴿قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡ ۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ﴾
(طه: 71)
لكن السحرة ثبتوا:
﴿قَالُوٓا۟ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَـٰتِ وَٱلَّذِى فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِى هَـٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا﴾
(طه: 72)
خاتمة المواجهة
وبذلك، انتهت المواجهة الأولى بانتصار الحق، وتزلزل عرش فرعون، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع بين موسى وفرعون، انتهت لاحقًا بهلاك فرعون.
إعداد: رامة محمود دللي
الوادي المقدّس... وبداية النبوّة"
كان الليل ساكنًا، والهواء باردًا يحمل نسماتٍ غريبة، وموسى عليه السلام يسير مع أهله في صحراء سيناء بعد أن غادر مدين متوجهًا إلى مصر، يحمل بين جنبيه همًّا وحنينًا، لكن ما لم يعلمه، أن هذا الطريق سيكون بداية التحوّل الكبير في حياته.
**﴿هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ رَءَا نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوٓا۟ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًۭا لَّعَلِّىٓ ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًۭى﴾
(طه: 9-10)
في تلك الليلة، رأى موسى نارًا من بعيد، فلم تكن نارًا عادية، كانت تُشعّ بطريقة مدهشة، كأنها تدعوه، كأنها رسالة من عالمٍ آخر.
فقال لأهله بلطف: "امكثوا هنا، سأذهب وحدي إلى النار، لعلي آتيكم منها بجذوة، أو أجد عندها من يدلّني على الطريق."
لكن ما كان يعلم موسى، أن هذا اللقاء سيكون مع ربّ العالمين.
اقترب موسى من النار، وإذا به يسمع صوتًا لا يشبه شيئًا سمعه من قبل، صوتًا سماويًا يخترق قلبه، يهز كيانه:
﴿فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِىَ يَـٰمُوسَىٰ * إِنِّىٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى﴾
(طه: 11-12)
يا الله...! نداءٌ باسمه، "يَا مُوسَى"، من الذي يعرفه؟! من الذي يناديه في الظلام؟
ثم يأتي الجواب الأعظم: "إنِّي أَنَا رَبُّكَ..."
تخيّل الرهبة، تخيّل الذهول...
ثم يأمره ربّه: "فاخلع نعليك، إنك بالوادي المقدّس طُوى."
مكانٌ مبارك، لا ينبغي الدخول إليه إلا بتجرّد وخشوع.
ثم يُبلغه الله بالمهمة العظيمة التي خُلق لأجلها:
﴿وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ﴾
(طه: 13)
﴿إِنَّنِىٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدْنِى وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِىٓ﴾
(طه: 14)
﴿إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍۢ بِمَا تَسْعَىٰ﴾
(طه: 15)
يا موسى... لقد اخترتك، فلا تخَف، أنت الآن من المُصطفين.
ثم يعلمه أعظم حقيقة: أن لا إله إلا الله، ويأمره بأول أمرٍ في الرسالة: العبادة والصلاة.
ثم يذكّره بيوم القيامة، حيث تُجزى كل نفسٍ بما عملت.
ثم أراد الله أن يُطمئن قلب موسى، وأن يُعدّه لحمل الرسالة إلى أعتى طاغية في التاريخ، فأراه آيةً من آياته:
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـٰمُوسَىٰ﴾
(طه: 17)
فيجيب موسى بثقة:
﴿قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا۟ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخْرَىٰ﴾
(طه: 18)
ثم يأتي الأمر المفاجئ:
﴿قَالَ أَلْقِهَا يَـٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَىٰهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌۭ تَسْعَىٰ﴾
(طه: 19-20)
فارتعد موسى، وخاف، وولّى مدبرًا!
﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلْأُولَىٰ﴾
(طه: 21)
ثم أراه الله آية أخرى:
﴿وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوٓءٍ ءَايَةً أُخْرَىٰ﴾
(طه: 22)
يدُ موسى حين يضمها إلى جنبه، ويخرجها، تُشعُّ نورًا دون مرض أو علّة، آيةٌ تُثبت صدقه وتُرهب الأعداء.
﴿ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ﴾
(طه: 24)
موسى عليه السلام يعلم من هو فرعون، الطاغية الجبّار، القاتل الظالم.
فطلب من ربه ما يطمئن قلبه:
﴿قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَيَسِّرْ لِىٓ أَمْرِى * وَٱحْلُلْ عُقْدَةًۭ مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا۟ قَوْلِى﴾
(طه: 25-28)
ثم طلب من ربه أن يُرسل معه أخاه هارون:
﴿وَٱجْعَل لِّى وَزِيرًۭا مِّنْ أَهْلِى * هَـٰرُونَ أَخِى﴾
(طه: 29-30)
﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـٰمُوسَىٰ﴾
(طه: 36)
يا الله... ما أعظم هذا القرب
دعا موسى، فأجابه ربّه فورًا.
هكذا، في ليلةٍ واحدة، وفي الوادي المقدس طُوى، تحوّل موسى من رجلٍ هارب، إلى نبيٍّ مرسل، يحمل نور الله إلى الأرض.
لقد شهد ذلك الوادي أول الكلمات، أول الوحي، أول المعجزات...
وكانت تلك الليلة بداية فصلٍ جديد في تاريخ النبوة.
إعداد: رامة محمود دللي
في ليلةٍ ساكنة من ليالي مكة، كان الحبيب محمد ﷺ قد أجهد نفسه في عبادةٍ طويلة، يصلّي ويبكي، يناجي ربه ويطيل السجود، حتى تورّمت قدماه من شدّة الوقوف بين يدي الله.
كان يحمل في قلبه همّ أمّته، وخوفه على الناس من العذاب، وكان قلبه مملوءًا بحب الله وخشيته، حتى كاد يفنى من التعب والطاعة.
وفي هذا المقام، جاءه جبريل عليه السلام، يحمل له سورةً من عند الله، تبدأ بنداء عجيب... حنون... لطيف...
﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾
(طه: 1-2)
قيل فيها أقوال كثيرة، لكن من أروع ما قيل — والذي يلائم هذا السياق — أن "طه" معناها:
"يا رجل، يا طاهر، يا محمد... أرح قدمك."
كأن الله جلّ جلاله يقول لنبيّه الحبيب:
"طه... كفَّ عن إرهاق نفسك. يا محمد، لقد أطلت القيام حتى آلمتك قدماك... وما أنزلنا عليك القرآن لتشقَى، بل لتسعَد، ولتهدي الناس إلى النور."
في هذا النداء، حضن من الرحمة، ولمسة حنان، وكلمة عتابٍ رقيق مليئة بالحب الإلهي.
ورد في بعض الآثار أن رسول الله ﷺ كان يقوم الليل طويلاً، يصلِّي حتى تنتفخ قدماه، فيُشفق عليه ربه، فتنزل هذه السورة تواسيه وتقول له:
"طه، يا من طهرت قلبك ونقيت روحك... أرح قدمك، فإن هذا الدين رحمة، لا عنت فيه ولا مشقة مفرطة."
وقيل أيضًا إن "طه" من الحروف المقطعة مثل (يس، حم، ألم...)، تشير إلى إعجاز القرآن، وأنه مؤلف من حروف العرب، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثله.
لكن في هذا الموضع، وبسبب سياق التخفيف، يتذوق العلماء "طه" على أنها نداءٌ حنون من الله لنبيه، فيه معنى:
"يا طه... يا محمد... أرح قدمك، واسترح قليلاً، فإن الله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها."
لأن السورة تحمل قصة موسى عليه السلام، وكلها مواقف من المواجهة والابتلاء، فبدأها الله بكلمة تسكب الطمأنينة والراحة في صدر النبي ﷺ، كأنها تهيئة نفسية:
"قبل أن أذكّرك بما واجهه موسى، أذكّرك أنت... يا طه... أنك لست وحدك، وأن الله معك، فاهدأ، وطمئن قلبك، وأرح قدميك."
تخيّل رسول الله ﷺ وهو يسمع هذه الآيات لأول مرة...
في لحظة تعب، يُنادَى: طه...
ويُقال له: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..."
فكأن جبريل يمسح بيده على قدمَي النبي ﷺ المتعبتين، ويقول:
"طه... أرح قدمك، فقد رضي الله عنك."
إعداد: رامة محمود دللي
هل ظننت يومًا أن النوم يمكن أن يكون سفينة تتجاوز بك قرون الزمان؟ أن تغفو عيناك في عصر الظلم، ثم تستيقظ لتجد الدنيا قد تبدلت، والبشر قد تغيروا، والباطل قد زال؟
في مدينةٍ عظيمة اسمها الرقيم، غطّت الأصنام أزقّتها، وصُبغت جدرانها بصور الملوك المعبودين، كان هناك ملك ظالم يُدعى دقيانوس، لا يقبل من أحدٍ أن يعبد غيره، أو يعترف بإله سواه.
لكن في زوايا تلك المدينة الصاخبة، تلاقت قلوب فتيةٍ في عمر الزهور. لم يكونوا من طبقة واحدة ولا من عائلة واحدة، لكن ما جمعهم كان أسمى: الإيمان بالله الواحد الأحد. كانوا يجتمعون سرًا في أطراف المدينة، يتلون كلماتٍ خفية، تصل السماء قبل أن تنطقها أفواههم: "ربنا رب السماوات والأرض، لن ندعو من دونه إلها"
فهل حسبتَ أن قصتهم نُسيت؟
"أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُوا۟ مِنْ ءَايَـٰتِنَا عَجَبًا"
(الكهف: 9)
جاء اليوم الذي انكشفت فيه سريرتهم، فوقفوا في وجه الطغيان، لا يخافون الموت، ولا السيوف. وقفوا أمام قومهم يقولون بثبات:
"إِذْ قَامُوا۟ فَقَالُوا۟ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا۟ مِن دُونِهِۦٓ إِلَـٰهًۭا لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًۭا شَطَطًا"
(الكهف: 14)
"هَـٰٓؤُلَآءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةًۭ ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَـٰنٍۢ بَيِّنٍۢ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا"
(الكهف: 15)
قرر الفتية الفرار بدينهم، ولم يحملوا معهم إلا الإيمان، وانطلقوا إلى كهفٍ في أطراف الجبل. هناك، رفعوا أكفهم للسماء:
"رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةًۭ ۟ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًۭا"
(الكهف: 10)
فاستجاب الله دعاءهم، وأعد لهم مأوىً فيه سكينة، ومنامًا يعلو على الزمان.
"فَأْوُوا۟ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِۦ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"
(الكهف: 16)
دخلوا الكهف، وسقطوا في نوم عجيب، نوم يشبه الموت، لكنه ليس موتًا. كانت الشمس تميل عنهم كي لا تؤذيهم، وأجسادهم تنقلب باستمرار كي لا تأكلها الأرض، وكلبهم الوفي يرقد عند الباب، يحرسهم من أي خطر.
"وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍۢ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيًّۭا مُّرْشِدًۭا"
(الكهف: 17)
"وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًۭا وَهُمْ رُقُودٌۭ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَـٰسِطٌۭ ذِرَاعَيْهِ بِٱلْوَصِيدِ ۚ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًۭا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًۭا"
(الكهف: 18)
نعم، لقد ناموا، ونامت معهم المدينة، ومرّت قرون، وسقطت الممالك، وتبدّلت الأجيال، وهم غافلون عن كل ذلك.
"وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَـٰهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا۟ بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَآئِلٌۭ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا۟ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍۭ ۚ قَالُوا۟ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ"
(الكهف: 19)
أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليشتري طعامًا، وأوصوه بالحذر:
"فَٱبْعَثُوٓا۟ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَامًۭا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍۢ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا"
(الكهف: 19)
لكنه حين دخل المدينة، فوجئ أن كل شيء قد تغيّر، بل حتى النقود التي يحملها أصبحت أثرًا من الماضي، فاجتمع الناس حوله، وأخذوه إلى الملك الصالح، الذي كان يبحث عن آية من الله.
"وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَآ"
(الكهف: 21)
عاد الفتى إلى الكهف، واجتمع الفتية، وسجدوا لله سجدة شكر، ثم قبض الله أرواحهم، بعد أن جعلهم آية خالدة.
