رئيس التحرير:
مقالات الرأي – ميدان الرؤية والفكرة
نكتب الرأي لأننا نُدرك أن العالم لا يتغير فقط بالأخبار، بل بالرأي الذي يشعل الفكر، ويعيد تشكيل المعنى.
كل رأي هنا هو خلاصة عقلٍ لا يكتب ليُقال، بل ليُفكَّر فيه… ويُبنى عليه موقف.
غزة… حين تُربك المقاومة حسابات القوة الإسرائيلية
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الاثنين 28 يوليو/تموز 2025
في كل حرب تخوضها إسرائيل ضد قطاع غزة، ثمة قاعدة تتكرر: كلما ظنت تل أبيب أنها باتت على وشك الحسم، ظهرت المقاومة بعملية نوعية تربك المشهد وتعيد ترتيب المعادلة. هذا ما حدث في خان يونس مؤخرًا، حيث استهدفت كتائب القسام ناقلات جند إسرائيلية في عملية مركبة، ثم أعقبتها عمليات أخرى أوقعت إصابات جديدة في صفوف الجنود. التوقيت ليس عابرًا، والمكان ليس صدفة؛ بل هو امتداد لاستراتيجية المقاومة في إدارة الضعف وتحويله إلى قوة ميدانية.
اللافت في هذه العمليات أنها تجري على الرغم من مرور أكثر من 21 شهرًا متصلة (سنة وتسعة أشهر تقريبًا)، من بدء حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة. حرب طالت كل تفاصيل الحياة، ودفعت نحو ستين ألف فلسطيني إلى الاستشهاد، وشرّدت قرابة مليوني إنسان. لكن وسط هذا الخراب الشامل، تواصل المقاومة إظهار قدرة على الصمود والمناورة، ما يضع الجيش الإسرائيلي أمام سؤال استراتيجي مزمن: لماذا تفشل القوة في كسر إرادة الخصم؟
المسألة تتعلق أولاً بطبيعة المعركة نفسها. فغزة، بخلاف الحروب التقليدية، لا تُدار بخطوط جبهة مستقرة، بل بجيوب مقاومة متحركة تعرف تضاريس المكان وتتحرك تحت الأرض وفوقها. هذه المرونة تسمح بتنفيذ كمائن مركبة كما حدث في عبسان الكبيرة، حيث استُهدفت ثلاث ناقلات جند بوسائل مختلفة خلال دقائق معدودة. العملية كشفت أن المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل تخطط وتنفذ ضمن رؤية أوسع تهدف إلى استنزاف العدو على المدى الطويل.
من زاوية أخرى، تعكس هذه العمليات فشل نظرية "التخطي" الإسرائيلية، التي تقوم على التوغل العميق وترك الجيوب الخلفية غير مؤمّنة. هذه النظرية قد تنجح في حروب الجيوش النظامية، لكنها تتحول إلى فخ قاتل عندما تواجه مقاومة شعبية متجذرة تعرف الأرض والناس. في كل مرة تترك إسرائيل خطوطها الخلفية مكشوفة، تجد المقاومة الفرصة لتنفيذ ضربات موجعة تزيد من كلفة الحرب وتضعف معنويات الجنود.
لكن الأهم من البعد العسكري هو أثر هذه العمليات على المشهد السياسي. فبينما تتحدث واشنطن عن "تقدم ملموس" في مفاوضات الدوحة، وتطرح مقترحات لهدنة تمتد ستين يومًا، تأتي هذه الضربات لتذكر الجميع أن المقاومة ليست طرفًا ضعيفًا يُملى عليه شروط التسوية. بل هي طرف يفاوض من موقع الميدان، مستندة إلى أوراق قوة تخلقها بنفسها كل يوم.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف تنعكس هذه المعادلة على حسابات إسرائيل الداخلية؟ الواضح أن حكومة بنيامين نتنياهو تعيش مأزقًا مركبًا؛ فهي أمام ضغط عائلات الأسرى الإسرائيليين التي تريد صفقة شاملة، وفي الوقت نفسه تحت رحمة وزراء يمينيين متطرفين يرفضون أي تفاوض مع حماس ويطالبون بمواصلة الحرب حتى "الإزالة الكاملة". هذا الانقسام الداخلي يجعل كل تقدم في المفاوضات هشًا وقابلاً للانهيار مع أي عملية نوعية جديدة.
المفارقة أن هذه العمليات باتت تمثل أيضًا رسالة إلى الخارج، وتحديدًا إلى الولايات المتحدة. فهي تكشف حدود ما يمكن للقوة العسكرية الإسرائيلية تحقيقه، وتدفع واشنطن إلى إعادة التفكير في جدوى استمرار الدعم المطلق لتل أبيب. وفي المقابل، تمنح المقاومة ورقة إضافية لتطالب بضمانات حقيقية لأي هدنة أو اتفاق تبادل، بدلًا من الهدن المؤقتة التي تُستغل لإعادة التموضع الإسرائيلي.
في المحصلة، لا يمكن فصل المعركة الميدانية عن المعركة السياسية. فكل كمين ناجح للمقاومة يعيد ترتيب أوراق المفاوضات، وكل جولة دبلوماسية فاشلة تفتح الباب أمام تصعيد جديد في الميدان. هذا التداخل المستمر هو ما يجعل حرب غزة مختلفة عن كل الحروب الأخرى: إنها معركة على الزمن، وعلى الرواية، وعلى من يملك القدرة على الاستمرار.
الرسالة الأوضح من خان يونس اليوم أن المقاومة ما زالت قادرة على قلب الطاولة كلما اعتقدت إسرائيل أن المعركة أوشكت على الانتهاء. وما دام هذا التوازن مستمرًا، فإن أي حديث عن "حسم نهائي" سيظل بعيد المنال.
زيارة الرئيس الشرع لوفد رجال الأعمال السعوديين: بوابة اقتصادية لإعادة التموضع الإقليمي في سوريا الجديدة
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
في 19 يوليو 2025، استقبل الرئيس السوري أحمد الشرع في قصر الشعب بدمشق وفدًا سعوديًا رفيع المستوى من رجال الأعمال، في خطوة تعكس تحولات مهمة في المشهد الإقليمي السوري بعد سنوات من القطيعة والتوترات التي تخللت عهد نظام الأسد السابق. هذه الزيارة ليست مجرد حدث اقتصادي، بل تمثل مؤشرًا استراتيجيًا على إعادة رسم خريطة النفوذ العربي في سوريا الجديدة التي تشهد مرحلة انتقالية حرجة.
خلفية الزيارة: سوريا الجديدة ومسارات التغيير
تأتي هذه الزيارة في سياق توازنات إقليمية ودولية متجددة بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، وتشكيل إدارة انتقالية بقيادة أحمد الشرع في يناير 2025. سوريا التي ظلت لعقود تحت وطأة نظام قمعي وعزلة إقليمية، بدأت تشهد تحولات جذرية على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
الانفتاح السعودي على دمشق، عبر هذا الوفد الاقتصادي، يعكس رغبة المملكة في إعادة بناء علاقات استراتيجية مع سوريا، لكن هذه المرة عبر بوابة الاقتصاد والاستثمار. هذا التوجه يتماشى مع سياسة جديدة في الرياض تعتمد على استغلال الفرص الاقتصادية لإعادة التموضع في ملفات إقليمية عالقة، وتخفيف الاعتماد على سياسات العزل والمقاطعة التي طبقت في السابق.
أبعاد اقتصادية: الشراكات والاستثمار كرافعة للشرعية
تسعى الإدارة السورية الانتقالية بقيادة الشرع إلى ترسيخ شرعيتها السياسية من خلال بناء جسور اقتصادية مع شركاء خليجيين، وعلى رأسهم السعودية، التي تنظر إلى الاقتصاد بوصفه أداة فعالة لإعادة تكوين النظام الإقليمي في المنطقة.
اللقاءات التي جمعت وفد رجال الأعمال السعوديين مع الشرع ناقشت فرص الاستثمار في قطاعات حيوية مثل التمويل، الطاقة، البنية التحتية، والتكنولوجيا. هذه القطاعات تعتبر محورية لإعادة إعمار سوريا وتحقيق التنمية المستدامة التي تلبي تطلعات المواطنين بعد سنوات طويلة من الحرب والدمار.
بالإضافة إلى ذلك، حرص الجانب السعودي على دراسة فرص الاستثمار في قطاع الطيران المدني، وهو مؤشر على رغبة المملكة في توسيع نفوذها الاقتصادي إلى مجالات جديدة ذات أبعاد استراتيجية.
التحولات الإقليمية: السعودية وسوريا في سياق التوازنات الجديدة
يُنظر إلى هذه الخطوة السعودية على أنها بداية لتحوّل أوسع في السياسات الخليجية تجاه سوريا، بعيدًا عن الحظر والعزلة التي فرضتها سابقًا. في هذا الإطار، تحاول الرياض استعادة تأثيرها الإقليمي عبر بناء تحالفات اقتصادية تُعزز من دورها في المنطقة.
على الجانب السوري، تهدف إدارة الشرع إلى الاستفادة من هذه الانفتاحات لتقليل الاعتماد على المحاور التقليدية، خصوصًا روسيا وإيران، والتي لعبتا دورًا مركزيًا خلال فترة النظام السابق، لكنها أثرت على العلاقات مع العديد من الدول العربية والخليجية.
هذا التوازن الجديد قد يعيد صياغة الخريطة الجيوسياسية السورية، ويتيح فرصًا لتسوية أوسع في ملف سوريا عبر مسارات متعددة تجمع بين السياسة والاقتصاد.
التداعيات المحتملة على العلاقات مع تركيا
لا يمكن تجاهل أن هذا التقارب السعودي-السوري قد يشكل متغيرًا هامًا في علاقات سوريا مع تركيا، التي لطالما كان لها نفوذ قوي في الملف السوري، خاصة في المناطق الشمالية.
في ظل وجود إدارة انتقالية جديدة، قد تتجه دمشق نحو موازنة علاقاتها الإقليمية بين الأطراف الفاعلة، خصوصًا مع السعودية وتركيا، حيث قد تسعى إلى جذب دعم اقتصادي من الجانبين معًا، في محاولة لتفادي هيمنة طرف واحد، وتعزيز استقرارها الداخلي عبر تحالفات متعددة.
الرؤية المستقبلية: الاقتصاد بوابة السلام والاستقرار
يبقى الاقتصاد المحرك الرئيسي الذي قد يغير واقع سوريا على المدى المتوسط. فالانفتاح السعودي وتبادل الوفود الاقتصادية هو مؤشر على أن الرياض تعول كثيرًا على الاستثمار في سوريا كوسيلة لإعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار، وهو ما يتوافق مع مصالح دمشق في تثبيت سلطتها وإعادة إدماجها في النظام الإقليمي.
في الوقت نفسه، تعكس هذه الخطوات تحوّلًا في استراتيجيات الدول العربية تجاه سوريا، إذ يبدو أن العزلة والعقوبات لم تعد الأدوات الفعالة، مما يفتح الباب أمام حوار أعمق وشراكات جديدة في مرحلة إعادة البناء السياسي والاقتصادي.
خلاصة
زيارة وفد رجال الأعمال السعوديين إلى دمشق برئاسة الرئيس الشرع ليست مجرد حدث اقتصادي عابر، بل تمثل نقطة تحول في الملف السوري. هذه الخطوة تعكس رغبة مشتركة في إعادة تشكيل النفوذ العربي عبر الاقتصاد، وتمهيد الطريق لمرحلة انتقالية أكثر انفتاحًا وتعددية، تعيد سوريا إلى الحاضنة العربية، مع إمكانات جديدة للتنمية والاستقرار الإقليمي.
الجنوب السوري بين الحماية الدولية والاستغلال الاستراتيجي: قراءة في منطق التدخل الإسرائيلي
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الأربعاء 16 تموز/يوليو 2025
شهدت الساعات الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق في سوريا، حيث نفذت إسرائيل غارات جوية استهدفت العاصمة دمشق ومقرات سيادية، ترافقت مع تحشيد عسكري في الجولان المحتل، تحت ذريعة "حماية الطائفة الدرزية" في محافظة السويداء، عقب اشتباكات مسلحة داخلية. وبينما تدّعي تل أبيب أنها تتحرك باسم المسؤولية الإنسانية، فإن القراءة الجيوسياسية للحدث تفتح بابًا واسعًا للشكوك حول منطق التدخل وأبعاده الاستراتيجية.
على سطح الأحداث، يبدو أن إسرائيل تسعى لحماية الأقليات في الجنوب السوري من خطر داخلي. لكن تحليل خطاب القيادة الإسرائيلية، وخاصة تصريحات وزير الدفاع يسرائيل كاتس ورئيس الوزراء نتنياهو، يكشف عن أهداف تتجاوز الحماية المؤقتة، لتصل إلى إعادة صياغة بيئة الجنوب السوري أمنياً، وربما سياسيًا، بما يحقق مصالح تل أبيب ويؤمّن حدودها الشمالية من أي تهديد محتمل على المدى الطويل.
الرسائل التي وجهتها تل أبيب واضحة: إذا لم تنسحب القوات السورية من السويداء، فإن الغارات ستستمر، وقد يتحول الجنوب إلى "منطقة منزوعة السلاح". هذا النوع من الشروط الميدانية يعيد إلى الأذهان سيناريوهات التدخلات الإسرائيلية في جنوب لبنان أو حتى في غزة، حيث تستخدم إسرائيل أزمة داخلية كسياج قانوني للتوسع الجوي والبري، في ظل صمت دولي وغياب موقف حاسم من المؤسسات الأممية.
من منظور العلاقات الدولية، فإن التحرك الإسرائيلي يمكن تصنيفه تحت بند "التدخل الوقائي"، وهو مفهوم استخدمته واشنطن من قبل لتبرير غزوها للعراق عام 2003، بحجة تجنب تهديد مستقبلي. غير أن هذه النظرية تظل محل نزاع قانوني وأخلاقي، إذ أنها تعطي الشرعية لطرف خارجي لشن ضربات داخل حدود دولة ذات سيادة، دون تفويض دولي أو تغطية قانونية، بحجة الخطر المحتمل فقط.
والمفارقة هنا أن إسرائيل، التي اعتادت رفض أي تدخل دولي في عملياتها داخل غزة أو في الضفة الغربية، تمارس اليوم الدور ذاته الذي تنتقده، ولكن في عمق أراضي دولة جارة. بل الأخطر من ذلك، أن الخطاب الإسرائيلي بات يوظف سرديات إنسانية لحشد التأييد الدولي، تمامًا كما تفعل بعض القوى الكبرى في تبرير تدخلاتها في مناطق النزاع.
إن العودة إلى السياق السياسي الأوسع توضح أن السويداء تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى منطقة رخوة أمنيًا، بفعل تراجع السلطة المركزية، وتزايد حضور الجماعات المحلية المسلحة، بعضها مدعوم من الخارج. وهو ما فتح المجال أمام إسرائيل لتوظيف الاشتباك الدرزي – العشائري الأخير كفرصة استراتيجية لفرض وجودها في الميدان، دون كلفة قانونية.
واللافت أن الدعوات الصادرة عن بعض زعامات الطائفة الدرزية في السويداء للتدخل الإسرائيلي تم تضخيمها إعلاميًا بشكل مفرط، وكأنها تمثل الموقف العام للطائفة، في حين أن كثيرًا من المرجعيات الروحية والاجتماعية رفضت الزج بالمسألة الدرزية في مسار التجاذبات الإقليمية. ومن هذا المنطلق، فإن "التذرع الإنساني" في الحالة السورية يبدو أقرب إلى ورقة سياسية تُستثمر لتحقيق أهداف توسعية، لا إلى مبادرة حقيقية لحماية المدنيين.
في المقابل، تبدو الدولة السورية في موقف حرج، إذ أن الرد العسكري المباشر قد يفتح الباب على مواجهة واسعة غير متكافئة، بينما السكوت الكامل قد يُفسر ضعفًا في الردع. لذلك، فإن التقدير الراجح أن دمشق ستلجأ إلى تحشيد دبلوماسي إقليمي، وربما تُحيل الملف إلى روسيا وإيران، في محاولة لإعادة ضبط المعادلة.
كما يُتوقع أن تلجأ الدولة السورية إلى تحريك أدواتها القانونية في مجلس الأمن، رغم ضعف فعالية المجلس بفعل الفيتو الأمريكي، إلا أن توثيق العدوان وتوسيع الضغط الإعلامي يمكن أن يؤسس لحالة رأي عام عالمي، تمهد لمعركة سياسية أوسع من نطاق الميدان.
وبينما تتجه الأنظار إلى الجنوب السوري، تبقى الأسئلة الكبرى مفتوحة: هل نحن أمام بداية لتفكك السيادة السورية في الجنوب؟ وهل تستثمر إسرائيل هذه اللحظة لتكرار تجربة "الحزام الأمني" كما فعلت في جنوب لبنان خلال الثمانينات؟ أم أن هذه الهجمة ستُفهم في إطارها الظرفي فقط، ثم تتراجع؟ إن الإجابة تعتمد إلى حد بعيد على الموقف الإقليمي العربي، وعلى درجة التماسك الداخلي داخل السويداء، وعلى قدرة الدولة السورية في تقديم رواية سياسية متماسكة تُفهم العالم بأن ما يجري ليس "حماية للدروز"، بل إعادة رسم لحدود الصراع.
خاتمة:
في ضوء ما سبق، فإن التعاطي مع الهجوم الإسرائيلي على دمشق والسويداء لا يجب أن يُختزل بردود الفعل الفورية، بل يُقرأ كجزء من مشروع طويل المدى لإعادة هندسة النفوذ في جنوب سوريا، عبر أدوات إنسانية ناعمة، تخفي خلفها حسابات صلبة من الردع والتوسع والمقايضة.
سربرنيتسا وغزة.. جرائم لا تسقط بالتقادم وصمت لا يغتفر
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
الجمعة 11 تموز/يوليو 2025
ثلاثون عامًا مضت على مجزرة سربرنيتسا التي ارتكبتها القوات الصربية بحق أكثر من 8 آلاف بوسني مسلم تحت أعين العالم وبمباركة صمته. ومع ذلك، فإن الذاكرة لم تخبُ، كما لم تُداوَ جراح العدالة. واليوم، يصرخ الواقع الفلسطيني بصوت أعلى، في ظل مجازر تُرتكب يوميًا في قطاع غزة، بينما يكرر المجتمع الدولي المشهد ذاته من اللامبالاة. ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمته خلال الذكرى الثلاثين للإبادة البوسنية لم يكن مجرد استدعاء للتاريخ، بل توبيخ علني لصمت النظام الدولي وانتقائيته الأخلاقية، وهو ما يستدعي الوقوف أمامه مطولًا.
ما يجمع بين سربرنيتسا وغزة ليس فقط عدد الضحايا ولا وحشية القتلة، بل حقيقة أن العالم شاهد وموثق ومراقب، لكنه صامت. سربرنيتسا كانت إعلانًا مدويًا لانهيار مفهوم "الحماية الدولية"، حين تخلّت قوات حفظ السلام الهولندية عن آلاف المدنيين العزّل، وسلمتهم إلى آلة القتل الصربية. واليوم، يتكرر هذا السيناريو في غزة، حيث آلاف الأطفال والنساء يُقتلون أمام الكاميرات، في ظل انقسام دولي لا يتجاوز بيانات الإدانة الخجولة.
في رسالته الرمزية، أعاد أردوغان إلى الأذهان مقولة الزعيم البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش: "لا تنسوا المذبحة، لأن الإبادة المنسية ستتكرر". ويبدو أن الإبادة في فلسطين ليست موعودة بالتكرار فحسب، بل هي تكرار حي ومباشر لدرس لم يتعلمه أحد. وبهذا المعنى، فإن موقف تركيا لا يُقرأ فقط في سياق تضامن إنساني، بل كخطاب سياسي خارجي يرتكز على التوازن بين المبادئ والمصالح، ويُعيد تعريف دور الدولة الفاعلة في الدفاع عن القيم الدولية عندما تفشل المؤسسات.
لقد بات واضحًا أن مفهوم العدالة الانتقائية هو ما يحكم الأداء الدولي. ففي حين جُلب قادة صربيا إلى لاهاي لمحاكمتهم، رغم تأخر العدالة، فإن جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل منذ عقود، وبلغت ذروتها منذ السابع من أكتوبر 2023، لا تجد آلية مساءلة جدية داخل المجتمع الدولي. بل إن بعض القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تمارس دور الحامي للمجرم، فتمنع قرارات الإدانة والعقوبات، وتحول دون إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يضرب جوهر ميثاق روما في مقتل.
هذا الواقع يكشف أزمة النظام الدولي في توازن الردع والمساءلة. فحين يُقتل أكثر من 57 ألف فلسطيني في أقل من عام، ويُحاصر نحو مليوني إنسان داخل شريط ضيق، وتُقصف المدارس والمستشفيات، دون أي تحرك رادع، فإن السؤال الجوهري لم يعد: "من المسؤول؟"، بل "لماذا لا يتحرك العالم؟". وتكمن الإجابة في المعادلة البشعة التي تربط أخلاقية النظام العالمي بمصالحه الجيوسياسية.
لكن في المقابل، تبرز تركيا كدولة تسعى إلى قلب هذه المعادلة، عبر خطاب يرتكز على إعادة تعريف دور الأمم المتحدة، وتفكيك تحالف الصمت الدولي. فمطلب أنقرة المتكرر بإصلاح المنظمة الدولية لم يعد رفاهية دبلوماسية، بل ضرورة وجودية تفرضها تحولات النزاعات المعاصرة، وعودة منطق الإبادة الجماعية بأدوات جديدة.
ومن هذا المنطلق، فإن خطاب أردوغان في مناسبة سربرنيتسا لا يجب أن يُفهم فقط كنوع من التعاطف الرمزي، بل كمشروع تركي واضح المعالم لإعادة تشكيل ميزان القيم في العلاقات الدولية. المشروع التركي هنا لا يدعو فقط لإدانة إسرائيل، بل لإدانة النظام الدولي العاجز عن حماية الأبرياء، ما يعيدنا إلى مركز جدلية "القانون الدولي مقابل القوة"، وهي الجدلية التي تمزق الشرعية من داخلها حين تظل عاجزة أمام المجازر المتلفزة.
إن النضال من أجل العدالة في فلسطين لا ينفصل عن ذكرى العدالة المفقودة في سربرنيتسا. فكلتا الحالتين تعبّران عن لحظة انهيار أخلاقي للنظام الدولي، وتُحتم على الشعوب والدول ذات الوعي التاريخي أن تلعب دورها في بناء ذاكرة مقاومة، وفرض خطاب مساءلة يتجاوز هيمنة الكبار.
ختامًا، فإن أردوغان حين قال: "إن العالم يتفرج على الفظائع في فلسطين كما صمت عن سربرنيتسا"، فإنه لم يكن يعبّر فقط عن تركيا، بل عن ملايين الضمائر في الجنوب العالمي، وملايين الناجين من مجازر التاريخ، ممن يعرفون أن الصمت لا يوقف الإبادة، بل يبررها، وأن الإبادة المنسية، ستعود دائمًا... وبأبشع مما كانت عليه.
"هدم المنازل في الضفة: من تكتيك ميداني إلى استراتيجية تقويض الدولة الفلسطينية"
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الأربعاء 09 تموز/يوليو 2025
في كل يوم تُهدم بيوت، وتُشرد عائلات، وتُطوى صفحات جديدة من المعاناة في الضفة الغربية المحتلة. لكن خلف هذه المآسي الإنسانية تتكشف ملامح سياسة ممنهجة، تتجاوز كونها مجرد "ردع أمني" أو "تنفيذ قانون البناء"، كما تدّعي إسرائيل، لتغدو أحد أعمدة استراتيجية إسرائيلية أشمل تهدف إلى تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
إنّ ظاهرة هدم المنازل ليست جديدة، بل تعود إلى عقود مضت، لكنها اكتسبت وتيرة متسارعة منذ مطلع 2024، حيث تشير معطيات المؤسسات الفلسطينية إلى هدم أكثر من 588 منزلًا ومنشأة في الضفة خلال النصف الأول من 2025 وحده، فضلًا عن إخطارات بالهدم طالت مئات الأبنية. وهذه الأرقام ليست مجرّد إحصائيات، بل مؤشرات واضحة على تحوّل أدوات الاحتلال من إدارة "نزاع طويل الأمد" إلى تنفيذ "رؤية توسعية" تطمح إلى إنهاء الوجود الفلسطيني فعليًا، لا فقط رمزيًا أو سياسيًا.
الاستيطان: محرك خفي وراء الجرافات
لا يمكن فهم سياسة هدم المنازل بمعزل عن المشروع الاستيطاني. فمناطق "ج" التي تقع تحت السيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية، وتشكّل نحو 60% من مساحة الضفة، باتت مسرحًا للهدم والتوسع الاستيطاني في آنٍ واحد. إذ إن كل منزل يُهدم في قرية فلسطينية يقابله بناء وحدة سكنية جديدة في مستوطنة مجاورة. بذلك، يتحول الهدم إلى وسيلة لإعادة رسم الجغرافيا الديموغرافية، عبر خنق التجمعات الفلسطينية بالمستوطنات والجدران، وحرمانها من التوسع العمراني أو الزراعي.
بلغة العلاقات الدولية، نحن أمام مثال واضح على ما يُعرف بـ "الهندسة الجيوسياسية"، حيث تُستخدم أدوات مدنية (كالتراخيص والخرائط والميزانيات) ضمن مشروع استعماري يعمل على تفريغ الأرض من أصحابها الأصليين وتوطين سكان جدد موالين للقوة المحتلة.
الهدم كسلاح تفاوضي
ثمة زاوية أخرى لا تقل أهمية في فهم دوافع إسرائيل، وهي البعد السياسي التفاوضي. فبإبقاء الضفة الغربية في حالة من التشرذم الجغرافي، عبر الجدران والحواجز والهدم، تسعى إسرائيل إلى القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية المترابطة. وفي أي مفاوضات مستقبلية، سيكون من السهل الدفع بخيار "الحكم الذاتي المحدود" بدل الدولة المستقلة، لأن الوقائع على الأرض ستكون قد أفرغت الحلم الفلسطيني من مضمونه.
بمعنى آخر، فإن سياسة الهدم لا تمارس فقط لإفراغ الأرض، بل لتفريغ السياسة ذاتها من أدواتها. إذ لا يمكن بناء دولة بلا بنى تحتية، ولا تفاوض على عاصمة لدولة بينما تُهدم منازلها في القدس كل يوم.
تواطؤ دولي وصمت أممي
الأكثر إيلامًا أن هذا كله يجري تحت سمع وبصر المجتمع الدولي. صحيح أن الأمم المتحدة تعتبر الاستيطان وهدم المنازل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي، لكن التصريحات لا تكفي. لقد تحولت الإدانات إلى طقس دبلوماسي موسمي، لا تصاحبه إجراءات ردع أو محاسبة، بل تُترك إسرائيل تُمارس دور "المخالف المحصن"، الذي لا يخضع للمساءلة.
وهنا تبرز إشكالية أخلاقية وسياسية في النظام الدولي ذاته. فإذا كان القانون الدولي لا يُطبَّق إلا على الضعفاء، ويُفرَّغ من محتواه عندما يتعلق الأمر بحلفاء الغرب، فما الفرق إذن بين منظومة الشرعية الأممية ومنطق القوة العارية؟ بل كيف يمكن للضحايا أن يثقوا بمنظومة لا تحميهم ولا تعاقب جلاديهم؟
الأثر على النسيج الاجتماعي الفلسطيني
ليس من السهل قياس آثار الهدم بالمتر المربع فقط. فكل عملية هدم تؤدي إلى تدمير أواصر اجتماعية، وتشريد عائلات، وتفكيك بنى تقليدية قائمة على التماسك القروي والعائلي. كما أن فقدان المسكن يعني في السياق الفلسطيني فقدان الحماية والهوية والانتماء، ما يترك أثرًا نفسيًا عميقًا على الأجيال الشابة، التي تبدأ في الشعور بأن الدولة الفلسطينية ليست حلمًا بعيدًا فقط، بل حلمٌ ممنوع ومحاصر.
هذه الديناميكية الاجتماعية تعني أن الاحتلال لا يهدم الجدران فقط، بل يهدم الأمل، وهو أخطر أنواع العنف السياسي غير المرئي.
ما العمل؟ إعادة تعريف الردع
إذا كانت إسرائيل تمضي قدمًا في مخططها، فماذا بوسع الفلسطينيين والمجتمع الدولي فعله؟ أولًا، يجب إعادة تفعيل أدوات القانون الدولي بطريقة ناجعة، كالتوجه لمحكمة العدل الدولية من أجل طلب رأي قانوني ملزم بشأن سياسة الهدم. ثانيًا، ينبغي الضغط على الأطراف المانحة لإسرائيل لربط مساعداتها بوقف سياسة الهدم والاستيطان.
أما فلسطينيًا، فهناك حاجة ماسّة إلى استراتيجية موحدة بين الفصائل، تضع ملف الهدم على رأس أولوياتها، ليس فقط في المحافل الدولية، بل ضمن الوعي الجماهيري والمجتمعي، لحشد مقاومة مدنية وشعبية في المناطق المهددة.
خلاصة القول:
هدم المنازل في الضفة الغربية لم يعد مجرد سياسة تكتيكية لفرض الأمر الواقع، بل تحوّل إلى أداة مركزية ضمن استراتيجية احتلالية تهدف لتفكيك الجغرافيا والهوية والدولة الفلسطينية. وإذا لم تُواجَه هذه السياسات بردع قانوني وشعبي ودولي حاسم، فإن معاول الهدم قد لا تكتفي بتجريف البيوت، بل قد تمتد لتجريف ما تبقى من الحلم الفلسطيني ذاته.
من التبعية إلى التأثير: كيف تتحول الدولة إلى لاعب دولي في ظل تشابك المصالح العالمية؟
صافي محمد مظهر أحمد – كاتبة صحفية
الثلاثاء 8 يوليو/تموز 2025
في عالم اليوم، لم تعد الجغرافيا السياسية محصورة داخل الحدود الجغرافية المرسومة على الخريطة، ولا السيادة شأناً محلياً بحتاً. لقد أدى الانفتاح العميق في منظومات الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة والسياسة إلى تلاشي الفواصل التقليدية بين ما هو داخلي وما هو دولي.
الأحداث التي كانت تُعدّ في الماضي شأناً محلياً بحتاً، أصبحت اليوم محلَّ ترقّب واستجابة من العواصم العالمية الكبرى، لأن مصالح هذه الدول أصبحت متشابكة في كل ركن من العالم، لا سيما في مناطق الصراعات وإعادة التشكل السياسي.
وهنا تبرز حقيقة مفصلية: أنه لم يعد النفوذ حكراً على الدول العظمى، بل بات للدول الأقل شأناً – إذا ما أُديرت بحنكة – قدرة على المناورة، واستثمار اشتباك المصالح الدولية لصالح تنميتها وتعزيز مكانتها. فالتحوّل من "التبعية" إلى "الشراكة" بات ممكناً في ظل ظرف عالمي يتعطش فيه الجميع إلى النفاذ للأسواق الجديدة، والاستقرار الإقليمي، والنفوذ الرمزي والثقافي والتكنولوجي والتوازن الجيوسياسي والعسكري.
سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، تقدّم اليوم نموذجاً حيّاً لتحوّل الدولة من ساحة نفوذ دولية مُستباحة، إلى كيان سياسي وطني بدأ يفرض نفسه لاعباً ذا مركزية استراتيجية. وقد كان لقيادة الرئيس أحمد الشرع دور محوري في هذا التحول، إذ أظهر قدرة سياسية عالية على قراءة المشهد الدولي، وبناء تفاهمات ثنائية ومتعددة الأطراف مع القوى الكبرى والإقليمية، مستثمرًا توق السوريين للسيادة والتنمية والاستقرار.
منذ اليوم الأول لسقوط النظام السابق، أدرك الشرع أن الشرعية في عالم ما بعد الحرب لا تُكتسب فقط عبر السيطرة الجغرافية أو العسكرية، بل عبر الاعتراف الدولي، والتحالفات الذكية، وخلق بيئة سياسية-اقتصادية تسمح للدولة بأن تكون جزءًا من المعادلات الكبرى لا مجرد تابع فيها. ولذلك أطلق حراكاً مكوكياً غير مسبوق.
علاقات متوازنة مع تركيا والولايات المتحدة:
فمنذ الأيام الأولى لحكومته، حرص الشرع على إعادة ضبط العلاقة مع تركيا، ليس فقط على المستوى الأمني الحدودي، بل من خلال تفاهمات اقتصادية ومشروعات إعادة الإعمار، وفتح قنوات تعاون استخباري وثقافي. أما الولايات المتحدة، فقد شهدت تحوّلاً نوعياً في موقفها، بلقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الشرع، وإزالة "هيئة تحرير الشام" من قائمة الإرهاب، ما شكل اعترافاً ضمنياً بالواقع الجديد في سوريا وقيادتها.
شراكات عربية استراتيجية:
لم يتوقف الشرع عند البُعد الغربي، بل أعاد صياغة موقع سوريا في محيطها العربي، من خلال تفاهمات استراتيجية مع دول الخليج، أبرزها السعودية وقطر، شملت الاستثمارات، والطاقة، والتعليم، وإعادة الإعمار. وقد استقبل في دمشق قادة عرب لأول مرة منذ أكثر من عقد، في ما اعتبره مراقبون "إعادة إدماج سوريا في النظام العربي الجديد ولكن من موقع قوة لا استجداء".
تكريس الداخل كنقطة جذب وليس طرد: داخلياً، لم يعتمد الشرع فقط على الانتصار العسكري أو الرمزية الثورية، بل باشر إصلاحات مؤسساتية واسعة النطاق قدر المستطاع، بدءًا من إصدار الإعلان الدستوري الانتقالي، مروراً بعقد مؤتمر الحوار الوطني، ووصولاً إلى تشكيل حكومة تكنوقراط منفتحة، مهمتها استعادة ثقة السوريين أولاً، وثقة العالم ثانياً.
السياسات الدولية لم تعد قائمة على تقديم المعونات أو فرض الوصاية فحسب، بل على المنفعة المتبادلة والمصلحة الاستراتيجية.
الدول الكبرى تحتاج إلى أسواق جديدة، واستقرار مناطقي، وشركاء موثوقين في المناطق الحساسة. ومن هنا، تستطيع الدول الصاعدة – كحال سوريا الجديدة – أن تناور وتفاوض وتنتزع المكاسب إن توفّرت لها قيادة ذات وعي سياسي عالٍ، ومعرفة دقيقة بمقومات الدولة، ورؤية في بناء التحالفات وصياغة الخطاب الوطني الجامع.
أحمد الشرع لم يكتفِ بانتزاع السلطة من نظام منهار، بل أعاد بناء الشرعية من أسس جديدة: شرعية المنفعة المتبادلة، والتوازن في العلاقات، والتموضع الذكي في قلب الاشتباك الدولي لا على هامشه.
التجربة السورية الجديدة تؤكّد أن الدول ليست مرهونة بحجمها أو ماضيها، بل بإرادتها السياسية وقدرتها على تحويل الموقع الجغرافي إلى مركز قرار، وتحويل الحاجة إلى الارتباط بالعالم ثم إلى أداة تأثير لا تبعية.
فلم تعد الدول الضعيفة فقط بحاجة إلى الأقوياء لدعمها، بل إن الأقوياء باتوا بحاجة إلى هذه الدول كمنصات لنفوذهم ومصالحهم، وهو ما سمح لسوريا، بقيادة الشرع، أن تفاوض على مصالحها بندية، وتبني مكانتها من جديد، ليس فقط كدولة ناجية من الانهيار، بل كفاعل إقليمي فاعل يُحسب له حساب.
وما كانت سوريا لتصل إلى هذه اللحظة، لولا أن امتلكت قيادة تعرف كيف تستثمر الفرص في اشتباك العالم، لا أن تُسحق تحت أقدامه.
بريطانيا وسوريا الجديدة: هل تتحوّل لندن إلى ضامن سياسي أم مجرد وسيط تقني؟
السبت، 5 تموز/يوليو 2025
فريق التحليل والرأي
ما إن أُعلنت زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إلى دمشق، حتى تسارعت التحليلات حول أبعاد الخطوة وتوقيتها ومآلاتها. فالزيارة ليست عادية في سياق سياسي إقليمي غير عادي، بل هي استئناف لعلاقة انقطعت منذ 14 عامًا، ورسمٌ لمسار دبلوماسي جديد مع دولة خرجت من واحدة من أعقد الحروب الداخلية في القرن الحادي والعشرين.