فقال الناس:
"فَقَالُوا۟ ٱبْنُوا۟ عَلَيْهِم بُنْيَـٰنًۭا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُوا۟ عَلَىٰٓ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًۭا"
(الكهف: 21)
اختلف الناس في عددهم، ولكن الله لم يُفصح، ليُعلّمنا أن العبرة ليست بعددهم، بل بثباتهم.
"سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌۭ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌۭ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًۭا بِٱلْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌۭ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّىٓ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم"
(الكهف: 22)
"وَلَبِثُوا۟ فِى كَهْفِهِمْ ثَلَـٰثَ مِا۟ئَةٍۢ سِنِينَ وَٱزْدَادُوا۟ تِسْعًۭا"
(الكهف: 25)
"قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا۟ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًۭا"
(الكهف: 26)
هكذا خُلِّدت قصة أصحاب الكهف في كتاب الله، لتكون نورًا للمؤمنين، وأُسوة للثابتين.
إعداد: رامة محمود دللي
قصة الإسراء – حين عرجت الروح إلى سدرة المنتهى
كانت تلك الليلة المباركة من أعجب ليالي الأرض والسماء. ليلةً اختار الله فيها حبيبه محمدًا ﷺ ليكرمه بأعظم رحلة عرفها بشر.
سُمّيت هذه الرحلة بـالإسراء والمعراج. فـ"الإسراء" هو السفر ليلًا من مكة إلى القدس، و"المعراج" هو الصعود من بيت المقدس إلى السماوات العُلى حتى سدرة المنتهى.
قال الله تعالى:
"سُبْحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَى ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ"
(الإسراء: 1)
حدثت هذه الرحلة في وقت عصيب: فقد النبي ﷺ زوجه خديجة، وعمه أبا طالب، وتعرض للإيذاء من قريش، ورفضه أهل الطائف.
فكانت هذه الرحلة تكريمًا وفتحًا من الله، ليُري نبيه أنه ما خذله، بل يرفعه ويريه من آياته الكبرى.
جاء جبريل عليه السلام بالبُراق، دابةً بيضاء، فوق الحمار ودون البغل، تضع حافرها عند منتهى طرفها.
ركبها رسول الله ﷺ، وانطلق من المسجد الحرام حتى وصل إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. وهناك، اجتمع بالأنبياء، فصلّى بهم إمامًا، تأكيدًا لرسالته وختمه للنبوة.
ثم عُرج بالنبي ﷺ من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، وهناك رأى العجائب:
في السماء الأولى: التقى بآدم عليه السلام.
في الثانية: عيسى ويحيى عليهما السلام.
في الثالثة: يوسف عليه السلام.
في الرابعة: إدريس عليه السلام.
في الخامسة: هارون عليه السلام.
في السادسة: موسى عليه السلام.
في السابعة: إبراهيم عليه السلام، متكئًا على البيت المعمور.
سدرة المنتهى... وآيات لا توصف
ثم ارتقى ﷺ إلى مقام سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، وهناك رأى من آيات الله الكبرى، ما لا يصفه بشر.
"وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ"
(النجم: 13–18)
في تلك اللحظة المباركة، فرض الله على أمّة محمد ﷺ الصلوات الخمس. وكانت في الأصل خمسين صلاة، لكن موسى عليه السلام أشار على النبي ﷺ أن يراجع الله في التخفيف، فخفّفها الله حتى أصبحت خمسًا في العدد وخمسين في الأجر.
عاد النبي ﷺ من هذه الرحلة المذهلة في نفس الليلة، وجسده في الأرض وروحه حلّقت في الملكوت. لما أخبر الناس، كذّبته قريش، فقال لهم:
"أرأيتم إن أخبرتكم أني صليت الليلة في بيت المقدس؟"
فطلبوا منه أن يصفه، فوصفه بدقة، فازداد المؤمنون تصديقًا، وكان أولهم أبو بكر الصدّيق، فقال:
"إن كان قال فقد صدق، إني أصدّقه في خبر السماء، أفلا أصدقه في هذا؟"
سُميت سورة الإسراء بهذا الاسم لأنها بدأت بذكر معجزة الإسراء، وهي رحلة النبي ﷺ ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهي أعظم حدث ذكر في السورة، وفيها قال الله:
"سُبْحَانَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِ..." (الإسراء: 1)
وقد جاء اسمها: "سورة بني إسرائيل"، لأنها تضمنت ذكر فساد بني إسرائيل في الأرض، وعقاب الله لهم، وربطت بين رحلة النبي ﷺ والرسالة التي حُمّلها في مواجهة انحرافات الأمم من قبله.
فكان اسم السورة تذكيرًا بعظمة الحدث، وعلو مقام النبي ﷺ، وربطًا بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في عقيدة الأمة إلى يوم الدين.
الدروس والعبر
إذا اشتدت عليك الدنيا، فانتظر كرم الله، فهو القادر أن يرفعك في لحظة.
الصلاة هدية من السماء، وهي معراج روحك كل يوم.
النبي ﷺ هو خاتم الأنبياء، أُسري به، وصلى بالأنبياء، وجُمع له العلم والنبوة.
أين وردت قصة الإسراء في القرآن؟
في سورة الإسراء الآية (1): الإسراء إلى المسجد الأقصى.
في سورة النجم من الآية (13 إلى 18): المعراج وسدرة المنتهى.
إعداد: رامة محمود دللي
مملكة صغيرة... لكنها ربانية
في عمق الطبيعة، بين الأزهار والجبال، تعيش مخلوقات صغيرة في الحجم، عظيمة في الدور، اسمها: النحل.
نظرة واحدة في سلوكها تجعلك تتأمل: كيف اجتمعت الدقة، والطاعة، والنظام، والإنتاج، والنقاء، في هذه الحشرة العجيبة؟!
وليس غريبًا أن يذكرها رب العالمين في القرآن الكريم، بل خصّها بسورةٍ كاملة سماها باسمها: "سورة النحل"، لتكون رمزًا للنعمة، والطاعة، والعمل النافع.
قال الله تعالى:
"وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗا ۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ"
(النحل: 68–69)
الله سبحانه أوحى للنحل، نعم! هذا الكائن الصغير يتلقى توجيهًا ربانيًا، لا صوت فيه ولا لغة، لكنه فهم أمر الله واستجاب له، فسار في الأرض مطيعًا.
تأمل كيف أن النحلة:
تأخذ القليل وتعطي الكثير: تمتص الرحيق، وتعطي عسلاً فيه شفاء.
كذلك المؤمن يأخذ من القرآن والإيمان، ويعطي الناس خلقًا ونفعًا وأمانًا.
لا تفسد ما تقع عليه: تمر على الزهور فلا تكسرها ولا تؤذيها.
والمؤمن لا يؤذي، بل يصلح ويعفّ ويزكي.
لا تدخل إلا طيبًا، ولا تخرج إلا طيبًا.
كذلك المؤمن: لسانه طيب، عمله طيب، أثره طيب.
منظمة، مطيعة، لا تعصي أمر ربها.
كما أن المؤمن لا يرى نفسه حرًّا، بل عبدًا يسلك سبل ربه ذُلُلًا.
"يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِ"
العسل ليس فقط غذاءً لذيذًا، بل هو دواء، أثبت العلم الحديث فوائده المضادة للبكتيريا، وفاعليته في التئام الجروح، وتقوية المناعة، بل ويُستخدم في علاج قرحة المعدة وأمراض الجهاز التنفسي.
والأعجب أن هذا "الشراب المختلف ألوانه" يخرج من بطون مخلوق ضعيف… لكنها أوامر الله في كونه: يجعل من الضعف قوة، ومن القليل بركة.
طاعة النحل أعظم من حرية الإنسان الذي يعصي.
فالنحلة تسلك "سُبُل ربها ذُلُلًا"، أي مطيعة، لا تحيد.
أما كثير من البشر، فاستكبروا وعصوا أمر خالقهم.
في النحل مجتمع مثالي من العمل الجماعي.
كل نحلة لها دور، لا تنافس، لا كسل، لا خيانة.
الإنتاج والبركة لا تحتاج إلى قوة الجسم، بل إلى صدق العمل.
النحلة صغيرة، لكنها تنتج طعامًا فيه شفاء.
خاتمة: كن كالنحلة…
اجعل طريقك طيبًا، ولا تمرّ على أحد إلا وتركت أثرًا نافعًا.
اسلك سبل ربك ذللًا، لا بجبروت ولا عصيان.
اعمل بصمت، وأنتج نفعًا… لا ضجيجًا.
وإذا أوحى الله إليك بالحق… فاتّبعه كما فعلت النحلة.
"إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ"
إعداد: رامة محمود دللي
قصة أصحاب الحِجْر – قوم ثمود
أصحاب الحِجْر هم (قوم ثمود) ، وهم من نسل ثمود بن عاثر، من أحفاد سام بن نوح. وكانوا من العرب العاربة، وهم العرب القدماء
الذين عاشوا في الجزيرة العربية قبل إسماعيل عليه السلام.
وقد سكنوا منطقة تُسمى (الحِجْر) ، وهي تقع بين الحجاز وتبوك شمال غرب الجزيرة العربية، وتُعرف اليوم بـ (مدائن صالح)
قال الله تعالى
(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)
(الحجر: 80)
وكانو قوماً أقوياء، ماهرين في نحت الجبال، فبنوا بيوتًا فارهة داخل الصخور، محصّنين بها، وظنوا أن الجبال ستحميهم من مصير غيرهم!
(وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا فَٰرِهِينَ)
(الشعراء: 149)
أرسل الله إليهم نبيّه (صالحًا عليه السلام) رجلًا من قومهم، معروفًا بينهم بالصلاح والعقل. دعَاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام:
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)
(هود: 61)
لكنهم تكبروا وقالوا:
(قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)
(هود: 62)
طلبوا من صالح أن يأتيهم بآية تدل على صدقه، فطلبوا أن تخرج ناقة عظيمة من صخرة أمامهم. فاستجاب الله، وخرجت الناقة العجيبة، وكانت معجزةً ظاهرةً لهم:
(هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً)
(هود: 64)
وكانت تشرب يومًا كاملاً من البئر وحدها، ويشربون في اليوم الآخر.
(لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)
(الشعراء: 155)
لكنهم رغم الآية الواضحة، كذّبوا وأبوا الإيمان.
تحالف تسعة من زعمائهم على قتل الناقة، فاتفقوا، وترصّد أحدهم، فعقرها، وقتلوها:
"فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ"
(الأعراف: 77)
"إِذِ ٱبۡعَثۡ أَشۡقَىٰهَا * فَقَالَ لَهُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقۡيَٰهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمۡدَمَ عَلَيۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا"
(الشمس: 12–14)
لما قتلوا الناقة، توعّدهم صالح وقال:
"تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ"
(هود: 65)
فجاءهم العذاب فجأة بعد ثلاثة أيام، وكانت نهايتهم مرعبة:
"فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ"
(هود: 67)
"وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُوا۟ فِي دِيَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ"
(هود: 94)
ديارهم ما زالت قائمة إلى اليوم، نُحتت في الجبال، لكنها مهجورة، صامتة كأنها تئنّ من ظلم أهلها:
(وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ)
(الحجر: 76–77)
مرّ بها النبي ﷺ في طريقه إلى تبوك، وأمر الصحابة ألّا يدخلوا مساكنهم إلا وهم باكون، وقال:
(لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم)
_أصحاب الحِجر (ثمود) قومٌ آتاهم الله القوة والعمران، لكنهم طغوا وكذبوا نبيهم صالحًا.
_عقروا الناقة المعجزة، فاستحقوا العذاب.
_أهلكهم الله بالصيحة والرجفة، وصارت بيوتهم عبرة للناس.
_قصتهم مذكورة في عدة سور: (الأعراف – هود – الحجر – الشعراء – الشمس – فصلت).
وبهذا، يتضح أن أصحاب الحِجْر هم من العرب الأوائل، الذين رزقهم الله من كل نعمة، لكنهم كفروا بها، فعوقبوا بالعذاب.
إعداد: رامة محمود دللي
الطفولة والتأمل: قلب صغير يبحث عن الله
وُلد إبراهيم عليه السلام في أرض بابل، وتحديدًا في مدينة "أور"، وهي إحدى مدن العراق القديمة المشهورة بعبادة الأصنام والنجوم. وكان أبوه آزر من كبار صانعي التماثيل في تلك الأرض.
وقد نشأ إبراهيم في بيئة يغلب عليها الوثنية والتنجيم وعبادة الكواكب، لكن قلبه كان حيًّا، لا يقبل أن يُعبد غير الله. ومنذ صغره أخذ يتأمل في الكون، في الشمس، في القمر، في النجوم، يبحث عن الحقيقة التي ضلّ عنها قومه.
"إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ"
(الأنبياء: 52)
وهكذا بدأت رحلته المباركة من أرض أور في بابل إلى أن صار خليل الرحمن، إمام الموحدين في كل العصور.
إبراهيم يتأمل في الكون… من هو الخالق؟
في ليلةٍ ساكنة، حيث السماء تنبض بالنجوم، والكون يغمره الصمت… جلس إبراهيم وحده يتأمل هذا الجمال العظيم، قلبه الصغير يبحث عن الحقيقة، وعقله المتوقد لا يقبل أن يعبد ما لا ينفع ولا يسمع.
فأراه الله ملكوت السماوات والأرض، ليثبت قلبه ويرشده إلى النور:
"وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ"
(الأنعام: 75)
ثم بدأت رحلة التأمل…
النجمة الأولى: هل هذا هو ربي؟
رفع بصره إلى السماء، فرأى كوكبًا يلمع وسط الظلام، فأحس بعظمته وجماله، فقال:
"فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي"
لكنه ما لبث أن رآه يأفل، يغيب، فتساءل بصدق:
"فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ"
كيف يكون إلهًا من يغيب عن عباده؟ كيف يُعبد من لا يبقى حاضرًا؟
نور القمر: لعلّه هو؟
ثم رأى القمر ساطعًا في كبد السماء، أكبر من النجم، فقال:
"فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي"
لكنه ما لبث أن اختفى مع طلوع الفجر، فقال بحزن:
"فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ"
الشمس… الأكبر، الأوضح، الأعظم
ثم طلعت الشمس، بنورها الذي يملأ الأفق، فقال إبراهيم:
"فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ"
لكنها أيضًا… غربت، كما غرب غيرها.
فقال إبراهيم قولته الخالدة، وقد انكشفت له الحقيقة:
"فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ"
النتيجة: وجّه قلبه لله وحده
حينها… أشرق قلبه بنور الإيمان، ووجه وجهه لله وحده، لا للكواكب ولا للخلق:
"إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"
(الأنعام: 79)
كان هذا المشهد من أروع ما سُطّر في القرآن من منطق الفطرة والتفكر، حيث سلك إبراهيم طريق العقل والقلب ليصل إلى الله، دون معلم من قومه، ولكن بهداية الله وحده.
إبراهيم وأبوه آزر: الحوار الحزين
لم ينسَ إبراهيم والده، فذهب يدعوه باللين والرحمة:
"يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ..." (مريم: 44)
لكن أباه أجابه بقسوة:
"أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ..."
(مريم: 46)
ففارق أباه، وقال:
"سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا"
(مريم: 47)
المواجهة الأولى: تحطيم الأصنام
كبر إبراهيم، وازداد إنكاره لعبادة الأصنام. وقرر أن يبيّن لقومه ضلالهم بفعل لا بالقول فقط.
دخل على معبدهم ووجدهم غائبين، فكسر الأصنام كلها إلا كبيرهم:
"فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ"
(الأنبياء: 58)
فلما عادوا وسألوه، قال لهم ساخرًا:
"بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ"
(الأنبياء: 63)
فصُدموا، ولكن بدل أن يعترفوا بالحق، غضبوا، وقالوا:
"حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ"
(الأنبياء: 68)
فأوقدوا نارًا عظيمة، وألقوه فيها، لكن الله أنقذه بمعجزة خالدة:
"قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ"
(الأنبياء: 69)
الهجرة إلى الشام... وبشارة الولد
خرج إبراهيم من أرض قومه مهاجرًا إلى الله، فآتاه الله الزوجة سارة، ولم يكن له ولد.
لكنه لما دعا الله، قال:
"رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ"
(الصافات: 100–101)
جاءه إسماعيل من زوجته هاجر، وكان غلامًا صالحًا. ثم بُشِّر بإسحاق من سارة:
"وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ"
(الصافات: 112)
أعظم اختبار: ذبح الابن
رأى إبراهيم رؤيا أنه يذبح ابنه إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق. فما كان من الابن إلا الطاعة:
"يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ"
(الصافات: 102)
فلما أسلما وألقى ابنه، ناداه الله:
"قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ"
(الصافات: 105)
وفداه بذبح عظيم.
بناء الكعبة مع إسماعيل
من أعظم أعمال إبراهيم أنه رفع القواعد من الكعبة مع ابنه إسماعيل:
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ"
(البقرة: 127)
وكانا يقولان:
"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"
منزلة إبراهيم عند الله
اصطفاه الله فقال:
"وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا"
(النساء: 125)
وأمر نبيه محمدًا أن يتبعه:
"ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا"
(النحل: 123)
دعاؤه للأمة
من رحمته، دعا لنا نحن المسلمين من آلاف السنين:
"رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ..."
(البقرة: 128)
ودعا بإرسال رسول:
"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ..."
(البقرة: 129)
فاستجاب الله… فكان محمد ﷺ.
عبرة القصة: خليل الله إبراهيم
واجه الكفر منذ طفولته.
لم يَخشَ نارًا، ولا ملكًا، ولا قومًا.
امتُحن بأعزّ ما يملك، فنجح.
فاستحق أن يكون خليل الله، وأبا الأنبياء.
إعداد: رامة محمود دللي
سورة الرعد من السور التي تهزّ القلب وتوقظ العقل، فيها تجليات عظيمة لدعوة الحق، وفيها يظهر الفرق بين نور الإيمان وظلمات الباطل.
مشهد أول: أصوات ترتفع في الضياع، وصوت واحد يسمو بالهدى
في وسط ضجيج الدنيا، أصوات كثيرة ترتفع:
هذا يدعو صنمًا…
وذاك يرجو حجرًا…
وآخر يناجي نجمًا أو شجرًا…
لكن الله يرسم لنا الصورة الحقيقية:
"لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ"
(سورة الرعد: 14)
أي أن الله وحده هو الذي تُجاب دعوته، هو الذي يُعبد بحق، هو المجيب إذا ناديت، هو السميع إذا همست، هو القريب إذا ضاقت الأرض.
كل دعاء لغيره باطل، كل رجاء في غيره خيبة.
مشهد ثانٍ: من يدعو غير الله… كمن يمدّ يده إلى سراب
تأمل هذا التصوير الإعجازي:
"وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ"
(سورة الرعد: 14)
يعني: الأصنام والآلهة الباطلة، لا تملك أن تستجيب، فهي لا تسمع، ولا تبصر، ولا تعقل.
ثم يضرب الله مثلًا يملأه الحزن والسخرية في آنٍ واحد:
"إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ"
(سورة الرعد: 14)
تخيل إنسانًا في الصحراء، يعاني من العطش، يرى الماء من بعيد فيمدّ يديه، لكن الماء لا يصل، بل هو سراب.
كذلك حال من يدعو غير الله… لا يصل إلى شيء، بل يُخدع، ويهلك عطشًا!
مشهد ثالث: الحقيقة الساطعة مقابل الضلال الموحش
الله يختم هذه المشاهد بجملة تهزّ القلب:
"وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ"
(سورة الرعد: 14)
أي أن كل ما يدعونه ويعبدونه، ضياع في ضياع، لأنهم فقدوا البوصلة، وأعرضوا عن دعوة الحق.
لكن... ما هي دعوة الحق؟
دعوة الحق هي:
أن تتوجه بقلبك وعقلك إلى الله وحده.
أن تعلم أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
أن تؤمن بأنه لا يُعطي ولا يمنع ولا يشفي ولا يرزق إلا هو.
أن تطرق بابه وحده، وتقول: يا رب… وتنتظر منه الإجابة.
دعوة الحق في قلب النبي ﷺ
النبي محمد ﷺ كان في مكة، يُحاصَر ويُكذَّب، وتعلو حوله أصوات الجاهلية، لكنه ظل يقول:
"قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا"
(الجن: 20)
ظل ثابتًا على دعوة الحق، لأنها النور الذي لا يبهت، والحق الذي لا يغلب.
وقفات إيمانية
لا تطلب حاجتك من أحد قبل أن ترفعها إلى الله.
حين تضيق بك الأرض، لا تذهب إلى باب غير بابه.
كل صوت غير صوت الحق… مصيره أن يسكت.
وكل رجاء غير رجاء الله… حتمًا ينكسر.
خاتمة: كن من أهل دعوة الحق
في زمن الفتن والضياع، كن أنت من أهل دعوة الحق.
كن من الذين إذا وقفوا بين يدي الله، قالوا بصدق:
"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"
(الفاتحة: 5)
إعداد: رامة محمود دللي
قصة نبي الله يوسف عليه السلام
قصة نبي الله يوسف عليه السلام من أعظم القصص التي قصّها الله علينا، وقد وصفها سبحانه في كتابه بأنها:
"نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ"
(سورة يوسف: 3)
هي قصة تفيض بالعبر، وتُظهر كيف يصنع الله لعبده الوليّ من حيث لا يحتسب، كيف يُبتلى ليُصفّى، ويُسجن ليُرفع، ويُرمى في البئر ليُصبح عزيز مصر.
البداية: حلم طفل صغير
كان يوسف غلامًا صغيرًا يعيش في كنف أبيه يعقوب عليه السلام، النبي الكريم، الذي كان يحب يوسف حبًا عظيمًا، ويميزه عن باقي أبنائه بسبب ما رآه فيه من نور النبوة، وصفاء القلب.
وفي إحدى الليالي، جاء يوسف عليه السلام إلى أبيه وهو مملوء بالدهشة، وقال له:
"يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ"
(سورة يوسف: 4)
لقد رأى رؤيا عظيمة، فأدرك يعقوب أن لابنه شأنًا عظيمًا في المستقبل. لكنه خشي عليه من حسد إخوته، فقال له محذرًا:
"يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"
(سورة يوسف: 5)
الغيرة والحقد: بداية الابتلاء
كان لإخوة يوسف غيرة شديدة منه، فقد رأوا حب يعقوب له، فاجتمعوا يومًا فيما بينهم وقالوا:
"لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ۚ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"
(سورة يوسف: 8)
تأجج الحقد في قلوبهم حتى قرروا التخلص منه، وبدؤوا يفكرون في حيلةٍ:
"اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ"
(سورة يوسف: 9)
لكن أحدهم قال لا تقتلوه بل اطرحوه في غيابة الجب.
ذهبوا إلى أبيهم وطلبوا أن يأخذوا يوسف معهم ليلعب:
"أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ"
(سورة يوسف: 12)
فأجابهم الأب بعد تردد، فأخذوه، وهناك… في صمت الليل وظلمة البئر، ألقوه:
"فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"
(سورة يوسف: 15)
تخيل قلب طفل صغير في البئر، يرتجف من الظلمة، لكنه مطمئن بوحي الله…
يوسف يُباع عبدًا
مرّت قافلة على البئر، فأنزلوا دلْوًا فتعلق به يوسف. فلما رأوه:
"قَالُوا يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ"
(سورة يوسف: 19)
أخذوه وباعوه في مصر بثمن بخس:
"وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍۢ بَخْسٍۢ دَرَٰهِمَ مَعْدُودَةٍۢ وَكَانُوا۟ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ"
(سورة يوسف: 20)
يوسف في بيت العزيز
اشترى العزيز (وزير مصر) يوسف، وقال لزوجته:
"أَكْرِمِي مَثْوَاهُ"
(سورة يوسف: 21)
كبر يوسف في ذلك القصر، وبدأ يظهر عليه جماله الخَلقي والخُلقي، حتى فتنت به امرأة العزيز، وراودته عن نفسه، لكنه أبى وقال:
"مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"
(سورة يوسف: 23)
هرب منها، فلحقت به، حتى شقّت قميصه من الخلف، فدخل سيدها، فلجأت للكذب، لكن الشاهد أنصفه:
"إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٍۢ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٍۢ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ"
(سورة يوسف: 26–27)
يوسف يُسجن ظلمًا
رغم براءته، وُضع يوسف في السجن ليُبعد عن القصر. لكن حتى في السجن كان نور الإيمان يشعّ منه. دخل معه شابان، ففسر لهما رؤياهما، وقال لأحدهما الذي نجا:
"اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ"
(سورة يوسف: 42)
لكنه نسي، ومكث يوسف في السجن سنين طويلة…
خروج يوسف من السجن وارتفاع شأنه
رأى الملك رؤيا عجيبة، لم يعرف أحدٌ تفسيرها. فأُتي بيوسف، ففسرها بدقة:
"تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا"
(سورة يوسف: 47)
فأعجب الملك به، وأراد أن يُكرمه، لكن يوسف طلب التحقيق في أمر النساء أولًا، فأظهرت النسوة براءته:
"قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍۢ"
(سورة يوسف: 51)
عندها، أصبح يوسف عزيز مصر.