السؤال الأهم الذي يطفو على سطح المشهد هو: هل تُقدِم بريطانيا على لعب دور الضامن السياسي لسوريا الجديدة، أم أن دعمها سيبقى حبيس الإطار التقني، الإنساني، والشكلي؟ بعبارة أدق، هل نحن أمام تحوّل استراتيجي في المقاربة البريطانية للملف السوري، أم مجرد خطوة دبلوماسية تُجمّل المرحلة دون أن تملك أدوات التأثير الحقيقي فيها؟
لا شك أن الخطوة البريطانية تحمل في طيّاتها رسائل عدّة، أوّلها اعتراف عملي بالحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بعد سقوط نظام الأسد وانهيار التوازنات التي أرّقت العواصم الغربية طيلة السنوات الماضية. فأن تزور وزيرًا في دمشق بعد قطيعة، يعني أنك سلّمت بحدوث تغيير، وتقبل واقعًا جديدًا، ولو دون ضجيج إعلامي.
لكن الأمر لا يتوقف عند الرمز السياسي. إذ إن المشهد الميداني، خصوصًا في الجنوب السوري على خطوط التماس مع إسرائيل، يفرض نفسه كأحد أهم محاور الاختبار للنيات البريطانية. فالسياسة البريطانية التقليدية لطالما راعت الهواجس الإسرائيلية، وعملت وفق مبدأ "عدم الإضرار" بأمن تل أبيب. فهل تغيّر هذا النهج اليوم؟
السؤال أكثر إلحاحًا عندما نُدرك أن ملف الجولان، ومعه ملف الغارات الإسرائيلية المتكررة على العمق السوري، ما يزال بلا غطاء دولي يُلزم إسرائيل بالتوقف أو يخضعها للمساءلة. فإن كانت بريطانيا جادة في دعم الحكومة السورية الجديدة، فهل ستسعى لإعادة التوازن في هذه المنطقة الحساسة من خلال فتح قنوات تفاهم تضمن وقف العدوان المتكرر على الأراضي السورية؟
التحوّل البريطاني لا يمكن عزله عن السياق الأميركي، فرفع العقوبات عن سوريا بقرار مباشر من الرئيس دونالد ترامب فتح الباب أمام الحلفاء للتحرك ضمن هامش جديد. وبما أن لندن كانت دائمًا اللاعب الأوروبي الذي يتحرك بظلال واشنطن، فإن الخطوة تعكس من جهة الضوء الأخضر الأميركي، ومن جهة أخرى حاجة بريطانية ذاتية لاستعادة نفوذ مفقود في منطقة تعاد صياغتها بعد زوال التأثير الإيراني–الروسي منها.
وهنا تبرز قضية أخرى: هل تملك بريطانيا اليوم القدرة على التحوّل إلى "ضامن سياسي" فعلي، أم أنها ستكتفي بإدارة ملفات تقنية مثل المساعدات الإنسانية، والتسهيلات الاقتصادية، وبعض مشاريع إعادة الإعمار؟ بمعنى آخر: هل سنرى لندن في عمق القرار السوري، أم على هامشه؟
للإجابة على ذلك، ينبغي مراقبة موقف بريطانيا من قضايا الحكم والانتقال السياسي، والمصالحة الوطنية، ومواقفها من الفاعلين الإقليميين مثل تركيا والسعودية ومصر، الذين باتوا أكثر حضورًا في الملف السوري. إذ إن موقف بريطانيا من هذه الدول، ومن خارطة التحالفات الجديدة، سيكشف إن كانت تنوي خوض غمار التوازنات أم الاكتفاء بالتماشي معها.
ثمة بُعد ثالث لا يقل أهمية، وهو الرأي العام السوري. فهل تقبل النخب والمجتمع، الذي عانى من صمت الغرب طيلة سنوات الحرب، ببريطانيا كطرف ضامن أو وسيط أو شريك؟ الأمر هنا يتعلّق بالذاكرة الجمعية التي لا تزال تحمل مسؤولية ما جرى على عاتق قوى دولية تجاهلت المذابح، وأدارت ظهرها لحلم التغيير. وبالتالي، فإن إعادة بناء الثقة تتطلب أكثر من حزمة مساعدات، أو زيارة رسمية، بل تتطلب اعترافًا أخلاقيًا بأخطاء الماضي، واستعدادًا للانخراط الحقيقي في صوغ مستقبل أكثر عدالة.
إن التحوّل من "معارضة النظام" إلى "دعم الدولة"، ومن "تجميد الأصول" إلى "إطلاق برامج الدعم"، يطرح سؤالًا وجوديًا على السياسة البريطانية: هل تفعل ذلك من أجل مصالحها، أم من أجل سوريا؟
وفي نهاية المطاف، فإن مدى جدية بريطانيا في التحوّل إلى ضامن سياسي فعلي سيُقاس بمواقفها من قضايا حساسة: العدوان الإسرائيلي، إعادة الإعمار، محاسبة مجرمي الحرب، دعم الحكم المحلي، وإعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي والدولي. أما الاكتفاء بالدعم الإنساني، فلن يتجاوز حدود البراغماتية المؤقتة.
إن دمشق اليوم تفتح أبوابها للعالم، ولكنها لن تقبل هذه المرة بعودة الشركاء السابقين دون تصحيح المسار. فالسوريون، وقد خبروا الحصار والعزلة والخيانة، باتوا أكثر وعيًا بأهمية من يُمسك بزمام الضمان، ومن يُلوّح به فقط.
أنقرة في المتوسط: من الدفاع إلى الهجوم الدبلوماسي
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الثلاثاء 3 تموز/يوليو 2025
بينما تشتد الخلافات شرق البحر المتوسط حول خرائط النفوذ البحري، تطل أنقرة بموقف استراتيجي حازم عنوانه: "مذكرة التفاهم مع ليبيا خط أحمر". لم يكن هذا الاتفاق مجرد إجراء إداري لترسيم مناطق الاختصاص البحري بين دولتين، بل جاء ليكرّس معادلة جيوسياسية جديدة، قلبت موازين النفوذ البحري والطاقوي، وزعزعت ترتيبات الهيمنة الأوروبية في المتوسط.
لقد حسمت تركيا أمرها باكرًا منذ توقيع المذكرة في 2019، حيث فهمت أن زمن الحياد الاستراتيجي في المتوسط قد انتهى، وأن الانكفاء عن المشهد البحري يعني التنازل لصالح مشروع جيوسياسي تتزعمه أثينا وتدعمه باريس وواشنطن وتباركه تل أبيب. وقد جاء الاتفاق البحري مع طرابلس حينها كحجر زاوية في استعادة الحضور التركي الممتد من سواحل درنة الليبية حتى المياه العميقة المقابلة لموانئ أنطاليا.
منذ ذلك الحين، أدركت الدول المتشاطئة في المتوسط، وخاصة اليونان وقبرص الجنوبية، أن زمن "الفراغ الجيواستراتيجي التركي" قد انتهى. ولعل البيان الختامي لقمة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والذي هاجم الاتفاق البحري بين أنقرة وطرابلس، لا يُقرأ إلا كصرخة دبلوماسية من ضفة خسرت مواقعها المتقدمة أمام تصاعد الدور التركي.
في المقابل، لم تتأخر وزارة الدفاع التركية في الرد، فأكدت مجددًا على شرعية الاتفاق، واستندت إلى قواعد القانون الدولي ومبادئ العدالة الجغرافية، متمسكة بمبدأ الخط الوسطي وعدم الإغلاق، وهي مرتكزات قانونية لطالما تم تجاهلها في التفسيرات الأوروبية لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتي لم توقّع عليها أنقرة أصلًا.
لكن السياق يتجاوز المسائل القانونية، فالمعركة الحقيقية تتمحور حول ممرات الطاقة. فالاتفاق التركي الليبي يعطّل فعليًا مشروع "EastMed"، وهو خط أنابيب كان سيُستخدم لنقل الغاز من إسرائيل إلى أوروبا مرورًا بقبرص واليونان. وقد شكلت المذكرة البحرية التركية حاجزًا قانونيًا أمام مرور هذا الخط، بما يعزز موقع أنقرة كعقدة مركزية في أمن الطاقة الأوروبي.
في السياق نفسه، تحاول باريس – ومعها أثينا – تقديم الاتفاق التركي على أنه تحدٍ سافر للقانون الدولي، متجاهلة عشرات الاتفاقيات البحرية الثنائية المماثلة التي وُقّعت دون اعتراض، عندما لم تكن تركيا طرفًا فيها. وبدلًا من الحوار المباشر، اختارت أوروبا مسار التصعيد السياسي عبر مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
غير أن أنقرة لم تكتفِ بالرد الدبلوماسي، بل عززت وجودها البحري في المتوسط من خلال تدريبات عسكرية، وشراكات أمنية مع ليبيا، وتكثيف دورها في مراقبة التحركات البحرية اليونانية. وبالمقابل، تنظر طرابلس إلى الشراكة مع أنقرة باعتبارها صمام الأمان الوحيد أمام محاولات تدويل المياه الليبية واحتكار ثرواتها الغازية.
هنا، تبرز أهمية التحول التركي من موقع الدفاع عن الحقوق إلى الهجوم الدبلوماسي والسياسي. فأنقرة لم تعد تكتفي بانتقاد مشاريع الغاز الإقليمية التي تتجاهلها، بل باتت تبني مشاريع بديلة، وتحالفات تكميلية، تشمل الجزائر وقطر ودول في البحر الأحمر، وتطرح نفسها راعية لمعادلة أكثر عدالة في إدارة البحار والثروات.
في العمق، يظهر أن التحالف الثلاثي "أثينا – باريس – تل أبيب" قد تلقى ضربة موجعة منذ توقيع مذكرة أنقرة – طرابلس، حيث سقطت رواية "الحدود الجغرافية الطبيعية" أمام منطق التاريخ والسيادة، وباتت اليونان تواجه تمددًا تركيًا مشروعًا، على أسس قانونية وليست فقط على أسس النفوذ العسكري.
رؤية خاصة
يدرك صانع القرار التركي أن الصراع في المتوسط لم يعد تقنيًا ولا قانونيًا، بل دخل مرحلة الصراع على السيادة والمكانة. مذكرة التفاهم مع ليبيا تمثل – من زاوية استراتيجية – إعلانًا عن انتقال أنقرة من دور الدولة الساحلية إلى الدولة الفاعلة في بناء نظام إقليمي بحري جديد.
هذا التموقع التركي لا يمكن فصله عن تحولات أوسع، أبرزها تحلل النظام العالمي ما بعد 2011، وتراجع نفوذ القوى الأوروبية التقليدية في محيط المتوسط، وصعود قوى متوسطة الطموح.
إن إصرار تركيا على المذكرة لا ينفصل عن طموحها للعب دور إقليمي متوازن، ولحماية مجالها البحري من الهندسة الجيوسياسية التي لطالما تمت دونها. ولذلك، فإن أي تراجع عن الاتفاق سيكون تنازلاً عن جملة من المبادئ التي تقوم عليها السياسة الخارجية التركية في عهد الرئيس أردوغان، لاسيما مبدأ "الوطن الأزرق" الذي بات أحد ثوابت الأمن القومي التركي.
وبينما تمضي أوروبا نحو التصعيد السياسي، تمضي تركيا نحو توسيع الجغرافيا السياسية، مستثمرة في تحالفاتها، في البحر، وفي البر، وفي القانون.
غزة بين المقترحات والابتزاز: من يملك مفاتيح التهدئة؟
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
الأربعاء 2 تموز/يوليو 2025
تدور العجلة الدبلوماسية من جديد. تصريحات أميركية، تسريبات إسرائيلية، مقترحات قطرية ومصرية، وموقف حمساوي يوصف بـ"الإيجابي" ولكن المشروط. في كل مرة تتكرر الملامح نفسها: تسعى إسرائيل إلى تهدئة تكتيكية تحفظ ماء وجهها، وتتمسك المقاومة الفلسطينية بمطالب الحد الأدنى التي تضمن وقف الإبادة وانسحاب الجيش وتدفق المساعدات. لكن خلف ستار "المفاوضات"، تدور معركة من نوع آخر: معركة رواية، ومعركة نوايا، ومعركة أعصاب.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن أن إسرائيل وافقت على "شروط وقف إطلاق نار لمدة 60 يوما"، ووجّه أنظاره إلى حماس، داعيًا إياها للموافقة. بدا التصريح وكأنه محمّل برسائل داخلية أكثر من كونه إعلانًا دبلوماسيًا. يريد ترامب أن يُظهر أنه القائد القادر على كبح جماح الحرب، وإن من موقع الشريك غير المنحاز. لكن من يراقب تفاصيل المشهد يدرك أن الموقف الأميركي لا يزال غامضًا، وأن الثقل الحقيقي لا يقع على عاتق واشنطن وحدها، بل يتوزع بين الوسطاء، والقيادة العسكرية الإسرائيلية، وموقف نتنياهو نفسه.
حماس، من جهتها، أعلنت أنها تلقت مقترحات من الوسطاء، وأنها تتعامل معها بمسؤولية، وتجري مشاورات وطنية داخلية. هذا التصريح وحده كافٍ ليبيّن التحول في إدارة الملف السياسي داخل الحركة. لا مزايدات، ولا تصعيد. بل نبرة واقعية، تقول إن المقاومة لم تسقط خيار التفاوض، ولكنها تضع له شروطًا منسجمة مع الواقع الميداني والكارثة الإنسانية المتراكمة. الانفتاح لا يعني الاستسلام، والتفاوض لا يعني المساومة على الثوابت. وهذه معادلة يصعب على إسرائيل فهمها، لأنها اعتادت أن تُفاوض خصومًا لا يملكون أوراق قوة.
لكن، هل نحن أمام هدنة حقيقية؟ أم أن ما يجري هو محاولة متجددة لشراء الوقت؟ لا تزال الفجوة بين الطرفين عميقة. نتنياهو صرّح بوضوح: لا هدنة دائمة إلا بزوال حماس. وهذا تصريح لا يعبّر فقط عن الموقف السياسي، بل عن المأزق العسكري. فبعد تسعة أشهر من الحرب، لم تحقق إسرائيل أي إنجاز جوهري يمكن أن تبيعه لجمهورها كـ"نصر". والآن، تبحث عن لحظة مخرج تحفظ بها صورتها من الانهيار، دون أن تُقرّ بالفشل.
الخلاف داخل الحكومة الإسرائيلية يعكس هذه الحيرة. إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يعلنان جهارًا رفضهما لأي وقف لإطلاق النار، ويتوعدان الحكومة بخطط تهدف لإفشال الصفقة. لكن المعارضة، من جهتها، تقدّم عرضًا لدعم نتنياهو برلمانيًا إذا قرر الذهاب إلى تهدئة. المشهد الإسرائيلي الداخلي لا يقل تعقيدًا عن الوضع في غزة. فإسرائيل اليوم لا تخوض فقط حربًا على غزة، بل تعيش صراعًا داخليًا على السلطة، ومستقبل الحكومة، وشكل الدولة.
أما غزة، فتموت ببطء. لا وقت لديها للترف السياسي، ولا فرصة للمناورة الإعلامية. الأطفال يموتون جوعًا، المرض ينتشر، والملاجئ تتحول إلى مقابر جماعية. وعندما تقول حماس إن "الفرصة لا تزال قائمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه"، فإنها تعني ذلك بالمعنى الحرفي، لا المجازي. المشهد الإنساني بلغ حدًا من الانهيار يجعل من أي هدنة، ولو محدودة، بارقة أمل لتضميد بعض الجراح.
لكن ماذا عن الثقة؟ هل يمكن الوثوق بأن إسرائيل ستلتزم بأي اتفاق؟ تجارب السنوات الماضية لا تُشجّع كثيرًا. لطالما وقّعت تل أبيب على تفاهمات ثم نقضتها، ولطالما قدّمت تعهدات سرعان ما نكثتها. ولعلّ أحد أبرز المخاوف الآن هو أن تكون هذه الهدنة المزمعة مجرد "استراحة محارب"، تُعاد خلالها هيكلة الجيش الإسرائيلي، وتُمنح فيها فرصة لالتقاط الأنفاس، ثم تستأنف الإبادة من جديد تحت ذرائع متجددة.
الرأي العام العالمي بدأ يتغيّر. الضغوط تتصاعد، وملف المجاعة في غزة لم يعد يمكن التستر عليه. ومع ذلك، لا يبدو أن المجتمع الدولي قد بلغ بعد عتبة التأثير الحقيقي. الأمم المتحدة محاصرة بالصمت، والدول الكبرى مربكة، والوساطات الإقليمية تسير على حبال دقيقة. وهنا تعود أهمية الصوت الفلسطيني الموحد، القادر على تحويل أي فرصة تفاوض إلى معركة إنقاذ، لا إلى محطة استسلام.
ليس أمام غزة ترف الانتظار، ولا رفاهية القبول باتفاقات مبهمة. إن ما يجري على الأرض هو الإبادة نفسها، سواء تم وقف القصف أم لا. والجوع، حين يُستخدم كسلاح، لا يقل فتكًا عن الصواريخ. ولذلك، فإن أي اتفاق لا يتضمن فتحًا فوريًا للمعابر، وضمان تدفق المساعدات، وإطلاقًا حقيقيًا للأسرى، يبقى اتفاقًا منقوصًا، قد يحمل الموت بشكل آخر.
ختامًا، فإن مآل المشهد لا يُقاس بعدد الأيام أو بنبرة التصريحات، بل بقدرة الفلسطينيين على فرض أولوياتهم من خلال صمودهم وإدارتهم الواعية للمعركة السياسية. ومن الواضح أن حماس، هذه المرة، لا تفاوض من موقع ضعف، بل من موقع "إدارة الضعف"، وهي قدرة لا تفهمها إسرائيل جيدًا، لكنها تكتشف يومًا بعد يوم أنها أقوى من دباباتها.
ترامب وغزة: بين مباحثات البيت الأبيض ودماء النازحين
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
1 يوليو/تموز 2025
حين يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن موعد لقاءه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بينما لا تزال الجثث تنتشل من خيام النازحين في قطاع غزة، فذلك ليس مجرد حدث سياسي، بل مفارقة دامغة في قلب مشهد دموي يزداد تعقيدًا كل ساعة.
المحادثات المرتقبة في البيت الأبيض جاءت وسط ضغوط متصاعدة على الإدارة الأميركية، سواء من المؤسسات الحقوقية الدولية أو من أصوات أميركية داخل الكونغرس بدأت تتساءل عن حجم الدعم غير المشروط الذي تقدمه واشنطن لإسرائيل، رغم المشاهد التي تجاوزت حدود الإنسانية في غزة. في المقابل، تبدو إسرائيل، وعلى رأسها نتنياهو، ماضية في خيارها العسكري حتى آخر نفس، مستندة إلى تفويض سياسي غير مشروط، ومزايدات داخلية تسابق فيها أطراف الحكم لإثبات من الأكثر قدرة على سحق "العدو".
الميدان لا ينتظر المباحثات. فالمجازر اليومية في رفح وخان يونس وغزة المدينة تتحدث عن واقع آخر لا يمكن إيقافه ببيان أو لقاء. الأطفال يموتون جوعًا في حضن أمهاتهم، ومراكز التوزيع تحوّلت إلى أهداف مدفعية، ومخيمات النازحين باتت مناطق قتل مفتوح. هذا ليس نزاعًا مسلحًا فحسب، بل فصل مدوٍ من حرب إبادة مكتملة الأركان.
لكن اللافت في خطاب ترامب ليس مجرّد التوقيت، بل مضمون الرسالة السياسية: "نسعى لاستعادة المحتجزين الأميركيين"، هكذا قال. لم يبدأ بوقف الحرب، أو الحماية الإنسانية، أو فتح المعابر، بل انطلق من أولويات أميركية خالصة. هنا، تتجلى الحقيقة بوضوح: واشنطن لا تزال تنظر إلى ما يجري في غزة من زاوية أمنها الداخلي، وملفاتها الانتخابية، لا من زاوية المسؤولية الأخلاقية أو الشراكة القانونية التي تربطها بالقانون الدولي.
نتنياهو، بدوره، لا يُبدي حماسة لأي اتفاق إلا إن كان مشروطًا بتدمير حماس تمامًا، وهو هدف لم يتحقق رغم مرور ما يزيد على 260 يومًا من الحرب. بل إن حركة المقاومة ما زالت قادرة على تنفيذ الكمائن، وضرب الآليات، وإرباك القوات المتوغلة في عمق القطاع، بل واستنزافها في معارك لا تُحسم بالضربات الجوية أو القصف المدفعي. ومن هنا فإن موقف نتنياهو ليس فقط محاولة لربط مستقبل التسوية بـ"النصر التام"، بل هو تعبير عن أزمة داخلية يواجهها الرجل في ظل اتهامات بالفساد، وتراجع ثقة شعبية، وتحالف حكومي هش يقف على شفير السقوط.
الأزمة الإنسانية المتفاقمة تُعد في حد ذاتها سلاح ضغط بالغ الخطورة. فانتشار مرض التهاب السحايا، وتزايد حالات سوء التغذية، وتحذيرات الأونروا من أن غزة تُباد جوعًا، كلها تعكس أن معادلة الحرب تجاوزت الأهداف العسكرية إلى سياسة العقاب الجماعي. حتى المشهد السياسي لم يعد منفصلًا عن جثث الأطفال ولا عن خيام النازحين، بل أصبح رهينة لها.
في هذا السياق، تبرز تساؤلات محورية: هل تملك واشنطن أوراق ضغط حقيقية على تل أبيب؟ وهل تفضي المحادثات إلى وقف إطلاق نار، أم إلى إعادة تموضع سياسي يخدم الحملات الانتخابية في أميركا وإسرائيل؟ ثم ما موقف الحركات الفلسطينية من أي اتفاق لا يضمن وقفًا شاملاً ونهائيًا للعدوان ورفعًا كاملًا للحصار؟
ما يجري في غزة اليوم لم يعد مجرد أزمة فلسطينية–إسرائيلية. إنه اختبار صارخ لمنظومة القانون الدولي، ولصدقية القوى الكبرى، ولمدى جدية المجتمع الدولي في حماية المدنيين. فحين يصبح الأطفال مشاريع موت، وتُحوَّل المستشفيات إلى مقابر صامتة، ويُستخدم الغذاء كوسيلة قهر، فإن الصمت يُصبح تواطؤًا، والمواقف المترددة تتحول إلى جزء من الجريمة.
البيت الأبيض يعرف تمامًا أن الاستمرار في دعم الحرب دون أفق سياسي، سيُعمّق الكراهية تجاه السياسة الأميركية في المنطقة، وسيقوّض أي محاولة لعودة النفوذ الأميركي إلى موقع الوسيط النزيه. وما لم يكن هناك تغيير جذري في المنهج، فإن كل مباحثات ترامب القادمة ستكون مجرد محاولة لترميم صورة شاحبة لإدارة تقف على الجانب الخطأ من التاريخ.
إن المأساة في غزة تتجاوز لغة البيانات والمواقف المتوازنة. إنها لحظة الحقيقة: إما وقف شامل للعدوان، أو انزلاق نحو مجازر أعمق، وصدامات إقليمية محتملة قد تفجر المنطقة كلها.
ترامب ونتنياهو: دبلوماسية الأسرى بين واقعية القوة وخداع التسوية
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
1 يوليو/تموز 2025
تأتي زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن في لحظة حساسة دوليًا وإقليميًا، حيث يلتقي برئيس أقرب حلفائه، دونالد ترامب، في مشهد يعيد رسم حدود “النفوذ الإسرائيلي في القرار الأميركي”، ويكشف كيف توظّف تل أبيب أدوات القوة والابتزاز السياسي داخل لعبة دولية تحكمها معادلات النفوذ والمصلحة لا القيم والشرعية.
بالنظر من زاوية العلاقات الدولية، تُظهر تحركات نتنياهو وترامب استخدامًا مفرطًا لأدوات القوة الصلبة: الحرب، الضربات الاستباقية، والابتزاز العسكري في غزة وإيران. كما تكشف التصريحات الأخيرة عن سعي واشنطن لتسوية ملف غزة ضمن ما يمكن وصفه بـ”الدبلوماسية الأداتية”، حيث تُطرح صفقات مشروطة لا تستند إلى عدالة إنسانية بل إلى معادلة “الفوز الاستراتيجي” للطرف الأقوى.
لكن هذه الاستراتيجية تصطدم بواقع جديد: الفشل في كسر المقاومة الفلسطينية، وتحوّل إيران إلى فاعل إقليمي يُمارس ردعًا متبادلًا ضد كل من إسرائيل وأميركا. فالحرب الأخيرة أثبتت حدود القوة، وبيّنت هشاشة التصور الإسرائيلي للهيمنة العسكرية السريعة.
أما ترامب، فخطابه الأخير حول “استعادة الأسرى” و”النجاح المذهل في إيران”، يكشف سعيًا لصناعة نصر سياسي يُسوّقه في الداخل الأميركي، متكئًا على فكر الواقعية النفعية، حيث لا وجود لحلول عادلة، بل تفاهمات تبقي واشنطن في موقع الطرف الفاعل في كل جبهة، سواء كوسيط أو كصانع للحرب.
من جانب آخر، يُعيد تمسك نتنياهو بشروط مثل “نزع سلاح المقاومة” و”الاحتلال الكامل لغزة” تكرار منطق القوة التدميرية كأداة دبلوماسية، في تجاوز تام لمبادئ القانون الدولي. وهو ما يُفقد أي عملية تفاوضية بعدها الأخلاقي، ويدفع المقاومة والفواعل الإقليمية نحو مزيد من التصعيد أو خيارات عسكرية أكثر حسمًا.
في المقابل، فإن عرض “حماس” بإطلاق الأسرى دفعة واحدة مقابل إنهاء الحرب، يدخل ضمن ما يمكن تسميته دبلوماسية الحصار المضاد، أي استخدام الورقة الإنسانية لإجبار الاحتلال على التراجع سياسياً، وهو ما يضع اللاعبين الدوليين أمام اختبار أخلاقي وقانوني لا يمكن تجاهله.
ختامًا، لا يبدو أن لقاء واشنطن القادم سيُنتج اختراقًا استراتيجيًا حقيقيًا، ما دامت الأطراف تتعامل مع الحرب في غزة كـ”ملف تفاوضي قابل للتفكيك”، وليس كقضية سياسية وأخلاقية شاملة. وفي ظل افتقاد المبادرة الأميركية لأي تصوّر يعترف بالمقاومة كفاعل شرعي، فإن “صفقة الأسرى” قد تبقى معلّقة بين منطق القوة ومأزق الشرعية الدولية.
حين يتحوّل الجغرافيا إلى قرار: أردوغان وطريق التنمية
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
السبت 28 يونيو/حزيران 2025
ليس الطريق ما يُعبّد بالإسفلت والسكك وحدها، بل ما يُعبّد بالرؤية والإرادة. حين وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام منتدى "ممرات النقل العالمية" في إسطنبول، لم يكن يفتتح مؤتمرًا عابرًا، بل كان يضع لبنة في معمار جديد للتاريخ، حيث تتحوّل الجغرافيا من قدر صامت إلى قرار ناطق، ومن موقع ساكن إلى فعل اقتصادي واستراتيجي يتحرك بوعي ودهاء.
في عالم يعاد فيه تشكيل مسارات التجارة والإمداد، لم يعد البقاء للأقوى فقط، بل للأكثر ذكاء في إدارة موقعه. تركيا، بما تملكه من موقع نادر بين ثلاث قارات، لم تعد تقبل أن تكون مجرد ممر لما يقرّره الآخرون، بل تصوغ الآن طرقها الخاصة، بمبادرات تمضي على الأرض، لا على الورق.
مشروع "طريق التنمية"، الذي يمتد من البصرة إلى الموانئ التركية، يهدف إلى نقل البضائع من الخليج إلى أوروبا خلال فترة قصيرة عبر سكك حديد وطرق سريعة. لكن الحكاية أكبر من ذلك بكثير. فالمشروع ليس مجرد حاويات تنتقل من الجنوب إلى الشمال، بل تحوّل استراتيجي يجعل من العراق نقطة انطلاق، وتركيا نقطة وصل، وأوروبا نقطة استقبال. وبين هذه النقاط، تُبنى مصالح، وتُعاد توازنات.
أردوغان، الذي وصف المشروع بأنه سيحوّل الإمكانات الجيوسياسية إلى ميزة اقتصادية، بدا وكأنه يعلن نهاية مرحلة كانت فيها الجغرافيا عبئًا على أصحابها، وبداية زمن تكون فيه الجغرافيا أحد مصادر الدخل القومي والنفوذ الإقليمي.
الأرقام التي كشف عنها الرئيس التركي ليست للتباهي فقط، بل لإثبات جدية الرؤية. 300 مليار دولار استثمرتها تركيا في البنية التحتية للنقل والاتصالات خلال 22 عامًا، من بينها 177 مليارًا للطرق و64 مليارًا للسكك و25 مليارًا للطيران. هذه ليست نفقات، بل أدوات سيطرة ناعمة في العالم الجديد.
ورغم أن الحرب الروسية – الأوكرانية أعادت الاعتبار للممر الشمالي عبر روسيا، فإن العقوبات والأزمات جعلت البدائل ضرورة، لا رفاهية. من هنا برز "الممر الأوسط" الذي يربط الصين بأوروبا عبر تركيا، مرورًا بالقوقاز وبحر قزوين، كخيار أكثر استقرارًا ومرونة. وقد حرص أردوغان على ربط مشروع "طريق التنمية" العراقي بهذا الممر، في محاولة لتشكيل شبكة واحدة متعددة المسارات لكنها موحّدة الغاية: إعادة مركز الجاذبية الاقتصادي إلى محيط تركيا.
أهمية المشروع لا تقتصر على تركيا وحدها، فالعراق يقف اليوم أمام فرصة تاريخية نادرة ليصبح لاعبًا حقيقيًا في خطوط الإمداد العالمية، بعدما ظل لعقود مجرد ساحة للتصدير والاستيراد المفروض عليه من الخارج. وبإرادة تنموية حقيقية، يمكن أن يتحول العراق من نقطة عبور إلى نقطة إنتاج وربط، بما ينعكس على أمنه واستقراره واقتصاده.
كما أن الخليج العربي، الذي ظل يعتمد على الممر البحري عبر مضيق هرمز، يجد في هذا المشروع متنفسًا جديدًا للتخفيف من المخاطر الجيوسياسية التي تهدد هذا المعبر الحيوي. وليس من قبيل المصادفة أن تزامن إطلاق المنتدى مع تصاعد التوترات في هرمز والمجال الجوي الإقليمي، وكأنها رسالة تقول: البديل ممكن، وتركيا مستعدة.
لكن في المقابل، لا يخلو المشروع من تحديات. فالمسار يمر عبر أراضٍ ما تزال هشة سياسيًا وأمنيًا، خصوصًا في العراق. ولذلك فإن نجاح "طريق التنمية" مرهون بإرادة سياسية عراقية قوية ومستقرة، وبضمانات إقليمية ودولية تؤمّن خطوطه وتمنع تسييسه أو تخريبه.
ثمّة من يراهن على فشل المشروع أو تعثره، مستندًا إلى تجارب سابقة توقفت على أبواب الواقع، لكن ما يميّز هذه المرحلة هو التقاء المصالح: تركيا بحاجة إلى تعزيز مركزها في التجارة العالمية، والعراق بحاجة إلى بنية تحتية جديدة تعيد بناء اقتصاده، والخليج بحاجة إلى خط بديل للممرات البحرية، وأوروبا تبحث عن خطوط إمداد مستقرة ومستقلة عن الاضطرابات.
في المحصّلة، المشروع ليس مجرّد سكة حديد أو شاحنات، بل مشروع سيادي واقتصادي واستراتيجي في آن. هو إعادة هندسة للتجارة والسياسة معًا. وهو، قبل ذلك وبعده، تعبير عن التحوّل العميق في عقل الدولة التركية، التي لم تعد تكتفي بالحديث عن الماضي الإمبراطوري، بل تريد أن ترسم حاضرًا واقعيًا من موقع الفاعل لا المنفعل.
خاتمة تمهّد للتحليل الاستراتيجي:
في مشهد يعج بالممرات والمبادرات، يظهر "طريق التنمية" كمشروع يُعيد تعريف الدور التركي والعراقي في المنطقة. لكنه أيضًا يُخفي خلفه صراعًا خفيًا بين طرق ومصالح وتحالفات. ومن هنا، تبدأ الحاجة إلى قراءة أعمق لأبعاد هذا المشروع، ليس فقط كخط تجاري، بل كخط نفوذ استراتيجي في قلب العالم القديم.
غزة تموت جوعًا… والعالم يتثاءب
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
السبت 28 يونيو/حزيران 2025
ليست المجاعة في غزة هذه المرة مجرّد أزمة إنسانية عابرة، ولا ناتجة عن كارثة طبيعية أو تقاعس إداري، بل هي مجزرة بطيئة تُرتكب مع سبق الإصرار والترصّد. الطفل الفلسطيني اليوم لا يموت من الجوع لأن أهله فقراء أو لأن البيئة قاسية، بل لأنه وُلد على أرضٍ محاصَرة، في زمنٍ انكسرت فيه المعايير، وسقطت فيه كل الشعارات الإنسانية.
منذ مئة وثلاثة أيام، يتعرض قطاع غزة لحرب شاملة تقودها إسرائيل، تشمل كل أنواع الموت: القصف، والتهجير، والتجويع، والتدمير، وحتى الموت من الانتظار على بوابة المعبر المغلق. لكن مجازر القنابل ليست وحدها ما يصنع الصورة الأكثر إيلامًا؛ هناك مأساة صامتة تجري في مراكز التغذية والمستشفيات: أجساد هزيلة لأطفال تُحتضَر بين أذرع أمهاتهم دون أن تجد حليبًا أو دواءً أو حتى فتاتًا من تعاطف.
الطفلة "جوري المصري"، التي لم تُكمل شهرها الرابع، لفظت أنفاسها الأخيرة بسبب سوء تغذية حاد، في وقت لم يُسمح فيه بدخول الحليب العلاجي إلى غزة. مثلها 65 طفلًا آخرين، أُدرجت أسماؤهم في قوائم الشهداء، لا لأنهم كانوا على جبهة المواجهة، بل لأنهم لم يجدوا ما يسدّ الرمق في أرضٍ خُنقت من كل الجهات.
المدير العام لوزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، اختصر المأساة حين قال: "الاحتلال يتلذذ بقتل الأطفال جوعًا". قد تكون العبارة صادمة في ظاهرها، لكنها تعبّر بدقة عن الواقع. إذ لا تفسير قانونيًا ولا أخلاقيًا لحصار محكم يمنع إدخال الغذاء والدواء، بينما يُسمح للطائرات الحربية أن تحلّق، وللقذائف أن تسقط، وللأجساد أن تُنتشل متفحمة أو متفسخة أو جائعة.
تقارير "برنامج الغذاء العالمي" تؤكد أن أكثر من 1.2 مليون إنسان في غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، من بينهم 785 ألف طفل. هذه ليست أرقامًا باردة على ورق الأمم المتحدة، بل كتل من اللحم الحي تمشي في الشوارع، تبحث عن وجبة، عن جرعة ماء، عن سقف لا يُقصف.
ووسط هذه اللوحة القاتمة، لا يُسمع صوتٌ من الضمير العالمي. المنظمات الدولية تكتفي بإصدار بيانات "القلق العميق"، وكأنها تُنجز مهمتها في إحصاء القتلى وقياس حرارة الدم المراق. أما الأنظمة العربية، فمشغولة في ترتيب المشهد الإقليمي الجديد، أو تقديم أوراق اعتمادها لحلفاء اليوم والغد، فلا نجد من يطالب بإدخال مساعدات بشكل قاطع، أو يهدد بقطع العلاقات، أو يحرّك المرافعات في المحاكم الدولية.
والأدهى من ذلك أن إسرائيل، وهي تدّعي أنها تحارب "الإرهاب"، تنفذ سياسة متكاملة لتجويع غزة، وتدمير بناها التحتية، وتصفية مستقبلها، وكأنها تريد القضاء لا على المقاومة فحسب، بل على البيئة التي قد تُنتج مقاومين مستقبلًا.