تحقيق الحلم: لقاء العائلة
وجاءت السنين العجاف، فجاء إخوته يطلبون الطعام، ولم يعرفوه. لكنه عرفهم، وبدأ بخطة ليجمع شمله بأهله. حتى جاء بهم جميعًا، وكشف لهم نفسه:
"قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا"
(سورة يوسف: 90)
ثم جاء بأبويه، ورفعهم على العرش:
"وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ"
(سورة يوسف: 100)
ها قد تحققت الرؤيا… بعد طول طريق، ومشقة السنين، وتوالي المحن. تحقق الحلم… وخرّ الجميع سجدًا له تكريمًا، فحمد الله الذي لم يخذله.
نسب نبي الله يوسف عليه السلام
نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام جميعًا، فهو:
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل
أي أن يوسف عليه السلام هو ابن نبي، وحفيد نبي، وابن حفيد نبي. لم يجتمع هذا الشرف لنبي غيره، وقد ذكر النبي محمد ﷺ هذا المعنى فقال:
"الكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ، يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ"
(رواه البخاري)
فهو من نسل إبراهيم عليه السلام، الذي جعله الله إمامًا، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.
الربط بين النسب والتمكين
قصة يوسف ليست فقط قصة فتى جميل نجا من المحن، بل هي أيضًا تجسيد لوعد الله لآل إبراهيم:
"وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ"
(سورة العنكبوت: 27)
ختام القصة: الدعاء الخالد
وفي نهاية المشهد، دعا يوسف دعاءً يهزّ القلوب:
"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ"
(سورة يوسف: 101)
العبرة الكبرى: من الجب إلى العرش
قصة يوسف تعلمنا أن:
الحلم قد يتأخر لكنه لا يُنسى.
الابتلاء طريق التمكين.
الله يُدبّر لك من حيث لا تحتسب.
العفو والرحمة أجمل من الانتقام.
من توكل على الله، فلن يضيعه الله أبدًا.
وقد حقق الله هذا الوعد في يوسف، فجعل له تمكينًا في الأرض، بعد أن اجتاز الابتلاءات صابرًا مؤمنًا، مُتمسكًا بنور النبوة في دمه وقلبه.
إعداد: رامة محمود دللي
في أرضٍ عظيمة، اسمها (الأحقاف) ، بين اليمن وعُمان، عاشت قبيلة قوية تُدعى (عاد) كانوا طوال الأجسام، عظام الخلقة، أقوياء في أجسادهم، بارعين في البناء، يشيّدون القصور فوق الجبال، ويعتقدون أن لا أحد أقوى منهم.
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾
(الفجر: 6–8)
ومع هذه القوة، كان في قلوبهم كِبرٌ وطغيان، يعبدون الأصنام من دون الله، ويسفكون الدماء، ويظلمون الضعفاء.
فبعث الله إليهم (نبيه هودًا عليه السلام) ، رجلًا منهم، معروفًا بينهم بحكمته وصدقه، فقال لهم بحب ورحمة:
﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾
(الأعراف: 65)
لكنهم رفضوا، وقالوا له باستكبار
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
(الأعراف: 70)
بل وقالوا له:
﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾
(هود: 53)
فأعلن هود عليه السلام براءته من قومه ومن آلهتهم:
﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ﴾
(هود: 54–55)
وبعدما أصرّوا على الكفر والطغيان، حذّرهم هود من عذاب الله، لكنهم سخروا منه، فقال لهم:
﴿فَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾
(هود: 57)
بداية العذاب
حبس الله عنهم المطر، وجفّت أرضهم، فظنوا أن هذا مجرد جفاف. ثم رأوا سحابًا أسود يتقدّم إليهم من الأفق، فقالوا متفائلين:
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾
(الأحقاف: 24)
لكن هود عليه السلام قال لهم:
﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾
(الأحقاف: 24–25)
أرسل الله عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، استمرت
﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾
(الحاقة: 7)
كانت ريحًا شديدة البرودة، تقطع الأجساد، وتقتلع الناس من الأرض
﴿تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾
(الحاقة: 7)
لم تترك شيئًا قائمًا
﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾
(الأحقاف: 25)
فكانوا عبرةً لكل من يأتي بعدهم
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾
(سبأ: 19)
النجاة لهود ومن آمن
بينما كان العذاب يحيط بالجميع، نَجّى الله نبيه هودًا عليه السلام والمؤمنين معه:
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾
(الأعراف: 72)
دروس من القصة
_لا يغنيك المال والقوة إذا أغضبت الله.
_الكبر والطغيان أول طريق الهلاك.
_الله يُمهل ولا يُهمل.
_الريح التي نسيمها نعمة، قد تتحول إلى نقمة بأمر الله.
_الصبر في الدعوة والثبات على الحق هو طريق النجاة.
إعداد: رامة محمود دللي
في قديم الزمان، في مدينة عظيمة تُسمى " نينوى" (قريبة مما يُعرف اليوم بالموصل في العراق)،
كانت تعيش أمة عظيمة لكنها بعيدة عن الله، غارقة في الكفر والمعاصي.
أرسل الله إليهم نبيًا رحيمًا مخلصًا، اسمه يونس بن متى.
وقف يونس عليه السلام في شوارعهم، يناديهم بالحسنى،
يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، ويحذرهم من عاقبة الكفر، ويبشرهم برحمة الله إن تابوا وآمنوا.
لكن القلوب كانت قاسية كالحجارة،
والناس كانوا يسخرون منه، يستهزئون بدعوته، ويصرفون عنه الوجوه.
مرت الأيام... ثم الشهور... ثم الأعوام،
ويونس عليه السلام لا يرى منهم إلا تكذيبًا واستهزاء.
فشعر بالحزن الشديد وضاق صدره، ونفد صبره على قومه الذين لا يلينون،
فقرر مغادرتهم غاضبًا، دون أن ينتظر الإذن من الله.
قال تعالى:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ (الأنبياء: 87)
مضى يونس إلى البحر، ورأى سفينة تستعد للإبحار.
ركب معهم، وانطلقت السفينة فوق الماء الهادئ.
غير أن هذا الهدوء لم يدم طويلًا...
فجأة، تغيرت السماء، اشتدت الرياح، وعلت الأمواج كالجبال.
كادت السفينة أن تغرق، وأدرك الجميع أن عليهم أن يخففوا من حمولتها ليبقوا على قيد الحياة.
قرروا أن يلقوا أحد الركاب في البحر، فعملوا قرعة.
دارت القرعة... فوقعت على يونس عليه السلام.
لم يصدقوا! نبي وصاحب خلق كريم تقع عليه القرعة؟
فأعادوها مرة أخرى... فوقعت عليه أيضًا.
ثم أعادوها ثالثة... فوقعت على يونس.
فهم يونس أن هذا أمر الله، وأن عليه أن يستسلم لقضاء ربه.
فقفز بنفسه إلى البحر...
وما إن ابتلعته المياه الباردة حتى اقترب منه حوت عظيم بأمر الله،
فابتلعه في جوفه، دون أن يؤذيه أو يكسر له عظمًا.
كان يونس في ظلمات ثلاث:
ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل.
هناك، وسط ذلك السجن العجيب، أدرك خطأه بمغادرة قومه دون إذن.
انكسر قلبه لله، وخنقته العَبرة، فلم يجد إلا أن يسبح ربه ويناجيه في أعماق الظلمات.
فنادَى من أعماق قلبه:
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنبياء: 87)
كانت هذه الكلمات ترتج أرجاء البحر، يسمعها الحوت، وتعلو بها الملائكة إلى السماء.
ورحمة الله أوسع من كل شيء...
فاستجاب الله ليونس، وقال:
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (الأنبياء: 88)
أمر الله الحوت أن يقذفه على ساحل عارٍ من الزرع والشجر.
خرج يونس ضعيفًا منهكًا، لا يكاد يقوى على الحركة.
فأنبت الله فوقه شجرة من يقطين، بأوراقها العريضة الظليلة،
تحميه من وهج الشمس وتوفر له غذاءً ناعمًا سهل الهضم.
وبينما هو يتعافى هناك، أُمر أن يعود إلى قومه.
فمشى بخطوات ثقيلة، وقلبه مملوء بالتوبة واليقين.
ولمّا عاد إلى قومه، كانت المفاجأة العظيمة:
لقد آمنوا جميعًا، دون استثناء.
فقد نزل بهم الخوف بعدما رأوا بوادر العذاب،
فخرّوا لله ساجدين، وأعلنوا إيمانهم بالله الواحد الأحد.
قال تعالى:
﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ۖ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ﴾ (يونس: 98)
وهكذا، أصبح يونس عليه السلام النبي الذي آمن قومه جميعًا،
بعد أن تداركه الله برحمته، فعاد ليكمل رسالته بعزيمة أقوى وإيمان أصفى.
الصبر على الدعوة مهما طال الطريق.
عدم الاستعجال في الحكم على الناس بالهلاك.
التوبة الصادقة مفتاح النجاة حتى من أعظم الكروب.
رحمة الله أوسع من أن يحدّها ذنب أو يأس.
اللجوء إلى الله في الشدائد سبب للفرج والإنقاذ.
إعداد: رامة محمود دللي
في السنة التاسعة للهجرة، كان الإسلام قد انتشر في الجزيرة العربية، وكبرت قوة المسلمين، ولكن ما زال هناك من يكيد ويغدر من المنافقين والمشركين.
كانت مكة قد فتحت، ولكن قبائل العرب كانت تراقب من بعيد: هل يستقر الأمر للنبي ﷺ أم أن الزمان سينقلب عليه؟
في هذا الجو المضطرب، أنزل الله سورة عظيمة...
سورة جاء نزولها مختلفًا:
لم تبدأ بالبسملة مثل غيرها، بل جاءت مباشرة بنداء صارم قوي، لأن ما فيها كان عهودًا تُنقض، وغزوات تُعد، وقلوب تُمحص.
نزل قوله تعالى:
"براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين." (التوبة: 1)
براءة... إعلان واضح أن العهود مع المشركين الذين خانوا وغدروا لم تعد قائمة.
فإما الإسلام، وإما لا أمان.
أمر النبي ﷺ أبا بكر أن يحج بالناس في تلك السنة، ثم أرسل علي بن أبي طالب ليلحق به وينادي في الناس بآيات البراءة:
لا مشرك بعد هذا العام يطوف بالبيت، ولا يقترب من الحرم إلا مؤمن.
ثم بدأت السورة تكشف أسرار القلوب...
تحدثت عن غزوة تبوك:
في وقت شديد الحرارة، وجفاف شديد، والمسافة طويلة والعدو عظيم (الروم).
لكن النبي ﷺ نادى أصحابه للخروج، وكان امتحانًا هائلًا للإيمان.
الصادقون لبوا النداء، حتى أن بعضهم لم يجد ما يحمله على القتال فبكى، قال الله عنهم:
"ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون." (التوبة: 92)
أما المنافقون...
فأخذوا يعتذرون بالأكاذيب، ويثبطون العزائم، ويقولون:
"لا تنفروا في الحر."
ومثال على ذلك كان هناك رجل يُدعى جُلاس بن سويد، من أهل المدينة، وكان قد شهد بدرًا مع المسلمين، لكنه في داخله كان يحمل نفاقًا لم يظهره.
في لحظة غفلة، وبينما هو جالس مع غلامه الشاب عمير بن سعد، قال جُلاس كلمة خطيرة:
قال ساخرًا من النبي ﷺ ومن الإسلام:
"إن كان محمد صادقًا فنحن شر من الحمير."
سمع الغلام الصغير هذه الكلمة المهولة، واضطرب قلبه.
جلس يفكر: أيسكت وقد خان الله ورسوله؟ أم يخبر النبي ﷺ بما سمع؟
لكنه كان غلامًا تقيًا، يحب الله ورسوله أكثر من أي شيء، فمضى مسرعًا إلى النبي ﷺ، وقص عليه ما قاله جُلاس.
استدعى النبي ﷺ جُلاس بن سويد، وواجهه بما قال.
فأنكر جُلاس بكل قوة، وحلف بالله كذبًا أنه لم يقل شيئًا.
في تلك اللحظة العصيبة، نظر عمير إلى السماء وقال:
"اللهم أنزل فيّ بيان ما قاله جُلاس، فإنك تعلم أني لم أكذب."
ولم يمض وقت طويل... حتى نزل الوحي من السماء بكلمات تضيء الحق وتفضح الباطل، فقال الله تعالى:
"يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم، وهمّوا بما لم ينالوا..." (التوبة: 74)
عندها، انكشف أمر جُلاس أمام الجميع.
اهتز الرجل خجلًا وخوفًا، وعلم أن الله قد فضحه، فتاب توبة صادقة بين يدي النبي ﷺ، وقَبِل الله توبته.
وهكذا، كانت سورة التوبة تمتحن القلوب:
كلمة واحدة قالها رجل في لحظة استهزاء، كادت ترديه إلى قاع جهنم، لكن التوبة والصدق أنقذاه.
وكانت حادثة جُلاس درسًا للمؤمنين:
أن القلوب تُبتلى، وأن الصدق مع الله هو طريق النجاة.
فرد الله عليهم بسخرية قاسية:
"قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون." (التوبة: 81)
ثم مضى النبي ﷺ بالجيش العظيم (جيش العُسرة) إلى تبوك.
وهناك، لم تقع حرب فعلية، لأن الروم انسحبوا، ولكن المسلمين ربحوا موقفًا عظيمًا:
أرهبوا الروم، وأظهروا قوتهم، وثبتوا أقدامهم شمال الجزيرة.
وعند العودة إلى المدينة، واجهوا حساب المنافقين...
الذين بنوا مسجد ضرار، ظاهره عبادة، وباطنه مكر وخداع لإضعاف وحدة المسلمين.
فأمر الله نبيه ألا يصلي فيه، وأخبره أنه بيت فتنة، فقال:
"لا تقم فيه أبدًا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه..." (التوبة: 108)
ثم تناولت السورة مشهدًا مؤثرًا عن الثلاثة الذين تخلّفوا:
كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، لم يكن لهم عذر، واعترفوا بتقصيرهم.
فقاطعهم النبي ﷺ والمسلمون خمسين ليلة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.
حتى جاء الفرج:
"وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت..." (التوبة: 118)
فغفر الله لهم، وعادوا بنفوس أنقى وإيمان أقوى.
وفي ختام السورة، جاء وصف النبي ﷺ بكلمات تمتلئ حنانًا ورحمة:
"لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم." (التوبة: 128)
ليختم الله السورة بوعد جميل وأمان عظيم:
"فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم." (التوبة: 129)
سورة التوبة لها ثلاثة أسماء مشهورة، وهي:
سورة التوبة
لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين، وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا.
سورة براءة
لأنها بدأت بقول الله تعالى:
"براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين."
الفاضحة
لأنها فضحت أسرار المنافقين وكشفت خباياهم وأعمالهم الخبيثة أمام الجميع.
خلاصة سورة التوبة
فضحت المنافقين.
برّأت الإسلام من المشركين الذين غدروا.
أمرت بالثبات أمام القوى الكبرى (الروم).
علمت المسلمين أن الدين ليس مجرد كلمات بل أفعال وتضحيات.
أرشدت إلى أن النصر مع الصبر، والإخلاص مع التوبة، والرجوع إلى الله هو طريق الفلاح.
إعداد: رامة محمود دللي
كانت المدينة تغفو على أمل… أمل أن تستعيد شيئًا من حقها الضائع.
قافلة قريش، بقيادة أبي سفيان، تمر قريبة، محمّلة بالثروات التي سُلبت من المسلمين ذات يوم.
خرج النبي ﷺ مع أصحابه لا يريدون قتالًا عظيمًا، إنما يريدون استرداد شيء من الحقوق.
لم يكونوا يعرفون أن الله كان يخط لهم ملحمة ستبقى تُروى إلى يوم القيامة.
على الجانب الآخر، علمت قريش بالأمر. فاجتمع كبارهم: أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وصفوان...
كلهم لبسوا دروعهم وخرجوا بكبرياء، يقودون جيشًا تعداده ثلاثة أضعاف جيش المسلمين.
وصل النبي ﷺ إلى مشارف بدر، وهو لا يملك من العدة إلا القليل: بضع عشرات من الدروع، وفرسين فقط، وعدة سيوف متواضعة.
لكن الإيمان في القلوب كان يشعّ نورًا لا تحدّه السماء.
في تلك الليلة، أمطرت السماء مطرًا خفيفًا.
غسل وجوه المتعبين، وطهر الأرض تحت أقدامهم، وثبّت الرمال لئلا يغوصوا فيها.
نام المسلمون نومًا هادئًا أرسله الله طمأنينة في قلوبهم، بينما قلب النبي ﷺ ساهرٌ يناجي ربه:
"اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض أبدًا."
وفي ذاك السكون، وبينما السماء ترسل بشائرها،
تنزل الوحي الأول في سورة الأنفال:
"يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين." (الأنفال: 1)
جاء هذا الرد الإلهي ليعلمهم أن النصر والغنائم ليست ملكًا لفرد ولا لمجموعة، بل هي أمانة من عند الله ورسوله،
وأن ما يربطهم أقوى من الغنائم: إنه الإيمان، الطاعة، الوحدة.
وفي تلك اللحظات العصيبة، ومع اقتراب المواجهة، رفع المسلمون أكفهم إلى السماء يستغيثون ربهم، ويطلبون منه النصرة والعون،
فاستجاب الله لهم بوعد عظيم:
"إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين." (الأنفال: 9)
كانت الملائكة تتنزل من السماء، صفًا بعد صف، يثبتون قلوب المؤمنين، ويشاركونهم معركة الفرقان.
وفي لحظة الفجر، وقف النبي ﷺ يعدل صفوف جيشه، ينظر إلى وجوه أصحابه وكأنّه يغرس فيهم اليقين.
ثم رفع يده وقال:
"قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض."
ودوى أول صيحة في بدر.
انطلق علي بن أبي طالب كالسهم، وانقضّ حمزة كالأسد، واندفعت جحافل الإيمان بثباتٍ مدهش.
ضربات متوالية، قلوب لا تخاف الموت، وسماء تُمطر الملائكة.
كان كل سهم يرميه المسلمون كأن يد الله نفسها تحمله،
كما قال الله:
"وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى." (الأنفال: 17)
في لمح البصر، سقط كبار قريش:
عتبة مضرج بالدماء، شيبة يصرخ ويهوي، وأبو جهل يترنح بين الموت والحياة.
وانكسر سيف الكبر تحت ضربات اليقين.
وانتهت المعركة... نصر مبين.
بقي بين أيدي المسلمين سبعون أسيرًا.
واختلفوا:
هل نقتلهم؟
هل نفديهم؟
أم نطلق سراحهم؟
فأنزل الله فيهم توجيهًا، يعلمهم الحكمة والرحمة والعدل.
ومع عودة المسلمين إلى المدينة، عادوا بقلوب تفيض شكرًا لله، يدركون أن النصر لم يكن بسيوفهم، بل كان برحمة الله وعونه.
ولم تكن سورة الأنفال مجرد قصة، بل صارت وثيقة سماوية تُعلم المسلمين كيف تكون الحروب، وكيف يكون النصر، وكيف يُدار السلام.
وفي كل آية من السورة، كان النداء يتردد:
"فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم…"
لأن النصر الحقيقي لا يكون بكثرة السلاح، بل بقوة القلوب وصفائها.
ملاحظة:
الأنفال في القرآن الكريم تعني:
الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بعد القتال في سبيل الله.
وسميت أنفالًا لأنها زيادة وفضل من الله لعباده، وليست حقًا شخصيًا لأحد
إعداد: رامة محمود دللي
سورة الأنعام من أعظم سور القرآن، نزلت دفعة واحدة في موكب جليل يبعث القشعريرة في الروح.. نزلت على قلب النبي ﷺ ليلًا، تحفّها سبعون
ألف ملك، تُعلن أن ما نزل ليس كسائر السور.
في ليلةٍ من ليالي مكة، كان النبي ﷺ جالسًا يتأمّل في السماء، حيث لا صوت إلا نبضات قلبه، ولا نور إلا ما تنثره النجوم في صمت الليل.
فجأة، تغيّر كل شيء.
أحسّ النبي ﷺ أن الأرض تهتزّ برفق، وأن الهواء قد امتلأ بشيء عظيم.
ثم رأى:
موكبًا سماويًا ينزل من فوق سبع سماوات، نورٌ يملأ الأفق، وأصوات تسبيح كأنها بحر لا ساحل له
(إنه موكب (سورة الأنعام.
سبعون ألف ملك، يهبطون من السماء، يحيطون بالوحي، وكأن كل واحد منهم جاء ليشهد نزول هذه السورة العظيمة.
جبريل عليه السلام، في مقدّمتهم، يحمل كلمات من نور، من ربّ السموات والأرض، رسالة جديدة، قوية، تهزّ القلوب.
نزلت سورة الأنعام دفعة واحدة.
وكانت السورة كأنها (بيان التوحيد)، تضع حدًا بين النور والظلام، بين الإيمان والشرك، بين من يُسلم قلبه لله، ومن يعبد الأصنام.
مشاهد من الآيات: قصص داخل قصة
مشهد: خلق السماوات والأرض
(وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ) ( الأنعام :73)
السورة بدأت بكشف قدرة الله العظمى، كأنها ترفع الستار عن الخالق الذي لا يُرى، ولكن آياته تُحيط بكل شيء.
أراد الله أن يقول: انظروا إلى السماوات من فوقكم، لم يُمسكها أحد. انظروا إلى الأرض تحتكم ،من الذي بسط
السورة تأخذ القارئ في جولة بين (النجوم، والشمس، والليل، والنهار، والزرع، والماء، والأنعام (الدواب)، لتقول:
كلّ هذا من الله، فهل يعقل أن يُشرك به أحد؟
مشهد: دعوة إبراهيم لأبيه
ثم جاءت القصة التي تهزّ القلوب:
(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّيٓ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ) ( الأنعام :74)
نرى إبراهيم عليه السلام، شابًا صغيرًا، يقف أمام أبيه، الرجل الذي ربّاه، لكنه يراه يعبد صنمًا من حجر.
في مشهد مؤلم ومهيب، يناديه إبراهيم بكل لطف: يا أبتِ... يا أبتِ
أربع مرات، والحنان يسبق الكلمات.
لكنه لا يُجامل في العقيدة.
يقول له
(يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا) (مريم :43)
وهكذا، تستدعي السورة مواقف الأنبياء، لتؤكّد أن دعوتهم واحدة
التوحيد
مشهد: يوم القيامة – لا مفرّ
ثم تنقلك السورة فجأة إلى (يوم القيامة) ، مشهد رهيب
(وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) (الأنعام:27)
مشهد لأناس طالما أنكروا البعثن والآن يقفون أمام جهنم. وجوههم شاحبة، قلوبهم تتفطر، يتمنّون أن يُعادوا للدنيا، أن يؤمنوا، أن يُصدّقوا
لكن فات الأوان
مشهد: رحمة الله فوق كل شيء
(وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) (الانعام:54)
الله تعالى، الذي تحدث عن قدرته وعدله، يفتح الآن باب الرحمة
يُعلن
أنا الغني، وأنتم الفقراء، ومع ذلك، جعلت رحمتي لكم أسبق من غضبي
والسورة تمتلئ بنداءات حنونة
(قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ) (الانعام:151)
لا تقتلوا أولادكم، لا تقربوا الزنا، لا تقتلوا النفس، أوفوا الكيل
كأن الله يقول: هذه شريعتي، لكنها ليست ثقيلة، بل رحمة.