ردود المقاومة على هذا المشهد لم تأتِ عبثية. كمين كتائب القسام الذي استهدف أربع حفارات هندسية إسرائيلية في خان يونس، وقصف سرايا القدس لتجمعات الجنود شرق الشجاعية، هو تعبير عن معادلة جديدة: إذا كانت إسرائيل تراهن على إنهاك القطاع وتحقيق نصر ببطء، فإن المقاومة تراهن على استنزاف جيشها وتعطيل تقدّمه بكمائن وتفجيرات وحرائق غير متوقعة.
شهادات ذوي الجنود الإسرائيليين تكشف بدورها عن إرهاق داخلي، وتململ في الجبهة، وعصيان في بعض الوحدات. أمّ ضابط إسرائيلي قالت في مقابلة لقناة عبرية: "ابني شارك في عشرات الجنائز، وشاهد أشلاء أصدقائه، ولم يعد يحتمل". هذا النوع من الشهادات لا يُروى عادة في زمن النصر، بل في زمن الاستنزاف الطويل.
وفي المحصلة، المشهد اليوم لا يُقاس فقط بعدد الشهداء أو الجنود القتلى، بل بحالة "التآكل" المتبادل: غزة تنزف، لكنها تلد مقاومةً أشدّ. إسرائيل تضرب، لكنها تتلقى الضربات وتخسر صورتها ومعنوياتها. والمجتمع الدولي يواصل دور المتفرّج، بينما أطفال غزة يموتون أمام كاميرات الشهود.
لا أحد يدّعي أن إنهاء المجاعة سيتحقق بضغطة زر أو صرخة غضب. لكن الحد الأدنى من الشرف يفرض قول الحقيقة: ما يجري في غزة ليس حربًا فقط، بل هو إبادة مركّبة، تارة بالصواريخ، وطورًا بمنع الحليب، ومراتٍ بالخذلان.
فهل آن الأوان ليُقال ما يجب أن يُقال؟ وهل آن الأوان ليُفهم أن الصمت تواطؤ؟ وأن الجوع، حين يتحول إلى سلاح، لا يقلّ فتكًا عن المدفعية؟
وإذا كان هذا العالم لا يتّسع لحليب الطفلة جوري، فهل يستحق أن تُغفر له كل جرائمه بحقها؟ أم أننا صرنا نعيش على كوكب لا يقبل النجاة إلا لمن يملك الصاروخ أو يتحكم بالمعبر أو يكتب التاريخ بمنظوره وحده؟
غزة لا تموت فقط… بل تُترَك لتُمحى، حجرًا وبشرًا، في زمن يُتاجر فيه الجميع بكل شيء، إلا بالإنسان.
مجازر القمح والدم... عندما يُذبح الفلسطيني على أبواب الخبز
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الثلاثاء، 24 يونيو/حزيران 2025
ليست حربًا فقط تلك التي تُشنّ على غزة. إنها محو منهجي لشعب يُراد له أن يجوع، ثم يُدان لأنه صرخ. ما شهدناه فجر الثلاثاء 24 يونيو/حزيران 2025، ليس مجرد قصف، بل جريمة مكتملة الأركان ضد من كانوا ينتظرون كسرة خبز على أبواب مراكز توزيع المساعدات. سبعة وخمسون فلسطينيًا استشهدوا في لحظة، لأنهم انتظروا سلة غذاء، وليس صاروخًا موجّهًا. هل تبقّى في لغة الإنسانية كلمات تصف هذا الانحدار؟ أم أن العالم قرّر أن يعتاد موت الفلسطينيين كما يعتاد على الأخبار الصباحية الباردة؟
كلما ظن الاحتلال أنه يُخضع غزة، انفجرت الحقيقة في وجهه: لا يموت المقهورون بلا صوت. وحتى وهم يرحلون شهداء، يتركون خلفهم أثرًا لا يُمحى. ففي الوقت الذي تسقط فيه القنابل على الشجاعية وخان يونس، كان الفلسطينيون يفترشون الأرض بحثًا عن كيس طحين. جريمة مزدوجة تُرتكب هنا: جريمة القتل، وجريمة السُخرية من الجوع. كيف يُقصف الناس عند خطوط المساعدات؟ بأي مبرر أخلاقي أو قانوني تُقصف خيمة يقف عندها طفل يمد يده بحثًا عن بسكويت؟
لا يمكن فصل الحدث عن السياق الأوسع. فكل تطور على الأرض يصبّ في خانة واحدة: سحق الإرادة الفلسطينية. لكن يبدو أن القصف الأعمى قد أنتج نتائج عكسية. المقاومة في غزة لم تنكسر، بل تطورت. ما نُفّذ اليوم من كمائن في خان يونس يدلّ على نقلة نوعية في قدرة التخطيط والتنفيذ. لم يكن الكمين الذي استهدف جنود الاحتلال فعلاً فوضويًا. بل كان حصادًا لشهور من العمل الصامت تحت النار. والرسالة التي وصلت للجيش الإسرائيلي واضحة: "أنتم تخوضون حربًا لم تعودوا تفهمون تضاريسها".
كل عملية توغل يقابلها رد أكثر حدة. وكل مجزرة تفتح بابًا أمام تصعيد أكثر شراسة. لا لشيء، إلا لأن الفلسطيني بات محاصرًا بين خيارين: إمّا الموت بصمت، أو الرد بما تبقى من الروح. وفي ظل غياب المسارات السياسية، وانهيار كل خطوط الوساطة، فإن خيارات المقاومة لم تعد ترفًا، بل ضرورة.
المفارقة أن إسرائيل تبدو في هذه المرحلة عارية من أي غطاء دولي حقيقي. الدعم السياسي الغربي يتراجع تدريجيًا، حتى وإن لم يُعلن ذلك صراحة. التصريحات الأميركية باتت أكثر توترًا، والبرود الأوروبي تجاه التصعيد لا يخفي حقيقة الشعور بالعجز أو الحرج. ولعل ذلك يفسّر كثافة النشاط الأممي أخيرًا لعقد جلسات طارئة، لكنها بلا أثر يُذكر. وكأن العالم يريد أن يقول لغزة: "نحن نرى، لكن لا نملك أن نفعل".
وفي المقابل، فإن الأداء الإعلامي العربي ما زال دون مستوى اللحظة. غزة لا تحتاج إلى خطابات إنشائية، بل إلى عدسات تكشف وجوه الضحايا، إلى تقارير تقرأ العمق الإنساني خلف كل جثة، وإلى أقلام لا تخجل من قول الحقيقة، حتى لو أزعجت حلفاء المال والسلطة. وفي هذه اللحظة بالذات، فإن من يتردد في الانحياز إلى الحقيقة، إنما يشارك – بوعي أو بغير وعي – في الجريمة الجارية.
الدم الفلسطيني أصبح، للأسف، بندًا عاديًا في نشرات الأخبار. والمصيبة الأكبر أن عدّاد القتلى لا يُحدث صدمة كما كان من قبل. كأنما هناك عملية ممنهجة لتفريغ الحدث من معناه. لكن الحقيقة أقوى من التخدير الإعلامي. ودماء الأطفال الذين سقطوا اليوم على أبواب المساعدات ليست مجرد أرقام. إنها شواهد دامغة على أن هذه الحرب تخوضها إسرائيل باسم الخبز، لا فقط باسم الصواريخ.
وهنا يجب أن نطرح السؤال الصعب: إلى أين تتجه المعركة؟ ومتى يتوقف العالم عن التواطؤ بالصمت؟ وهل ما زال هناك هامش لتحركٍ يعيد الاعتبار للفلسطيني ككائن بشري؟ أم أن الزمن قرر أن يصطف ضد غزة في لحظة احتاجت فيها إلى أكثر الأصدقاء صدقًا؟
ختامًا، فإن هذا المقال لا يهدف إلى اجترار الألم، بل إلى الإشارة إلى لحظة فارقة: نحن أمام معركة تُدار بالمجاعات والطائرات معًا. وهذه معركة لن تُحسم عسكريًا فحسب، بل بحاجة إلى كسر الحصار الأخلاقي الذي ضرب حول الفلسطينيين من قِبل المتفرجين. وإذا كانت المقاومة قد واجهت النيران بالنيران، فإن على الضمير العربي أن يواجه الصمت بالكلمة الحرة.
تركيا بين نيران تل أبيب وطهران: هل تستطيع أنقرة تثبيت موقعها كوسيط؟
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الجمعة 21 يونيو/حزيران 2025
بعد أقل من أسبوع على اندلاع المواجهة المباشرة الأعنف بين إسرائيل وإيران، اختارت تركيا لغةً دبلوماسية مزدوجة: حازمة تجاه تل أبيب، وتحذيرية تجاه طهران، ومُطمئِنة أمام المجتمع الدولي. الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي وجّه انتقادات شديدة للهجوم الإسرائيلي، وصفه بأنه تهديد إقليمي وأوروبي، لا سيما في حال وقوع تسرب نووي أو انزلاق نحو موجات هجرة كبرى. لكن هل يمكن لتركيا أن تلعب فعلًا دور الوسيط النزيه في صراع تتشابك فيه حسابات العقيدة، الجغرافيا، والسلاح النووي؟
منذ عام 2021، سعت تركيا إلى إعادة ضبط علاقاتها الخارجية بعد سنوات من التوتر الإقليمي، خاصة مع الدول العربية وإسرائيل. التطبيع الأخير مع تل أبيب لم يكن تحالفًا بل "هدنة سياسية" تتيح لقنوات الاتصال العمل في اللحظات الحرجة. ومع تصاعد التهديد النووي الإيراني، ترى أنقرة نفسها – من جديد – في موقع يسمح لها بوساطة محورية؛ لكنها تدرك أيضًا أن النجاح في هذا الدور يتطلب أن تبقى خارج محورَي التصعيد: الأمريكي–الإسرائيلي من جهة، والإيراني–الروسي من جهة أخرى.
التصريحات التي خرجت من الرئاسة التركية مؤخرًا تنذر بتغير تدريجي في خطاب أنقرة، الذي بات أكثر وضوحًا في تحميل إسرائيل مسؤولية جر المنطقة نحو مواجهة مفتوحة. لكن اللافت أن أردوغان لم يغلق الباب أمام طهران أيضًا، بل طالبها بضبط النفس والعودة إلى المفاوضات. وهذا الموقف المتوازن يبدو مدروسًا بدقة، خاصة أن تركيا لا ترغب في أن تصبح جزءًا من مسرح العمليات العسكرية، ولا أن تُصنَّف على أنها منحازة لطرف على حساب آخر.
لكن التحدي الأكبر أمام الدور التركي يكمن في "تآكل الثقة" لدى الأطراف. فإسرائيل، التي ترى في أنقرة شريكًا انتقائيًا، قد لا تقبل وساطتها إن شعرت أن أنقرة تميل ضمنيًا إلى إيران. في المقابل، طهران التي تعتبر تركيا بوابة لحلف الناتو في المنطقة، تشكّك بقدرتها على حفظ أسرار التفاوض أو حتى الضغط على تل أبيب. وهذا ما يجعل الوساطة التركية، إن تمت، محفوفة بشكوك الطرفين.
رغم ذلك، تملك أنقرة عدة أوراق قوة. أهمها موقعها الجغرافي الذي يسمح لها بتأمين خطوط تواصل لوجستية ومخابراتية، وصلاتها المتعددة مع كلٍّ من واشنطن وموسكو. كما أن العلاقات التجارية مع إيران، واتفاقيات الدفاع غير المباشرة مع إسرائيل، تعطيها هامش مناورة لا تملكه دول أخرى في المنطقة. لكنها تحتاج إلى دعم أوروبي واضح، خصوصًا من برلين وباريس، لتكريس دورها كـ"ضامن تهدئة" وليس فقط ناقل رسائل.
رؤية خاصة:
في لحظة اشتعال شرق أوسطية بهذا الحجم، تحتاج المنطقة إلى وساطة لا تتحدث بلغة السلاح. وتركيا، رغم التحديات، تبدو الأكثر تأهيلاً للقيام بهذا الدور. لكنها إن أرادت النجاح، فعليها أن تتخلى عن حسابات الاستعراض السياسي، وأن تستثمر ثقلها الدبلوماسي في بناء مسار تفاوضي يُقنع إيران بعدم التهور، ويمنح إسرائيل ضمانات أمنية غير عسكرية. بين "الأسد الصاعد" الإسرائيلي و"الرد الموجّه" الإيراني، ربما تكون أنقرة هي من تملك صوت العقل الأخير.
تحالف الضرورة: إيران وروسيا والصين بين شهوة الانتصار وواقع المصالح
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
الخميس 19 يونيو/حزيران 2025
لم تكن طهران يومًا بعيدة عن الاصطفافات التكتيكية، لكنها اليوم، في خضم صراعها المتصاعد مع إسرائيل والغرب، تبدو وكأنها علّقت مصيرها بشراكة ثلاثية مع موسكو وبكين، شراكة تفيض بالخطابات الكبرى وتفتقر إلى الأمان الحقيقي. العلاقة التي تجمع إيران بكل من روسيا والصين لا تملك جذرًا حضاريًا، ولا ترتكز على منظومة قيم مشتركة، بل تنبع أساسًا من ضرورات آنية، وخيارات اضطرارية تمليها ظروف العزلة والعقوبات.
منذ أن قررت الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، وجدت إيران نفسها في دوامة من العقوبات الخانقة. وبدلًا من مراجعة خطابها الداخلي والخارجي، اختارت الاحتماء بما بدا في البداية كجبهة مقاومة جديدة. روسيا تخوض معركتها الأوكرانية وتبحث عن داعمين، والصين تمضي نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وتحذر من التمدد الأميركي على حدودها. في هذا السياق، بدت إيران فرصة ثمينة، إن لم تكن شريكًا كاملًا، فهي ورقة ضغط دائمة الاشتعال في وجه واشنطن.
لكن الوقائع لا تنسجم دائمًا مع الشعارات. روسيا لم تُرسل منظومة دفاعية متطورة إلى إيران، رغم تصاعد التهديدات الإسرائيلية. الصين لم تُدِن بوضوح الغارات الأخيرة على منشآت عسكرية إيرانية. والأهم من ذلك أن طهران، في لحظات المواجهة الحرجة، تكتشف أن شركاءها يتعاملون معها كوظيفة سياسية لا كحليف له حقوق والتزامات. إنها أداة في يد موسكو لتحويل الأنظار عن كييف، وحاجز جغرافي في منظور بكين يحمي مشاريع الحزام والطريق من التقلبات الجيوسياسية.
الخطورة لا تكمن في محدودية الدعم، بل في الرسالة الضمنية: لا أحد مستعد للتورط من أجل طهران. موسكو، التي تصارع على جبهتها الغربية، ليست في وضع يسمح لها بالمخاطرة بجبهة إضافية مع تل أبيب أو واشنطن. أما بكين، فإنها وإن اعتمدت على النفط الإيراني، فهي أكثر حرصًا على تجنّب أي خلل في علاقتها مع السعودية والخليج، حيث المصالح الفعلية والاستثمارات الضخمة. النتيجة أن إيران تبقى عالقة بين شهوة الاصطفاف ضد الغرب، وواقع التوظيف الذي يجعلها دائمًا على حافة الهاوية.
لا تخفي الأرقام خلل هذه العلاقة. التبادل التجاري مع الصين يتم بشروط بكين وبعملتها، في ظل تراجع كامل للقدرة التفاوضية الإيرانية. وروسيا، التي كانت حتى وقت قريب شريكًا في الملف السوري، تحوّلت إلى منافس صامت في كل ميدان يتقاطع فيه النفوذ. حتى مبادرة الحزام والطريق، التي تعلق عليها طهران آمالًا كبرى، تحوّلت إلى مصدر قلق، إذ تخشى بكين من أن تؤدي المواجهات العسكرية إلى تقويض استثماراتها وشبكاتها اللوجستية.
في ظل هذا الواقع، تتولد في طهران أسئلة لم تكن تُطرح علنًا. ماذا يعني أن تبقى وحيدًا في مواجهة تل أبيب، فيما شركاؤك الثلاثة يكتفون بالصمت أو البيانات المكررة؟ هل يُعقل أن تستمر إيران في تقديم نفسها كجزء من محور مقاومة، فيما هذا المحور لا يضمن حتى تحليق طائرة استطلاع فوق مفاعل قُم؟ هذه الأسئلة ليست ترفًا سياسيًا، بل جوهر المرحلة المقبلة التي تُعاد فيها صياغة التحالفات وتُختبر فيها المواقف.
ثمّة ما هو أعمق من التحالفات العابرة. هناك وعي آخذ في التشكل داخل الدوائر الإيرانية بأن الشراكة مع موسكو وبكين ليست حبل نجاة طويل الأمد، بل صفقة مؤقتة تُجدد وفق الحاجة. ومع كل جولة تصعيد دون دعم عملي، يتقلص رصيد الثقة، وتتسع الهوة بين الخطاب والواقع. وإذا ما استمرت العزلة الإقليمية وتراجعت قدرة الردع، فقد تضطر إيران إلى إعادة ترتيب أوراقها، إما عبر فتح قنوات تفاوضية مع الغرب، أو بمحاولة بناء محاور إقليمية بديلة تقل فيها الفجوة بين المصلحة والتضحية.
هكذا، تصبح معركة طهران ليست فقط مع إسرائيل أو واشنطن، بل مع ذاتها أيضًا. مع خطابها الذي لا يعترف بالمحدودية، ومع تحالفاتها التي لم تُختبر يومًا على المحك الحقيقي. لن يكون سقوط إيران بالضربة القاضية، بل سيكون نزيفًا متدرجًا في الثقة والحلفاء والاستراتيجيات، ما لم يُعاد بناء السياسة الخارجية على أساس الواقعية لا الرغبة.
في لحظة مفصلية كهذه، يكون الخيار بين أن تكون إيران أداةً في يد قوى كبرى، أو أن تستعيد قرارها السيادي بقراءة دقيقة للمصالح بدلًا من الهروب إلى الأمام. فالأمم لا تُهزم دائمًا بالقصف، بل أحيانًا بالركون إلى تحالف لا يُراد له أن ينتصر أصلًا.
هل تسعى إسرائيل لاختبار سلام تاريخي مع طهران؟
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الإثنين، 16 يونيو 2025
الحرب مشتعلة. الصواريخ تتطاير. الطائرات بدون طيار تعبر الحدود. العالم يراقب. لكن خلف هذا الدخان، هناك من يسأل: هل نحن أمام مواجهة مصيرية؟ أم أمام محاولة هندسة خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط؟
الضربات الإسرائيلية الأخيرة ضد أهداف إيرانية ليست مجرد عمل عسكري. هي رسالة. والمقصود بالرسالة ليس فقط إيران. بل واشنطن. والعواصم الأوروبية. والعرب. وربما، الإيرانيين أنفسهم.
هل بدأت إسرائيل اختبار سلام مع إيران؟ سؤال صادم. لكنه مطروح. ليس لأن العلاقة قابلة للتحول الفوري، بل لأن الظروف الدولية تسمح بفتح هذا الباب نظريًا.
إسرائيل تعرف أن ضرب إيران لن يؤدي بالضرورة إلى إسقاط النظام. لكنها تعرف أيضًا أن الحرب المفتوحة تعني استنزافًا طويلًا. ما الحل إذن؟ فرض معادلة توازن رعب. ثم التفاوض على أساسها.
النموذج؟ الحرب الباردة. أميركا وروسيا. تبادل ضربات غير مباشرة. سباق تسلح. وأخيرًا، حوار ونزع فتيل.
في العقل الإسرائيلي، إيران ليست دولة مهووسة بالدمار كما يصورها الإعلام. بل نظام سياسي براغماتي، يتقن فن الصبر والصفقات. هذا النظام يمكن إخضاعه إذا شعر بخطر وجودي. ويمكن جذبه إذا ضُمنت له مكاسب إقليمية.
الرسالة الإسرائيلية إلى إيران ليست فقط: "نستطيع ضربكم"، بل أيضًا: "نستطيع أن نفتح معكم طريق تفاهم". لكن التفاهم مشروط. لا سلاح نووي. لا دعم لحزب الله. لا حرس ثوري في سوريا.
بالمقابل، ما الذي قد تحصل عليه إيران؟ الاعتراف بدورها الإقليمي. رفع تدريجي للعقوبات. وإشراكها في ترتيبات أمن الخليج.
هذه ليست أوهامًا. بل فرضيات يتداولها مراكز أبحاث غربية، وبعض صناع القرار في واشنطن. والربط واضح: لماذا تسمح واشنطن بضربات إسرائيلية محدودة؟ ولماذا تصمت روسيا؟ ولماذا تبدو أوروبا قلقة، لكنها لا تتدخل؟
لأن هناك من يختبر معادلة جديدة. حرب تكتيكية قصيرة، تعقبها لحظة سياسية كبرى. لحظة يعاد فيها تشكيل ميزان القوى.
لكن هذا السيناريو، إن تحقق، سيكون كارثة للعرب. لأنه سيُخرجهم من المشهد. ويحوّلهم إلى هامش. إلى متفرجين على تفاهمات فوق رؤوسهم.
والسؤال الأهم: ماذا سيفعل العرب حينها؟ هل يطبعون مع إيران أيضًا؟ هل يواجهونها؟ أم يعودون إلى سياسة الحياد السلبي؟
للأسف، الإجابات غير واضحة. والأنظمة العربية منقسمة. بعضها يعادي إيران بمرجعية مذهبية، لكنه لا يعادي إسرائيل. وبعضها يرفض إسرائيل إعلاميًا، لكنه يتعاون معها أمنيًا. وكلهم يفتقدون إلى مشروع عربي موحد.
لذلك، فإن السيناريو الأخطر ليس الحرب المفتوحة. بل التفاهم الخفي. تفاهم بين قوتين غير عربيتين، على حساب كل ما هو عربي.
إن إيران وإسرائيل، رغم الخطاب العدائي، يشتركان في أمر جوهري: كلاهما يريد التمدد. كلاهما يؤمن بأن الأمن يتحقق خارج الحدود. وكلاهما لا يثق بالعرب.
التفاهم المحتمل بينهما قد يكون مؤقتًا. لكنه سيكون مدمرًا. لأنه يُنهي أي أمل بقيام نظام إقليمي عادل، ويؤسس لمرحلة جديدة من التبعية.
يجب أن نفهم: التطبيع ليس فقط بين العرب وإسرائيل. بل قد يحدث بين أعداء الأمس إذا اقتضت المصالح. والعداوة ليست أبدية. ما هو أبدي فقط هو الفراغ. وإذا لم يملأه العرب، فسيملؤه غيرهم.
ولهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس: هل تسعى إسرائيل إلى سلام مع إيران؟ بل: هل نحن مستعدون لليوم الذي يحدث فيه ذلك؟ وهل نملك استراتيجية لمواجهة تحالفات لا تراعي العرب إلا كأدوات؟
التاريخ لا ينتظر. والسياسة لا تعرف الفراغ. وفي الشرق الأوسط الجديد، من لا يملك أوراقه، يُستخدم كورقة.
هل تصنع تركيا سلامًا بين روسيا وأوكرانيا؟
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الاثنين 2 حزيران/يونيو 2025
لم تعد إسطنبول مجرّد مدينة سياحية أو جسر بين قارّتين، بل باتت – في لحظة جيوسياسية حرجة – عاصمةً غير معلنة للوساطة الدولية في النزاعات المعقدة. فأن تستضيف تركيا جولة ثانية من المحادثات بين روسيا وأوكرانيا خلال أقل من شهر، يعني أن شيئًا ما يُعاد ترتيبه في ممرات الدبلوماسية الدولية، وأن أنقرة تسعى بوعي، لا بالصدفة، إلى إعادة تعريف موقعها في هندسة الأمن الأوروبي.
المثير في هذه الجولة ليس فقط انعقادها، بل التفاصيل التي كُشفت. تبادل وثائق رسمية بين وفدين على هذا المستوى ليس أمرًا عرضيًا. لم نعد أمام مجرد "لقاء استكشافي" كما يُوصف عادة، بل صرنا على مشارف مرحلة تقترب فيها الأطراف من نحت مسودة أولى لمعنى "السلام المقبول". صحيح أن المطالب ما زالت متباعدة: أوكرانيا تصرّ على وقف إطلاق نار فوري وإعادة أطفالها المرحّلين وتبادل شامل للأسرى، بينما تطالب روسيا بضمانات تتعلق بالأراضي والناتو، لكنَّ مجرد وضع هذه العناوين على الورق مؤشر لا يُستهان به.
هنا يبرز سؤال محوري: ما الذي يجعل تركيا قادرة – أو على الأقل راغبة – في لعب هذا الدور؟ الجواب يتجاوز البعد الجغرافي أو النفَس التاريخي. تركيا، ومنذ بداية الحرب، تبنّت سياسة الانفتاح مع الجميع والاصطفاف مع أحد. هي دولة عضوة في الناتو، لكنها لم تقطع خيوط الاتصال مع موسكو. صدّرت طائرات "بيرقدار" لكييف، لكنها رفضت الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا. حافظت على موازنتها الذكية حتى الآن، والآن تحاول تحويل هذه الموازنة إلى مكسب سياسي: أن تكون هي من يصوغ مرحلة الخروج من الحرب، إن وُجدت.
لكن هل تركيا وحدها قادرة؟ بالطبع لا. الجميع يعلم أن مفاتيح الحل لا تزال موزعة بين واشنطن وبروكسل وبكين وموسكو. ومع ذلك، فإن الوساطة التركية تملك ميزة لا تملكها أوروبا: الحضور الميداني، والخبرة العملياتية، والعلاقات المعقّدة لا العدائية مع الطرفين. ولذلك فإنها قد لا تحقّق السلام، لكنها بالتأكيد تملك فرصة لكسر "جمود الرهبة"، وفتح نافذة لحوار رئاسي يُعيد توزيع أوراق الحرب على طاولة السياسة.
قضية أخرى تستحق التأمل هي دعوة أوكرانيا إلى قمة تجمع زيلينسكي وبوتين، بمشاركة ترامب. لا نعرف إن كان هذا التصور واقعيًا أم مجرد ورقة ضغط تكتيكية. لكنّه، في كل الأحوال، يعكس إدراكًا أوكرانيًا بأن وقت الحروب الطويلة يوشك أن ينفد، وأنّ العالم يستعد لمرحلة "الانهاك المتبادل"، حيث يصبح السلام خيارًا اضطراريًا لا ترفًا تفاوضيًا.
ما بين المقاربات الأخلاقية والمصالح الاستراتيجية، يبدو أن الحرب الروسية–الأوكرانية تدخل مرحلة جديدة: لا هي تصعيد شامل، ولا هي نهاية وشيكة، بل مرحلة تواطؤ ضمني على "كبح الاندفاع". وهنا يظهر دور تركيا كدولة تتقن إدارة المساحات الرمادية، وتعرف متى تتدخل بصمت، ومتى تصوغ بصوت عالٍ خريطة جديدة للمنطقة.
خاتمة تمهيدية لتحليل استراتيجي:
إذا ما استمر هذا النمط من اللقاءات، فإن الحديث عن دور تركي في إعادة هيكلة التوازن الأمني في شرق أوروبا لن يكون مبالغة. بل قد نصبح أمام واقع جديد تعيد فيه أنقرة – لا بروكسل – تعريف الأمن الجماعي من خارج عباءة الحلف الأطلسي، وهو ما يستدعي دراسة استراتيجية منفصلة في ضوء التوازنات الدولية المتغيرة.
زيارة الشرع إلى الكويت: اختبار النوايا بين سوريا الجديدة والخليج المتحفظ
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الأحد 1 حزيران/يونيو 2025
ليست المسألة مجرد بروتوكول. حين يزور الرئيس السوري أحمد الشرع قصر البيان، ويُستقبل من أمير الكويت بكامل رمزية الدولة الخليجية، فإن الرسالة أوسع من بيان مشترك أو صورة دبلوماسية. إننا أمام لحظة اختبار متبادل: دولة خارجة من أكثر الحروب فتكًا في التاريخ المعاصر، ونظام خليجي يراقب بعين الحذر كل ما يتحرك على خط دمشق – الرياض – الدوحة – أنقرة.
زيارة الشرع إلى الكويت تأتي في سياق مختلف. سوريا الآن ليست سوريا الأسد، والخليج ليس الخليج الذي عرف حافظ وبشار. الأرض تغيّرت، والشرع لا يمثل نظامًا، بل مرحلة انتقالية تحاول التأسيس لشرعية جديدة نقيضة تمامًا للشرعية التي بُنيت على القمع والاستئثار. من هنا، لا يمكن قراءة الزيارة إلا بوصفها حدثًا سياسيًا عميق الدلالة، لأنها تضع الخليج لأول مرة في مواجهة حقيقة لم يعد يمكن إنكارها: النظام القديم انتهى، ومن يحكم دمشق الآن هو طرف لم يُختر في الغرف المغلقة، بل خرج من رماد المدينة نفسها.
الملف الكويتي تحديدًا حساس. فالكويت عُرفت بتوازنها، بقدرتها على حفظ المسافة من الجميع، وبتقليدها في الانفتاح على الحوار دون الوقوع في فخ الاصطفافات. ولذلك، فإن استقبالها للشرع يفتح نافذة مهمة لفهم المزاج الخليجي الجديد. ليس المطلوب هنا تأييدًا مفتوحًا، بل اعتراف بأن المعادلة تغيّرت، وأن شرعية ما بعد الأسد لا تُقاس بحجم السلاح أو لون الحلفاء، بل بقدرتها على الصمود وإعادة بناء مؤسسات الدولة.
المسار الذي يخطه الشرع منذ وصوله إلى السلطة يستند إلى منطق التهدئة، لا التحدي. هو لا يطرح نفسه كمنتصر، بل كمفاوض باسم شعب أنهكته الحرب وأرهقته التحالفات. وهذا ما يجعل تحركاته الخارجية مثقلة بالرسائل لا بالمطالب. فزيارته للكويت لا تحمل ملف شروط، بل محاولة لفتح صفحة تعاونية قائمة على فهم جديد للأمن العربي، تكون سوريا جزءًا من حلّه لا مصدرًا لقلقه.
لكن التحدي الأكبر لا يكمن في كلمات اللقاءات الرسمية، بل في ما بعد الصورة. فهل يستطيع الخليج أن يتجاوز إرثه الثقيل مع سوريا؟ هل يمكن أن تُبنى علاقات جديدة مع قيادة لم تكن يومًا من ضمن شبكات النفوذ التي اعتاد عليها اللاعبون الخليجيون؟ وهل تملك العواصم الخليجية شجاعة المراجعة دون الخضوع لمنطق الاعتذار أو الانكسار؟
الشرع من جهته يعرف أن الطريق ليس مفروشًا بالورود. يعلم أن الكويت بوابة، لا قرار نهائي، وأن المعركة الحقيقية هي في تحويل الاعتراف السياسي إلى مشاريع مشتركة، واستثمار اللحظة الإقليمية لإعادة سوريا إلى دورها الطبيعي دون توريط أو ارتداد. وهو لذلك يتحرك بدقة، يطرق الأبواب واحدًا تلو الآخر، يبني خطابًا عقلانيًا يخاطب الهواجس بدل استفزازها.
المفارقة أن بعض الأطراف الإقليمية التي كانت تصرّ على إسقاط النظام، تراجعت الآن أمام منطق المصالح، فيما تقترب أطراف أكثر تحفظًا من فكرة فتح الحوار مع السلطة الجديدة، لأن منطق الدولة – ولو منقوصًا – يبقى أكثر قابلية للبناء عليه من منطق الفوضى أو التدويل.
الزيارة تحمل في طياتها فرصة نادرة، لكنها مشروطة. شرطها الأساسي ألا تتحول سوريا الجديدة إلى مجرد وجه آخر للنظام القديم. وأن يُدرك الخليج أن الزمن لا ينتظر، وأن إعادة إنتاج الشراكات ليس ترفًا، بل ضرورة في مشهد إقليمي يموج بالتحولات. كما أن رهان الشرع على المسار العربي يجب أن يُقابل برهان خليجي على التمايز عن القوى الدولية التي ما زالت ترى في سوريا ساحة لا دولة.
خاتمة فكرية
زيارة الشرع إلى الكويت ليست اختبارًا لسوريا وحدها، بل للخليج أيضًا. فإذا كانت دمشق قد تخلّت عن رموز السقوط، فهل تتخلى العواصم الخليجية عن ثقل الذاكرة؟ التحليل الاستراتيجي القادم سيبحث في هذا المفصل: كيف يمكن لزيارة واحدة أن تعيد رسم خطوط الشرعية الجديدة في المشرق العربي، بعيدًا عن معسكرات ما قبل 2024.
حين تنهزم النخبة ويُعاد تدوير الساقطين
د. أيمن خالد – رئيس التحرير
الجمعة 30 أيار/مايو 2025
في المجتمعات التي تعاني من هشاشة سياسية عميقة، لا يكون الفساد ظاهرة عارضة، بل نظامًا متكاملًا لإنتاج السلطة وإعادة إنتاجها. في مثل هذه السياقات، السقوط السياسي لا يعني النهاية، بل يمثل مجرد استراحة تكتيكية قبل العودة. يعود الفاسدون لا لأنهم تخلّصوا من تهمهم أو صحّحوا مسارهم، بل لأن المنظومة التي أسقطتهم هي ذاتها التي تمنحهم تأشيرة العودة.
الظاهرة الأخطر هنا ليست في عودة من أسقطهم الشارع بفضائحهم وسجلّاتهم، بل في قبول الجمهور بهم مرة أخرى، وانهزام النخبة أمام هذا القبول، أو انجرارها إليه.
الانتخابات العراقية مثال صارخ. إنها لا تكشف إرادة الناس فحسب، بل تكشف طبيعة اللعبة السياسية التي تُعاد صياغتها بين كل دورة وأخرى، حيث تُموّه حدود الذاكرة الجمعية، ويُعاد إنتاج الرموز الذين أسقطتهم التجربة، باسم الديمقراطية التي صارت في ذاتها مجالًا للتلاعب.
لكن كيف يحدث ذلك؟ كيف يُعاد تدوير من لفظهم الناس، وفقدوا شرعيتهم الأخلاقية والسياسية؟ كيف يُعيد المجتمع قبولهم رغم إدراكه لحقيقتهم؟ ولماذا تصمت النخبة الثقافية أو تشارك في لعبة التبرير أو الصمت؟
الجواب يكمن في مفهوم مركزي من علم السلوك الجمعي والرأي العام، هو ما يُعرف بـ"متلازمة القطيع المعرفي " هذه المتلازمة تُفسِّر الانجرار الجماعي نحو القبول بما هو خاطئ، لمجرد أن "الكل يفعله"، أو "الكل صامت عنه"، حتى لو كان المثقفون والنخب يعلمون في أعماقهم أن ما يجري تضليل مفضوح. إنها ليست أزمة وعي، بل أزمة جرأة.
يرتكب كثير من المراقبين خطأ شائعًا حين يحمّلون الجهل الشعبي كامل المسؤولية عن إعادة إنتاج الفشل السياسي. لكن الواقع أن الجمهور، وإن كان مُستهدفًا بتضليل منظم، إلا أن النخبة هي التي تمتلك أدوات التصحيح والتوجيه، وبالتالي فإن صمتها يُعدّ خيانة وعي وليست فقط تقصيرًا وظيفيًا.
المثقف هنا لا يسقط لأنه لا يعرف، بل يسقط لأنه لا يملك الشجاعة ليكون وحده. يخشى أن يبدو غريبًا، أو يُتّهم بأنه سلبي أو خارج السرب. وهذا ما تسميه أدبيات علم الاجتماع السياسي بـ"الامتثال الواعي للخطأ"، وهي لحظة تنكّر مؤسفة للمعرفة لصالح البقاء في المجال العام.
ويعبّر عن هذه الحالة المفكر الأميركي نعوم تشومسكي في قوله:
"الديكتاتوريات الحقيقية ليست تلك التي تمنعك من الكلام، بل التي تُقنعك أن لا شيء يستحق أن يُقال."
وفي العراق، هذه القناعة هي أحد أخطر أشكال القمع الرمزي. قمع لا يأتي من سلطة قهرية، بل من ضغط قطيعي، يُجبر النخبة على الصمت، أو الانسحاب، أو في بعض الأحيان: الانخراط في تبرير المجرمين باسم "الواقعية السياسية".