مشهد: مظلمة الشرك
السورة تُكثر من تكرار تصوير أحوال المشركين
يصنعون آلهة من حجر، ثم يسجدون لها
يذبحون الأنعام ويقولون: هذه لله وهذه لآلهتنا
ويحرّمون ما لم يحرّمه الله
السورة تكشف عبثهم وجهلهم، وتُظهر أن ما يعبدونه لا يملك لهم شيئًا، لا موتًا ولا حياة
مشهد: العدل الإلهي
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ )
هذه آية خالدة، نزلت وسط سورةٍ تفيض بالعقيدة:
كل إنسان يُحاسب على نفسه، لا يُؤخذ أحدٌ بجريرة غيره.
عدالة مطلقة، ورحمة لا نظير لها.
خاتمة السورة: التوحيد الخالص
تنتهي السورة بآياتٍ هي كالقسم الأخير من وثيقة الإيمان:
(قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ) (الأنعام:163)
بهذه الكلمات، يُعلَن:
أن الحياة كلها – من الصلاة إلى الموت – لله وحده، لا شريك له.
همسة ختامية:
سورة الأنعام ليست مجرد آيات، بل (نداء سماوي طويل)، جاء بموكب من الملائكة، ليقول:
أيها الناس، ربكم واحد. فعودوا إليه، بقلب خاشع، وصدقٍ خالص
إعداد: رامة محمود دللي
في تلك الأرض المباركة، حيث الجبال تهمس للسماء، وحيث النسيم يمر على وجوه الفقراء كأنه يد ربانية تمسح الألم.. هناك، كان يمشي نبي الله (عيسى ابن مريم عليه السلام)، يحمل في عينيه نور النبوة، وفي قلبه محبة لا تنضب.
آمن به من آمن، وصدّق به من كان قلبه مفتوحًا للحق، ووقف في وجهه من خاف على سلطته أو ماله. ومعه، كان هناك مجموعة من الأوفياء، يُسمّون (الحواريين). كانوا رجالًا بسطاء، صيادين، مزارعين، فقراء في المال، لكن أغنياء (بالإيمان).
رأوا بعينيهم المعجزات:
رجلٌ أعمى أبصر،
جسدٌ ميت عاد ينبض،
مرضى شُفيت أرواحهم قبل أجسادهم،
خبزٌ قليل أطعم جمعًا غفيرًا.
لكن القلب البشري، مهما رأى، يشتاق دائمًا لما يُطمئنه أكثر، فتحدثوا إلى نبيهم في لحظة صفاء، وهم يجلسون على الأرض تحت شجرة زيتون قديمة.
اقترب أحدهم – يُقال إن اسمه شمعون – وقال بنبرة مترددة:
(إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ) (المائدة :112)
سكت عيسى عليه السلام، ونظر في أعينهم واحدًا واحدًا، ثم قال:
(ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (112 )
لم يكن الرد قسوة، بل خوفًا عليهم، لأن طلب الآيات لا يُؤخذ بخفّة. فمن يرى آية عظيمة، ثم يكفر، فليس له عذر عند الله.
لكن الحواريين أكملوا، وقلوبهم تنبض بالإخلاص فقالو
(قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡهَا مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (113))
حينها، أغمض عيسى عينيه، ورفع يديه إلى السماء، ثم دعا ربّه دعاءً خاشعًا، كأن الأرض نفسها سكنت لتصغي فقال
(قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ (114)
وفي تلك الليلة، كان الليل ساكنًا بشكل غريب، وكأن الطبيعة بأكملها تنتظر شيئًا.
وجاء الرد من السماء:
(قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ (115)
ارتجف الجمع، ليس خوفًا من الله فقط، بل من ثِقل الأمانة القادمة، فهذه ليست مائدة طعام، بل مائدة (إيمان ومسؤولية).
وفي اليوم التالي، اجتمعوا جميعًا في سهلٍ واسع. السماء فوقهم زرقاء صافية، والجبال من حولهم واقفة كأنها حراسٌ للمعجزة.
وفجأة
نورٌ عظيم بدأ ينزل من السماء، تحمله ملائكةٌ نورانية، تتقدّم في صمت، والمائدة بين أيديهم، مغطّاة بغطاء من نور.
اقتربت، ثم استقرّت على الأرض. وكُشف الغطاء.
وما رآه القوم، لا يُشبِه ما في الأرض.
خبزٌ كأنما خُبز في أنوار الجنة.
أسماك مطبوخة، تُشعّ رائحة طيبة، تشبع قبل أن تؤكل.
ثمار لم يروا مثلها، لا في بساتين الشام، ولا في أسواق الروم.
كؤوسٌ من شراب، صافية كأنها بلّور، لكن طعمها يروي القلب لا الجسد.
قال عيسى عليه السلام:
(كلوا، واشكروا الله على رحمته، لكن تذكّروا، هذا ليس طعامًا فحسب، إنها آية)
وأكل القوم. وساد السكون. لا حديث، لا أصوات، فقط نظرات من الدهشة، وأفواه تتمتم بحمد الله.
لكن، كما في كل زمان
من بين من حضر، من شبع وارتوى، ثم (نسي.)
من رأى النور، ثم (أعرض.)
من شهد المعجزة، ثم (شكّ).
ولمن فعل ذلك، كان العذاب الذي وعد الله به ،عذاب ليس كأي عذاب، لأنه ليس لمن جهل، بل لمن (عرف ثم جحد).
وبقيت قصة المائدة في سورة تحمل اسمها:(سورة المائدة).
تُتلى على مرّ العصور، لا لتروي حدثًا ماضيًا، بل لتوقظ الإيمان في كل من قرأها، لتقول:
أن الإيمان لا يُنتظر حتى تُرى الآية، بل يُبنى على الثقة، واليقين، والتسليم.
إعداد: رامة محمود دللي
اصطفاء مريم – بداية النور
في سورة آل عمران، نعرف أن مريم عليها السلام تنحدر من آل عمران، وهم بيتٌ طاهر ومبارك.
أم مريم نذرت ما في بطنها لخدمة بيت المقدس:
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) (آل عمران: 35)
ولدت أنثى، فسمّتها (مريم)، وطلبت من الله أن يحفظها:
(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران: 36)
فتقبّلها الله، ونشأت نشأة طاهرة، وكفلها زكريا عليه السلام، فكانت تعبد الله في المحراب.
الكرامات الأولى
كان كلما دخل زكريا عليها، وجد عندها طعامًا ورزقًا عجيبًا، فيسألها:
(يَا مَرْيَمُ، أَنَّى لَكِ هَذَا)
فتقول: (هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) (آل عمران: 37)
هذه كانت أولى الكرامات الإلهية التي ظهرت على مريم.
البشارة بعيسى عليه السلام
في يومٍ من الأيام، جاءها (جبريل عليه السلام) في صورة بشر.
(فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) (مريم: 17)
خافت مريم وقالت:
(إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا)
فقال لها جبريل:
(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ، لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) (مريم: 19)
تعجبت: كيف ألد وأنا عذراء لم يمسسني بشر؟
فأجاب:
(قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)
الله خلق عيسى من غير أب، كما خلق آدم من تراب.
حملها واعتزالها
مريم حملت بعيسى، وكانت خائفة من الناس، فذهبت إلى مكان بعيد، واعتزلت قومها.
(فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) (مريم: 22)
لما جاءها المخاض، كانت تحت نخلة، تتألم، وتتمنى لو أنها لم تولد بسبب الحزن والخوف.
(يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)
لكن الله أنزل عليها السكينة، وقال لها من خلال جبريل أو من تحتها:
(لَا تَحْزَنِي، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)
هذه الآية قالها الملك جبريل عليه السلام لمريم عليها السلام عندما كانت في ألمٍ شديد تحت النخلة بعد أن ولدت عيسى عليه السلام، ليطمئنها ويخفف عنها.
(لا تحزني): أي لا تخافي ولا تحزني مما أصابك من ألم أو من كلام الناس.
(قد جعل ربك تحتك سريًّا): أي جعل الله جدول ماء صافٍ (نهرًا صغيرًا) يجري تحتك لتشربي منه وترتاحي.
وقيل أيضًا: (سريًّا) هو الولد الشريف (عيسى)، لكن التفسير الأشهر أنه نهر صغير.
الله يطمئن مريم أن لا تحزن، فقد هيأ لها ما تحتاج إليه من الراحة والماء والطعام، وأن الله معها ولن يتركها
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)
قال الله لمريم بعد أن وضعت عيسى عليه السلام:
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ): أي خذي بجذع النخلة وحركيه بيدك، مع أن المرأة الوالدة تكون ضعيفة، لكن الله أراد أن يُعلّم الأخذ بالأسباب حتى مع المعجزة.
(تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا): أي ستتساقط عليكِ ثمار النخلة رُطَبًا طريًّا ناضجًا صالحًا للأكل مباشرة، ليكون طعامًا لكِ في هذا الوقت.
الله رزق مريم بكل ما تحتاجه: ماءً من النهر، وطعامًا من النخلة، وطمأنينة من الوحي.
وفي الآية دعوة للعمل والأخذ بالأسباب، حتى في أوقات الشدة، فإن البركة تأتي مع الحركة والطاعة
سبحان الله أنجبت عيسى وحدها في معجزة عظيمة.
عيسى يتكلم في المهد
عادت مريم إلى قومها وهي تحمل طفلها الرضيع.
فهاجموها بشدة، وقالوا:
(يَا مَرْيَمُ، لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) (مريم: 27)
فأشارت إليهم أن يُكلموا الطفل.
فتكلم عيسى عليه السلام وهو رضيع وقال:
(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، آتَانِيَ الْكِتَابَ، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) (مريم: 30–33)
هذه كانت أولى معجزات عيسى عليه السلام.
عيسى في الإسلام
في الإسلام، نؤمن أن عيسى بن مريم عليه السلام هو نبي كريم، أرسله الله إلى بني إسرائيل برسالة التوحيد. وُلد من أم طاهرة، هي مريم عليها السلام، من غير أب، في معجزة ربانية تدل على قدرة الله، تمامًا كما خلق الله آدم من غير أب ولا أم.
عيسى عليه السلام لم يكن ابنًا لله، ولا إلهًا، بل عبدٌ مخلوق، نبيٌ مصطفى. كان من أولي العزم من الرسل، وأُعطي الإنجيل، وجاء ليصحح انحراف بني إسرائيل، ويدعوهم للرجوع إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
من المعجزات التي أيده الله بها:
_أنه كلّم الناس وهو رضيع.
_أبرأ الأكمه والأبرص.
_أحيا الموتى بإذن الله.
_نفخ في طير من طين فصار حيًا بإذن الله.
ولكن قومه كذّبوه، وحاولوا قتله، فنجّاه الله، ورفعه إليه حيًّا، ولم يُصلب كما يزعم بعض الناس. وسيعود في آخر الزمان ليكسر الصليب، ويقيم العدل، ويحكم بشريعة محمد ﷺ.
عيسى في العقيدة المسيحية التقليدية
في الديانة المسيحية (كما تُدرس في الكنائس التقليدية)، يؤمن النصارى أن يسوع المسيح (وهو اسم عيسى باللاتينية) هو ابن الله، بل هو الله نفسه المتجسد في صورة بشر.
يقولون إنه أتى إلى العالم ليكفّر عن خطايا البشر، لأن الإنسان – بحسب عقيدتهم – وُلد بالخطيئة الأصلية (خطيئة آدم)، ولا ينجو منها إلا بقبول المسيح كمخلّص.
لذلك، يؤمنون أن المسيح:
_وُلد من مريم، لكنه ابن لله.
_صُلب، ومات على الصليب كـ (ذبيحة) تمحو خطايا البشر.
_قام من الموت بعد ثلاثة أيام، ثم صعد إلى السماء.
_وهو الآن في السماء، وسيعود في آخر الزمان ليحاسب الناس.
أيضًا، هم يؤمنون بما يُسمى الثالوث:
أن الله واحد في ثلاثة:
الآب (الله)، الابن (المسيح)، الروح (القدس.)
وهنا يقع جوهر الخلاف مع الإسلام.
أين الفرق الجوهري؟
الإسلام يرفض تمامًا فكرة (ألوهية عيسى)، ويرى أنها شرك بالله.