الإعلام هنا يلعب الدور المركزي. لا باعتباره ناقلًا للمعلومة، بل باعتباره مُهندسًا للرأي العام. الإعلام الخاضع لرأس المال السياسي يُعيد تلميع الوجوه التي شوّهتها الحقائق، ويصوغ لهم سرديات بطولية، ويستثمر في ذاكرة الناس المنهكة. يتحوّل الفاشل إلى خبير، والفاسد إلى مظلوم، والخائن إلى واقعي.
ما كشفه تشومسكي في كتابه "صناعة الإذعان" من أن الإعلام يخلق توافقًا زائفًا يخدم مصالح السلطة، لا ينطبق على العراق فقط، بل يتجلى فيه بأبشع صوره. إذ لا يكتفي الإعلام العراقي في غالبه بالانحياز، بل يذهب أبعد من ذلك: يصنع تاريخًا جديدًا مزيفًا يعيد من خلاله تأهيل من سقطوا شعبيًا.
ثم تأتي الانتخابات، ليس كأداة للتغيير، بل كمسار لإعادة الشرعية الرمزية للمرفوضين. الفاسدون يعودون، لا عبر أصوات حقيقية، بل عبر آلة متكاملة من الإعلام، والمال، وتحييد الوعي، واستقالة النخبة. في النتيجة، يتم "تحنيط الرفض" وتقديمه على أنه موافقة شعبية.
المجتمع في هذه الحالة لا يُقمع سياسيًا فقط، بل يُخدّر نفسيًا. المواطن الذي لا يثق بالنخبة، ولا يرى نموذجًا بديلًا نقيًا، يرضخ للواقع، ويختار السيئ بدل المجهول. وهذا ما تفعله منظومة "إعادة تدوير الفشل"، حين تسلب الناس حتى القدرة على التخيّل.
هكذا نصل إلى النتيجة: لم يعد الفساد يُنتج السقوط، بل بات يُنتج دورة جديدة من النفوذ. لم يعد الخطأ يُحاسَب، بل يُعاد تسويقه. والأدهى من ذلك، أن من يُفترض بهم أن يصرخوا في وجه هذا العبث، صاروا جزءًا من صمته.
نحن أمام ما يمكن تسميته بـ"نظام الفشل المعمّم"، الذي تُشارك فيه الدولة، والنخبة، والإعلام، والجمهور المرهق. وكلما تكررت الدورة، ترسخت القناعة بأنه "لا أمل"، و"كلهم فاسدون"، و"السياسة لا تتغير"، وهي بالضبط الأرضية النفسية التي تسمح للطبقة السياسية بإعادة تقديم ذاتها مرة تلو الأخرى.
إن التحدي الحقيقي لا يكمن في إسقاط الأسماء، بل في تفكيك البنية التي تسمح بعودتهم. لا في فضح الأشخاص، بل في فضح منطق القبول بهم. ولا في مهاجمة الانتخابات، بل في كشف كيف يتم تصميم البيئة التي تجعل الفشل يبدو وكأنه خيار شعبي.
ولذلك فإن المعركة الآن ليست مع الأحزاب، ولا مع المرشحين الفاسدين، بل مع حالة الذهول المجتمعي التي تُمكّنهم من العودة دون مساءلة. وهي معركة تبدأ باستعادة صوت المثقف، وترميم وظيفة الإعلام، وتفكيك صناعة الإجماع الزائف.
ولا شيء أكثر خطرًا على مستقبل العراق من نظام يُكافئ من سقط، ويُعاقب من صدق، ويُصمت من أخلص.
وعي الجمهور لا يكفي: حين تفوز أدوات التسقيط في نهاية اللعبة
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الخميس 29 أيار/مايو 2025
في عالم تتسارع فيه أدوات السياسة والدعاية، لم يعد التسقيط السياسي مجرد وسيلة هجومية بدائية، بل تحول إلى صناعة كاملة، تُدار بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليل النفسي الجماهيري. ومن السذاجة أن نتصور أن الوعي الجماهيري وحده بات كافيًا لردع هذه الموجات المنظمة من التضليل والتشويه.
اعتاد الناس في العقود الماضية على حملات التسقيط المتكررة مع كل موسم انتخابي أو مفصل سياسي. ومع مرور الوقت، نشأ ما يشبه "الوعي المناعي" لدى الجمهور: أصبح كثيرون يرددون بثقة أن ما يُقال عن السياسيين أو النشطاء أو الشخصيات العامة هو جزء من لعبة قذرة يفهمونها جيدًا. لكن السؤال الأخطر هو: هل يكفي أن نفهم اللعبة لكي لا نخسرها؟
الإجابة في رأيي: لا.
التطورات الأخيرة في تقنيات الذكاء الاصطناعي غيرت قواعد اللعبة. لم يعد التسقيط يعتمد على مقالة صحفية مأجورة أو إشاعة تُهمس في الكواليس، بل بات يُدار بأدوات تفوق قدرة الإنسان على التحقق الفوري. تقنيات مثل "الديب فيك" (Deepfake) أصبحت قادرة على توليد فيديوهات مزيفة يصعب تمييزها عن الواقع، تُظهر الشخصيات وهي تقول أو تفعل ما لم يحدث قط. ولا يقتصر الخطر هنا على تقنية الفيديو، بل يشمل أيضًا أدوات "التأطير السردي" (Narrative Framing) التي تُعيد صياغة الخبر أو التصريح بطريقة توحي بفضيحة أو خيانة، حتى لو كان التصريح بريئًا في أصله.
الدراسات الحديثة في علم النفس السياسي تؤكد أن 80% من الجمهور يتأثرون بالمعلومة السلبية إذا قُدّمت لهم في قالب عاطفي، حتى وإن أدركوا في عقولهم أنها مشبوهة. التأثير العاطفي يسبق التحليل العقلي، وهذه قاعدة ذهبية في التسويق السياسي والاستهداف النفسي.
وهنا تكمن الإشكالية: الجمهور الواعي لا يعني الجمهور المحصَّن. أن يفهم المواطن أنه ضحية محتملة للتضليل، لا يعني بالضرورة أنه لن يتأثر به، خاصة إذا تكرر الضغط العاطفي، أو جاء محتوى التسقيط من قنوات يثق بها الناس.
هناك حالة تُشبه "الإنهاك الإدراكي" تنتشر اليوم في المجتمعات المنفتحة على الإنترنت: لم يعُد الجمهور يملك طاقة التحقق من كل شيء، فيلجأ إلى التسليم أو الشك العام بكل شيء. وهذا أخطر من التسقيط نفسه. فالنتيجة النهائية ليست سقوط هذا الشخص أو ذاك، بل سقوط الثقة العامة بكل ما هو سياسي، مدني، إصلاحي، بل وبكل منظومة القيم نفسها.
ما يزيد الوضع تعقيدًا هو أن التسقيط بات يُدار أحيانًا من أطراف دولية أو استخباراتية، تستخدم أدوات تحليل سلوكي لتحديد نقاط ضعف المجتمعات، ثم تُصمم حملات تسقيط موجهة بعناية. لم يعد الأمر مجرد صراع سياسي داخلي، بل أصبح شكلًا من أشكال الحرب النفسية المركبة.
المطلوب اليوم ليس فقط توعية الجمهور بخطورة التسقيط، بل بناء أدوات مناعة رقمية ومؤسسات تحقق مستقلة، قادرة على التصدي للتزييف في لحظته، قبل أن يتمدد ويتحول إلى واقع مزيف. الصحافة الاستقصائية، مراكز التحقق، التعليم النقدي في المدارس، منصات الإعلام التشاركي، كل هذه أدوات يجب أن تتكامل لخلق بيئة مقاومة للتضليل.
المسؤولية أيضًا تقع على الشخصيات العامة ذاتها. الصمت في وجه حملات التشويه لم يعد خيارًا حكيمًا. الرد السريع، الذكي، المدعوم بالحقائق، يمكنه أن يوقف سلسلة التضليل مبكرًا. لكن الأهم هو التحالف المجتمعي بين النخبة والجمهور لخلق ما يمكن تسميته بـ"الوعي المسنود"؛ وعي لا يكتفي بالفهم، بل يتحرك لمقاومة التزييف وحماية الصورة العامة.
نحن نعيش لحظة فارقة في تاريخ الإعلام والسياسة. المعركة لم تعد فقط على الأصوات أو الأصعدة، بل على الوعي ذاته. وإذا خسرنا هذه المعركة، فلن تنفعنا صناديق الاقتراع ولا المنصات.
في النهاية، السؤال الذي يجب أن يُطرح بإلحاح: هل نحن مستعدون لبناء تحصينات ذكية ضد تسقيط ذكي؟ أم سنكتفي بفهم اللعبة، بينما تُحسم نتائجها في عقول لا تملك إلا الشك، وعاطفة لا تجد ما تستند إليه من الحقائق؟
غزة بين نيران الاحتلال وأكاذيب الإغاثة: حين يُختطف الخبز لشرعنة الجريمة
مارية أيمن – باحثة في العلاقات الدولية
الأربعاء 28 أيار/مايو 2025
تستيقظ غزة كل يوم على احتمال أن تكون نهاية الحياة. ليس لأن الجوع وحده يفتك، ولا لأن الطائرات لا تنام، بل لأن العالم قرر أن يطبع مع الجريمة، وأن يغيّب القيم في مقابل صفقات لا تُكتب على الورق بل تُكتب على جثث الأطفال وصرخات النساء. اليوم، وبعد 600 يوم من حرب الإبادة الإسرائيلية، لم تعد المجازر خبراً، بل روتيناً يُدار بلغة الأرقام.
ما حدث هذا الصباح – قصف منزل لعائلة في الصفطاوي، استشهاد تسعة أفراد دفعة واحدة، بينهم أطفال نائمون – لم يُحدث صدمة في مراكز القرار العالمي. لكنه أحدث ارتجاجاً جديدًا في الوعي الفلسطيني، الذي يدرك أن الدم لم يعد كافياً لتحريك ضمير أممي غارق في الصمت أو التواطؤ.
المثير أكثر من القصف، هو أن بعض القوى الدولية، وتحديدًا الولايات المتحدة، قررت الدخول في “عملية إنسانية” لا هدف لها سوى توفير غطاء ساذج لمشروع إغاثي يهدف إلى إعادة صياغة معادلة الخبز مقابل الطاعة. أصبح توزيع الطحين حدثًا دوليًا، وتحوّلت شاحنات الغذاء إلى مشاهد مروعة يُقتل عندها الناس، ليس لشيء، إلا لأنهم جائعون في وجه آلة تريدهم خاضعين.
ما أعلنه المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، من أن “نظام المساعدات المدعوم أميركياً في غزة هو هدر للموارد وإلهاء عن الفظائع”، لم يكن مجرد توصيف تقني. بل هو إدانة سياسية. في الواقع، لا يوجد ما هو أكثر إهانة للكرامة الإنسانية من أن يُربط الخبز بالموافقة على الهندسة الإسرائيلية الجديدة لغزة: بقع توزيع غذائي محدودة، نزوح قسري للحصول على لقيمات، غياب كامل للمنظمات المحلية، وإقصاء ممنهج للفلسطينيين من أي مشاركة في إدارة مصيرهم.
عندما تندفع حشود جائعة نحو مركز توزيع مدعوم أميركياً، ثم يطلق جنود الاحتلال النار فيُستشهد ثلاثة ويُصاب العشرات، لا يمكن تسمية المشهد إلا بأنه "مجزرة تحت غطاء إنساني". وأكثر ما يثير الغضب هو محاولة تبرير ذلك عبر بيانات أمنية إسرائيلية تتحدث عن "استعادة السيطرة" بعد “فقدان مؤقت لها”، وكأننا أمام تنظيم حركة مرور، لا مشهد إعدام جماعي.
إن تجويع غزة ليس حادثاً عرضياً، بل استراتيجية مكتملة الأركان. فكما يُستخدم السلاح لتفجير المنازل، يُستخدم الخبز لتفجير الإرادة. وكما تُطلق الطائرات صواريخها لتدمير ما تبقى من الحياة، تُطلق المعونات المشروطة لتدمير ما تبقى من الكرامة. والنتيجة واحدة: اغتيال الشعب الفلسطيني، جسداً وروحاً.
الأمم المتحدة، ووكالات الإغاثة الدولية، باتت تدرك أن السكوت لم يعد موقفًا محايدًا، بل مشاركة فعلية في الجريمة. ورفضها التعاون مع مؤسسة “غزة الإنسانية” المدعومة أميركياً هو أول موقف حقيقي منذ زمن طويل. لكنه لا يكفي. فالمطلوب ليس فقط الانسحاب من مشهد الإذلال، بل فضحه، ومحاسبة كل من صاغه وروّج له، سواء من داخل إسرائيل أو من عواصم القرار الغربي.
العدوان لم يعد عسكرياً فقط، بل هو حرب على المعنى. عندما تُمسخ المساعدات، وتُفرّغ الأخلاقيات الإنسانية من مضمونها، ويُحوّل الجوع إلى سياسة تهجير ناعمة، فإن ما نعيشه ليس فقط احتلالاً، بل إعادة إنتاج لمفهوم الاحتلال بوسائل أكثر قبحاً.
الفلسطيني اليوم لا يقاتل فقط دفاعاً عن بيته أو جسده، بل عن المفهوم ذاته: هل يحق له أن يكون إنسانًا؟ أن يقف في طابور الخبز دون أن يُستهدف؟ أن يُعدّ ضحية لا رقماً في قوائم "الأضرار الجانبية"؟
خاتمة فكرية
ما يجري في غزة هو اختبار للنظام العالمي: هل ما زال للعالم مواثيقُ تحفظ للإنسان حق الحياة والكرامة، أم أن الانحياز السافر أعاد تعريف القانون الدولي ليكون أداة لتقنين الإبادة؟ في المقال الاستراتيجي القادم، سنحاول تفكيك بنية “إغاثة الاحتلال” من منظور قانوني–سياسي، وتحليل آثارها الميدانية على الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
تعزيز التعاون التركي-السوري خطوة استراتيجية نحو استقرار المنطقة
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
السبت 24 مايو 2025
يشكل اللقاء الذي جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري أحمد الشرع في إسطنبول علامة فارقة في مسار العلاقات بين البلدين، ويعد بارقة أمل حقيقية نحو استعادة الاستقرار في منطقة طالما عانت من النزاعات والتوترات. إن تعزيز التعاون التركي-السوري ليس مجرد تحرك دبلوماسي عابر، بل هو خطوة استراتيجية تحمل في طياتها إمكانيات كبيرة لإعادة بناء الثقة وإرساء أسس السلام والتنمية.
فبعد سنوات من الانفصال والتوترات المتبادلة، يفتح هذا اللقاء الباب أمام فرص جديدة لحل القضايا العالقة، خصوصاً في ظل الأوضاع المعقدة التي تشهدها سوريا والمنطقة. تركيا بدورها تلعب دوراً محورياً في هذا الملف، وبتعزيز تعاونها مع الحكومة السورية، يمكن أن تساهم في استقرار الحدود، وتسهيل عودة اللاجئين، ودعم إعادة الإعمار.
ومع حضور وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء الأجهزة الاستخباراتية وهيئات الصناعات الدفاعية، يعكس اللقاء رغبة جدية في تعميق العلاقات على مختلف المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية. هذه الخطوة قد تفضي إلى شراكات متعددة تعود بالنفع على الشعبين وتقلل من فرص التصعيد والصراعات المستقبلية.
لكن يبقى التحدي الأكبر في القدرة على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه عملياً، وسط التحديات الدولية والإقليمية التي لا تزال تضغط على الملف السوري. ولهذا، يجب أن يصاحب هذا التعاون دعم دولي حقيقي، ومرونة من جميع الأطراف لتجاوز العقبات.
في الختام، يمكن اعتبار هذا اللقاء نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة من التعاون البناء بين تركيا وسوريا، قد تسهم في إرساء قواعد استقرار طويل الأمد للمنطقة بأسرها، وتحقيق تطلعات شعبي البلدين في حياة أفضل ومستقبل أكثر أماناً.
من "الممر الأوسط" إلى العقل الاستراتيجي: هل تعيد تركيا صياغة دورها بين الصين وأوروبا؟
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الجمعة 23 أيار / مايو 2025
منذ أن أعادت الصين إحياء مشروع "الحزام والطريق"، بدا وكأن العالم يدخل مرحلة جديدة من الجغرافيا الاقتصادية. لكن السؤال الأكثر تعقيدًا لم يكن عن المسارات، بل عن العقول التي تتحكم بها. في هذا السياق، لا تبدو تركيا مجرد دولة تمر عبرها السكك، بل عقل استراتيجي يُعيد التفكير في دور الجسر، لا بوصفه معبرًا، بل بوصفه نقطة قرار.
لقاء وزيري النقل التركي والصيني في بكين لم يكن عابرًا ولا بروتوكوليًا. فالممر الأوسط الذي تراهن عليه أنقرة لربط الصين بأوروبا، ليس مجرد خط على الخريطة، بل مشروع إعادة تموضع تركي شامل، يُخرج البلاد من دور المتلقي إلى موقع الشريك المقرر. واللافت أن أنقرة تطرح رؤيتها هذه في توقيت دقيق، حيث تختنق ممرات روسيا، وتتأرجح ثقة أوروبا في الاعتماد على الشرق، وتبحث الصين عن طرق أكثر استقرارًا للنفاذ إلى الأسواق الغربية.
أن تكون تركيا جزءًا من مبادرة صينية عالمية فهذا ليس جديدًا، لكن الجديد أن تركيا باتت تملي شروط مشاركتها بما يتسق مع مصالحها. مشروع "النقل الأخضر" الذي طُرح في الاجتماع الأخير ليس اقتراحًا صينيًا خالصًا، بل منصة مشتركة تريد من خلالها تركيا أن تقول لبكين: نريد أن نكون شركاء في صياغة فلسفة الطريق، لا مجرد مستخدمين له.
المثير في هذا التحول هو أن أنقرة لا تقدم نفسها بوصفها طرفًا موازنًا للغرب، بل بوصفها نقطة التقاء جديدة. فهي شريك استراتيجي للولايات المتحدة، وعضو في الناتو، لكنها في الوقت ذاته تُبرم اتفاقات مع الصين، وتدير ملفات معقدة مع روسيا، وتؤسس لشراكات طاقية كبرى مع دول الخليج وآسيا الوسطى. إنها الدبلوماسية المتعددة المسارات، حين تخرج من حقل الكلام إلى ميدان السكك والبنى التحتية.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن "الممر الأوسط" ليس طريقًا بريًا فقط، بل رؤية تركية متكاملة لمفهوم الربط. الموانئ، خطوط السكة، الجمارك الذكية، الترانزيت الأخضر، والربط الرقمي، كلها عناصر تؤسس لنموذج تركي في إدارة التدفقات العالمية، مستفيدة من لحظة الفراغ الاستراتيجي التي يعيشها الغرب بعد حرب أوكرانيا، والتوتر الأميركي–الصيني، وتراجع الثقة بممرات البحر الأحمر والخليج.
لكن، هل تملك أنقرة الإمكانيات لترجمة هذه الرؤية إلى واقع؟ الجواب ليس بسيطًا، لكنه واعد. فتركيا، بخبرتها في بناء البنى التحتية، وشبكتها السياسية المتشعبة، ونموذجها الاقتصادي الذي يتحول إلى "براغماتية برية"، تملك أوراقًا كثيرة. وإذا أُحسن توظيفها، يمكن للممر الأوسط أن يكون مشروع نفوذ إقليمي، لا مجرد ممر بديل.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح الآن على طاولة التفكير الاستراتيجي هو: هل سيفهم العالم أن تركيا لا تقف على أطراف الطريق، بل تمسك بمفاتيحه من العمق؟ وهل تدرك أنقرة نفسها أن الجغرافيا التي وُهبت لها لن تكون رأس مال إذا لم تُدار بالعقل؟
ما يحدث اليوم بين بكين وأنقرة ليس مشروعا اقتصاديا فقط، بل مشهد من مشاهد إعادة تعريف الموقع والدور. وتركيا – في لحظة تراجع الممرات التقليدية – تمتلك فرصة نادرة لتكون عقل الربط، لا معبر الربح فقط.
وإذا كان التاريخ يعيد نفسه في صورة خطوط حرير جديدة، فإن المستقبل سيُكتب على سكك من نوع آخر، تقودها الخرائط… ويهندسها الذكاء.
روما بلا خبراء… والنووي بلا مفاعيل: ما الذي تفاوض عليه واشنطن وطهران؟
فريق البحث والتحليل
الجمعة 23 أيار – مايو 2025
حين دخل الوفد الإيراني مبنى السفارة العُمانية في روما بعد وفد نظيره الأميركي، لم تكن تلك سوى صورة بروتوكولية لجولة تفاوض خامسة، لكن خلفها خريطة تفاوض غير متوازنة: لا وفود تقنية، لا جداول تنفيذية، فقط سياسة تمارس استعراض الحذر، ومبادئ كبرى تُمضغ من جديد منذ 2015، دون نية واضحة للبلع أو الهضم.
اللافت في جولة اليوم ليس مكانها، ولا تسلسلها، بل غياب الوفد الفني الإيراني، وهو الغياب الذي لا يمكن قراءته إلا باعتباره رسالة مقصودة: "لسنا هنا لنقر شيئًا، بل لنختبر إيقاع اللعبة السياسية". ومثلها، فإن الوفد الأميركي الذي ضم فقط رموزًا دبلوماسية، بدا وكأنه يُفاوض أمام كاميرات غير مرئية أكثر مما يُفاوض أمام خصم مباشر. إنها جولة تأكيد نوايا، لا حسم ملفات.
القضية الجوهرية – تخصيب اليورانيوم – ما زالت كما هي: أميركا ترفض أي قدرة إيرانية مهما كانت رمزية، وإيران ترفع شعار "حق التخصيب المدني غير قابل للتفاوض"، وكل طرف يعرف أن تكرار هذه المواقف لا يُقدّم جديدًا. لكن الجديد الحقيقي هو السياق، فالمحادثات اليوم لا تجري في ظل إدارة بايدن، بل في عهد ترامب العائد، الذي قرر أن يُعيد تصدير "الضغط الأقصى" بنكهة أكثر حدة، وأقل مرونة.
الجانب الإيراني يبدو أكثر تحفظًا من ذي قبل. فقد أدركت طهران أن التفاوض مع واشنطن ليس تراكماً، بل مغامرة كل مرة. لا ذاكرة سابقة تنفع، ولا ضمانات تُؤمّن، طالما أن القلم الذي يوقع الاتفاق هو نفسه الذي يُلغي التوقيع بعد عام واحد. ومن هنا، فإن الغياب الفني يحمل بُعدًا سياديًا: لن نتكلم في تفاصيل إلا إذا تغيرت بيئة الالتزام.
العُمانيون الذين عادوا إلى دور الوسيط يكررون السيناريو ذاته منذ أيام اتفاق 2015، لكن العالم تغيّر. فاليوم هناك إسرائيل المندفعة إلى التصعيد، وروسيا التي تلوّح بالتقارب مع طهران في ملفات بعيدة عن النووي، والصين التي تفتح بابًا خلفيًا لأي نظام يُقصى أميركيًا. ولذلك، فإن السؤال لم يعد: هل ستُرفع العقوبات؟ بل: هل ما زالت طهران تحتاج لرفعها بالشروط الأميركية؟
في العمق، فإن ما يجري في روما ليس تفاوضًا على برنامج نووي، بل على مستقبل التمركز الإيراني في الإقليم، وحدود القوة الأميركية في زمن التراجع العالمي. من هنا يُمكن فهم تصلب ترامب، وتحفظ إيران، وخفوت صوت الاتحاد الأوروبي الذي لم يعد طرفًا فعليًا في اللعبة.
ما يجري في روما هو اختبار صبر طويل لا اختبار ثقة، ومتى ما قررت القوى الكبرى تحويل هذا الصبر إلى صفقة، ستعود الوفود التقنية، ويُفتح دفتر الالتزامات، لكن حتى ذلك الحين، سيبقى اليورانيوم تحت التخصيب... والمفاوضات تحت الانتظار.
غاز من الشمال... وتنمية من الجنوب: حين تكتب الطاقة مستقبل العلاقات التركية السورية
الجمعة 23 أيار – مايو 2025
ليس مجرد أنبوب، وليس فقط مشروع طاقة. ما أعلن عنه وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار بشأن بدء ربط خط الغاز من كيليس إلى حلب، هو إعلان سياسي قبل أن يكون هندسيًا. فللمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة السورية، يخرج مشروع إقليمي بين أنقرة ودمشق من طور التصريحات إلى طور الإنجاز، وبلغة المصالح المشتركة لا الاشتباك الأمني.
في يونيو/حزيران المقبل، من المفترض أن تبدأ تركيا بضخ مليارَي متر مكعب من الغاز سنويًا إلى سوريا، وفق ما كشف عنه بيرقدار، ليُستخدم في توليد الكهرباء وتلبية احتياجات المدنيين. وإذا كانت الأرقام وحدها لا تروي الحكاية، فإن السياق السياسي هو من يمنح هذا المشروع وزنه الاستثنائي: سوريا ما بعد البعث، التي يقودها الرئيس أحمد الشرع، تفتح أبوابها لمرحلة إعادة الإعمار، وتركيا تمد يدها من الشمال ليس فقط لمساعدة جارة جريحة، بل لترسيخ معادلة جديدة في الإقليم عنوانها: "الاستقرار بالتكامل".
الغاز المار من كيليس إلى حلب ليس امتدادًا لأنبوب، بل لقرار سياسي مشترك يقول: لقد انتهت مرحلة الفوضى. ومن يتأمل في توقيت الإعلان، بعد لقاء بيرقدار بالقيادة السورية الجديدة وتوقيع اتفاقيات الطاقة والتعدين، يدرك أن ما يجري لا ينفصل عن رغبة أنقرة في ترسيخ واقع استراتيجي مختلف، بعيدًا عن صراع المحاور وتوازنات السلاح.
المشروع يذهب أبعد من كونه تعاونًا اقتصاديًا. إنه، ببساطة، أول ترسيخ فعلي لفكرة أن تركيا وسوريا تستطيعان أن تتحركا كـ"شريكين جيوسياسيين"، لا كمتنافسين على النفوذ. فبينما تغرق بعض القوى الإقليمية في حسابات الانقسام أو ترسيخ مناطق نفوذها عبر أدوات غير مشروعة، تبدو أنقرة ودمشق وكأنهما اختارتا الطريق الأصعب... والأصدق: البناء من القاع، وتوصيل الكهرباء لمن لا يملك حتى شمعة.
التعاون في ملف الغاز، إذا ما أُحسن استثماره سياسيًا، قد يتحول إلى مقدّمة لسلسلة مشاريع استراتيجية: الكهرباء، المياه، شبكات النقل، الأمن الحدودي، وربما لاحقًا مشاريع اقتصادية مشتركة شمالًا وجنوبًا. وبذلك تكون تركيا قد نجحت في توظيف قوتها الناعمة لخلق حالة استقرار ذات بعد إقليمي، بدلاً من الانجرار إلى استقطابات غير مثمرة.
بالمقابل، فإن الحكومة السورية الجديدة، بموقفها البراغماتي والمبادر، أثبتت أنها تملك الجرأة السياسية لإعادة ترتيب أولوياتها: من خطاب المواجهة إلى منطق التنمية، ومن شعارات "التصدي للمؤامرة" إلى بناء شبكة كهرباء تعيد الحياة للمستشفيات والمدارس. هذه ليست فقط قرارات خدماتية، بل خطوات سيادية تُعيد الاعتبار لفكرة الدولة.
الذين راهنوا على أن سوريا الجديدة ستبقى تحت وصاية الخارج، عليهم أن يقرأوا جيدًا هذا المشروع: أنبوب غاز صغير، لكنه يحمل رمزية ثقيلة. إنه يربط الشمال التركي بجنوب سوريا، لكنه في العمق يربط بين الماضي الذي انهار، والمستقبل الذي يُبنى على أُسس السيادة والشراكة والاحترام المتبادل.
من هنا، فإننا نرى في هذا المشروع بارقة أمل لسوريا، لا فقط من ناحية الطاقة، بل من ناحية استعادة دورها الإقليمي كدولة قادرة على الشراكة الإيجابية مع جوارها. وتركيا، التي تمتلك مفاتيح الطاقة، والبنية، والخبرة، تبدو الشريك الطبيعي والأقدر على دعم هذا التحول إذا ما تم تحصينه بالثقة والالتزام المتبادل.
في منطقة تنهار فيها الدول حين تفقد ثقتها بجيرانها، يُمكن لأنبوب غاز، إن أُحسن توجيهه، أن يكون نواة لعقد سياسي جديد، يتجاوز الجغرافيا، ويفتح صفحة عنوانها: "حين تتكلم الأنابيب... تصمت المدافع".
المجازر لا تصنع الحسم: غزة تحارب وحدها وتُربك الاحتلال
الثلاثاء 20 أيار – مايو 2025
فريق الإعداد والتحليل
حين تتحوّل الجغرافيا إلى مقصلة، وتُختصر الحياة في محاولة لتجنّب الموت، لا تكون غزة مجرد مدينة محاصرة، بل تصبح معيارًا أخلاقيًا لما تبقى من ضمير العالم. فصباح اليوم، سقط 79 شهيدًا في غزة خلال ساعات قليلة فقط، بينهم أطفال نائمون، ونساء احتمين بخيام بلا جدران، وشيوخ احتموا بدعاء لا يمنع القصف. لم يكن ما جرى حادثًا عسكريًا منفصلًا، بل حلقة إضافية في سلسلة مجازر تُرتكب باسم “الأمن”، وبغطاء دولي صامت ومتواطئ.
ما يلفت اليوم، ليس عدد الشهداء وحده، بل تزامن المجزرة مع ما وصفته وسائل إعلام إسرائيلية بـ"حدث أمني خطير"، بعد أن انهار مبنى بالكامل على قوة إسرائيلية شرق خان يونس. الرقابة العسكرية الإسرائيلية فرضت تعتيماً شاملاً، ووسائل الإعلام العبرية تتحدث عن جنديين في حال الخطر، وجندي مفقود. لكن القصة لا تكمن في عدد الجرحى الإسرائيليين، بل في تغيّر المعادلة: غزة التي تقصف وتُذبح، قادرة أيضًا على رد الضربات، وبشكل ميداني لم يعُد يُمكن حصره في إطلاق الصواريخ فقط.
في خضم هذه الأحداث، أعلنت سرايا القدس استهداف دبابة ميركافا إسرائيلية بقذيفة آر بي جي في خزاعة، مؤكدة احتراقها وانسحاب القوة. هذه ليست مجرد مواجهة ميدانية، بل هي رسالة واضحة بأن غزة – رغم كل الألم – لم تفقد قدرتها على المقاومة المنظمة، وأن جيش الاحتلال ليس مطلق اليدين في الميدان، كما كان يتخيل أو يُروّج.
من زاوية أوسع، يبدو واضحًا أن إسرائيل تُدرك المأزق العسكري الذي دخلته. لا حسم، ولا تهدئة، ولا انسحاب مشرّف. المقاومة الفلسطينية أعادت صياغة قواعد الاشتباك بشكل تدريجي ومدروس، فيما يجد الجيش الإسرائيلي نفسه مجبرًا على خوض معارك داخل مناطق مكتظة، مع احتمالات الخسائر العالية، لا سيما مع التصعيد المستمر في بيت لاهيا، بيت حانون، خزاعة، والمواصي، وكلها مواقع تشهد عمليات يومية تُربك خطوط التقدم العسكري الإسرائيلي.
لكن ما يُضاعف مأساة هذا المشهد هو الموقف الدولي، أو بالأحرى، انعدامه. فبينما تُقصف المدارس وتُحرق الخيام، وتُهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، يكتفي العالم بإحصاء الأرقام، وإصدار بيانات الشجب التي تُرسل إلى الأرشيف قبل أن تُقرأ. وحده السيناتور الأمريكي كريس فان هولن أطلق صرخة نادرة من داخل الكونغرس، متهمًا حكومة نتنياهو بتجويع مليوني مدني، ومطالبًا بإدخال شاحنات الغذاء فورًا. قال ما لم يقله البيت الأبيض، وتحدث بلغة القانون الدولي بينما تلتزم إدارته بلغة التوازن بين "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" و"القلق على الوضع الإنساني في غزة".
غزة، كما تظهر اليوم، ليست فقط ملفًا إنسانيًا ملتهبًا، بل أيضًا ساحة اختبار لمصداقية النظام الدولي. هل يستطيع هذا النظام أن يُمارس ضغطًا حقيقيًا لوقف المجازر؟ هل يمكنه إلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي؟ أم أن من يملك السلاح والدعم الأمريكي يملك أيضًا حق الإفلات من العقاب، مهما كانت الفظائع؟
وفي المقابل، تدفع غزة أثمانًا باهظة يوميًا. لا طعام، لا دواء، لا كهرباء. المستشفيات تنهار تحت الضغط، والناس يفترشون الأرض تحت الطائرات المسيرة. أطفال يُولدون ليموتوا جوعًا أو تحت القصف، وأمهات يُجهضن رعبًا من صوت الطائرات. إنها حرب لا تستهدف فقط البنية التحتية أو "المسلحين"، بل تُعيد تعريف الجريمة الجماعية بطريقة علنية، دون حاجة إلى غرف تعذيب سرية أو معسكرات إبادة. كل شيء يُبث على الهواء مباشرة، والعالم يرى ولا يتحرك.
ما يجري الآن في غزة يفتح الباب أمام أسئلة حاسمة: هل سنشهد تدخلًا دوليًا حقيقيًا في هذه الجولة من العدوان؟ وهل تستطيع القوى الكبرى أن تفرض حدًا لهذه الحرب التي خرجت عن كل قواعد الاشتباك الأخلاقي والسياسي؟ أم أننا أمام مشهد جديد تُترك فيه غزة وحدها، مرة أخرى، لتدفع كلفة معركة لا تنتهي، بين آلة عسكرية جبارة وشعب لا يملك سوى إرادته؟
الإجابة لا تزال غامضة، لكن ما هو واضح تمامًا أن غزة – رغم كل الخراب – لا تزال واقفة. تقاوم، وتدفن شهداءها، وتُعلّم العالم أن الكرامة لا تُقصف، وأن الشعوب قد تنزف، لكنها لا تُهزم ما دامت تُؤمن بعدالة قضيتها.
بغداد بين الدبلوماسية والواقع: هل تعود عاصمة القرار العربي؟
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الجمعة 16 أيار / مايو 2025
بغداد بين الدبلوماسية والواقع: هل تعود عاصمة القرار العربي؟
تُعد القمة العربية المرتقبة في بغداد اختبارًا نوعيًا ليس فقط للحكومة العراقية، بل لمجمل البنية السياسية الإقليمية التي تواجه تحديات جيوسياسية واقتصادية غير مسبوقة. في مشهد عربي متشظٍ منذ أكثر من عقد، فإن انعقاد القمة في العاصمة العراقية يمثل لحظة دبلوماسية ذات طابع رمزي عميق، لكنه قد يتحول إلى لحظة استراتيجية فارقة إذا أحسن العراق استثمارها ضمن قواعد العلاقات الدولية المعاصرة.
في سياق العلاقات الدولية، تُعرف استضافة المؤتمرات الكبرى بأنها وسيلة لتعزيز "رأس المال الدبلوماسي" للدول، وتدشين صورة جديدة على المسرح العالمي. وبالنسبة للعراق، فإن العودة إلى احتضان القمم العربية بعد سنوات من العزلة والصراع تحمل دلالات متعددة. فهي تعني اعترافًا إقليميًا بقدرة بغداد على لعب دور جامع، وتكشف في الوقت ذاته عن فرصة نادرة لإعادة تموضعها كفاعل محوري في النظام الإقليمي العربي، بعد أن ظلت لسنوات تدور في فلك الصراعات الداخلية والخارجية.
بشكل أكثر دقة، فإن العراق أمام لحظة استثنائية لإعادة صياغة دوره في المنطقة استنادًا إلى أدوات العلاقات الدولية الحديثة: التحالفات الذكية، الدبلوماسية الاقتصادية، الوساطة متعددة الأطراف، والتموضع الاستراتيجي بين المحاور المتنازعة. القمة، إذن، ليست مجرد اجتماع للزعماء العرب، بل بوابة ممكنة لإعادة بناء صورة العراق كدولة "قائدة" لا "تابعة"، ومركز توازن بين الشرق والغرب.
نجاح القمة في مضمونها ونتائجها – وليس فقط في تنظيمها – سيكون بمثابة نقطة تحول استراتيجية في السياسة الخارجية العراقية. وإذا استطاع العراق أن يطلق مبادرات واقعية للتكامل الاقتصادي العربي، أو يستثمر في الوساطة لحل أزمات إقليمية كالصراع اليمني، فإنه بذلك يضع حجر الأساس لدور طويل الأمد في صياغة السياسات العربية.
على الصعيد الداخلي، يمتلك العراق ما يكفي من الحوافز السياسية والأمنية التي تدفعه للسعي نحو دور إقليمي فاعل. فالبلاد تعاني من أزمات اقتصادية خانقة، وتعتمد بدرجة كبيرة على التوافقات الإقليمية والدولية لجذب الاستثمارات وتحقيق الاستقرار. وإذا تمكن العراق من تحويل القمة إلى منصة لتوقيع مشاريع اقتصادية، أو إطلاق تكتلات تنموية مشتركة، فإنه بذلك يفتح الباب أمام إعادة الهيكلة الاقتصادية وتقوية الجبهة الداخلية.
من جانب آخر، فإن نجاح القمة سيمكّن العراق من تعزيز مفهوم "السيادة الإيجابية"، أي الخروج من حالة التبعية لأي محور خارجي، والانتقال إلى سياسة توازن تحمي المصالح الوطنية. فالعراق يقف في مفترق طرق بين المحور الإيراني، والشراكات الخليجية، والانفتاح على واشنطن والصين. وتمثل القمة لحظة نادرة لتأكيد استقلالية القرار العراقي، إذا ما وُظّفت بذكاء دبلوماسي.
فالقمة لن تُحدث أثرًا استراتيجيًا إن لم تتبعها رؤية متماسكة وخطة عمل مستدامة. من الضروري أن يخرج العراق من منطق "الحدث الدبلوماسي" إلى منطق "المشروع الإقليمي"، أي أن لا تكون القمة نهاية مناسبة بروتوكولية، بل بداية تحوّل في نمط العلاقات الخارجية وأدواتها.
بالمقابل، سيكون الفشل في استثمار القمة ضربة موجعة لصورة العراق، وفرصة ضائعة قد تؤدي إلى تعزيز العزلة لا كسرها. كما أن خصوم العراق الإقليميين قد يسارعون إلى إفشال أي مخرجات جوهرية للقمة، خاصة إذا شعروا أن بغداد تتجه نحو لعب دور مستقل قد يؤثر في توازناتهم.
إن مستقبل العراق كفاعل إقليمي لا يرتبط فقط بالقمة، بل بالمرحلة التي تليها: مدى القدرة على تنفيذ القرارات، واستمرار الزخم الدبلوماسي، والتوازن في بناء التحالفات دون الانزلاق إلى الاستقطاب. وإذا تمكّنت بغداد من المحافظة على هذا الزخم، فقد تدخل مرحلة جديدة من التأثير تُعيد إليها شيئًا من مكانتها التاريخية كعاصمة القرار العربي.
في النهاية، القمة ليست سوى انعكاس لصورة العراق في مرآة العالم العربي. فإذا بدت بغداد موحدة، مستقرة، وذات رؤية واضحة، فإن القمة ستكون نقطة بداية لتحوّل إقليمي حقيقي. أما إذا طغت الاعتبارات الفئوية والانقسامات الداخلية، فستبقى بغداد مجرد محطة عابرة في مشهد عربي مشتت، يبحث منذ سنوات عن من يقوده إلى أفق جديد.
تركيا وسوريا والخليج: بناء شراكة استقرار في شرق ما بعد التصادم
الجمعة – 16 مايو/أيار 2025
في لحظة إقليمية تتغيّر فيها التوازنات بعمق، وتُعاد فيها صياغة التحالفات والخرائط، بدا خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قمة "المجموعة السياسية الأوروبية" متماهيًا مع دينامية شرق أوسط جديد، يتقدم فيه منطق التعاون على منطق الصراع، وتبرز فيه سوريا الجديدة بوصفها شريكًا مستقلًا في معادلة إقليمية ثلاثية تجمعها بتركيا ودول الخليج.
لم تعد سوريا تُعرّف اليوم من خلال موقعها في النزاعات، بل من خلال قدرتها على المشاركة في هندسة الإقليم بأدوات الدولة، ومن خلال شرعيتها الجديدة التي اكتسبتها عبر التغيير السياسي العميق، والانفتاح الدولي السريع، والدعم الشعبي لمشروع السيادة والانتقال. وفي هذا السياق، لا تظهر تركيا كراعٍ لسوريا أو موجّه لها، بل كشريك إقليمي يُراهن على الاستقرار السوري بوصفه ركيزة لأمن المنطقة بأسرها.
ما يعزز هذا التصور أن العلاقات السورية–التركية بعد عام 2025 باتت تقوم على أرضية تنسيقية استراتيجية واضحة، تشمل التعاون في ملفات الاقتصاد، والحدود، والطاقة، والعودة الطوعية للاجئين، إضافة إلى دعم مشترك لمشاريع إعادة الإعمار التي تُدار تحت مظلة سورية وطنية مستقلة. لقد تجاوز الطرفان مراحل التوجّس والاحتراز، ودخلا في شراكة عقلانية توازن بين المصالح السيادية ومقتضيات التعاون.
وفي ضوء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في قمة الرياض (13–14 مايو)، عن رفع العقوبات رسميًا عن سوريا، ظهر أن واشنطن لم تعد تنظر إلى سوريا كملف صراعي، بل كـ"دولة تعود للمنظومة الدولية" بمقاربة مختلفة. وقد التقطت العواصم الفاعلة هذا التحول، فتحرّكت لتثبيت سوريا الجديدة في موقعها الطبيعي. تركيا سارعت لتأكيد دعمها للاستقرار، والخليج أعاد فتح بوابات التنسيق والتعاون.
السعودية، التي شاركت في هندسة لحظة رفع العقوبات، تتجه الآن نحو شراكة اقتصادية تنموية مدروسة مع دمشق. والإمارات تبحث فرص إعادة الإعمار بموجب تفاهمات واضحة السيادة. أما قطر، فترسخ دورًا إنسانيًا متقدمًا في الشمال السوري، ضمن تنسيق مباشر مع الحكومة السورية الجديدة. وكل ذلك يتم ضمن إطار يحترم القرار السوري المستقل، ويعكس قناعة إقليمية بأن الاستقرار لا يُملى من الخارج بل يُصنع مع الداخل.
الانسحاب الإيراني وتراجع النفوذ الروسي أفرزا فراغًا سياسيًا كبيرًا في المشهد السوري، لكن المفارقة أن دمشق الجديدة لم تسمح بأن يُملأ ذلك الفراغ بهيمنة بديلة. بل بدأت، بثقة متزنة، بناء شبكة تحالفات تعاونية تقوم على المصالح المشتركة لا الإملاءات. وبهذا المعنى، فإن سوريا لا تُقاد من أحد، بل تقود مسار انفتاحها بنفسها، وتختار شركاءها وفق معايير السيادة والتكامل لا التبعية والمراهنة.
ما يجب الإشارة إليه بوضوح، أن تركيا تدرك جيدًا أن أي مكسب استراتيجي حقيقي لا يتحقق في سوريا إلا عبر احترام القرار السيادي السوري والتكامل المؤسسي معه. وهي في خطابها وخطواتها الأخيرة، لم تحاول الظهور كضامن فوقي، بل كشريك ميداني ومصلحي، يعمل ضمن توافق سياسي شامل، ويراهن على النجاح السوري الداخلي بوصفه نجاحًا تركيًا غير مباشر.
أكثر من ذلك، فإن تركيا ترى في التكامل السوري–التركي–الخليجي فرصة لبناء نموذج إقليمي جديد يُدار بالعقل لا بالصراخ، وبالشراكة لا بالاستقطاب. نموذجٌ يسمح بتحييد الصراعات الموروثة، وتركيز الجهود على بناء منظومة أمن وتنمية واقعية. وهذا ما عبّر عنه خطاب أردوغان حين تحدث عن ضرورة "جعل غزة قابلة للحياة من جديد، مثلما نسعى لبناء بيئة آمنة في سوريا تدعم العودة والاستقرار والإنتاج".
في الختام، فإن الشرق الأوسط بعد 2025 ليس بحاجة إلى قوى تحكمه، بل إلى قوى تتقاسم مسؤولية تثبيته. وسوريا الجديدة، التي استردت بوصلتها، لا تريد شركاء يسيرون أمامها ولا خلفها، بل إلى جانبها. وتركيا، في هذا الإطار، تُقدّم نفسها لا كقوة وصاية، بل كدولة ناضجة تقرأ اللحظة وتستثمرها لصالح التوازن، وتُدرك أن السيادة التي لا تُحترم اليوم، ستتحول إلى معضلة استراتيجية غدًا
هناك المزيد من التحليلات الاستراتيجية والمقالات المرتبطة بالنظام العالمي والتحالفات والأمن الدولي.
الهند وباكستان.. صراع يتجدد وتداعيات تتسع إلى ما وراء كشمير
بهاء جواد الحياني - كاتب رأي
الثلاثاء 13 أيار – مايو 2025
منذ لحظة تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، دخلت الهند وباكستان في نزاع سياسي وعسكري مستمر، يتصدره ملف إقليم كشمير. ومع مرور العقود، تعمّق الصراع وتحول إلى تهديد دائم للاستقرار الإقليمي والدولي، خاصة مع امتلاك البلدين لقدرات نووية وتورطهما في تحالفات دولية متشابكة، تمتد آثارها إلى الشرق الأوسط وحتى القوى العالمية الكبرى.
كشمير.. جذور النزاع المزمن
بدأت الأزمة عندما حصلت الهند وباكستان على استقلالهما عن الاستعمار البريطاني، وتم تقسيم شبه القارة بناءً على الانتماء الديني، إلا أن كشمير ذات الأغلبية المسلمة، بقيادة حاكم هندوسي، اختارت الانضمام إلى الهند، في قرار أثار رفضًا باكستانيًا أدى إلى أولى الحروب بين البلدين عام 1947.
ومنذ ذلك الحين، تحوّلت كشمير إلى ساحة صراع مفتوحة، بين جيشين نظاميين، وجماعات مسلحة، وحملات دعائية متبادلة، وسط اتهامات متبادلة بانتهاك حقوق الإنسان ودعم الإرهاب.
حروب وتوترات دائمة
خاضت الهند وباكستان ثلاث حروب (1947، 1965، و1971)، فضلًا عن صراع كارغيل في 1999، وتصعيد خطير في 2019 عقب تفجير استهدف قافلة عسكرية هندية في كشمير. ومع كل أزمة جديدة، تقترب الدولتان من هاوية مواجهة شاملة، ما يثير إنذارًا دوليًا متكررًا، نظرًا لامتلاك الطرفين لأسلحة نووية.
التهديد النووي.. فوهة بركان لا تهدأ
كلا البلدين يملكان ترسانة نووية معلنة، مع نظم تسليح متطورة. لكن ما يثير القلق العالمي هو غياب قنوات اتصال عسكرية مستقرة، ووجود نزاعات حدودية نشطة، قد تؤدي إلى تصعيد غير محسوب، أو حسابات خاطئة تقود إلى استخدام نووي تكتيكي، تكون له عواقب كارثية إقليمية وعالمية.
الشرق الأوسط.. مصالح متشابكة وتأثيرات غير مباشرة
رغم البعد الجغرافي، إلا أن الشرق الأوسط من أكثر المناطق تأثرًا بالصراع الهندي الباكستاني، لأسباب اقتصادية واستراتيجية:
• العمالة والتحويلات: ملايين من الهنود والباكستانيين يعملون في الخليج، وأي صراع كبير قد يؤدي إلى خلل في تدفقات التحويلات التي يعتمد عليها اقتصاد البلدين.
• التحالفات المتغيرة: تربط باكستان علاقات عسكرية وثيقة بالسعودية والإمارات، بينما تتجه الهند بقوة نحو التعاون الاقتصادي والأمني مع إسرائيل وبعض دول الخليج.
• التنظيمات المتطرفة: تشكل كشمير بيئة محتملة لظهور تنظيمات جهادية عابرة للحدود، ذات ارتباط فكري أو ميداني بجماعات الشرق الأوسط، ما يعزز احتمالات تصدير أو استيراد التطرف.
المواقف الدولية: بين التوازن والمصالح
الولايات المتحدة.. دعم للهند مع احتواء لباكستان
لطالما سعت واشنطن إلى الحفاظ على توازن هشّ بين الهند وباكستان، لكنها في العقدين الأخيرين مالت بوضوح نحو دعم الهند، خاصة في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في آسيا. تعتبر الهند شريكًا رئيسيًا في تحالفات أمريكية مثل "الحوار الأمني الرباعي" (QUAD)، وتحظى بتعاون عسكري واستخباراتي واسع.
والجدير بالإشارة هي رسالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبيل زيارته الى الهند خلال ولايته الأولى كانت عبر الغيير في مراسيم الزيارات الرسمية الاعتيادية فقد كان برنامج الزيارة لمدة ٢٤-٢٥ فبراير ٢٠٢٠ والتي بدئها بزيارة احمد اباد(ولاية غوجارات)وبعدها اغرا (لزيارة تاج محل) ومن ثم العاصمة نيودلهي (للاجتماعات الرسمية) ان هذا التغيير في مراسيم الزيارة رسالة الى رئيس والوزراء الهندي مودي ضمناً هنالك العديد من الأوراق الضغط بالإمكان استخدامها على الحكومة الهندية منها مسلمون الهند ومعاناتهم اضطهادهم من فبل الحزب الحاكم الهندوسي والتي كانت وما تزال الولايات المتحدة تخض النظر عنها سياسياً واعلاميا وهي إشارة ضمنية الى الانحياز المحتمل لباكستان.
في المقابل، لا تزال الولايات المتحدة تحافظ على قنوات حيوية مع باكستان، خاصة فيما يخص الملف الأفغاني ومكافحة الإرهاب، لكنها أصبحت أكثر تحفظًا في دعم إسلام آباد، بعد اتهامات سابقة لها بدعم جماعات متشددة في كشمير وأفغانستان.
وهنا تكمن المعادلة لوغاريتمات على الجانبين التي تستخدما الولايات المتحدة في علقتها مع البلدين.
إسرائيل.. شراكة استراتيجية مع الهند ومراقبة لباكستان
ترتبط إسرائيل بعلاقات استراتيجية قوية مع الهند، لا سيما في مجالات الدفاع، والاستخبارات، والطيران، والمراقبة. وتُعد الهند واحدة من أكبر مستوردي الأسلحة الإسرائيلية. تنظر تل أبيب إلى الهند كشريك علماني قوي يواجه خطرًا إسلاميًا مشتركًا، وهو ما يقرّب وجهات النظر حول الجماعات المتشددة.
ويعد التحالف الإسرائيلي – الهندي بمباركة أمريكية هو الانحياز الخفي الأمريكي للهند والعداء الخفي لباكستان
أما باكستان، فلا تعترف بإسرائيل حتى اليوم، وتحافظ على خطاب سياسي داعم للقضية الفلسطينية، لكنها في الوقت نفسه لا تدخل في صدام مباشر مع إسرائيل، مكتفية بدور رمزي ضمن الموقف الإسلامي العام.
الصين.. حليف لباكستان وخصم تقليدي للهند
تعد الصين أقرب حليف استراتيجي لباكستان، وتوفر لها الدعم العسكري، والاستثمارات الضخمة عبر "مبادرة الحزام والطريق"، وتحديدًا في ممر كراتشي – كاشغر. ترى بكين في باكستان "ثقلاً موازنًا للهند"، خاصة أن الصين نفسها تخوض نزاعات حدودية شرسة مع نيودلهي، أبرزها الاشتباكات في لاداخ عام 2020.
لكن رغم ذلك، تحرص بكين على عدم وصول التوتر بين الهند وباكستان إلى صراع شامل، لما له من أثر سلبي على التجارة الإقليمية وعلى استقرار خطوط النقل والطاقة في آسيا الوسطى.
الصراع الهندي الباكستاني تحوّل من نزاع حدودي تقليدي إلى أزمة جيوسياسية دولية متعددة الأطراف، تلعب فيها القوى الكبرى أدوارًا حساسة متضاربة. وفي حين لا تبدو الحرب حتمية، فإن السلام لا يزال بعيد المنال، ما يبقي جنوب آسيا فوق فوهة بركان.
ولحين وجود مبادرة سلام حقيقية تدعمها الأطراف المحلية والدولية، ستظل المنطقة رهينة اللحظة، في انتظار شرارة صغيرة قد تشعل نزاعًا عالميًا جديدًا.
العالم يشاهد غزة تموت.. والضمير غائب
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
في لحظة تاريخية يعجز فيها الضمير العالمي عن الاستجابة لحجم المأساة، تغرق غزة في ظلامها الصحي والإنساني الأشدّ منذ فرض الحصار عليها قبل 18 عامًا. لكن الفارق اليوم أن العدوان لم يعد مجرد قصف، بل بات منظومة ممنهجة لإبادة الحياة، وتحطيم كل ما يمتّ بصلة إلى فكرة "الوجود البشري الكريم".
ليست الأرقام التي تُعلَن كل يوم مجرّد إحصاءات، بل جثثٌ وصرخاتٌ وآهات لا تجد من يُنصت أو يتحرك. أكثر من 172 ألف جريح، وأكثر من 11 ألف مفقود، ومليون ونصف بلا مأوى، وغزة المحاصرة منذ عقدين تقريبًا تعيش مجاعة جماعية بشهادة المؤسسات الدولية. ولكن من يتحدث؟ ومن يتحرك؟ ومن يجرؤ على تحميل المحتل المسؤولية الكاملة عن الجريمة؟
الصورة الكاملة في القطاع لا تحتاج إلى تقارير أممية إضافية لتكون واضحة. المستشفيات تعمل بمعدات طبية مستهلكة، وأقسام العناية المركزة والعمليات تعاني من شلل شبه تام. أجهزة الأشعة، وأدوات التخدير، وغازات التخدير، والسرنجات، والشراشف، والأسرّة الطبية، والأقمشة الجراحية... كلها إما نفدت أو على وشك النفاد، حسب بيانات وزارة الصحة في غزة. ومع ذلك، يكتفي العالم بتصريحات "قلق" خجولة.
في السياق ذاته، أبلغت وزارة الصحة عن نقص كامل في غازات طبية حيوية مثل ثاني أكسيد الكربون والأوكاسيد، ما يعني أن الجراحات المعقدة، وحتى البسيطة، لم تعد ممكنة. كيف يمكن للطواقم الطبية أن تعمل بينما لا تمتلك حتى القفازات أو الكلور لتعقيم الأدوات؟ كيف يمكن لمريض أن يُسعف بينما لا يتوفر له حتى السرير الذي يستلقي عليه؟
هنا لا نتحدث عن أزمة صحية عابرة، بل عن "تجريد ممنهج" لغزة من أدوات الحياة. نحن أمام موت معلن، يحدث على مرأى ومسمع من مجلس الأمن، ومنظمة الصحة العالمية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، والآليات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، ولكن الصمت هو الجواب الوحيد.
الدور الإنساني العالمي الذي طالما تغنى به المجتمع الدولي، يبدو الآن مجرد واجهة إعلامية خاوية. فعلى الرغم من وعود الدول المانحة والمبادرات الدولية، لم يصل إلى غزة سوى النذر اليسير من الاحتياجات الطبية. بل إن جزءًا كبيرًا من المعونات يُمنع من الدخول بفعل سياسة الحصار الإسرائيلية. والسؤال الكبير الذي لا يزال بلا جواب: لماذا يُسمح لدولة محتلة أن تتحكم في تدفق الأدوية والغازات والمعدات إلى منطقة منكوبة؟
تاريخيًا، لطالما كانت المساعدات الإنسانية في مناطق النزاع تُعتبر التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا، لا مجرد تفضّل. اتفاقية جنيف الرابعة تلزم القوى القائمة بالاحتلال بتأمين الاحتياجات الطبية للسكان الواقعين تحت سيطرتها، لا سيما عند تدمير المستشفيات أو استهدافها. وفي غزة، لا تُدمّر المستشفيات فحسب، بل تُحوّل إلى أهداف عسكرية مباشرة، يُقصف محيطها، وتُمنع عنها الإمدادات، ويُستهدف الطاقم الطبي نفسه.
الطواقم الطبية في غزة تُمارس عملها بشجاعة استثنائية، رغم أن رواتبهم مقطوعة، وأدواتهم معدومة، وحياتهم معرضة للخطر كل دقيقة. هذا الصمود ليس قدرًا، ولا يُفترض أن يتحول إلى سياسة دولية دائمة: "دعهم يقاومون حتى يفنوا"، بل هو نداء يجب أن يجد أذنًا صاغية وضميرًا حيًا.
الأمم المتحدة مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتفعيل ممرات إنسانية حقيقية، لا تخضع للإملاءات الإسرائيلية. كما أن الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تتحمل مسؤولية مباشرة في استمرار هذه الكارثة، لا سيما وهي تدعم الاحتلال دبلوماسيًا وعسكريًا وماليًا. لقد بات واضحًا أن "المجتمع الدولي" هو شريك في الحصار بصمته، إن لم يكن بتواطئه.
المجتمع المدني العالمي لم يعد عاجزًا عن التحرك، بل أصبح مقيدًا بسياسات الحكومات التي ترى في غزة ساحة اختبار لصبر الناس وقدرتهم على البقاء. لكن إلى متى؟ كم عدد الأطفال الذين يجب أن يموتوا قبل أن يقرّ العالم بأن غزة لا تُعاقب بل تُباد؟ وكم عدد المستشفيات التي يجب أن تنهار حتى يقول صوتٌ عاقل: كفى؟
ليس المطلوب معجزة، بل الحد الأدنى من العدالة والرحمة. المطلوب أن تُفتح المعابر فورًا، أن تدخل الإمدادات الطبية دون شروط، أن تُحمى المستشفيات من القصف، أن يُحاسب من ارتكب جرائم ضد الطواقم الطبية والمرضى. المطلوب أن يُسمح للحياة بأن تستمر ولو بشقّ الأنفس، لأن البديل هو الفناء.
في لحظة كهذه، لم يعد الصمت حيادًا، بل صار مشاركة في الجريمة. ومن لا يتحرك من أجل إنقاذ غزة، لا يملك حق الحديث عن الإنسانية، ولا حتى عن الحضارة.
"غزة بين القصف والجوع – حين تُصبح الحياة صمودًا مستمرًا"
الأحد 11 أيار – مايو 2025
فريق الإعداد والتحليل
حين يُصبح الموت جزءًا من الحياة اليومية، وتُصبح الكارثة عنوانًا ثابتًا لعناوين الأخبار، يُدرك العالم أن شيئًا ما قد تجاوز حدود الإنسانية. في غزة، حيث الموت يتسلل مع كل غارة، وحيث تُصبح الحياة تحديًا يوميًا في مواجهة القصف والجوع والمرض، يختبر الفلسطينيون أصعب مراحل الصمود في تاريخهم المعاصر. اليوم، استشهد 25 فلسطينيًا في سلسلة غارات إسرائيلية استهدفت خيامًا تؤوي نازحين ومنازل في أنحاء مختلفة من القطاع، بينما توفي آخرون بسبب نقص الأدوية وانتشار الأمراض في بيئة مكتظة وشديدة الهشاشة.
القصص التي تأتي من غزة تُشبه إلى حد كبير روايات الحرب العالمية الثانية، حيث كان المدنيون يُقتلون في بيوتهم، وتُهدم منازلهم فوق رؤوسهم، وتُترك الجثث في الشوارع لساعات قبل أن يتمكن أحد من نقلها إلى أقرب مستشفى. لكن في غزة، ليس فقط القنابل هي التي تقتل، بل أيضًا الحصار المفروض على القطاع منذ سنوات، والذي حوّل الحياة إلى سلسلة من الأزمات المتلاحقة.
الغارات الأخيرة، التي استهدفت مناطق مثل خان يونس ودير البلح ومدينة غزة، لم تترك خيارًا لسكان القطاع سوى الهرب من موت إلى موت آخر. في خان يونس، استشهد فلسطيني ونجله في قصف استهدف خيمة تؤوي نازحين في محيط أبراج طيبة، بينما قُتل 10 آخرون -بينهم 5 أطفال- في قصف استهدف خيامًا غربي المدينة. وفي دير البلح، استُهدف مواطنون بطائرة مسيرة، ما أدى إلى استشهاد فلسطينيين وإصابة آخرين بجروح خطيرة.
لكن الغارات الجوية ليست وحدها من يُهدد حياة الفلسطينيين. في الشمال، استشهد طفل وأصيب آخر بجراح خطيرة في قصف مدفعي استهدف تجمعًا مدنيًا في عزبة عبد ربه شرقي جباليا، فيما قُتل فلسطينيان آخران في قصف استهدف حي الشيخ رضوان غربي غزة. هذا القصف المكثف يُعيد إلى الأذهان مشاهد الحرب الشاملة، حيث تُصبح كل زاوية وكل حي هدفًا مشروعًا للصواريخ والمدفعية.
وفي ظل هذا التصعيد العسكري، تزداد معاناة السكان بسبب النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية. وزارة الصحة في غزة أعلنت وفاة عدد كبير من الأشخاص -بينهم أطفال- نتيجة سوء التغذية ونقص الأدوية. ووفقًا للوزارة، فقد توفي 57 طفلًا الأسبوع الماضي فقط بسبب المضاعفات الصحية الناجمة عن نقص الحليب العلاجي والأدوية الأساسية، في ظل حصار مشدد يمنع دخول أي مواد إغاثية أو طبية منذ شهور.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي شهادات على معاناة شعب يُحاصر بين الموت والجوع. سكان غزة، الذين يُقدر عددهم بنحو 2.4 مليون نسمة، يعتمدون بشكل كامل على المساعدات الإنسانية التي تمنعها إسرائيل منذ الثاني من مارس/آذار الماضي. هذا الحصار لا يقتصر على إغلاق المعابر ومنع دخول المواد الغذائية والطبية، بل يمتد ليشمل قطع التيار الكهربائي وإغلاق محطات الوقود ومنع دخول أي مواد بناء، مما يجعل إعادة إعمار القطاع حلمًا بعيد المنال.
لكن الكارثة الإنسانية في غزة ليست مجرد نتيجة لحصار اقتصادي أو تصعيد عسكري، بل هي جزء من سياسة منهجية تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وإجباره على الاستسلام أو الرحيل. هذا التكتيك ليس جديدًا، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تُستخدم في النزاعات حول العالم، حيث يُستخدم الحصار والتجويع كسلاح لإخضاع الشعوب وتفكيك المجتمعات.
ومع استمرار القصف الإسرائيلي واستهداف المنازل والمستشفيات والمدارس، يُواجه الفلسطينيون خطرًا وجوديًا حقيقيًا. ليس فقط لأنهم يُقتلون بالقنابل، بل لأنهم يُحرمون من أبسط حقوقهم الإنسانية، مثل الحصول على الطعام والدواء والماء النظيف.
إن العالم الذي يراقب هذه الكارثة بصمت، أو يكتفي بإصدار بيانات الإدانة، يتحمل جزءًا من المسؤولية عن هذه الجرائم. لأن الصمت في مثل هذه الحالات يُعتبر مشاركة في الجريمة، والحياد يُصبح تواطؤًا عندما يكون الموت هو النتيجة الوحيدة الممكنة.
ربما لا تستطيع غزة تغيير المعادلات السياسية أو إعادة ترتيب التحالفات الدولية، لكنها تُثبت مرة أخرى أن الشعب الذي يُقاتل من أجل حريته لا يُمكن أن يُهزم بسهولة. غزة ليست مجرد مدينة تحت الحصار، بل هي رمز للصمود والإرادة، وشاهد على فشل المجتمع الدولي في حماية الأبرياء من ويلات الحرب.
رؤية خاصة:
ما يجري في غزة ليس مجرد تصعيد عسكري، بل هو محاولة لكسر إرادة شعب بأكمله. هذا الصمود، رغم كل المعاناة، يُظهر أن الشعب الفلسطيني لا يزال قادرًا على مواجهة أعتى الآلات العسكرية بقلوب مليئة بالأمل والإيمان بالحرية.
الأنفاق التي هزّت الجيش: كيف أعادت حماس تعريف مفهوم التفوق العسكري؟
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الأحد 11 مايو 2025
حين تعترف هيئة البث العبرية الرسمية بأن الجيش الإسرائيلي لم يدمّر سوى ربع أنفاق حماس بعد أكثر من عام ونصف من القصف المكثف والعمليات البرية والاستخباراتية، فإن الأمر لا يتوقف عند حدود الإحصاءات العسكرية. بل يُطرح سؤال جوهري: هل ما زال مفهوم "التفوق العسكري" صالحًا في الحروب الحديثة، عندما تفشل القوة التكنولوجية المتفوقة في مواجهة أدوات بدائية مثل المعاول والتراب؟
في عمق قطاع غزة، وتحت ركام الحرب المدمرة، نشأت "دولة تحت الأرض". شبكة أنفاق حماس لم تعد مجرد ممرات سرية للهروب أو التخزين، بل تحولت إلى بنية عسكرية موازية تعمل على مستوى استراتيجي. الأمر يشبه ما فعله الفيتكونغ في حرب فيتنام، حين استعصى عليهم النصر فوق الأرض، فبنوه تحتها.
ما تفعله حماس عبر هذه الأنفاق ليس مجرد اختراق لخطوط العدو، بل كسر لمعادلة الحرب التقليدية. إسرائيل، التي تملك الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وأجهزة الاستشعار المتطورة، تقف حائرة أمام "تضاريس معكوسة" تُعيد توجيه المعركة، حيث العدو لا يُرى، ولا يُستهدف، ولا يُفنى، بل يخرج ليضرب ثم يختفي.
الاعتراف الإسرائيلي لا يتوقف عند حجم الدمار المنخفض، بل يتعداه إلى "القلق الاستراتيجي" من قدرة حماس على مواصلة البناء والتوسيع. هذا القلق ليس أمنيًا فقط، بل نفسي ومفاهيمي. فالمؤسسة العسكرية التي نشأت على مبدأ الردع والسيطرة تواجه خصمًا ينجح في إعادة بناء قدراته الحربية تحت النار، ويفرض من خلال الأنفاق زمنًا جديدًا للمعركة، لا يخضع لساعات الهجوم، ولا لخطط الاجتياح.
هناك فارق كبير بين تدمير هدف سطحي يمكن رصده وتحديد موقعه، وبين محاربة عدو يعيش في متاهة مجهولة، يتنقل بين الأزقة تحت الأرض، ويملك حرية المبادرة. الأنفاق في غزة ليست مجرد مشكلة هندسية، بل أزمة في فلسفة الحرب الإسرائيلية ذاتها، التي تعتمد على التفوق الكاسح والضربة الاستباقية.
بل إنّ حماس، عبر هذه الأنفاق، لا تستخدمها فقط لأغراض عسكرية، بل كوسيلة لمعادلة الرعب. فمن يتابع تقارير الجيش الإسرائيلي سيجد أن الجنود باتوا يعيشون في "قلق دائم" من هجمات مفاجئة قد تخرج من أي نقطة، وهو ما يربك الانضباط، ويهز الثقة، ويزرع الهشاشة في صفوف القوة المهاجمة.
الأنفاق أعادت تعريف "المساحة" في الحرب. لم يعد التفوق في الجو والبر كافيًا. المعركة تدور في بعد ثالث لا يخضع لرادارات، ولا تُخترق رموزه بسهولة. الأنفاق تمثل تحديًا للأمن السيبراني والمراقبة الحرارية والهندسة العسكرية، وتفرض معادلات مكلفة على جيش تقليدي يريد إنهاء معركة بخريطة ومسار، ليجد نفسه في مواجهة خصم لا يمشي على الخريطة، بل ينسج شبكته خارجها.
من جهة أخرى، فإن قدرة حماس على الاستمرار في البناء وإعادة التأهيل، تحت الحصار والقصف، تُشير إلى خلل كبير في الحسابات الاستخباراتية. لا يمكن لحرب أن تنجح حين تفشل في "التقدير"، وهذا بالضبط ما يصيب منظومة القرار الإسرائيلي بالإرباك.
ما لا تقوله هيئة البث العبرية، هو أن أنفاق حماس أصبحت رمزًا للمقاومة بمعناها الجديد: مقاومة التخلف أمام التكنولوجيا، ومقاومة الحصار بالبنية التحتية، ومقاومة الاستئصال بالاختباء الذكي. لم تعد المعركة تدور حول من يملك الدبابة الأكبر، بل من يملك المرونة والخفة والفكرة التي تصمد في أكثر الظروف قسوة.
وإذا كان الهدف من الحرب، حسب الرواية الإسرائيلية، هو "تفكيك البنية التحتية للمقاومة"، فإن نتائج عام ونصف من المعارك تشير إلى فشل ذريع، واستنزاف مفتوح، وانهيار تدريجي في رواية النصر. الأنفاق ليست فقط سلاحًا، بل سردية تقاوم فكرة الإخضاع، وتجعل من كل قنبلة فوق الأرض مجازًا عن الفشل في ملاحقة الهدف الحقيقي.
وفي هذا السياق، تبدو الأنفاق وكأنها تجسيد لعقلية "ما بعد الهزيمة": كيف تستمر المقاومة رغم كل شيء؟ كيف تبتكر مفاهيمها، وتُحبط خطط خصمها، وتُعيد تعريف المفردات؟ من النفق تخرج "الفكرة" التي لا تُقصف، ولا تُدمر، بل تنمو كلما اشتدت الحرب
الردع النووي لم يعد كافيًا: جنوب آسيا تدخل عصر "الحرب تحت المظلة"
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
السبت 10 مايو 2025
لطالما ظنّ العالم أن امتلاك الهند وباكستان للسلاح النووي سيجعل من الحرب الشاملة بينهما خيارًا مستبعدًا إن لم يكن مستحيلًا. فالردع النووي، بمفهومه التقليدي، يفترض أن وجود القدرة التدميرية القصوى يمنع أي دولة من التورط في مواجهة مباشرة مع نظيرتها المسلحة نوويًا. لكنّ التصعيد الأخير، المتمثل في الضربات الجوية التي شنتها الهند على ما سمّته "بنى إرهابية" داخل الأراضي الباكستانية، وردّ الجيش الباكستاني بإطلاق صواريخ على المطارات الهندية، يكشف عن تغير عميق في قواعد الاشتباك، ويشير إلى أننا قد دخلنا فعليًا عصر "الحرب تحت المظلة النووية".
فما حدث ليس مجرد مناوشة حدودية، بل عملية عسكرية كاملة من جانب الهند طالت عمق الأراضي الباكستانية، تبعتها ردود محسوبة من باكستان. ومع ذلك، لم يُطرح على لسان أي مسؤول في الطرفين استخدام السلاح النووي، بل بدا واضحًا أن الطرفين يتعاملان مع الحرب التقليدية كأداة سياسية ضمن هامش يُفترض أن يبقى دون العتبة النووية.
المفارقة الكبرى هنا أن السلاح النووي الذي بُنيَ في الأصل لضمان الردع، يُستخدم الآن من قبل الطرف الأقوى تقنيًا (الهند) كغطاء لشن ضربات تقليدية سريعة ومحدودة، مدركًا أن الطرف الآخر لن يصعد إلى درجة استخدام الردع النووي. هذا ما يعرف في النظرية العسكرية بـ"الردع المعكوس"، حيث لا يمنع وجود السلاح النووي الحرب، بل يخلق مساحة آمنة للحرب التقليدية!
ومن خلال هذا المنظور، يصبح تصريح وزير الخارجية الباكستاني محمد إسحق دار، بأن "باكستان ستتوقف عن الرد إذا توقفت الهند عن الهجمات"، إشارة إلى عجز الردع النووي عن لعب دوره الكامل، والاعتماد على القنوات الدبلوماسية والتوازن السياسي أكثر من التهديد النووي الصريح.
لكن ما الذي تغيّر؟
هناك أربعة تحولات رئيسية جعلت الردع النووي غير كافٍ في جنوب آسيا:
التطور التكنولوجي في الأسلحة التقليدية: فالهند أصبحت تملك منظومات دقيقة قادرة على تنفيذ ضربات محددة بدقة دون حاجة إلى اجتياح شامل أو استخدام الأسلحة النووية.