في القرآن، الله قال بوضوح:
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)
(المائدة: 17)
ويقول:
(ما المسيح ابن مريم إلا رسول، قد خلت من قبله الرسل، وأمه صدّيقة، كانا يأكلان الطعام)
(المائدة: 75)
يعني: لو كان إلهًا، لما احتاج طعامًا ولا جسدًا.
عيسى عند المسلمين... وعند النصارى
المسلم يؤمن بعيسى كنبي من أنبياء الله، بشر مخلوق، له رسالة عظيمة، وله معجزات أيده الله بها.
المسيحي التقليدي يؤمن أن عيسى هو الله المتجسد، جاء ليموت فداءً عن البشرية.
في الإسلام:
عيسى عبد الله، ومخلوق من مخلوقات الله.
في المسيحية:
عيسى ابن الله، بل هو الله نفسه
مصير عيسى عليه السلام
في الإسلام، لم يُصلب عيسى، بل رفعه الله إليه، وسينزل في آخر الزمان ليكسر الصليب، ويقيم التوحيد.
أما في المسيحية، فيرون أن الصلب كان جوهر رسالته، وأنه قد فدى البشر بموته، وغُفرت الذنوب بدمه.
خلاصة العقيدة الإسلامية:
_عيسى نبي، لا إله.
_بشر، وُلد بمعجزة، وعاش نبيلًا.
_لم يُصلب، بل رفعه الله.
_سيعود ليقيم العدل والتوحيد.
_من أنكر نبوّته كفر، ومن جعله إلهًا أشرك.
إعداد: رامة محمود دللي
(عِمْرَان) رجل من بني إسرائيل، من نسل نبي الله داوُد عليه السلام. كان تقيًا صالحًا، محبًا لعبادة الله. لم يُذكر في القرآن الكثير عن حياته، لكنه يُعرف كأب للسيدة (مريم عليها السلام)، وجزء من أسرة صالحة اصطفاها الله.
(إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ)
(آل عمران :33)
زوجة عمران – واسمها المشهور في كتب التفسير هو (حنّة بنت فاقوذا) كانت امرأة عابدة طاهرة، ولم تكن قد أنجبت. وفي يوم من الأيام دعت الله بحرارة أن يرزقها ولدًا، ونذرت إن رزقها الله مولودًا، ستجعله خالصًا لخدمة بيت الله (بيت المقدس).
(إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ)
( آل عمران 35)
وكانت تتمنى أن يكون المولود ذكرًا، لأن الذكور في ذلك الزمان هم من يُخدم بهم في (بيت المقدس). ولكن المفاجأة.. ولدت أنثى
وضعت أنثى، فقالت في خشوع:
(فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ)
لكنها رضيت بقضاء الله، ودعت له أن يحفظها ويحفظ ذريتها من الشيطان:
(وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ)
فاستجاب الله لها، وجعل لمريم مكانة عالية.
بعد وفاة عمران، اختلف القوم على من يكفل مريم. فكانوا أهل صلاح وأرادوا خدمتها، لكن الله ألهم نبيّه زكريا – زوج خالتها – أن يكون هو الكافل، فربّاها في المحراب ورعاها.
وكان كلما دخل عليها وجد عندها طعامًا غير عادي:
(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا)
قال: (يا مريمُ أنى لكِ هذا) ؟
قالت: (هو من عند الله)
فهنا زكريا شعر ببركة المكان والزمان، فدعا الله أن يرزقه ولدًا رغم كبر سنه:
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)
فاستجاب الله له، وبشّره بـ (يحيى عليه السلام)، نبيّ من الصالحين.
كبرت مريم، وزادت عبادتها وخشوعها، حتى بشّرتها الملائكة:
(يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)
وجعلها الله مستعدة لحمل أمانة عظيمة.
بينما هي في خلوة تعبد الله، جاءها جبريل عليه السلام بصورة بشر، فخافت وقالت:
(إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًّا)
فقال: (إنما أنا رسول ربكِ لأهب لكِ غلامًا زكيًّا)
استغربت وقالت:
(أنَّىٰ يكون لي غلام ولم يمسسني بشر)
قال: (كذلك قال ربكِ: هو عليَّ هيِّن)
وهكذا حملت مريم بعيسى عليه السلام، في حملٍ معجزيّ بلا أب، وكان هذا من أعظم الآيات للبشر.
عانت مريم آلام الحمل وخرجت إلى مكان بعيد. وهناك، ولدت عيسى عليه السلام تحت نخلة. وطمأنها الله أن تهزّ النخلة فتسقط عليها رطبًا جنياً، وأن تصوم عن الكلام.
وعندما واجهها قومها يتهمونها، أشارت إلى الطفل عيسى، فأنطقه الله وقال:
(إني عبد الله آتانيَ الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مباركًا)
( مريم 30)
وهكذا برّأ الله مريم، وبدأت قصة عيسى عليه السلام.
_لأنهم أهل إيمان وتقوى
_لأنهم يربّون أبناءهم على العبادة
_لأنهم يرضون بقضاء الله، ويصبرون
_لأنهم يعبدون الله بإخلاص، حتى في الشدة
فأكرمهم الله بالنبوة، والمعجزات، والذكر الجميل في الدنيا والآخرة.
إعداد: رامة محمود دللي
في زمن بعيد، بعد طوفان نوح عليه السلام، نشأ الفتى (إبراهيم بن آزر) في مدينة (أور) الواقعة في بلاد بابل (جنوب العراق حاليًا). وكان قومه يعبدون الأصنام والنجوم والكواكب، وكان أبوه آزر من كبار صانعي الأصنام.
لكن إبراهيم عليه السلام كان شابًا ذكيًا، لا يرضى أن يعبد حجرًا أو صنمًا. كان ينظر في السماء، ويتأمل في الشمس والقمر والنجوم، ثم يرفض عبادتها، ويقول:
(إِنِّي وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗاۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (79) ) (الأنعام: 79)
بدأ إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر. وذات يوم، استغل غيابهم في عيدٍ لهم، ودخل إلى المعبد، فحطم جميع الأصنام إلا كبيرهم، وعلّق الفأس على كتفه.
عندما عادوا، وجدوا الأصنام مدمرة، فصاحوا:
(قَالُواْ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (59))
فقال لهم إبراهيم بدهاء:
(قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ (63))
فأدركوا أن أصنامهم لا تقدر على شيء، لكن كبرياءهم منعهم من الإيمان، فقرروا الانتقام.
اجتمع القوم، وأمر (الملك نمرود – وهو ملك جبار ظالم – بجمع الحطب لإحراق إبراهيم. حتى قيل إن النار كانت عظيمة، لم يُرَ مثلها في زمانهم.
وضعوا إبراهيم عليه السلام في منجنيق ورموه في النار، لكن الله جلّ جلاله قال لها:
(قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ) (الأنبياء: 69)
فخرج إبراهيم منها سالمًا، لم تمسّه النار بسوء، فزاد ذلك من دهشة الناس وحقد نمرود.
الملك (نمرود بن كنعان) هو أحد ملوك الأرض الجبابرة، وذُكر في كتب التفسير والسِّيَر أنه كان أول من تجبّر في الأرض وادّعى الألوهية بعد الطوفان. وقد بعث الله إليه نبيّه إبراهيم عليه السلام فدعاه إلى عبادة الله وحده، فحاجّه نمرود، كما ورد في قوله تعالى:
(أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ)
[البقرة: 258]
سمع نمرود بخبر إبراهيم ومعجزته، فدعاه إلى مجلسه، وكان نمرود يدّعي الألوهية، متكبرًا بملكه وسلطانه.
فقال له إبراهيم بكل بساطة:
(إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ)
نمرود، في محاولة للتلاعب، قال:
(قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ)
(وأمر بجلب رجلين: قتل أحدهما، وعفا عن الآخر، وقال: ها أنا أحيي وأميت)
لكن إبراهيم لم يدخل معه في تفصيلات مغلوطة، بل رد عليه بحجّة قاطعة لا مجال فيها للتحريف:
(قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ)
فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ — أي: سكت وعجز عن الرد، لأن هذا التحدي لا قدرة له عليه.
وهنا تأتي الآية الكريمة من سورة البقرة التي تُخلّد هذا الجدال:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ۚ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
(البقرة: 258)
وهكذا انهزم نمرود في مناظرته، وكُشف زيفه أمام الناس.
رغم أن نمرود عجز عن مواجهة إبراهيم بالحجة، إلا أنه لم يؤمن، بل ازداد طغيانًا.
فأراد الله أن يري الناس قدرته، فأرسل عليه (بعوضة صغيرة)، دخلت في أنفه، حتى وصلت إلى دماغه، وأصابته بألمٍ شديد.
ظل يعاني، ويضرب رأسه ليخفّ الألم، حتى قُتل على يد أضعف مخلوقات الله.
الإيمان والعقل أقوى من الطغيان والسلاح.
الحجة الواضحة تنتصر دائمًا، مهما كان خصمك قويًا.
من توكل على الله نجا، حتى من النار.
الله قادر أن يهلك الجبابرة بأبسط الأسباب.
الأنبياء لا يحتاجون إلى جيش، بل إلى كلمة الحق.
إعداد: رامة محمود دللي
حين اجتمع الإيمان والشجاعة... وانتصر القليل على الكثير بإذن الله.
في زمنٍ بعيد، بعد أن ضلّ بني إسرائيل مرةً أخرى، سلَب الله منهم النصر والعزّة، وتفرّق شملهم، وسيطر عليهم أعداؤهم، وعلى رأسهم جالوت، رجلٌ ضخمٌ شديد البطش، قائدٌ عسكري ظالم، لا يعرف الرحمة.
عاش بنو إسرائيل في الذلّ والقهر سنين طويلة. حتى جاءوا إلى نبيّهم في ذلك الزمان، وقالوا:
(إِذۡ قَالُواْ لِنَبِيّٖ لَّهُمُ ٱبۡعَثۡ لَنَا مَلِكٗا نُّقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ )
كانوا يريدون قائدًا موحّدًا يجمع صفوفهم ويقودهم نحو الحرية والانتصار.
قال لهم النبي:
(قَالَ هَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْۖ)
قالوا بثقة:
(قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ)
فأوحى الله لنبيّهم أن القائد الذي اختاره لهم هو:
(طالوت)
طالوت لم يكن من السادة ولا من أحفاد الأنبياء.
كان رجلًا عاديًا، فقيرًا، قويّ البنية، ذكيًّا، تقيًّا.
حين أخبرهم نبيّهم أن الله قد بعث طالوت ملكًا عليهم، غضبوا وقالوا:
(وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَةٗ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ)
لكن نبيهم رد عليهم:
(قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ (247) )
طلب القوم علامة تؤكد أن طالوت هو الملك المختار.
قال تعالى
(وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ) (البقرة :248)
وفعلاً، جاء التابوت، فأيقنوا أن هذا أمرٌ من الله، فبايعوا طالوت ملكًا وقائدًا.
قاد طالوت الجيش، وخرج بهم في طريقٍ طويل نحو أرض المعركة، وكان الحر شديدًا.
وفي الطريق، وصلوا إلى نهرٍ عذب، فاختبرهم طالوت وقال:
(قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ)
فشرب أغلبهم
ولم يثبت إلا قليلٌ فقط، هم من اغترفوا قليلاً أو صبروا ولم يشربوا.
وهنا عرف طالوت أن القلة المؤمنة الصابرة هي من تستحق النصر.
وصل الجيش الصغير إلى أرض المعركة.
وهناك وقف جالوت بكل غرور، يطلب مبارزًا.
وكان الجنود خائفين، فالجميع يعرف مدى قوة جالوت.
وفجأة، تقدم غلام صغير، نحيل، يحمل عصا ومقلاع.
قال بصوت ثابت:
(أنا أبارز جالوت)
إنه (داوُد عليه السلام).
كان شابًا مؤمنًا، قويّ القلب، مليئًا بالثقة في الله.
ضحك الناس من جرأته، لكن طالوت سمح له.
النهاية المدهشة
تقدّم داوُد نحو جالوت، ووضع حجرًا صغيرًا في مقلاعه، ودعا الله بقلبٍ مخلص.
وأطلق الحجر
فأصاب جبهة جالوت مباشرة، وسقط العملاق ميّتًا في لحظته
فصاح الناس: (الله أكبر)
وانهار جيش جالوت، وانتصر المؤمنون.
(فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ، وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)
(البقرة: 251)
_النصر ليس بالعدد، بل بالإيمان والصبر والثقة بالله.