الإرادة السياسية لدى نيودلهي: الحكومة الهندية تتبنى منذ سنوات سياسة "الرد المسبق" على ما تعتبره تهديدًا إرهابيًا قادمًا من باكستان، وهو ما تجسد سابقًا في ضربات 2016 و2019، والآن في ضربات 2025.
تراخي المجتمع الدولي: رغم التوترات، لا تواجه الهند ضغطًا جديًا من القوى الكبرى، لا سيما مع تقاربها مع واشنطن في إطار الصراع مع الصين. هذا ما يخلق لديها إحساسًا بأن التصعيد المحدود مقبول طالما لا يؤدي إلى حرب شاملة.
الجمود السياسي داخل باكستان: تواجه إسلام آباد تحديات اقتصادية وسياسية عميقة، ما يجعل قدرتها على المناورة الاستراتيجية محدودة، ويفرض عليها الردّ المحدود دون التصعيد الكامل.
من هنا، فإن التحليل الاستراتيجي يتطلب الانتقال من منطق "الردع النووي المطلق" إلى فهم آليات "الحرب تحت المظلة النووية"، حيث الصراعات لا تنشب بنيران شاملة، بل تُدار ضمن هامش ضيق يتجنب التصعيد النووي لكنه يُبقي جبهة التوتر مشتعلة.
وهذا النموذج يفتح الباب على مخاطر أكبر مستقبلًا، إذ إن استمرار هذه الديناميكية سيقود حتمًا إلى حادثة خطأ أو تصعيد غير محسوب قد ينفجر خارج السيطرة. فكل ضربة محسوبة اليوم قد تقود إلى رد غير محسوب غدًا، خصوصًا في بيئة كثيفة السكان، مضطربة سياسيًا، تملك صواريخ نووية على الجهتين.
ما الذي يمكن فعله إذًا؟
الحل لا يكمن فقط في وقف إطلاق النار، بل في إعادة صياغة قواعد الاشتباك بين الهند وباكستان، عبر آلية تفاهم ثنائي يشرف عليه أطراف محايدة كالصين أو دول الخليج، ويعتمد على آليات تحذير مبكر وتبادل للمعلومات في حالات الأزمات.
كما ينبغي على القوى الكبرى، وخصوصًا الولايات المتحدة، أن تلعب دورًا حاسمًا في وقف منح الهند شيكًا مفتوحًا للتصرف داخل الأراضي الباكستانية، بحجة الحرب على الإرهاب. فالصمت الدولي لا يردع العدوان، بل يغذيه.
وفي المحصلة، ما يجري في جنوب آسيا اليوم ليس فقط اشتباكًا مسلحًا، بل تحولًا في الوظيفة السياسية للسلاح النووي نفسه. فحين يصبح الردع غطاءً للمغامرة، لا حارسًا للسلام، فإن الاستقرار الإقليمي سيكون أول الضحايا.
"المجاعة السياسية": حين يتحول الخبز إلى ورقة تفاوض في الحروب الحديثة
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
السبت 10 مايو 2025
في غمرة القصف المتواصل على قطاع غزة، وتحت سحب الدخان المتصاعدة من خيام النازحين، هناك مشهد أكثر فتكًا من الغارات الجوية: أطفال بأجساد هزيلة، يحدقون في اللاشيء، وبطونهم الفارغة تصرخ بصمت. هذا المشهد وحده كفيل بأن يعيد تعريف الحرب في عصرنا الحديث، ليس كحرب على الجبهات أو الساحات، بل كحرب على الأرواح من الداخل، حرب يشنها الجوع وتُصمم بعناية على طاولة السياسة.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في الحالة الغزية اليوم هو: متى تحوّل الخبز إلى سلاح تفاوض؟ ومتى أصبح الجوع سياسة دولة، لا نتيجة عرضية لحرب أو حصار؟
منذ السابع من أكتوبر 2023، والاحتلال الإسرائيلي يقود حربًا مدمرة ضد غزة. لكن خلال الشهور الأخيرة، بدأت ملامح هذه الحرب تتبدل: من حرب صاروخية مباشرة إلى هندسة ممنهجة للمجاعة. بات الجوع، لا القصف فقط، أداة مركزيّة في الصراع، تُستخدم لفرض الشروط السياسية، وتحقيق مكاسب استراتيجية دون تكلفة عسكرية مباشرة. إنها المجاعة المُسيّسة: حين يُمنع الغذاء، ويُحاصر الماء، ويُغلق المعبر، ليس فقط لإضعاف المقاومة المسلحة، بل لإخضاع المجتمع كله.
اللافت أن الاحتلال لا يعلن عن هذه السياسة، بل يمارسها من خلال صمت دبلوماسي وخنق إنساني بطيء. 39 ألف شاحنة مساعدات لا تزال ممنوعة من دخول القطاع، والمخابز توقفت منذ أكثر من أربعين يومًا، فيما يشير الأطباء والمنظمات الإنسانية إلى انتشار حالات سوء تغذية حاد بين أكثر من 65 ألف طفل. هذه ليست أرقامًا؛ إنها سياسة تُنفّذ تحت غطاء الحرب.
وإذا كانت المجاعة قد ارتبطت تاريخيًا بالكوارث الطبيعية أو الأزمات الاقتصادية، فإن ما يحدث في غزة اليوم يختلف تمامًا: إنها مجاعة مصنوعة ومتعمدة، يجري إدارتها من غرف القرار الأمني والسياسي، وليس من ميزان الطقس أو انهيار الأسواق.
وهنا، ينبغي أن ننتبه لزاويتين خطيرتين في هذا التحول:
أولًا، أن الاحتلال يُعيد تشكيل أدوات السيطرة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من خلال الانتقال من الحرب العسكرية إلى الضغط البيولوجي. فالجسد الفلسطيني، لا البنية العسكرية، هو المستهدف. الأطفال، الشيوخ، المرضى، والنساء، جميعهم صاروا "بيئة ضغط"، تمامًا كما تُستخدم المناطق الحيوية في العمليات العسكرية.
وثانيًا، أن هذا النمط الجديد من الحروب لا يلقى ردعًا دوليًا. فبينما ينص القانون الدولي صراحة على تجريم استخدام الحصار والتجويع ضد المدنيين، لا تزال إسرائيل تتمتع بحماية سياسية، خصوصًا من الولايات المتحدة، التي عطّلت حتى الآن كل مسارات المحاسبة في مجلس الأمن، بل وتُواصل تزويدها بالسلاح.
لكن ما هو أخطر من الحماية السياسية، هو التمهيد الأخلاقي الذي يمرر الجريمة بصمت: تصوير غزة كـ"بيئة معادية" أو "بيئة حاضنة للإرهاب"، وهو توصيف يشرعن ضمنيًا استخدام وسائل غير تقليدية للقمع، بما فيها التجويع. حينها، لا يبدو منع الخبز جريمة، بل "إجراء أمني مشروع"، وهذا التلاعب الخطابي هو ما يُمكّن الاحتلال من مواصلة جريمته دون ضغط حقيقي.
لكن وسط هذا الواقع القاتم، هناك نقطة ضوء لا يمكن إنكارها: المجتمع الغزي لا يزال يقاوم. ليس فقط بالسلاح، بل بالكرامة، وبإرادة العيش. المبادرات الشعبية لتأمين الغذاء، محاولات الأمهات توفير لقمة لأطفالهنّ، وتصميم المدنيين على البقاء رغم كل محاولات الإبادة، كلها صور لمقاومة صامتة لكنها فعّالة. لأن الجوع لا يُهزم فقط بالمساعدات، بل يُهزم حين تتحول الرغبة في البقاء إلى قرار جماعي بالرفض.
هذا الصمود يفرض سؤالًا حرجًا على العالم: إلى متى يمكن السكوت على استخدام المجاعة أداة سياسية؟ بل وأكثر من ذلك: هل سنشهد لاحقًا حروبًا تدار كلها بالجوع بدل السلاح؟ هل دخلنا مرحلة "الابتزاز الغذائي" في الصراعات الحديثة، بحيث يصبح الطعام ورقة مساومة تُطرح على طاولة المفاوضات؟
إذا لم يتشكل وعي عالمي حاسم ضد هذا النوع من الحروب، فإن ما يجري في غزة قد يُكرَّس كنموذج جديد، تُقلده دول أخرى في نزاعاتها مع خصومها. وهذا يعني أن كل طفل يتضور جوعًا اليوم، قد يكون بداية نمط عالمي جديد في صناعة الإبادة.
إنها مسؤولية الصحافة، والمنظمات الإنسانية، وصناع الرأي العام، أن يُعيدوا تعريف هذه الحرب على حقيقتها: ليست حربًا على المقاومة، بل حرب على الحياة نفسها. وأن يقفوا بوضوح ضد سياسة الجوع كوسيلة لتحقيق النصر السياسي.
وفي النهاية، فإن بقاء غزة، بكل هذا الصمود، رغم كل ما يُمارَس ضدها، هو البرهان الأكبر على أن الخبز، وإن كان وسيلة للحصار، يمكن أن يتحول أيضًا إلى رمز للمقاومة التي لا تنهزم.
هل يُمكن للحوار العسكري بين مصر وتركيا إعادة تشكيل خريطة التحالفات في المنطقة؟
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الخميس 8 أيار – مايو 2025
في الوقت الذي تُعيد فيه القوى الكبرى ترتيب أوراقها على الساحة الدولية، وتبحث فيه الدول الإقليمية عن موطئ قدم أكثر ثباتًا في عالم تتغير فيه التحالفات بسرعة الضوء، جاء الاجتماع الأول للحوار العسكري رفيع المستوى بين مصر وتركيا ليُثير تساؤلات عديدة حول مستقبل العلاقات بين هاتين القوتين الإقليميتين.
اجتماع أنقرة ليس مجرد لقاء بين جيوش، بل خطوة نحو إعادة بناء الثقة بين بلدين يمتلكان أكبر قوتين عسكريتين في المنطقة بعد إسرائيل، وتتحكم جغرافيتهما بأهم الممرات البحرية في العالم، من قناة السويس إلى مضيقي البوسفور والدردنيل.
لكن، هل يكفي لقاء واحد في العاصمة التركية لتجاوز عقود من التوتر وسوء الفهم؟
وهل يُمكن للعسكر أن يُعيدوا رسم خرائط التحالفات التي فشلت السياسة في ضبط إيقاعها؟
مصر وتركيا، اللتان كانتا ذات يوم قلب الإمبراطورية العثمانية، تفترقان اليوم في كثير من الملفات، لكنهما تلتقيان في عدد من النقاط التي قد تُشكّل أساسًا لشراكة استراتيجية جديدة.
البلدان يمتلكان جيوشًا حديثة وتجربة طويلة في إدارة الأزمات، لكنهما أيضًا يعانيان من تحديات مشتركة، تشمل الإرهاب، والأمن البحري، والاضطرابات الإقليمية.
مصر، التي تُعتبر بوابة أفريقيا وشرق المتوسط، تُدرك أهمية الحفاظ على توازن علاقاتها مع القوى الإقليمية الكبرى، بينما تُحاول تركيا إعادة بناء دورها كقوة إقليمية مركزية تمتد تأثيراتها من القوقاز إلى شمال أفريقيا.
لكن، لماذا الآن؟
لماذا يختار العسكر في مصر وتركيا الحوار في هذا التوقيت بالذات؟
الإجابة قد تكون في التحولات الإقليمية والدولية التي تُعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة.
الولايات المتحدة تُعيد تموضعها في الشرق الأوسط بعد سنوات من الفوضى، وروسيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في أفريقيا، والصين تُحاول بناء ممرات جديدة للتجارة والطاقة عبر مبادرة الحزام والطريق.
في هذا السياق، تُدرك القاهرة وأنقرة أن العمل منفردًا لن يُحقق لهما الأمن والاستقرار في عالم يتغير بسرعة، وأن الشراكة قد تكون أكثر فعالية في مواجهة التحديات المتزايدة.
الملف الليبي، الذي كان أحد أهم أسباب الخلاف بين البلدين، قد يُصبح اليوم نقطة تقارب إذا تمكنت القاهرة وأنقرة من التوصل إلى تفاهمات مشتركة بشأن مستقبل هذا البلد المضطرب.
مصر تُريد استقرار ليبيا لأسباب تتعلق بأمنها القومي والاقتصادي، وتركيا تُريد الحفاظ على نفوذها في غرب ليبيا لضمان استمرارية مصالحها الاقتصادية والعسكرية.
لكن هذا يتطلب أكثر من مجرد اجتماعات عسكرية، بل يحتاج إلى تفاهم سياسي أعمق يُراعي مصالح الطرفين في شرق المتوسط وشمال أفريقيا.
ثم هناك ملف الطاقة، الذي يُعتبر أحد أهم محركات السياسة الإقليمية في العقد الأخير.
تركيا، التي تبحث عن مصادر جديدة للغاز، تُدرك أن استقرار علاقاتها مع مصر قد يُفتح لها الباب للوصول إلى ثروات الغاز في شرق المتوسط، وربما حتى التعاون في مشاريع الطاقة المستقبلية.
من جهتها، ترى مصر في التعاون مع تركيا فرصة لتعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة، وربما حتى ربط شبكات الغاز والكهرباء بين أوروبا وآسيا عبر أراضيها.
لكن، الشراكة العسكرية لا تُبنى فقط على المصالح الاقتصادية، بل تحتاج إلى توافق في الرؤى الأمنية والسياسية.
البلدان بحاجة إلى بناء ثقة جديدة بعد سنوات من الشكوك والاتهامات المتبادلة.
هذا يتطلب تعزيز التعاون الاستخباري، وتنسيق الجهود في مكافحة الإرهاب، وتطوير القدرات الدفاعية المشتركة، وتبادل الخبرات في مجالات التكنولوجيا العسكرية.
لكن ماذا عن الديمقراطية؟
هنا يكمن التحدي الأكبر لمصر، التي تُحكم منذ 2013 بقبضة عسكرية أعادت البلاد إلى مرحلة ما قبل الثورة.
هل يُمكن لمصر، التي تُواجه انتقادات دولية بسبب قضايا حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية، أن تُعيد بناء ثقتها مع المجتمع الدولي دون معالجة هذه القضايا؟
وهل يُمكن للعسكر، الذين استولوا على السلطة بالقوة، أن يستدعوا الديمقراطية من جديد إذا كانت هذه هي الورقة التي يحتاجونها لاستعادة مكانة مصر الإقليمية؟
العالم يُراقب، والعواصم الكبرى تُدرك أن مصر لا يُمكن أن تُحقق الاستقرار الحقيقي دون إصلاحات سياسية تُعيد الثقة بين الشعب والدولة، وتمنح القاهرة نفوذًا أكبر في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم:
هل يُمكن للعسكر في مصر وتركيا أن يُعيدوا رسم خرائط التحالفات في المنطقة؟
هل يُمكن لهذا الحوار العسكري أن يتحول إلى شراكة استراتيجية تُغير موازين القوى في شرق المتوسط وشمال أفريقيا؟
الإجابة على هذه الأسئلة لن تأتي سريعًا، لكنها بالتأكيد ستُكتب في صفحات التاريخ إذا نجح الطرفان في بناء الثقة، وتجاوز الخلافات، والعمل على تحقيق مصالحهما المشتركة في عالم يتغير بسرعة لا ترحم.
العراق وتركيا – من معابر الحدود إلى خرائط النفوذ
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الخميس 8 أيار – مايو 2025
حين يلتقي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة، فإن الحدث لا يمكن أن يُقرأ إلا في ضوء تحولات جذرية تشهدها المنطقة، لا سيما بعد انفراط عقد تحالفات كانت تقليدية، وصعود شراكات جديدة تتشكّل على أسس براغماتية تُمليها الضرورات السياسية والاقتصادية والأمنية.
العراق وتركيا يتحركان في زمن التوازنات المتحركة. لا يعود لقواعد ما قبل 2011 تأثيرٌ يُذكر، ولا حتى لمعادلات ما قبل ديسمبر 2024 التي شهدت انهيار النظام السوري السابق بزعامة بشار الأسد.
فاليوم، دمشق الجديدة بقيادة حكومة أحمد الشرع – المعترف بها دوليًا والمسنودة إقليميًا – تتحول إلى نقطة تقاطع في الحسابات الجيوسياسية للعراق وتركيا على حد سواء.
تركيا هي الفاعل الأبرز في الملف السوري، لا بقوتها العسكرية فقط، بل بقدرتها على ملء الفراغ الذي خلّفه خروج إيران وتفكك بقايا النظام السابق، بينما يتحرك العراق بمقاربة أهدأ لكنها أكثر استقلالًا من أي وقت مضى، بعدما تحرر – نسبيًا – من تأثير الحرس الثوري الإيراني وبعض الميليشيات الولائية التي كانت تُملي عليه شكل علاقاته الخارجية.
السوداني يصل إلى أنقرة مدعومًا بخبرة سنة ونصف من الحكم، أثبت خلالها أنه قادر على فتح قنوات متعددة دون أن يخسر جميع الأطراف. لكن زيارته هذه لا تشبه زياراته السابقة لدول الجوار.
هي زيارة في وقت حساس: الجنوب السوري يعاد ترسيمه، شمال العراق يشهد ديناميكية أمنية ضاغطة، والعلاقات التركية الأمريكية تمر بمنعطف حذر في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتعديل أولويات واشنطن في المنطقة نحو الضغط على الصين ومراقبة الهند وباكستان.
الهند وباكستان – جبهة آسيا المشتعلة وارتداداتها الجيوسياسية
الصراع الهندي الباكستاني لم يعد شأنًا جنوب آسيويًا صرفًا، بل أصبح نقطة توتر عالمي تتقاطع فيه خطوط التحالفات الجديدة.
الهند التي تشكل ضلعًا صلبًا في تحالف "كواد" المدعوم أمريكيًا، تتحول تدريجيًا إلى قوة إقليمية ذات ميول هجومية، كما بدا في عملية "سيندور" العسكرية الأخيرة ضد باكستان، والتي أسفرت عن سقوط عشرات القتلى وتبادل ضربات على جانبي كشمير.
الخطورة لا تكمن فقط في الاحتمال النووي، بل في التشظي الجيوسياسي الذي قد ينتج عن أي حرب شاملة في شبه القارة.
تركيا وباكستان، الحليفان التقليديان، سيجدان نفسيهما في موقع حرِج، خاصة في ظل حاجة تركيا لعلاقات قوية مع الهند في مجال التجارة والطاقة، مقابل روابطها الاستراتيجية مع باكستان.
أما العراق، فهو يتأثر بشكل غير مباشر عبر مشروع "طريق التنمية"، الذي يربط الموانئ العراقية بالحدود التركية، ثم بالأسواق الأوروبية والآسيوية، مما يجعله لاعبًا لوجستيًا يتأثر بأي تغير في موازين آسيا التجارية والعسكرية.
طريق التنمية – الشريان البديل ومعركة المنافذ
أحد أبرز أهداف زيارة السوداني هو تعميق الشراكة مع أنقرة في مشروع "طريق التنمية"، الذي يُعد محاولة عراقية – تركية – خليجية لإنتاج ممر استراتيجي يربط الخليج بأوروبا، بعيدًا عن القنوات التي تُهيمن عليها الصين أو تخضع لرقابة الولايات المتحدة.
المشروع لا يُهدد فقط مصالح إيران التي استُبعدت منه فعليًا، بل يُعيد تشكيل خريطة النقل الإقليمي، ويضع العراق في قلب معادلة تجارية جديدة.
تركيا ترى في هذا المشروع فرصة لتثبيت دورها كمركز ترانزيت إقليمي، فيما يرى العراق فيه فرصة تاريخية للتحول من ساحة عبور للقوات والنزاعات، إلى ممر اقتصادي وازن يُعيد إليه الاعتبار كمركز اتصال بين آسيا وأوروبا.
لكن هذا الطموح لا يمكن أن يتحقق من دون ضمان أمن المعابر، واحتواء المشكلات العالقة، وفي مقدمتها ملف المياه وملف حزب العمال الكردستاني.
السوداني يذهب إلى أنقرة مدركًا أن أي تقدم في الملفات الاقتصادية يجب أن يُوازيه تقدم حقيقي في معالجة هذه الملفات الأمنية، ضمن صفقة شاملة تحفظ سيادة العراق وتراعي مصالح تركيا في مكافحة التهديدات الحدودية.
الملف السوري – بين أنقرة وبغداد والتقاطع مع دمشق الجديدة
في العمق الجنوبي لكلٍّ من تركيا والعراق، سوريا الجديدة تُعيد تشكيل نفسها تحت سلطة حكومة وطنية انتقالية بقيادة أحمد الشرع، وتحظى باعتراف متزايد من الدول الغربية والعربية.
هذه الحكومة الناشئة تمثل شريكًا واعدًا في ملفات الطاقة، المياه، ومكافحة الإرهاب، لكنها تحتاج إلى غطاء سياسي واقتصادي إقليمي يحمي مسارها.
أنقرة تُبادر، لكن بغداد هي الأخرى تدرك أن استقرار سوريا يصب في صميم الأمن الوطني العراقي، لا سيما بعد سنوات من ارتدادات الحرب السورية على الداخل العراقي سياسيًا وأمنيًا وديموغرافيًا.
من هنا، يُرجّح أن تتوافق الرؤية التركية والعراقية على دعم سوريا الجديدة، لكن بشروط تضمن ألا تعود إلى دائرة المحاور أو تكون أداة في يد أطراف خارجية، كما كان الحال سابقًا مع النظام البائد.
رؤية خاصة
العراق وتركيا، إذ يلتقيان اليوم في أنقرة، فإنما يقفان على عتبة مرحلة ما بعد النفوذ الإيراني التقليدي، وما بعد الدولة السورية القديمة، وما بعد الحياد العراقي الخائف.
المنطقة تتشكل من جديد، وليس أمام اللاعبين الإقليميين إلا أن يُحددوا موقعهم في شبكة التحالفات، لا من موقع التبعية، بل من موقع الفعل المشترك.
ومن ينجح في ضبط إيقاع الجغرافيا مع التكنولوجيا والاقتصاد، هو من سيمتلك القدرة على صناعة القرار… لا التماهي معه فقط.
حرب التحالفات والمحاور: هل تشتعل القارة الهندية بنيران النووي؟
فريق الرصد والتحليل
الأربعاء 7 أيار – مايو 2025
حين يصبح السلام مجرد فصل بين حربين، تصبح الكلمات أثقل من الصواريخ، وتتحول الحدود إلى حقول ألغام سياسية.
التصعيد الأخير بين الهند وباكستان، بعد عملية "سيندور" والهجمات المتبادلة على طول خط السيطرة في كشمير، يفتح الباب واسعًا أمام أسئلة وجودية حول مستقبل جنوب آسيا، ومستقبل العالم نفسه في ظل سباق نووي لا يُبشّر بالخير.
لكن، هل يمكن قراءة هذا التصعيد بمعزل عن لعبة التحالفات الكبرى؟
هل يمكن تجاهل أن الهند وباكستان ليستا فقط قوتين نوويتين، بل هما أيضًا جزء من شبكة واسعة من التحالفات والمحاور التي تتحرك فيها القوى الكبرى كقطع شطرنج، لا تهتم بالدماء بقدر ما تهتم بالنفوذ والخرائط؟
الهند – المحور الغربي
الهند، منذ سنوات، تُعيد تشكيل سياستها الخارجية بشكل يُحوّلها من دولة عدم الانحياز إلى حليف استراتيجي للغرب.
واشنطن ترى في نيودلهي حصنًا في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في المحيط الهندي، ومحورًا أساسيًا في استراتيجيتها لمواجهة بكين ضمن تحالف "كواد" (Quad) الذي يضم الولايات المتحدة، اليابان، أستراليا، والهند.
بريطانيا أيضًا تراقب الهند بعين الشريك المستقبلي، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بينما تجد فرنسا في نيودلهي حليفًا عسكريًا واعدًا، وقد زودتها بطائرات رافال الحديثة.
لكن، هل تُدرك هذه القوى أن دعمها للهند قد يدفع المنطقة نحو حرب نووية؟
باكستان – المحور الصيني
في المقابل، تجد باكستان نفسها في معسكر آخر، حيث العلاقات العميقة مع الصين، التي تستثمر مليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية عبر "الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني" (CPEC) ضمن مبادرة الحزام والطريق.
بكين ترى في إسلام آباد حليفًا استراتيجيًا يُؤمن لها ممرًا بريًا إلى المحيط الهندي، في وقت تسعى فيه إلى تقليل اعتمادها على المضائق البحرية التي قد تُغلق في حال اندلاع نزاع مع الولايات المتحدة.
إضافة إلى ذلك، تحتفظ باكستان بعلاقات قوية مع تركيا ودول الخليج، التي ترى في إسلام آباد شريكًا إسلاميًا وعسكريًا قويًا في مواجهة التهديدات الإقليمية.
لكن، هل تُدرك هذه القوى أن دعمها لباكستان قد يُشعل حربًا نووية تُغير معادلات الجغرافيا السياسية في آسيا؟
المصالح الأمريكية – الرهان الخطر
الولايات المتحدة، رغم دعواتها المتكررة لضبط النفس، تجد نفسها في موقف معقد.
من جهة، ترغب في تعزيز الهند كمحور استراتيجي لمواجهة الصين، ومن جهة أخرى، تخشى أن يؤدي التصعيد مع باكستان إلى إشعال حرب نووية تُدمّر كل خططها في المنطقة.
واشنطن تُدرك أيضًا أن انهيار باكستان قد يعني فتح الباب أمام الفوضى النووية، وانتشار الأسلحة إلى جماعات غير حكومية، وهو سيناريو أسوأ من أي مواجهة تقليدية.
فهل تُغامر أمريكا بدعم الهند حتى النهاية، أم تبحث عن مخرج يُبقي الحليفين النوويين تحت السيطرة؟
الصين – لعبة الأعصاب الباردة
الصين، التي تُراقب من خلف الكواليس، تعلم جيدًا أن أي مواجهة نووية في جنوب آسيا ستُضعف خصمها الهندي، لكنها أيضًا قد تدفعها نحو تحالف أعمق مع الغرب.
بكين ترى في باكستان حليفًا استراتيجيًا، لكنها ليست مستعدة لخوض حرب نووية من أجله.
وبينما تدعم باكستان سرًا، تسعى إلى تهدئة الأوضاع علنًا، حتى لا تُخاطر بمصالحها التجارية الهائلة في المنطقة.
لكن، هل تستطيع الصين الحفاظ على هذا التوازن المعقد دون أن تُحاصر نفسها في نهاية اللعبة؟
روسيا – الحليف الصامت
وروسيا، التي كانت تقليديًا أقرب إلى الهند، تجد نفسها الآن في موقف صعب.
موسكو لا ترغب في خسارة علاقتها التاريخية مع نيودلهي، لكنها أيضًا ليست مستعدة للتضحية بعلاقتها مع باكستان والصين، في وقت تجد فيه نفسها تحت ضغط العقوبات الغربية بسبب الحرب في أوكرانيا.
هل تتحول روسيا إلى لاعب خلفي يُحاول الحفاظ على توازنه في مواجهة هذا التصعيد النووي، أم تجد نفسها مضطرة لاتخاذ موقف أكثر وضوحًا إذا اشتعلت الحرب؟
الخاتمة: من يحكم النار؟
حين يلتقي النووي مع لعبة التحالفات، تصبح الحسابات أكثر تعقيدًا، والخطأ أكثر كارثية.
إذا اشتعلت المواجهة بين الهند وباكستان، فلن تبقى النيران محصورة في حدود كشمير، بل ستمتد إلى عواصم العالم التي رسمت هذه المحاور وبنت عليها خططها.
فمن يُمسك بأعواد الثقاب في هذه اللعبة؟
وهل يبقى العالم متفرجًا حتى تنفجر أول قنبلة نووية، أم يجد طريقًا نحو التهدئة قبل فوات الأوان؟
التجويع كسلاح حرب: هل يصبح العالم شريكًا في إبادة غزة؟
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الأربعاء 7 أيار – مايو 2025
في عالم تتسارع فيه الأحداث ويتراجع فيه الضمير، تتحول غزة اليوم إلى مسرح لجريمة إنسانية بشعة لا يمكن السكوت عنها. إعلان رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى أن قطاع غزة بات "منطقة مجاعة"، لم يكن مجرد تصريح سياسي، بل هو صرخة استغاثة لإنقاذ ما تبقى من حياة تحت الحصار.
هل يعقل أن يحدث هذا في القرن الواحد والعشرين؟ وهل يمكن أن تقف الدول الكبرى، التي تُنادي بحقوق الإنسان، متفرجة على موت بطيء لشعب بأكمله؟
التجويع: سلاح الجبناء
يُعتبر استخدام التجويع سلاحًا في الحروب أحد أكثر الأفعال إجرامًا وانتهاكًا للقانون الدولي الإنساني. فحسب اتفاقيات جنيف، يعد تجويع السكان المدنيين جريمة حرب.
لكن حين يصبح هذا السلاح جزءًا من استراتيجية دولة تدّعي التحضر والديمقراطية، فإن الجريمة لا تكون فقط ضد الفلسطينيين في غزة، بل ضد مفهوم الإنسانية ذاته.
لم يكن إعلان غزة منطقة مجاعة مجرد توصيف لحالة جوع، بل هو توثيق لجريمة حرب يُشارك في وقوعها العالم بأسره، بصمته وتواطئه.
التجويع بين الفعل والنتيجة
منذ أكثر من 20 شهرًا، تفرض إسرائيل حصارًا خانقًا على قطاع غزة، يمنع دخول الغذاء والماء والدواء، ويقطع كل سبل الحياة عن 2.4 مليون نسمة.
التقارير الأممية تقول إن مئات الآلاف من الفلسطينيين يتناولون وجبة واحدة كل يومين أو ثلاثة، بينما تؤكد "الأونروا" أن القطاع يعيش في حالة من الانهيار التام.
لكن لماذا يحدث ذلك الآن؟
هل أصبحت غزة ورقة مساومة سياسية على طاولة الصفقات الدولية؟
أم أن العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني هو جزء من استراتيجية جديدة لفرض واقع سياسي جديد في المنطقة؟
من يتحمل المسؤولية؟
يبدو أن المجتمع الدولي، رغم كل التصريحات الرافضة، يقف عاجزًا أمام استخدام إسرائيل للتجويع كسلاح حرب. المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك قال بوضوح إن استخدام التجويع ضد المدنيين جريمة حرب.
لكن ما الفائدة من القول إذا لم يتبعه فعل؟
كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يطالب بإيقاف هذه الجريمة دون أن يتخذ خطوات عملية لرفع الحصار عن غزة؟
هل يمكن اعتبار هذا الصمت تواطؤًا غير معلن؟
إن لم تتحرك الدول الكبرى والمنظمات الدولية، فإنها ستصبح شريكة في جريمة إبادة جماعية لا تُغتفر.
التجويع والتطهير العرقي: هل ثمة فرق؟
إن سياسة تجويع المدنيين ليست مجرد وسيلة ضغط، بل هي وجه آخر للتطهير العرقي الذي يسعى لطرد السكان الأصليين ودفعهم إلى مغادرة أرضهم.
في كل نزاع دولي، كان استخدام الجوع وسيلة لإبادة الخصوم:
في حرب البوسنة، حاصرت القوات الصربية مدينة سراييفو، وحُرمت من الغذاء والدواء لسنوات.
في اليمن، تسببت المجاعة في وفاة الآلاف بسبب الصراع بين قوات الحوثيين والتحالف العربي.
في إثيوبيا، يواجه إقليم تيغراي أزمة إنسانية غير مسبوقة نتيجة الحصار المفروض.
هل أصبحت سياسة التجويع خيارًا مشروعًا في الحروب الحديثة؟
أم أنها انعكاس لعجز المجتمع الدولي عن وقف الجناة عند حدود الجرائم الإنسانية؟
غزة تحتضر والعالم يتفرج
حين يقف العالم متفرجًا على إبادة بطيئة لشعب، فإن السؤال ليس عن حجم المعاناة، بل عن غياب الضمير.
لماذا تتحول غزة إلى مختبر لأقسى أساليب الحرب؟
هل يُعقل أن تصمت الأمم المتحدة بعد أن أعلنت أن ما يحدث جريمة حرب؟
أين الاتحاد الأوروبي الذي يتغنى بحقوق الإنسان؟
وأين الجامعة العربية التي لا تتجاوز بياناتها حدود الإدانة اللفظية؟
أليس من الواجب أن يتخذ مجلس الأمن قرارًا عاجلًا برفع الحصار، بدلًا من الاكتفاء بالتصريحات الدبلوماسية الباهتة؟
الوجه القبيح للمعايير المزدوجة
حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين، يبدو أن العالم يعاني من ازدواجية في المعايير.
لو أن دولة أخرى قامت بحصار مدينة وحرمت سكانها من الطعام، هل كان المجتمع الدولي سيتعامل معها بنفس التساهل؟
حين يتجاوز العالم هذه الجريمة بصمت، فإنه يعطي الضوء الأخضر لمزيد من الانتهاكات، ويؤسس لسابقة خطيرة في العلاقات الدولية.
إن إسرائيل اليوم لا تُعاقب غزة فقط، بل تُعاقب كل فكرة عن العدالة الدولية.
الخاتمة: إرادة الحياة
مهما كان حجم الألم، فإن الفلسطينيين في غزة يثبتون يومًا بعد يوم أن إرادة الحياة تتفوق على آلة الموت.
لكن السؤال يبقى: إلى متى سيظل العالم متفرجًا على شعب يموت جوعًا؟
هل يمكن أن تظل غزة ورقة في لعبة الأمم؟
أم سيأتي اليوم الذي يدرك فيه المجتمع الدولي أن الصمت على هذه الجريمة هو شراكة في القتل؟
إن كان هناك أمل، فهو في أن تتحرك الضمائر قبل فوات الأوان، لأن غزة اليوم ليست مجرد قضية سياسية، بل هي اختبار لمفهوم العدالة في عصر يملؤه النفاق.
العدالة المؤجلة: هل تجرؤ سوريا الجديدة على محاكمة الماضي؟
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الأربعاء 7 أيار – مايو 2025
لم يكن اللقاء بين الرئيس السوري أحمد الشرع وفريد المذهان، المعروف بـ"قيصر"، في باريس مجرد لقاء بروتوكولي بين زعيم ورجل أصبح رمزًا للعدالة المفقودة في سوريا. إنه لقاء بين دولتين في جسد واحد؛ دولة تسعى للنهوض من رماد الحرب، وأخرى ما زالت أشباحها تحوم في الزنازين المظلمة وأقبية الفروع الأمنية.
الشرع، الذي وصل إلى باريس بدعوة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، يأتي كرئيس لسوريا جديدة أطاحت بنظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لكنه يقف الآن أمام اختبار أخلاقي وسياسي بالغ الصعوبة: هل يمتلك الجرأة لمحاسبة أركان الدولة الأمنية السابقة؟ وهل يمكن لسوريا أن تُعيد كتابة تاريخها دون مواجهة الماضي الملطخ بالدماء؟
"قيصر"… ذاكرة الدم
فريد المذهان، أو "قيصر" كما يعرفه العالم، ليس مجرد شاهد على الجريمة، بل هو جزء من ذاكرة سوريا الممزقة. الرجل الذي كان رئيسًا لقلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، تسلل بين جدران السجون ووثق آلاف الصور لجثث المعتقلين، وهرب بها إلى الخارج في واحدة من أخطر عمليات التوثيق في التاريخ الحديث.
إنه الرجل الذي فضح الممارسات المروعة لنظام الأسد، وأعاد تعريف التعذيب والقتل كجرائم حرب منهجية لا لبس فيها، وهي الجرائم التي أصبحت الأساس لقانون "قيصر" الذي فرضته الولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2019، لعزل النظام السوري عن النظام المالي العالمي وتجفيف موارده.
لكن، هل يكفي لقاء رمزي في باريس لإغلاق هذا الملف؟
هل يكفي أن يصافح الشرع الشاهد على الجرائم ليطوي صفحة أربعة عقود من العنف؟
العدالة ليست مجرد شعارات
العدالة الانتقالية، كما يعرفها القانونيون، ليست مجرد محاكمات وتوقيفات. إنها عملية شاملة تستهدف ليس فقط محاسبة الجلادين، بل أيضًا إعادة الثقة في الدولة، وفتح ملفات الحقيقة والمصالحة، وتقديم تعويضات للضحايا، واستعادة الثقة بين الدولة والمجتمع.