_القائد الحقيقي لا يُقاس بماله أو نسبه، بل بعلمه وتقواه وشجاعته.
_الابتلاءات قبل النصر، مثل اختبار النهر، تكشف الصادقين من المتخاذلين.
_من يتوكل على الله حقًا، ينتصر ولو كان صغيرًا أمام جبار مثل جالوت.
إعداد: رامة محمود دللي
في زمن قديم، كان الناس في الأرض يعانون من انتشار السحر، وكان قومٌ من بني إسرائيل قد أعرضوا عن تعاليم أنبيائهم، وبدؤوا يتبعون طرق السحر والشعوذة. وكان هناك من يدّعي أن السحر علمٌ من عند الله، وأن الأنبياء هم من جاءوا به
وهنا، أراد الله أن يُبيّن للناس الحق من الباطل، وأن يُفرّق لهم بين السحر والعلم الإلهي الحقيقي.
فنزل من السماء ملكان بأمر الله، اسمهما
(هَارُوت ومَارُوت)
وذلك في أرض بابل (مدينة قديمة تقع في العراق اليوم).
الله أرسل هاروت وماروت ليُعلّما الناس حقيقة السحر، ويُظهروا لهم أنه كفرٌ وضررٌ وباطل، وليس علمًا نافعًا.
لكن
كانا لا يعلّمان أحدًا شيئًا إلا بعد أن يحذّراه تحذيرًا شديدًا، فيقولان له
(إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)
(البقرة: 102)
أي: نحن اختبارٌ من الله، فلا تستخدم هذا العلم في الشر، ولا تتعلمه بنية الأذى.
ومع ذلك… كان هناك من الناس من يتجاوز التحذير ويتعلم السحر، ثم يستخدمه في إفساد العلاقات، وتفريق الأزواج، وإلحاق الأذى بالناس!
( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ)
(البقرة: 102)
لكن الله يؤكد:
(وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ )
أي لا يستطيع أحد أن يؤذي أحدًا إلا إذا أذن الله بذلك لحكمة يعلمها.
هاروت وماروت ما جاءا ليعلّما السحر من أجل الإفساد، بل كانا
_يعلّمان للتحذير والتبيين.
_يُختبر الناس بهم: هل سيتبعون الحق، أم يختارون الباطل؟
_كل من تعلّم السحر وعمل به عن قصد، كان يكفر ويضل.
السحر من الكبائر، ومن يُمارسه يُعرض نفسه لسخط الله، وربما خرج من الإسلام إن اعتقد أن السحر يملك تأثيرًا مستقلًا.
النبي ﷺ قال:
(اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منها: (السحر)
(رواه البخاري ومسلم)
الآية التي وردت فيها القصة
(وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ)
(سورة البقرة: 102)
_العلم يجب أن يُستخدم في الخير، لا الشر.
_ليس كل من يحمل العلم يكون نافعًا… النية والتقوى أساس.
_الله قد يختبر عباده بالفتن، والناجي هو من يثبت ولا يضل.
_السحر داء عظيم، واللجوء إليه ضعف إيمان وخطر على العقيدة.
إعداد: رامة محمود دللي
قصة بقرة بني إسرائيل
في زمنٍ من الأزمان، بعد أن نجا بنو إسرائيل من فرعون، عاشوا في الأرض التي أنعم الله عليهم بها. كانوا يرون آيات الله، ويتقلبون في رحمته، ومع ذلك، كثيرًا ما كانوا يُجادلون ويُكابرون.
وذات يوم، حدث أمرٌ غريبٌ في القرية
استيقظ أهل القرية على خبرٍ يهزّ القلوب
رجلٌ من بني إسرائيل قُتل في الليل، ولا أحد يعرف القاتل.
اجتمع الناس، احتدم الخلاف، وبدأت الاتهامات تتطاير.
كل بيت يتهم الآخر، وكل قبيلة تشتبه في غيرها.
قال أحد الحكماء:
(لن نعرف القاتل إلا إن سألنا موسى عليه السلام. فهو نبي الله، ولن يُضلّنا.)
ذهبوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا:
(يا موسى، سل لنا ربك يبيّن لنا من قتل هذا الرجل.)
فجاءهم الجواب من الله ، لكنه لم يكن كما توقعوا
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)
(سورة البقرة: 67)
صرخوا في وجه موسى:
(أتتخذنا هُزُوًا) ؟ نحن نسألك عن قاتل ، فتأمرنا بذبح بقرة ؟
قال موسى
(قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ) ( البقرة:67)
لكن الله لا يخطئ في حكمه، وكان في هذا الأمر حكمة عظيمة
قالوا لموسى:
(اسأل ربك يبيّن لنا: ما هي؟ ما لونها؟ ما شكلها؟ ما نوعها؟
فأخذ موسى يسأل ربّه، وكلما جاءهم الجواب، زادوا في السؤال:
قالوا: ما هي ؟
فجاءهم الجواب
(إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ)
قالوا: ما لونها ؟
فجاء الجواب
(إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)
قالوا: ما صفاتها ؟ هناك بقر كثير بهذه الصفات
فقال الله:
(إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا)
كلما سألوا، ضيّق الله عليهم.
ولو أنهم ذبحوا أي بقرة من البداية، لكفاهم، لكنهم شقّوا على أنفسهم، فشُقّ عليهم.
وأخيرًا، وجدوا البقرة
كانت نادرة جدًّا، تنطبق عليها كل الشروط، لكنها كانت مملوكة لغلامٍ يتيم.
ولما علم الغلام أن القوم بحاجة إليها، لم يبعها إلا بثمنٍ باهظ، فدفعوا الكثير.
وذبحوا البقرة.
ثم قال الله لموسى:
(خذوا جزءًا من البقرة، واضربوا به الميت.)
ففعلوا
فإذا بالرجل يقوم من الموت للحظة، ويشير إلى القاتل، ثم يسقط ميتًا مرة أخرى
كانت آيةً من الله، معجزةً عظيمة، وبيانًا شافيًا للناس.
_الامتثال لأمر الله دون جدال هو مفتاح الخير. كلما كثرت الأسئلة عن تفاصيل لا لزوم لها، ضيّق الإنسان على نفسه.
_طاعة الله لا تحتاج لفهم الحكمة دومًا، بل تحتاج لإيمان ويقين.
_الله لا يُسأل عن أفعاله، بل نحن نُسأل عن طاعتنا.
_القصة نموذج لحال بني إسرائيل الذين كثرت أسئلتهم واعتراضاتهم، فحرِموا من البركة.
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)
(سورة البقرة: 71)
إعداد: رامة محمود دللي
في زمنٍ بعيد، وفي قريةٍ ساحليةٍ جميلة تطل على البحر، كان يعيش قوم من بني إسرائيل. كانت حياتهم تعتمد كثيرًا على البحر، خصوصًا صيد السمك، فهو مصدر رزقهم الأساسي.
لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبتليهم ليختبر طاعتهم، فأمرهم أن يخصصوا يوم السبت لعبادته فقط، ولا يعملوا فيه أبدًا، ولا حتى يصطادوا فيه. وكان هذا حكمًا صريحًا من الله.
في البداية، التزم القوم بالأمر. لكن بعد فترة، بدأوا يلاحظون شيئًا غريبًا:
كلما جاء يوم السبت، كانت الأسماك تظهر بكثرة في البحر، وتتقافز على وجه الماء، كأنها تسخر منهم
أما في باقي الأيام، فتكاد تختفي تمامًا، وكأن البحر قد جف.
هنا بدأ الاختبار الحقيقي.
بعضهم قال:
(هذا امتحان من الله، فلنصبر ونلتزم بأمره.)
لكن البعض الآخر لم يعجبه الحال، وبدأ يفكر بطريقة للتحايل!
فكرة ماكرة:
قالوا لأنفسهم:
(لمَ لا نضع الشباك يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فتدخلها الأسماك يوم السبت، ونأخذها يوم الأحد؟ هكذا لا نكون اصطدنا يوم السبت،
وهكذا فعلوا.. نصبوا شباكهم يوم الجمعة، وتركوها في الماء طوال السبت، ثم جمعوا غلتهم يوم الأحد، وكأن شيئًا لم يكن.
في القرية، كان هناك فئة أخرى من الناس، صالحون أتقياء، أنكروا هذا الفعل وقالوا لهم:
(ويحكم! أتخدعون الله؟ ألستم تعلمون أن الله يعلم السر وأخفى؟ هذا تحايل وليس طاعة)
لكن هؤلاء المتحايلين لم يسمعوا النصيحة، بل سخروا من الصالحين، وقالوا:
(دعونا وشأننا، نحن لم نصطد يوم السبت، نحن أذكى من أن نخالف أمر الله مباشرة)
وهناك فئة ثالثة كانت ساكتة، لم تصطد، لكنها لم تنكر المنكر أيضًا، بل قالت للصالحين:
(لم تنصحونهم؟ دعوهم، لن ينفع فيهم النصح)
فأجابهم الصالحون:
(نعذر إلى ربنا، ولعلهم يتقون)
فلما تمادى العاصون واستمروا في تحايلهم، أرسل الله عليهم عقوبة شديدة ومهينة…
قال الله في القرآن:
(فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)
(الأعراف: 166)
وفي لحظة مهيبة، مسخهم الله إلى قردة، بشعة المنظر، مطرودة من الرحمة، تائهة بلا عقل ولا كرامة.
_التحايل على أوامر الله لا ينفع، فالله يعلم النوايا كما يعلم الأفعال.
_الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، والصمت أحيانًا يُعتبر مشاركة في الإثم.
_الله يبتلي عباده ليظهر الصادق من المدّعي.
-الطاعة ليست فقط في الفعل، بل في النية والإخلاص أيضًا.
إعداد: رامة محمود دللي
خليفة من تراب .. قصة البشرية الأولى تبدأ في السماء
السماء
في مشهد ملائكي مهيب، أعلن رب السماوات والأرض عن قرار مصيري سيغيّر مجرى الوجود (إني جاعل في الأرض خليفة)
بهذه الكلمات بدأت أول قصة في تاريخ القرآن الكريم، قصة الإنسان الأول (آدم عليه السلام) ، التي وردت في سورة البقرة، لتفتح أبواب التأمل في الحكمة الإلهية والكرامة الإنسانية.
حينما أعلن الله عز وجل عن خلق الخليفة، تساءلت الملائكة لا اعتراضًا، بل طلبًا للفهم
( قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ) (البقرة :30)
لكن الرد الإلهي كان قاطعًا
(قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) (30)
ليُفهمهم الله لاحقًا أن العلم والاختيار هما جوهر هذا المخلوق الجديد.
في مشهد يكشف عن منزلة الإنسان، علم الله آدم الأسماء كلها رمزيةً للمعرفة والفهم والإدراك ثم عرضها على الملائكة، الذين اعترفوا بعجزهم
(قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ) (32)
فقال الله لآدم (أنبئهم بأسمائهم)
وهنا بدأ يتجلى فضل العلم، وأنه سلاح الإنسان في خلافته للأرض.
بعد أن أمر الله الملائكة بالسجود لآدم تكريمًا له، سجد الجميع إلا مخلوق واحد: إبليس.
رفض، استكبر، فخرج من رحمة الله. ومن هنا تبدأ أول عداوة في تاريخ البشرية: عداوة إبليس للإنسان.
سكن آدم وزوجه الجنة، حيث النعيم والسلام، لكن مع أمر واضح: (وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ)
غير أن وسوسة إبليس أفسدت الطمأنينة، وأكلا من الشجرة، فبدت لهما سوءاتهما، وبدآ يغطيان نفسيهما بأوراق الجنة.
لكن المفاجأة؟ لم يُطرَد آدم، بل فُتِح له باب التوبة
(فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) (37)
بأمر إلهي، هبط آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض
(قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) (38)
هكذا بدأت قصة الإنسان على الأرض:
بالاختبار، والاختيار، والتوبة، والوعد بالهداية.
وفي الختام
قصة آدم ليست مجرد قصة بدء الخلق، بل هي مرآة لحياة كل إنسان:
ولدنا مكرّمين، خُلقنا للعلم، وسقطنا أحيانًا بفعل وسوسات، لكن الباب مفتوح دائمًا للعودة، شرط أن نسمع النداء
(فمن تبع هداي...)
إعداد: رامة محمود دللي