وهذا ليس بالمهمة السهلة في بلد عاش نصف قرن تحت حكم نظام اعتمد على القمع والقوة لإسكات معارضيه، وتشييد دولة أمنية تُراقب حتى الأنفاس.
ماذا سيفعل الشرع؟
إذا قرر الرئيس الشرع فتح هذه الملفات بجدية، فسيجد نفسه أمام مجموعة من الحقائق المؤلمة:
مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين
ملايين النازحين واللاجئين
عشرات الآلاف من ملفات التعذيب والقتل غير الموثقة
بنية تحتية أمنية كانت قائمة على تكميم الأفواه وكسر الإرادة
لكن السؤال الأخطر: هل يمتلك الشرع الإرادة السياسية لمواجهة هذا الإرث؟
أم أن المصالح السياسية والإقليمية ستجعل العدالة الانتقالية مجرد شعار يُرفع في العواصم الغربية، دون أن يجد طريقه إلى الزنازين المظلمة في دمشق؟
درس من التاريخ
التاريخ يقول إن الدول التي حاولت تجاوز ماضيها دون مواجهة حقيقية غالبًا ما عادت إلى نفس الدوامة من القمع والعنف. جنوب إفريقيا قدمت نموذجًا ناجحًا في المصالحة بعد الفصل العنصري، بينما فشلت دول أخرى مثل العراق وليبيا في بناء جسور الثقة بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية، بسبب غياب العدالة الانتقالية الحقيقية.
وإذا كان الرئيس الشرع يريد أن يبني دولة جديدة، فعليه أن يدرك أن العدالة الانتقالية ليست مجرد ورقة تفاوضية مع الغرب، بل هي ركيزة أساسية لأي عقد اجتماعي جديد في سوريا. إنها السبيل الوحيد لخلق دولة تُحترم فيها حقوق الإنسان، وتُحاسب فيها الجرائم، وتُبنى فيها المؤسسات على أسس من الشفافية والمساءلة.
ختامًا… هل سيجرؤ الشرع؟
في النهاية، ستبقى العدالة الانتقالية اختبارًا حقيقيًا لقدرة سوريا الجديدة على طي صفحة الماضي دون تمزيق الحاضر.
ولقاء الشرع و"قيصر" في باريس قد يكون بداية لهذه الرحلة، أو مجرد صفحة جديدة في تاريخ طويل من المواجهة مع الماضي، حيث لا يكفي الاعتراف بالجرائم، بل يجب مواجهة حقيقتها المرة.
فهل سيجرؤ الشرع على فتح هذا الملف بالكامل؟
أم أن أشباح الماضي ستبقى حاضرة، تُطارد كل من يجرؤ على النظر في عيون الضحايا؟
بورتسودان تحت النار: جبهة البحر الأحمر تُفتَح بصمت… فمن يقودها؟
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
الثلاثاء 6 أيار – مايو 2025
حين تحترق بورتسودان، لا تحترق مدينة فقط، بل يشتعل معها واحد من أخطر الملفات الجيوسياسية المُسكَت عنها في المنطقة: جبهة البحر الأحمر.
لأشهر طويلة، بقيت بورتسودان بمينائها ومقراتها الدولية تبدو وكأنها استثناء من نار الحرب. اختبأت فيها الحكومة، استقرت بها منظمات الأمم المتحدة، ورفرفت فوقها أعلام البعثات الأجنبية، وكأن الصراع السوداني "يعترف بحدود اللعبة". ثم فجأة، ضربتها المسيّرات. في اليوم ذاته، اشتعلت المستودعات، وانهارت محطة الكهرباء، وامتد الدخان إلى المقر الرئاسي.
لكن السؤال الجوهري هنا ليس: من أطلق الطائرات؟ بل:
من فتح جبهة البحر الأحمر في هذه اللحظة الحساسة؟ ولماذا؟
الضربات التي وُجّهت إلى بورتسودان ليست فقط عسكرية، بل رمزية بامتياز. إنها ضربات موجهة إلى كل "المعسكر الدولي" الذي حوّل بورتسودان إلى قاعدة إدارية لما تبقّى من الدولة السودانية. ومن يتجرأ على ذلك؟
الإجابة التي تتسلل من تحت الركام تقول: إننا أمام دخول أطراف إقليمية على خط الصراع، ليس دعماً لطرف، بل لإعادة هندسة موقع السودان في ميزان البحر الأحمر.
لنُعد قراءة المشهد كما هو، لا كما يُسوّق له إعلاميًا:
الإمارات تُتهم علنًا بدعم قوات الدعم السريع، ولأول مرة تجد نفسها أمام دعوى في محكمة العدل الدولية تتعلق بالإبادة الجماعية في دارفور، حتى لو رُفضت الدعوى شكليًا، فإن مضمونها مرّ.
إسرائيل، التي لم تختف عن خطوط الإمداد والتكنولوجيا، تراقب البحر الأحمر من سواكن إلى إريتريا، مرورًا بالسفن الإيرانية.
السعودية، التي تراهن على أن يبقى البحر الأحمر "ساحتها الخلفية الآمنة"، ترى الآن اللهب قريبًا من سواحلها.
مصر، التي تعتبر بورتسودان بوابة جنوب أمنها القومي، لا يمكنها الصمت طويلًا على تحويلها إلى ساحة استنزاف.
إذاً، بورتسودان لم تُستهدف فقط لأنها "مدينة"، بل لأنها رمز. رمز لفكرة أن "هذه المنطقة لم تعد محمية"، وأن هناك من قرر قلب الطاولة وتوجيه رسائل غير موقعة، بالنار.
لكن، من يقف فعلًا خلف قرار فتح هذه الجبهة؟
هل هي قوات الدعم السريع وحدها؟
أم أن هناك من اختار أن يحرق الأرض تحت أرجل كل من ظن أنه يملك "الشرعية"، أو يحتكر العلاقة مع المجتمع الدولي، أو يحتمي بالميناء والمساعدات؟
التحليل التقليدي يقول: قوات الدعم السريع تغيّرت تكتيكها.
لكن التحليل العميق يقول: هناك من أعاد برمجة الصراع نفسه.
إنها مرحلة "تكسير البيادق" على رقعة الصراع السوداني، حيث لا يُسمح لأحد بالثبات في منطقة آمنة، ولا يُمنح أحد ميزة القاعدة الخلفية. حتى بورتسودان، التي كانت تُباع كملاذ، تُدفع الآن إلى أن تكون ساحة.
وهنا، علينا أن ننتبه إلى تزامنات لا تخطئها العين:
تصعيد في اليمن على الضفة الأخرى من البحر الأحمر
تموضع دولي متسارع في باب المندب
تحرك سعودي–مصري للتنسيق الأمني
حضور أمريكي صامت عبر المخابرات والسفن
وغياب تركي متأنٍ رغم الحضور الرمزي في بعض الملفات
فهل نحن أمام ولادة جبهة البحر الأحمر بصفتها المسرح القادم لحرب باردة جديدة؟
وهل بورتسودان كانت "بالون اختبار"، أم بوابة تدشين حقيقي لهذه الجبهة؟
وهل تحوّل البحر الأحمر من ممر تجاري إلى ساحة عسكرية يمر عبر "حريق مقصود" لبورتسودان؟
إن ما يحدث لا يخص السودان وحده، بل يمسّ أمن الإقليم بأكمله، من شواطئ جدة إلى خليج عدن، ومن قناة السويس إلى موانئ جيبوتي.
وبعيدًا عن العناوين الرسمية، فإن من يتحكم بهذه الجبهة، يتحكم بإمدادات القرن الإفريقي، وبممرات آسيا–أوروبا، بل وبجغرافيا إعادة التموضع الأميركي نفسه في المنطقة.
بورتسودان احترقت فعلاً. لكن الشرارة لم تكن من السودان وحده.
اليد التي أطلقت المسيّرة قد لا تكون سودانية خالصة.
والهدف لم يكن خزان الوقود فقط.
الهدف كان: إشعال البحر الأحمر نفسه.
من نفط البصرة إلى نيودلهي: هل يعيد العراق رسم موقعه في آسيا؟
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الثلاثاء 6 أيار – مايو 2025
في لحظة تبدو اعتيادية في عالم الاقتصاد النفطي، صدرت بيانات رسمية تفيد بأن العراق تجاوز عتبة الـ29 مليار دولار من صادراته النفطية إلى الهند خلال عام 2024. رقم ضخم بكل المعايير، لكنه يتجاوز مجرد التوثيق المالي إلى مستوى أعمق من التساؤل الجيوسياسي: ما الذي يجعل العلاقات التجارية العراقية–الهندية تتصاعد الآن تحديدًا؟ ولماذا يبدو هذا الارتباط آخذًا في الترسخ، بينما تتغير خرائط التحالفات العالمية وتُعاد صياغة الممرات الاقتصادية الحيوية؟
لم تكن الهند غائبة يومًا عن السوق العراقية. لكنها خلال العقدين الماضيين فضّلت تنويع مصادرها النفطية من دول الخليج وإيران وروسيا. ورغم أن العراق ظل في قائمة الشركاء، فإن أرقام التبادل كانت أقل إثارة للانتباه. أما الآن، فالوضع مختلف؛ فنحن أمام قفزة تجاوزت 15% سنويًا على مدى أربع سنوات، وانتهت بتصدير أكثر من 52 مليون طن من الخام والمشتقات، بقيمة تلامس 30 مليار دولار، وهو ما يشكل خُمس واردات الهند النفطية من العالم.
هذا ليس مجرد توازن تجاري، بل مؤشر على تحولات ثلاثية الاتجاه: داخل العراق، وفي الهند، وعلى مستوى النظام الدولي. ففي الداخل العراقي، تسعى بغداد – رغم كل الأزمات – إلى تثبيت موقعها كمصدر موثوق ومستقر، بعد عقود من الحروب والاضطراب. أما في نيودلهي، فثمة تعطّش متزايد للطاقة بفعل التوسع الصناعي والسكاني المتسارع، ما يجعلها تقترب من مصادر جديدة أو تنمّي القديمة بعقود طويلة المدى. وفي قلب المعادلة، تبدو التقاطعات مع الجغرافيا السياسية حاضرة بقوة: فالعراق اليوم يتموضع بين الخليج وبلدان البريكس، ويملك هامشًا استثنائيًا للمناورة شرقًا وغربًا.
لكن، لِمَ الآن بالضبط؟ ما الذي يجعل هذا التقارب التجاري يكتسب زخمه في هذا التوقيت؟ هل المسألة فقط فائض نفطي وتسهيلات تصديرية، أم أننا أمام اصطفاف اقتصادي جديد بين بغداد والقوة الصاعدة في آسيا؟
الإجابة على هذا التساؤل ربما تكمن في قراءة سلوك الهند الدولي خلال السنوات الأخيرة. فالهند تسعى إلى تقليل اعتمادها على شركاء قد يتأثرون بالعقوبات الغربية، كإيران وروسيا، وتعتمد أكثر على شركاء "محايدين" في الصراعات الدولية. والعراق – بعد خروجه من العباءة الإيرانية الصلبة نسبيًا – بات يُنظر إليه كشريك قابل للتعامل مع جميع الأطراف. أضف إلى ذلك أن الهند ترى في العراق بوابة لتوسيع مشاريعها في إعادة الإعمار والاستثمار في البنية التحتية، وهو ما يجعل النفط العراقي جزءًا من صفقة أوسع تشمل التجارة، والموانئ، وحتى المجال الأمني لاحقًا.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل البُعد الأميركي في هذا السياق. فالولايات المتحدة التي انسحبت تدريجيًا من المعركة الميدانية في العراق، لم تغادره استراتيجيًا، بل أعادت تموضعه كلاعب في النظام الإقليمي، خصوصًا بعد تراجع إيران عن أدوارها في أكثر من ساحة. ولعل التقارب العراقي–الهندي يُرضي أيضًا واشنطن التي ترى في نيودلهي حليفًا استراتيجيًا في مواجهة الصين، وتبحث عن ممرات طاقة بديلة عن التي تمر عبر مناطق النفوذ الصيني والروسي.
إذاً، نحن أمام تقاطع بين الحاجة الاقتصادية، والتحوّل الجيوسياسي، والرغبة في بناء جسور بعيدة عن مناطق الصراع التقليدي. وهو ما يجعل من صادرات النفط العراقية إلى الهند أكثر من مجرد تجارة. إنها رسالة بأن العراق يعيد التفاوض على موقعه في آسيا، وأن نيودلهي لا تستورد النفط فقط، بل تستورد معها شراكة جديدة ربما تعيد صياغة التوازنات في الشرق الأوسط وآسيا معًا.
ولا يُستبعد أن تنعكس هذه الشراكة على ملفات أخرى: مثل التعاون في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية، أو حتى التبادل التعليمي والثقافي، حيث يتقاطع تاريخ الهند العريق مع تنوع العراق وثرائه، في مشهد يُبشّر بتعاون يمتد أبعد من السوق وأقرب إلى الاستراتيجية.
تركيا بين غزة وسوريا: رسائل الضغط والتمركز
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
الاثنين – 5 أيار 2025
الاتصال الهاتفي الذي جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، بدا وكأنه أكثر من تبادل مواقف في لحظة إنسانية حرجة، بل هو أشبه برسالة مزدوجة تحمل في طيّاتها هندسة جديدة لدور تركي فاعل في معادلتين متوازيتين: غزة المحاصرة، وسوريا الجديدة .
حين أبلغ أردوغان نظيره الأميركي بأن الوضع الإنساني في غزة بلغ مرحلة "كارثية"، فهو لا يتحدث بلغة التضامن فقط، بل بلغة التحذير السياسي، إذ يدرك أن صمت المجتمع الدولي على المجازر الجارية لم يعد مقبولًا أخلاقيًا ولا قابلًا للاستثمار استراتيجيًا. الرسالة المبطنة تقول: "نحن هنا، وضمير الشعوب معنا، وإذا صمت العالم، فلن نصمت نحن".
لكن الأهم أن الرئيس التركي لم يكتف بطرح الملف الفلسطيني، بل أعاد تثبيت معادلة تركيا في سوريا، مؤكدًا أن بلاده "تسعى إلى حماية وحدة الأراضي السورية وضمان استقرارها"، وهي عبارة مُشفّرة تختزل عقودًا من التوترات، والتحالفات، والمعابر، والحدود الملتهبة.
ما يفعله أردوغان ليس فقط تذكير ترامب بأن أنقرة لا تزال لاعبًا ضروريًا، بل أنه يقدّم نفسه كضامن إقليمي يمكن الوثوق به في إعادة ترتيب مشهدين: الأول، غزة التي تتعرّض لتطهير ممنهج في ظل غياب قرارات فاعلة؛ والثاني، سوريا التي دخلت مرحلة ما بعد الأسد، وهي لحظة دقيقة تتصارع فيها القوى المتدخلة على الحصص والنفوذ.
المثير أن تركيا تقدم موقفًا إنسانيًا في غزة، وموقفًا جيوسياسيًا في سوريا، لكنها في الحالتين تمارس نوعًا من "التمركز الاستراتيجي"، حيث تحرص على أن تلعب الدور الأكبر في محاكاة الشعوب والمستعد لحماية حدود الدولة، وهو ما يمنحها تفوقًا أخلاقيًا حين تتحدث عن المساعدات، وتفوقًا ميدانيًا حين تتحرك لحماية عمقها الأمني.
السؤال الآن: كيف ستتلقف واشنطن هذه الرسائل؟ وهل ستُترجم إلى تنسيق أو إلى احتواء؟ وما مدى قدرة أنقرة على المناورة وسط صراع المعسكرات، وخاصة مع ضغط الداخل التركي، والتنافس مع محور الخليج، وتصاعد الاهتمام الأوروبي بالجنوب الشرقي للمتوسط؟
ربما لا تملك تركيا اليوم مفاتيح الحل، لكنها باتت بوابة عبور لكثير من الملفات. وإن استمر هذا التوازن بين المبادرة الإنسانية في غزة والتمدد العقلاني في سوريا، فقد تجد أنقرة نفسها ذات يوم ليست جزءًا من الصراع، بل شريكًا في صياغة النظام الإقليمي، في ظل تأكيدات أمريكية على متانة وقوة العلاقة مع تركيا أكدها اليوم الاتصال بين الرئيسين، والذي وصفه ترامب بالمثمر، مؤكدا أنه بحث مع الرئيس التركي مواضيع عديدة منها سوريا وغزة والحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأن أردوغان قد وجه دعوة له لزيارة تركيا في وقت لاحق، كما سيزور أردوغان واشنطن أيضا.
كشمير فوق فوهة نووية: لماذا لا يريد العالم أن يسمع الانفجار؟
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
5 أيار 2025
ليس غريبًا أن تصدر الأمم المتحدة بيانًا يدعو إلى ضبط النفس بين الهند وباكستان. الغريب أن العالم بات يتلقى مثل هذه البيانات وكأنها رسائل طمأنة للغافلين، بينما الحقيقة أن كشمير اليوم ليست مجرد منطقة توتر، بل قنبلة موقوتة تُحدّق بها رؤوس نووية وسرديات قومية، تتغذى على الذاكرة والدم.
في كل مرة يقع فيها هجوم داخل كشمير، يرتفع منسوب الجنون الاستراتيجي، لا لأن الضحية فقط مدني، بل لأن القاتل دائمًا غير واضح الهوية. تُتهم الجماعات المسلحة، فترد باكستان بالتنصل، ثم تتهم الهند استخبارات خصومها، وتبدأ دوامة الاتهام المتبادل. لكن وسط كل هذا، تبقى كشمير ضحية معلّقة بين الجغرافيا والتاريخ، لا هي مستقلة ولا هي مطمئنة.
ما قاله غوتيريش عن "بلوغ التوتر نقطة الغليان" ليس تصريحًا دبلوماسيًا تقليديًا. إنه وصف حقيقي لحالة شبه القارة التي باتت بلا صمّام أمان. الجانبان يمتلكان قدرات نووية، وشبكات تجسس، وخطابًا قوميًا متصلبًا، ومناطق حدودية ملغّمة بالحسابات. وما يجعل التصعيد مخيفًا هو أنه ليس تصعيدًا عسكريًا بحتًا، بل تصعيد في الهوية الوطنية ذاتها، حيث يُختزل التاريخ في حرب، وتُختصر الأوطان في ثأر.
الهجوم الأخير في باهالغام أعاد تذكير الجميع بأن هناك مسارًا منسيًا اسمه المسار السياسي. ما بين نيودلهي وإسلام أباد لا توجد وساطة فاعلة، ولا اتفاقيات جديدة، ولا حتى خطاب مشترك. كل شيء توقف منذ سنوات، كأن كشمير باتت موضوعًا لا يُناقَش إلا على وقع القنابل والصواريخ.
الأمم المتحدة عرضت "المساعي الحميدة"، لكن السؤال الأهم: من يثق الآن في حيادية المؤسسات الدولية بعد أن خذلت كثيرًا من الشعوب في فلسطين، وسوريا، وميانمار، وأفريقيا الوسطى؟ وهل بقيت الأمم المتحدة قادرة على كبح جنون قومي تغذيه انتخابات داخلية، واستعراضات عسكرية، وخطابات إعلامية مفخخة؟
الهند وباكستان لا تحتاجان فقط إلى ضبط النفس، بل إلى إعادة تعريف النصر. لا أحد سينتصر إذا اندلعت حرب نووية خاطفة، ولن تبقى كشمير مكانًا للتفاوض، بل ستُمحى من الخريطة قبل أن تُمحى من الذاكرة. أما العالم، فسيندم متأخرًا، كما ندم مرارًا، حين كان يسمع قرقعة الانفجار القادم، ويواصل عزف بياناته الباردة.
الآن هو وقت الشجاعة، لا وقت المجاملة. وعلى النخب السياسية، والفكرية، والأمنية، أن ترفع الصوت عاليًا: كشمير ليست ساحة اختبار للعضلات، بل عقدة جيوسياسية تستدعي حلولًا خلاقة، لا مزيدًا من الدم. وإلا فإن الانفجار حين يقع، لن يستأذن أحدًا، ولن يقف عند حدود الهند أو باكستان، بل قد يهز هذا الكوكب بأكمله.
غزة لا تُجتَاح بل تُستَفز: من كسر الإرادة إلى انفجار الحقيقة
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
5 أيار/مايو 2025
كأن غزة ليست مدينة، بل اختبار للإنسانية في زمن اختلال المعايير. منذ الساعات الأولى من فجر اليوم، أعاد الاحتلال الإسرائيلي تشغيل آلة الحرب بكل وحشيتها، غير أن الأمر لم يكن تصعيدًا عاديًا، بل بدا كمحاولة مدروسة لاستفزاز التاريخ نفسه، من أجل تكرار مجازر لم تعد تفاجئ أحدًا، لكنها باتت تُسائل الجميع: من بقي حيًا في ضميره؟
في ساحة الصراع، يتهيّأ لنا أن كل شيء ينفجر في الوقت ذاته: المباني، الأجساد، الأصوات، والاحتمالات. غير أن أخطر ما ينفجر هو الوهم، والوهم هنا ليس أن غزة ستسقط، بل أن احتلالًا حديثًا يظن أنه قادر على اجتياحها بلا أثمان. غزة لا تُجتاح بل تُستفز، وما تفعله المقاومة في الميدان هو إعادة تعريف "الصمود" في أبسط تجلياته: أن لا تموت دون أن تقول كلمتك.
الكمين المركّب الذي نفذته كتائب القسام اليوم شرق حي الزيتون لم يكن عملية تكتيكية فحسب، بل كان ردًا رمزيًا على سؤال دولي يتردد في الغرف المغلقة: هل ما زال في غزة من يقاتل؟ فكانت الإجابة حاسمة، مشفوعة بالدم والدخان وأشلاء الجنود. والاحتلال، كعادته، صامت عن خسائره لكنه يصرخ في ردّه، كمن لا يحتمل أن يراه العالم مجروحًا رغم كل سكاكينه.
الحقيقة أن الاحتلال لا يبحث فقط عن "إنهاء بنية حماس" كما يعلن، بل هو يسعى لتحطيم فكرة الوجود الفلسطيني في ذاته: الطفل، المدرسة، الذاكرة، وحتى صوت المؤذن. لذلك، فإن الغارات التي تطال كل شيء ليست ارتباكًا ميدانيًا، بل نية سياسية مكتملة الأركان: ترويع مجتمع بأسره حتى يصبح الركام هو الخيار الوحيد للتعايش.
في المقابل، ما يُفزع الاحتلال ليس الأنفاق، ولا العبوات، بل الفكرة. فكرة أن شعبًا محاصرًا بلا جيش نظامي ولا غطاء جوي ما زال يرفض الموت الصامت. وهذه الفكرة وحدها كافية لأن تجعل إسرائيل تشعر بأنها لا تنتصر، مهما أحصت جثثًا أو دمرت أحياءً.
وحين تصمت الدول وتنكسر القوانين، تصبح الكلمات هي السلاح الوحيد المتاح للعقلاء. ولذلك فإن على الرأي العام العالمي، حتى إن عجز عن وقف القصف، أن لا يخذل الحقيقة. لأن الجريمة لا تصبح أقل فظاعة إن تجاهلها العالم، بل تصبح أكثر رسوخًا في ذاكرته.
إن الحرب على غزة اليوم ليست حربًا بين طرفين، بل فصل أخير في امتحان أخلاقي طويل، على الإنسانية أن تجيب فيه عن سؤال واضح: هل هناك من يستحق الحياة في هذا الكوكب فقط لأنه أقوى؟ أم أن للضعفاء حقًا في البقاء، حتى إن لم يمتلكوا غير الشهادة والبقاء على عهدهم؟ ذلك هو السؤال الذي لا يُطرح في المؤتمرات الصحفية، لكنه يصرخ في وجدان كل من يشاهد القصف حيًا.
الإرث العثماني: عبء أم رصيد
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
3 أيار/مايو 2025
منذ نشأة الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية، انقسمت النخبة التركية بين اتجاهين متباينين في تعاطيها مع الإرث العثماني. الأول، وهو التيار الكمالي، اختار أن يتنكر لهذا التاريخ ويصوّره كحقبة من التخلف والضعف، معتبرًا أن القطيعة معه ضرورة لبناء دولة حديثة تقوم على العقلانية الغربية والهوية القومية التركية الصافية. والثاني، وهو التيار الإسلامي المحافظ، يرى في العثمانية نموذجًا ذهبيًا يجب إحياؤه بكل تفاصيله، معتبرًا أن الحلّ في العودة إلى الدولة الراشدة المتخيلة.
لكن الحقيقة أن كلا الطرفين تعامل مع التاريخ بمنطق الأيديولوجيا، لا بمنطق العبرة والتراكم الحضاري. الكماليون تعاملوا مع الماضي بوصفه عبئًا يجب محوه، فخسروا بذلك عمقًا ثقافيًا وروحيًا غنيًا. أما الإسلاميون، فقد بالغوا في تمجيده وغضوا الطرف عن التحديات البنيوية التي أدت إلى انهيار الدولة العثمانية، فوقعوا في فخ التقديس بدل التحليل.
إن الدولة العثمانية ليست قداسة ولا لعنة؛ إنها تاريخ مليء بالوقائع والتجارب، فيه إنجازات عظيمة كتنظيم الدولة، والعدالة القضائية، والانفتاح الثقافي، وفيه أيضًا إخفاقات واضحة مثل المركزية المتشددة، وفشل الإصلاحات المتأخرة. وهذه هي سُنّة التاريخ؛ مسار طويل تتخلله النجاحات والإخفاقات، لا يصلح لا للمحو الكامل ولا للتمجيد المطلق.
المطلوب إذًا ليس اجترار الماضي لصياغة مشروع أيديولوجي جديد، بل التعامل مع الإرث العثماني كأداة للفهم والتعلّم، لا كأداة للمواجهة السياسية. فكما أن الجمهورية مدينة في وجودها للحظة الكمالية التي أنقذتها من التفكك، فإنها أيضًا مدينة للقرون العثمانية التي صنعت جغرافيا وهوية وموقعًا استراتيجيًا ما تزال تركيا تستثمر فيه حتى اليوم.
إن دعوة تركيا اليوم ليست إلى كمالية متشددة ولا إلى عثمانية مثالية، بل إلى رؤية وسطية متزنة تقرّ بأن من الماضي ما يُحتفى به، ومنه ما يُتجاوز، وكلّه يُدرَس بعقل ومسؤولية.
حين يصبح الجوع قرارًا سياسيًا
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
السبت 03/05/2025
لم تعد القنابل وحدها تهدم البيوت، ولا المدافع فقط تفتك بالأجساد. ثمة سلاح أكثر دهاءً، أشد فتكًا، يمارس مهمته الباردة بلا صوت، فيقتل الحياة رويدًا رويدًا: الجوع.
في غزة هذا الصباح، لا شيء أكثر قسوة من صرخة رضيعٍ انقطع عنه الحليب، ولا شيء أكثر إذلالًا من وجه شيخٍ نُهبت منه القدرة على مضغ كسرة خبز. والقاتل؟ ليس فقط الطائرة المسيرة، بل القرار السياسي الذي يُمنع بموجبه الطعام، والدواء، والوقود. كأنما الجوع نفسه بات إحدى الرتب العسكرية في جيش الاحتلال.
لكن هذا المشهد، مهما بدا محليًا ومحدودًا، ليس استثناءً. إنه مرآة مكسورة لنظام دولي يُتقن لعبة الحصار، ويشرعن الجوع كأداة ضغط "معتبرة" في القانون الدولي، ويُطلق عليها بوجه أكثر تهذيبًا: العقوبات الاقتصادية.
حين يُفرض الحصار على شعب، لا يسأل أحد: من سيموت؟ لا أحد يفحص حالة المستشفيات، أو معدّل وفيات الأطفال، أو كم رَضيعًا لم يعُد يملك علبة حليب. المهم فقط أن الدولة المحاصَرة قد "عوقبت" لأنها خرجت عن السرب، أو قالت "لا" في لحظة غير مناسبة.
لكن من الذي اخترع فكرة العقاب بالتجويع؟ من الذي خوّل الأمم أن تختار من يأكل ومن يجوع؟ إنها ليست اختراعًا لحظة غضب، بل ثمرة من ثمار النظام العالمي النيوليبرالي الحديث، الذي بُني على مبدأ: أن الدولة القوية تملك الحق في توجيه الضغوط الجماعية ضد الضعفاء، تحت راية "الأمن العالمي" و"حفظ السلام".
والأدهى من ذلك، أن المؤسسات الدولية – التي يُفترض بها أن تكون محايدة – تُستخدم بوصفها أدوات تنفيذ لهذه السياسات، بصوت غالب للدول الخمس الكبرى، التي تمتلك حق الفيتو، والتحكم في مسارات القرار، ومعايير العقوبات، ودرجات الحصار.
لقد أصبحت الفكرة نفسها موضع تساؤل فلسفي: هل القانون الدولي أداة عدالة، أم أداة إدارة مصالح الأقوياء؟ وهل الأمم المتحدة تسعى فعلًا لحماية الشعوب، أم أنها تحوّلت إلى غطاء رمادي لإدامة الخنق الجماعي باسم الشرعية الدولية؟
الغريب أن الجوع الجماعي لم يعُد يُعتبر جريمة مكتملة الأركان، طالما تم تغليفه ببيان أممي رصين. صار التجويع فعلًا منضبطًا بالقانون! وما نشهده اليوم في غزة هو الامتداد الطبيعي لهذه الفكرة: إخضاع الطرف الأضعف بإفقاره، محاصرته، تركه ينزف حتى دون قذيفة.
إن التجويع أداة سلطة. أداة إذلال. وهو أخطر من الحرب نفسها، لأنه لا يضعف العدو فحسب، بل يُشوه الضمير الإنساني العالمي، ويُحيل القيم الكبرى إلى غبار على ورق.
وفي هذه اللحظة المظلمة، تقف الإنسانية أمام سؤال مرّ: من يملك قرار الطعام؟ ومن يحكم على شعب بالموت البطيء؟ وهل الذين يظهرون في مشهد "حكم العالم" هم الفاعلون الحقيقيون؟ أم أن اللوبيات الخفية والمنظمات العميقة هي التي تُدير المشهد، عبر المال، والمعلومات، والتقنيات السيادية، فترسم خرائط الجوع، وتقرر من يعيش ومن يُمحى من السجلات؟
إن الشعوب في هذا العالم لا تملك ضمانات ضد الجوع، ولا تملك أدوات لحماية نفسها من الحصار. كل ما تملكه – في معظم الأحيان – هو الألم، والانتظار، والموت الصامت.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل العالم الذي يُدير شعوبه بالجوع ما زال يُمكن إصلاحه؟ أم أننا ندخل عهدًا جديدًا من إدارة الكوكب بـ"الوجبة المؤجّلة"؟
الإبادة في غزة: نار تُشعلها إسرائيل وتوقيع عربي على وثيقة التهجير الصامت
د. أيمن خالد - رئيس التحرير
2 أيار/مايو 2025
لم تعد المجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة بحاجة إلى توصيف جديد، فالمفردات انهارت، والمصطلحات أُفرغت من معناها، ولم يبقَ في الميدان إلا الدم، والركام، والوجع الصامت. ومع ذلك، فإن ما يحدث لا يمكن وصفه بـ"العدوان العسكري" فحسب، بل هو مشروع إبادة جماعية متكامل الأركان، تتحرك فيه إسرائيل بأريحية فاضحة، مدفوعة بصمت دولي، وتواطؤ إقليمي، وتوقيع غير مُعلن على ما يشبه "وثيقة إخضاع غزة".
الطائرات لا تقصف لمجرد الردع، بل للتطهير. والمجاعة لا تنشأ من الفوضى، بل تُدار بمنهجية. والمعابر لا تُغلق عشوائيًا، بل بضبط دقيق لمعدلات الموت: لا يُسمح للناس أن يعيشوا، ولا يُتركون يموتون دفعة واحدة. إنها "إدارة الفناء"، حيث يُختبر المجتمع الفلسطيني بكامله على حافة الانهيار، تمهيدًا للسيناريو الأخطر: إخضاع ما تبقى من أهله لقبول خيار الرحيل الطوعي، بعد أن يصبح البقاء ضربًا من الجنون.
تبدو إسرائيل اليوم كمن يُدير معركة حسم جيو demographique، لا مجرد حملة عسكرية. فهي تعرف أن التهجير الجماعي المباشر بات مكلفًا سياسيًا، لكنها تراهن على أن تهيئة الأرض عبر الجوع، وتدمير البنية، وخنق كل مظاهر الحياة، سيدفع الفلسطينيين لاحقًا – لا تحت فوهة البندقية، بل تحت ضغط الغريزة – إلى البحث عن مخرج فردي، أو نجاة جماعية، عبر أي منفذ.
لكن الأخطر من النار التي تُشعلها إسرائيل، هو ذاك التوقيع غير المرئي الذي يبدو أن بعض الأنظمة العربية قد وضعته بصمت، أو عبر الامتناع، أو بحجج الواقعية السياسية. لأن الانهيار الإنساني في غزة لا يحدث في غياب القدرة على التدخل، بل في غياب الإرادة. وهذا الفارق جوهري، لأن الجريمة هنا لم تعد جريمة فاعل فقط، بل جريمة شركاء صامتين، يراقبون سقوط القطاع كمن يشهد حدثًا كونيًا خارجًا عن إرادته، مع أنهم في صلبه.
المواقف الدبلوماسية الفاترة، التصريحات المكرورة، التنديد المعقّم، كلها لا تزن شيئًا أمام دم الأطفال، وأمعاء الجياع، وخراب المخيمات. وما يُخشى أن يُكتشف لاحقًا هو أن "اللاموقف" العربي لم يكن نتيجة ارتباك، بل نتيجة قبول ضمني بتسوية دولية يجري تمريرها من تحت الطاولة، عنوانها: إنهاء غزة كعقدة إقليمية، وتفكيكها كجغرافيا مقاومة، وإخضاعها ككتلة بشرية قابلة للتفتيت.
ولا يُخفى أن الأطراف الدولية الكبرى، من واشنطن إلى العواصم الأوروبية، قد تكون وصلت إلى قناعة بأن "حل غزة" لا يكون بإعادة الإعمار، بل بإعادة التوزيع السكاني. وفي مثل هذا السيناريو، لا تملك إسرائيل وحدها مفاتيح التنفيذ، بل تحتاج إلى غطاء إقليمي يُسكت الجغرافيا، ويُكسر سردية المقاومة، ويُعيد هندسة ما تبقى من الذاكرة الفلسطينية.
إن ما يحدث ليس فقط مجزرة، بل انقلاب جغرافي-سياسي على القضية برمّتها، حيث يُراد لغزة أن تتحوّل من رمز إلى عبء، ومن صمود إلى مشكلة إنسانية، ومن نواة وطنية إلى بؤرة قابلة للتفكيك. ومن هنا، فإن ما يُراد ليس فقط قتل الناس، بل قتل المعنى.
يبقى السؤال الأكثر مرارة: هل يعي الفلسطينيون والعرب أن قطار التهجير قد تحرّك، وأن الصمت عليه هو مساهمة مباشرة في دفعه إلى محطته الأخيرة؟ وهل نمتلك ما يكفي من الإرادة – لا فقط السلاح – لنقول لا لصفقة لم تُكتب بعد لكنها تنفَّذ حرفيًا على الأرض؟ أم أن غزة ستُترك وحدها، مرة أخرى، لتقاوم الموت والمحو، بينما ينشغل العالم في مواعيده المتأخرة؟
غزة: حين تسقط إنسانية القانون الدولي أمام مصالح الأقوياء
د. أيمن خالد
خبير إستراتيجي وقانون دولي
ليس جديدًا أن تُقصف غزة، وليس مفاجئًا أن يُحاصر شعب أعزل تحت حجج سياسية تروّجها القوى الكبرى، لكن الجديد والأشد إيلامًا هو أن يتحول القانون الدولي نفسه إلى شاهد زور في مجزرة مكتملة الأركان. فما يجري اليوم في قطاع غزة لم يعد مجرد عدوان عسكري بقدر ما هو عدوان ممنهج على منظومة القيم التي يدّعي العالم الحديث حمايتها. ومن يفتش عن السبب في استمرار المجازر سيفاجأ بأن الجواب لا يكمن فقط في إسرائيل، بل في طبيعة النظام الدولي الذي مكّن إسرائيل.
من بين الأسباب الجوهرية لاستمرار هذا العدوان ما يمكن وصفه بالاستهتار المنظم لمصائر الشعوب من قبل الدول الكبرى، التي باتت تتعامل مع حقوق الإنسان كأوراق مساومة أو ضجيج إعلامي لا أكثر. فحين تُقتل الطفولة أمام الكاميرات، ويُدفن عشرات الأبرياء تحت الأنقاض في بث مباشر، ثم لا تتحرك المؤسسات الدولية إلا ببيانات باردة لا تتجاوز سقف "القلق"، ندرك أن هناك خللاً جوهريًا في نظام الردع الأخلاقي العالمي.
وقد لا يُفهم صمت هذه الدول إلا في سياق شراكتها غير المعلنة في صياغة اتفاقيات اقتصادية ومصالح استراتيجية تأتي على حساب دماء الشعوب. ولعل نموذج غزة يكشف هذه المعادلة بوضوح: إذ تبدو القضية الفلسطينية منسية في محاضر التجارة والتحالفات، لكنها حاضرة بقوة في ميزان الربح والخسارة لدى شركات السلاح، وأنابيب الغاز، ومشاريع إعادة الإعمار. هكذا تصبح غزة ورقة محروقة في طاولة الحسابات الدولية، لا شعبًا يُفترض أن يُنقذ، ولا قضية يُفترض أن تُحسم.
أما القانون الدولي، وعلى رأسه القانون الجنائي، فلم يعد في أعين المظلومين سوى "رماد أبيض" يُذر في العيون كلما اشتعلت النار. فبنود المحاسبة على جرائم الحرب وحقوق المدنيين، وضمانات المحاكم الدولية، جميعها تبدو اليوم صيغًا خادعة وضعتها الدول العظمى لتزيين واجهتها الأخلاقية لا أكثر. والدليل أن المحكمة الجنائية الدولية لم تستطع حتى الآن إصدار أمر اعتقال واحد ضد المسؤولين عن جرائم غزة، بينما أصدرت قراراتها بسرعة ضد دول أضعف بكثير في صراعات أخرى لم تتجاوز حد النزاعات المحلية.
الواقع أن هذا الإفلات المتكرر من العقاب لا يُشجع فقط على مزيد من الجرائم، بل يُسكت أي صوت قد يرتفع في المستقبل مطالبًا بالمحاسبة. فكل جريمة جديدة تُرتكب اليوم هي في عمقها رسالة رادعة لأصوات الغد: "لا تتكلموا... فالعالم لا يسمعكم، والقانون لا يحميكم". وربما يكون هذا هو جوهر الخطة غير المعلنة: اجتثاث الوعي قبل أن ينضج، ووأد العدالة قبل أن تتكلم.
لكن ثمة ما هو أخطر من كل ذلك: فحين يتحول الدم الفلسطيني إلى تفصيل عابر في نشرات الأخبار، فإننا نكون قد تجاوزنا حدود السياسة ودخلنا منطقة الصمت الأخلاقي العالمي. وهناك، لا يعود السؤال عن الاحتلال فحسب، بل عن طبيعة العالم الذي نقف فيه. عالمٌ يُبقي على الأمم المتحدة، لكنه يُفرغها من فاعليتها. يُحافظ على القانون، لكنه يُعلقه حسب الطلب. يُصدر قرارات ضد العدوان، لكنه يموّله سرًا أو يبرره علنًا.
ربما لم تعد غزة بحاجة إلى شفقة العالم، بل إلى انكشاف حقيقته. فكل طفل يُستشهد في حضن أمه، وكل مسن يُنتشل من تحت الأنقاض، هو في جوهره وثيقة اتهام عالمية، لا ضد إسرائيل وحدها، بل ضد منظومة بأكملها تُراكم القوانين وتُسوّق الأخلاق لكنها تسكت حين تنطق الحقيقة من بين الركام.
02:10:00 – 1/5/2025
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
في خطاب حاشد بولاية ميشيغان، عاد دونالد ترامب إلى نبرته المعتادة التي تجمع بين الافتخار بالذات، والهجوم على الخصوم، وتمجيد الانتصارات الاقتصادية، في احتفالية رمزية بمناسبة مرور مئة يوم على توليه السلطة مجددًا في يناير 2025. ورغم كثافة التصفيق والهتاف الذي قوبل به ترامب، فإن التساؤلات حول جوهر سياساته الحالية، وهل تمثل استمرارًا لمشروعه الأول أم انحرافًا عنه، لا تزال قائمة وبقوة.
ترامب: واقعي بأسلوب شعبوي
من منظور النظرية الواقعية في السياسة الدولية، ترامب لا يخرج عن إطار المدرسة التي ترى أن الدولة تسعى خلف مصالحها الذاتية في نظام دولي فوضوي، وأن القوة والردع والهيمنة الاقتصادية أدوات مشروعة لتحقيق ذلك.
في هذا السياق، يُمكن تصنيف سياسات ترامب الاقتصادية والتجارية والحمائية الحالية على أنها "واقعية قومية"، تعيد تعريف المصالح القومية من خلال حماية الصناعات الأميركية، فرض الرسوم الجمركية، الضغط على الصين، والانسحاب من الاتفاقات الدولية التي لا يرى فيها فائدة مباشرة.
لكن ما يميز ترامب هو استخدامه للشعبوية كأداة ترويج لهذا الواقع، عبر تبسيط الرسائل الاقتصادية إلى شعارات جذابة من قبيل: "أميركا أولًا"، أو "استعدنا أعظم اقتصاد في التاريخ". هذا الجمع بين الواقعية البنيوية في السياسة الخارجية، والخطاب الشعبوي في الداخل، يخلق ما يمكن تسميته بـ"الواقعية الشعبوية"، وهي مدرسة ترامب الخاصة.
مقارنة بين مرحلتين: ما قبل بايدن وما بعده
في فترته الرئاسية الأولى (2017 – 2021)، دخل ترامب البيت الأبيض كـ"هزة نظام"، أراد تفكيك النموذج الليبرالي التقليدي الذي كرّسه الديمقراطيون والجمهوريون المعتدلون، فانسحب من اتفاق باريس للمناخ، وخرج من الاتفاق النووي مع إيران، وفرض قيودًا على الهجرة، وفتح معركة تجارية شرسة مع الصين، واتخذ مواقف مترددة تجاه الناتو.
اقتصاديًا، كان ترامب يتباهى بـ"أعظم اقتصاد في التاريخ"، مستندًا إلى أرقام النمو المرتفعة، وانخفاض البطالة، وزيادة ثقة الأسواق، حتى جاء وباء كوفيد-19 ليقلب الطاولة عليه. لكن، حتى في قلب الأزمة، بقي ترامب متمسكًا بخطاب القوة الذاتية والاقتصاد المحمي.
في المقابل، جاءت فترة جو بايدن بين 2021 و2024 بعقلية ليبرالية كلاسيكية: العودة إلى الاتفاقيات الدولية، التركيز على تغير المناخ، دعم الإنفاق الحكومي على البنية التحتية، وإصلاحات ضريبية تستهدف الأغنياء، وهيمنة "النظام التعاوني متعدد الأطراف".
لكن، بعد عودة ترامب إلى الحكم في يناير 2025، عاد معه النموذج الواقعي الصلب، ولكن هذه المرة في بيئة مختلفة تمامًا:
العالم يشهد صعودًا واضحًا للكتل (الولايات المتحدة، الصين، روسيا، أوروبا).
الاقتصاد الأميركي يعاني من تضخم مستمر.
التوترات مع الصين بلغت ذروتها.
الداخل الأميركي أكثر استقطابًا وقلقًا مما كان عليه في 2016.
هل سياسات ترامب الآن أكثر واقعية أم انفعالية؟
رغم ما يبدو من عنف في اللغة وخطاب التحدي، إلا أن سياسات ترامب تحمل قدرًا من البراغماتية الواقعية. انتقاداته لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول مثلًا، ليست مجرد استعراض سياسي، بل تعبّر عن صراع بين نهج اقتصادي توسعي يريد ترامب فرضه، ونهج انكماشي يتبعه الفيدرالي لمواجهة التضخم.
وفي ملف التجارة، فإن تهديداته الأخيرة بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على عدة دول ليست جديدة، لكنها اليوم تأتي في سياق مختلف، إذ لم يعد ترامب يريد فقط إعادة التفاوض على اتفاقيات، بل يسعى إلى إعادة صياغة النظام التجاري العالمي برمّته وفق تصور أحادي القطب.
بعبارة أوضح: ترامب يتبنّى سياسة واقعية هجومية (offensive realism) تهدف إلى تعزيز الهيمنة الأميركية اقتصاديًا، مع تجاهل تام لمفاهيم التعاون والتعددية التي يشدد عليها الليبراليون.
في هذا التجمع، أراد ترامب أن يوجه رسالة مزدوجة:
للداخل الصناعي الأميركي: بأن زمن الاستنزاف انتهى، وها قد عدت.
للخصوم السياسيين: بأن مشروع "أميركا أولًا" لم يمت، بل تطوّر.
ترامب بين الواقعية والهيمنة الذاتية
في تحليله للسياسة الأميركية، يظل دونالد ترامب حالة خاصة داخل المنظومة الواقعية، ليس فقط لأنه يرفض القواعد التقليدية، بل لأنه يبني واقعيته على سردية شخصية تضعه هو، لا الدولة، في مركز الإنجاز.
لكن التحدي الأكبر له ليس كيف يهاجم بايدن أو باول، بل كيف سيقنع الأسواق والمؤسسات، بل والعالم، أن نموذجه ما زال صالحًا في ظل عالم متغيّر ومتعدد الأقطاب.
قد لا يكون ترامب ليبراليًا ولا مؤمنًا بالتعاون الدولي، لكنه بالتأكيد أذكى من أن يُصنّف فقط كقومي شعبوي. إنه واقعي بصيغة أميركية صدامية، تعكس أزمة الهوية السياسية التي تمر بها أميركا أكثر مما تعبّر عن نظرية مدرسية في العلاقات الدولية.
تركيا وقطر: دعم ثابت للشعب السوري ومصالح إستراتيجية تخدم مستقبل سوريا
إعداد: علي الجاسم
كاتب صحفي
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، برزت كل من تركيا وقطر كداعمين رئيسيين للشعب السوري في سعيه نحو الحرية والكرامة.
موقفهما الثابت والمستمر لم يقتصر على الدعم السياسي والإعلامي فقط، بل شمل أيضًا الدعم الإنساني والاقتصادي والعسكري، مع الأخذ بالاعتبار المصالح الحيوية التي تصب بالنهاية في خدمة مستقبل سوريا وشعبها.
دعم مستمر قبل سقوط النظام وبعده
منذ اللحظات الأولى لانطلاق الاحتجاجات السلمية ضد النظام السوري، بادرت تركيا وقطر إلى تبني مطالب الشعب السوري العادلة. فقد احتضنت تركيا ملايين اللاجئين، وفتحت حدودها لتكون شريان حياة للسوريين الهاربين من بطش النظام. كما دعمت الدبلوماسية القطرية القضية السورية في المحافل الدولية، مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم بحق المدنيين.
ومع تطور المشهد السوري ودخول البلاد في مرحلة معقدة من النزاعات المسلحة، استمر دعم الدولتين بشكل أعمق. فقد تم تعزيز المعارضة السياسية، وتقديم الدعم الإغاثي والإنساني لملايين النازحين واللاجئين داخل سوريا وخارجها. حتى في فترات خفوت الزخم الدولي تجاه الأزمة السورية، ظلت تركيا وقطر حاضرتين بقوة في دعم الشعب السوري سياسيًا وإغاثيًا وإنسانيًا.
اليوم وبعد انتصار إرادة الشعب السوري في التغيير، وزوال النظام الذي ارتكب الفضائع بحق الشعب السوري، لتبدأ مرحلة جديدة ومشرقة في الحياة السورية والتي تحتاج إلى إعادة البناء وإعمار البلد سياسيا واقتصاديا وإستراتيجيا، يأتي الحديث عن جملة مشاريع تفرض نفسها على متخذ القرار السوري وشركائه الإقليميين والدوليين ومنها:
أهمية خط الغاز ودوره في خدمة الشعب السوري
من بين المشاريع الاستراتيجية ذات الأبعاد العميقة، يبرز الحديث عن مشروع خط الغاز الذي يمر عبر الأراضي السورية نحو تركيا ومنها إلى أوروبا. هذا المشروع لا يخدم فقط مصالح تركيا وقطر الاقتصادية، بل يمثل فرصة استراتيجية لسوريا المستقبلية. فهو يضمن إيرادات ضخمة يمكن استثمارها في إعادة إعمار البلاد بعد سنوات من الدمار، ويسهم في تحويل سوريا إلى ممر تجاري حيوي يعزز استقلالها الاقتصادي بعيدًا عن الهيمنة الإقليمية والدولية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تعزيز العلاقات مع الأسواق الأوروبية عبر خط الغاز يفتح الباب أمام شراكات اقتصادية واسعة قد تسهم في خلق فرص عمل وتحسين مستوى معيشة السوريين.
إنشاء القواعد العسكرية: حماية ودعم للاستقرار
في سياق الدور العسكري، يأتي إنشاء القواعد العسكرية التركية في الشمال السوري كخطوة استراتيجية لحماية المناطق المحررة من محاولات استهدافها من قبل النظام وحلفائه، وضمان الاستقرار الأمني فيها.
الوجود العسكري التركي ساعد في ردع التهديدات ومنع عودة النظام إلى المناطق التي دفعت أثمانًا باهظة لتحريرها، وفي هذا الدور تبرز الأهمية في توظيف قواعد القانون الدولي والتشريعات الداخلية التي تمنح الدول حق عقد المعاهدات والأحلاف الدولية بما لا يسبب ضررا في السلم والأمن الدولي وهذا ما يتوفر في طبيعة العلاقات بين سوريا اليوم وتركيا باعتبار مشروعية السيادة على الأرض.
قاعدة T4 الجوية: تحكم استراتيجي بالأجواء
تزداد أهمية المشهد العسكري مع الحديث عن توظيف قاعدة T4 الجوية من ناحية موقعها وسط البادية السورية والذي يجعلها نقطة استراتيجية تتيح السيطرة على جزء واسع من الأجواء السورية. فإذا وضعت قاعدة T4 تحت إدارة الأعمال التي تستوجبها ظروف حماية الأجواء السورية ، فإن ذلك سيؤدي عمليًا إلى إغلاق تلك الأجواء أمام أي هجمات جوية معادية تستهدف المدنيين والمناطق المحررة.
هذا الإجراء سيكون خطوة بالغة الأهمية في حماية الشعب السوري ومنع أي قوى معادية من شن غارات تؤدي لمزيد من الدمار والتهجير. كما أن تحويل قاعدة T4 إلى مركز متقدم للعمليات الجوية سيرسخ الاستقرار العسكري، ويعزز الدفاعات الجوية، مما يوفر بيئة أكثر أمنًا لإعادة الإعمار والبناء.
دور قطر في دعم الاستقرار
رغم أن قطر لا تملك وجودًا عسكريًا مباشرًا في سوريا، إلا أن دعمها السياسي والمالي ساهم بقوة في تمويل مشاريع إعادة الاستقرار، فقد ركزت قطر على دعم القطاعات الحيوية مثل التعليم والرعاية الصحية والإغاثة الإنسانية، مما خفف من معاناة مئات الآلاف من السوريين.
دور فعال رغم التحديات
واجهت تركيا وقطر تحديات كبيرة أثناء دعمهما للشعب السوري، شملت ضغوطًا دولية ومحاولات لعرقلة جهودهما. ورغم كل ذلك، استمرتا في الوقوف مع السوريين بإيمان عميق بعدالة قضيتهم وأهمية تحقيق تطلعاتهم نحو الحرية والكرامة.
لقد شكل التنسيق التركي-القطري نموذجًا ناجحًا في العمل المشترك لدعم الشعوب الساعية إلى التحرر. فبين الدعم الإنساني والاقتصادي والعسكري، وبين المشاريع الاستراتيجية مثل خط الغاز، والسيطرة على قواعد جوية حيوية مثل T4، تبقى تركيا وقطر أبرز حلفاء الشعب السوري في نضاله المستمر.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو أهمية هذا الدعم واضحة في بناء سوريا جديدة، دولة تحترم إرادة شعبها وتصون مصالحه بعيدًا عن الاستبداد والوصاية الخارجية.
هل بقي للنظام الإيراني مستقبل في النظام العالمي الجديد؟
فريق التحليل والرأي
التوقيت: السبت 26 أبريل 2025 – 00:45:10
يتساءل كثير من المراقبين اليوم عن موقع النظام الإيراني في خريطة العالم الجديدة، حيث تتغير معادلات القوة والنفوذ بسرعة غير مسبوقة. فالحقائق الماثلة أمامنا لا تترك كثيرًا من الشك في أن طبيعة النظام الإيراني، وأسلوبه في إدارة الدولة والمجتمع، لم تعد تتناغم مع شروط البقاء الفاعل داخل نظام دولي يقوم على التحديث الاقتصادي، والانفتاح السياسي، واحترام حقوق الإنسان.
تفتقر الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى مرونة سياسية حقيقية تمكّنها من مواكبة تحولات الزمن. ورغم قدرتها السابقة على المناورة الإقليمية عبر أوراق قوى الوكالة والنفوذ الأيديولوجي، إلا أن متغيرات الشرق الأوسط الجديدة – وخاصة بعد أحداث 7 أكتوبر وتداعياتها – جعلت هذه الأدوات عبئًا أكثر منها مصدر قوة. وفي ظل تشديد الولايات المتحدة وحلفائها سياسات الردع والعزل، يبدو أن النظام الإيراني يقف اليوم أمام جدار صلب يصعب تجاوزه بالشعارات أو بتصدير الأزمات.
المسألة هنا ليست تحاملًا ولا تمنيًا بانهيار نظام بحد ذاته، وإنما قراءة واقعية لمعادلات البقاء في منظومة دولية تعيد تشكيل هويتها على أسس جديدة. فالعالم ما بعد كورونا والحروب الإقليمية يفرض على الدول إعادة تعريف وجودها استنادًا إلى شرعيتها الدولية، قوة اقتصادها، شفافيتها السياسية، ورؤيتها التنموية. وهذه كلها جوانب يظهر فيها النظام الإيراني اليوم أكثر هشاشة وضعفًا مما مضى.
لا يمتلك النظام الإيراني حاليًا أي مشروع داخلي متماسك لإعادة إنتاج نفسه في بيئة إقليمية وعالمية متغيرة. الاقتصاد الإيراني في حالة اختناق شبه دائم بسبب العقوبات وسوء الإدارة. الداخل الإيراني يشهد تصاعدًا متواصلًا في حركات الاحتجاج الشعبية، مع تراجع كبير في قدرة الخطاب الديني الأيديولوجي على تحشيد الجماهير. والأخطر من ذلك أن مراكز القوى داخل الدولة نفسها باتت تعاني من شروخ استراتيجية تهدد وحدة القرار.
حين نضع هذه المؤشرات ضمن سياق صعود قوى آسيوية، وتجديد بنية النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، يبدو جليًا أن إيران – بهذا الشكل والنمط – قد تصبح واحدة من أبرز الدول المعزولة في العقد القادم. لا يعني ذلك بالضرورة السقوط الكلاسيكي المفاجئ، لكنه يعني بالقطع فقدان الوزن الاستراتيجي، والتآكل البطيء من الداخل، وانسحاب النفوذ تدريجيًا أمام ديناميات جديدة ترفض صيغ الصراع المؤدلج الجامد.
إن بقاء النظام الإيراني في القرن الحادي والعشرين يتطلب إعادة تعريف وجوده بالكامل، بما يتجاوز الشعارات الثورية إلى بناء دولة حديثة تلتحق بالزمن بدل مقاومته. وبدون هذا التحول الجوهري، فإن مصير النظام يبدو أقرب إلى التهميش والانزواء منه إلى الاستمرار كفاعل فاعل في النظام العالمي الجديد.
هناك المزيد من التحليلات الإستراتيجية المتعلقة بالنظام العالمي والتحالفات والأمن الدولي.
العراق وسوريا: عندما تسبق ضرورات الأمن حسابات الرأي العام
فريق التحليل والرأي
السبت 26 أبريل 2025 – 17:05:12
يتحرك العراق هذه الأيام بطريقة لافتة خارج الأطر التقليدية التي طالما حكمت علاقاته الإقليمية. زيارة رئيس جهاز المخابرات العراقي إلى دمشق للمرة الثانية خلال أقل من شهر، دون أن يرافقه وفد سياسي رسمي، تفتح بابًا واسعًا للأسئلة والتأملات. لماذا الأمن دون السياسة؟ ولماذا يظهر العراق وكأنه يختصر علاقته مع سوريا بمعادلة الأمن لا الدبلوماسية؟ الإجابة تحتاج إلى الغوص عميقًا في تركيبة الوضعين الداخليين للعراق وسوريا، وفي الحسابات الإقليمية التي لا ترحم.
واضح أن حكومة السيد محمد شياع السوداني تدرك أن الشارع العراقي لا يعيش مرحلة توازن هادئ. الماكينات الإعلامية المرتبطة ببعض الأحزاب الولائية صعّدت في الأسابيع الماضية من نبرة الهجوم على الرئيس السوري أحمد الشرع، واصفة إياه "بالامتداد الغربي الذي أجهض مشروع محور المقاومة". في ظل هذه الحملة الممنهجة، يصبح من المستحيل على حكومة السوداني أن تتقدم نحو دمشق بوفد سياسي رسمي كامل دون أن تتكبد ثمنًا شعبيًا قد يتحول إلى أزمة سياسية. لذلك، يُختصر الحضور في شخصية أمنية رفيعة يمكنها أن تتحرك بلا ضجيج جماهيري، وتحمل رسائل سياسية بأقل الأثمان الإعلامية.
لكن هل ينجو العراق إلى الأبد من مواجهة هذا التناقض بين ضرورات الأمن وحسابات الرأي العام؟ الجواب بالتأكيد لا. الرأي العام العراقي، رغم كل حملات التحريض، لا يمكن تجاهله طويلاً، خصوصًا أن جزءًا واسعًا من الشعب العراقي، المتعب من الانقسامات الإقليمية، يتوق إلى سياسة خارجية مستقرة ومنفتحة على جميع الأطراف. إذا استمر العراق في مقاربة الملف السوري من بوابة الأمن فقط دون تهيئة مزاج شعبي داعم، فإن هذا التقارب قد يظل هشًا، عرضة للارتداد أمام أول اختبار إقليمي أو داخلي.
من ناحية أخرى، تفرض السياسة الدولية اليوم واقعًا جديدًا على الإقليم كله. مع انحسار النظام الإيراني وتغير المعادلات في سوريا، تدفع الولايات المتحدة، ومعها الاتحاد الأوروبي، باتجاه تخفيف حدة الاستقطابات القديمة. في هذا السياق، يبدو أن واشنطن تغض الطرف، بل ربما تشجع سراً، تقارب بغداد مع دمشق، طالما أن هذا التقارب يمر من قنوات جديدة لا تصب في مصلحة محور طهران التقليدي. وهكذا يصبح منطق الأمن الإقليمي أكبر من إرادة الأحزاب المحلية أو مشاعر الغضب الشعبي المؤقت.
ثمّة سؤال آخر أكثر إلحاحًا: هل يستطيع العراق الحفاظ على هذا الخط المتوازن دون أن يسقط في فخ الاصطفاف الإجباري؟ الحكومة العراقية اليوم تمشي فوق حقل ألغام معقد: فهي من جهة مضطرة لتمتين جبهتها الغربية عبر شراكة مع دمشق الجديدة، ومن جهة أخرى تخشى أن تفقد جزءًا من دعم القوى الداخلية إذا بدت وكأنها تفرط بـ"الثوابت" التي رُوّج لها لسنوات. التحدي الحقيقي يكمن في إعادة تعريف تلك الثوابت بما يناسب المتغيرات الدولية، دون الوقوع في مواجهة مفتوحة مع الشارع أو مع قوى النفوذ الداخلي.
لا بد من الاعتراف بأن رئيس الوزراء العراقي الحالي يحاول إدارة واحدة من أعقد العمليات السياسية في المنطقة: بناء سياسة خارجية متوازنة تحمي السيادة الوطنية دون أن تستفز الخارج أو الداخل. وهذا المسار يتطلب شجاعة استراتيجية نادرة: شجاعة الانفتاح على دمشق دون الاصطدام المباشر مع مشاعر التأليب، وشجاعة إقناع الرأي العام أن أمن العراق يبدأ من استقرار جواره لا من معاداة كل من تغيرت مواقفه أو أعيد تدويره في معادلة الإقليم.
ختامًا، يبدو أن العراق وسوريا أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء علاقاتهما بعيدًا عن وصاية المحاور التقليدية. غير أن نجاح هذه المحاولة مشروط بأن تُدار بذكاء، وبأن يكون للرأي العام العراقي دور في صناعة الرؤية الجديدة، لا أن يُعامل كمجرد عائق يجب الالتفاف حوله. فالإرادة الوطنية لا تُبنى على الإنكار، بل على الصراحة والاستثمار الذكي في طموحات الشعوب المرهقة من الحروب والاستقطابات. حينئذ فقط، يمكن للأمن أن يصبح طريقًا نحو السياسة، لا مجرد غطاء لها.
هناك المزيد من التحليلات الإستراتيجية المتعلقة بالنظام العالمي والتحالفات والأمن الدولي
غزة: حين يسقط العالم تحت ركام العدالة المنسية
فريق التحليل والرأي
الجمعة 25 أبريل 2025
غزة تئن تحت القصف، والجراح المفتوحة التي لا تندمل تعيد إلى الأذهان مشاهد الألم الإنساني المتكررة التي غدت سمة ملازمة لهذا القطاع الصامد. الغارات الإسرائيلية التي حصدت أرواح خمسين فلسطينيًا، بينهم نساء وأطفال، لم تكن مجرد حدث عابر في نشرات الأخبار، بل كانت فاجعة مكتملة الأركان، شاهدة على انهيار منظومة العدالة الدولية.
كان ليل غزة في الخامس والعشرين من أبريل 2025 أكثر سوادًا من كل لياليها السابقة، حين أمطرت الطائرات الحربية بيوت النازحين بالصواريخ والقنابل، فسقط الأطفال في أحضان أمهاتهم جثثًا هامدة، وامتزجت أنين المصابين بأصوات الركام المتساقط فوق الرؤوس.
في المقابل، وقف العالم صامتًا. بيانات القلق والتحذير التي أطلقتها بعض العواصم الكبرى لم تتجاوز حدود التكرار الممل للخطابات الدبلوماسية، بينما ظلت المنظمات الدولية تائهة بين سطور بياناتها الفضفاضة، عاجزة عن اتخاذ أي خطوة فعالة لكبح جماح آلة الحرب المنفلتة.
الأخطر من ذلك كله أن المجتمع الدولي لم يعد مقصرًا فحسب، بل أصبح شريكًا بالصمت. فتعطيل آليات القانون الدولي الإنساني لملاحقة مرتكبي جرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية جعل من العدالة شعارًا أجوف، يُرفع في المؤتمرات ويُداس في ميادين الدم.
لم تعد المجازر تُحرك المجالس الأممية كما كانت تفعل في الماضي. بل باتت أرقام الشهداء مجرد أرقام تُضاف إلى سجلات الأمم المتحدة، بلا أثر فعلي على الأرض. وهكذا، يتكرس مشهد الفجوة الرهيبة بين المبادئ والشعارات وبين الواقع المرير.
غزة اليوم، ليست مجرد ساحة قتال، بل هي مرآة كاشفة لمدى الانحدار الأخلاقي الذي بلغه النظام الدولي. كيف يمكن الحديث عن قيم حقوق الإنسان والعدالة الدولية فيما يُترك الأطفال ليموتوا تحت الركام؟ وكيف يُسمح لمن يرتكب المجازر أن يفلت من العقاب مرة تلو الأخرى، دون رادع أو حساب؟
إن الإصرار الإسرائيلي على سياسة العقاب الجماعي، واستهداف المدنيين العزل، يجب أن يُواجه بتحرك دولي حقيقي، لا بيانات تنديد خاوية. ولا بد أن تُفعّل المحاكم الدولية اختصاصها في محاسبة مرتكبي جرائم الحرب بلا تسييس أو انتقائية.
اليوم، غزة لا تطلب الشفقة، بل تطالب بالعدالة. تطالب بأن يعود القانون الدولي إلى نصابه، وأن تُستعاد إنسانية العالم التي غيبها الصمت والتواطؤ.
ليست المجازر في غزة مجرد حوادث معزولة، بل هي نتاج مباشر لغياب الإرادة الدولية في حماية الضعفاء، وتغليب المصالح السياسية على المبادئ الأخلاقية. وإذا استمر هذا النهج، فإن ما تبقى من مصداقية للمؤسسات الدولية سيذروه الريح، كما ذرت بيوت غزة تحت أنقاض الصواريخ.
في كل قطرة دم تسيل هناك سؤال معلق في ضمير الإنسانية: إلى متى سيبقى العالم متواطئًا بالصمت؟ ومتى تعود للعدالة هيبتها التي فقدتها على عتبات المجازر المنسية؟
غزة اليوم لا تحتاج إلى بيانات شجب جديدة، بل إلى تحرك حقيقي يعيد الاعتبار للضحايا، ويضع حدًا لهذا العبث المستمر باسم القانون.
فإن لم تنصف غزة اليوم، فبأي وجه سيتحدث العالم عن العدالة غدًا؟
الزلزال بين العلم والدعاية: كيف نقرأ التحذير دون تهويل؟
فريق البحث والتحليل
13:14:49 | 24 أبريل 2025
الجغرافيا لا تكذب، لكنها حين تُقرأ بعيون السياسة تتحول إلى مرآة مائلة. وحين يضرب زلزال مدينة كبرى مثل إسطنبول، لا يبقى الحديث محصورًا في جيولوجيا الأرض، بل يمتد إلى جيولوجيا الإعلام، وسيكولوجيا الجمهور، واستراتيجيات الدول.
في اليوم التالي لزلزال إسطنبول الذي وقع يوم الأربعاء 23 أبريل، وبلغت قوته 6.2 درجات، انقسمت وسائل الإعلام — بين من رأى في الحدث ناقوس خطر يُنذر بزلازل أعنف، ومن اعتبره طوق نجاة حرّر المدينة من "الزلزال المنتظر". هكذا بدأ الصدع، لا في الأرض فقط، بل في السردية.
اللافت أن بعض المعلقين لم يتوقفوا كثيرًا عند الانكسار الذي بلغ طوله 15 كيلومترًا، وعرضه 9.5 كيلومترًا في باطن بحر مرمرة، بل توقّفوا عند الخطاب الذي رافق الخبر: هل نحن بصدد توصيف علمي صادق؟ أم أننا أمام بروفة لصناعة الذعر، تُستخدم ضمن أدوات الضغط على تركيا في ملفّاتها الجيوسياسية؟
إن طرح مثل هذا التساؤل ليس خروجًا عن العقلانية، بل هو تموضع ضروري لفهم العلاقة المعقدة بين المعرفة العلمية والسرد الإعلامي. نعم، الزلزال حدث طبيعي له قواعده وعلومه، لكن كيف نُقدّمه للرأي العام؟ وكيف نُؤطّره في ذهن المواطن العادي؟ هنا تبدأ صناعة "الرؤية".
من جهة أولى، لا يمكن إغفال حقيقة أن إسطنبول تقع فوق صدع زلزالي نشط. هذا معلوم، ومُعترف به علميًا منذ عقود. والزلازل السابقة، من 1999 حتى اليوم، لم تكن مفاجئة للباحثين في الجيولوجيا. وما وقع مؤخرًا ليس إلا جزءًا من حركة تكتونية مستمرة.
لكن من جهة ثانية، فإن توظيف هذا الحدث، سواء عبر التهويل أو التطمين، يخضع لمنطقين مختلفين تمامًا:
أحدهما يريد أن يُبرز عجز الدولة، فيدفع الناس إلى فقدان الثقة، وربما الهجرة، وربما التمرد على السياسات الحضرية.
والآخر يريد أن يُعزز خطاب "الدولة القوية المسيطرة"، حتى لو اضطر لإعادة تفسير الطبيعة نفسها كأنها تعاونت معه.
بين هذين المنطقين، يوجد شيء ثالث، اسمه التحليل الرصين. وهو ما نفتقده أحيانًا وسط صخب الإعلام الآني، حيث تتحول الحقائق إلى أدوات، والبيانات إلى ذخيرة في معارك التصورات.
نجد بعض التحليلات الأجنبية — خاصة من دوائر بحثية غربية — تُبالغ في تصوير تركيا وكأنها قنبلة أرضية مؤقتة، جاهزة للانفجار في كل لحظة. وهذا الطرح غالبًا ما يرتبط بسياق سياسي لا علاقة له بالزلزال، بل بمكانة تركيا في الشرق الأوسط، وملفها في حلف الناتو، وصراعاتها في المتوسط، ومشاريعها العمرانية الكبرى.
إن تسليط الضوء على إسطنبول في كل زلزال، وتحويل كل اهتزاز أرضي إلى وثيقة إدانة جيوسياسية، أمر يستحق وقفة. لأن التحدي الحقيقي لا يكمن في "هل سيقع زلزال جديد؟"، بل في "كيف نبني سردية متزنة تُبقي الشعب واعيًا دون أن يكون مذعورًا، ومستعدًا دون أن يكون محطمًا؟"
الزلزال إذًا، هو امتحان مزدوج: امتحان للهندسة المعمارية، وامتحان للهندسة الإعلامية. والدولة القوية، هي التي تُجيد بناء الجدران، كما تُجيد بناء الإدراك، والانكسار الحقيقي ليس فيما يحدث تحت الأرض، بل فيما يُبنى فوق الأرض: في الوعي، في الخطاب، وفي طريقة استخدام العلم كمنارة لا كفزاعة.
نعم، لنقل الحقيقة دون تجميل. لكن دون أن نُسلّمها لأجندات خارجية أو عقد نفسية داخلية.
ونعم، لنطمئن الناس، لا بكلمات فارغة، بل بخطط واقعية وتدريب مدني وتخطيط عمراني.
في إسطنبول، لا تهتز الأرض فقط. تهتز الرواية أيضًا.
فهل نمتلك في مؤسساتنا من يحوّل الزلازل من أدوات تهويل إلى محفزات للنهضة؟
هذا هو السؤال، وهذه هي المعركة.
باريس تُهمس في بغداد… ودمشق تستجيب: شرقٌ يتحرّك نحو ما بعد إيران
فريق البحث والتحليل
07:17:12 – الخميس 24 أبريل 2025
حين تتحرك فرنسا في الشرق الأوسط، فإن السؤال لم يعد عن "حجمها" بل عن "وجهتها"، ولم تعد تُقاس خطوات باريس بحجم الأعلام التي ترفرف فوق السفارات، بل بحجم الرسائل التي تنقلها في غلاف من الدبلوماسية الناعمة.
زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو إلى بغداد، ولقاؤه بنظيره العراقي فؤاد حسين، تأتي في لحظة إقليمية مشحونة بالتحولات: سقوط النظام السوري، ارتباك المحور الإيراني، عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وانكشاف خريطة التوازنات من جديد.
بارو لم يكن يحمل في حقيبته أوراق باريس فقط، بل حمل أيضًا بعض ملامح الرؤية الغربية الموحدة، التي تقودها واشنطن بصوت منخفض هذه المرة. وهنا المفارقة: أن تتحول فرنسا إلى ما يشبه "المبعوث الخاص للبيت الأبيض"، ليس تقزيماً لدورها كما يظن البعض، بل لأنه ما من طرف أوروبي يملك حاليًا شرعية التحرك أكثر من باريس، ولا خريطة علاقات تؤهلها للعب هذا الدور بمرونة وذكاء.
فرنسا، حين تتحدث في بغداد، فإنها تهمس في أذن طهران. وحين تُسجّل موقفًا في سوريا، وإن لم تزُرها رسميًا، فهي ترسم حدودًا جديدة للمناورة الإيرانية من بعيد.
من هنا، فإن الخبرين المتتابعين من بغداد ودمشق لا يُقرأان منفصلين، بل كصفحة واحدة من كتاب دبلوماسي تُكتبه العواصم الغربية بحبر فرنسي. زيارة الوزير الفرنسي للعراق ليست فقط دعمًا للعلاقات الثنائية، بل رسالة صريحة مفادها أن بغداد لم تعد حديقة خلفية لأي محور، وأن التوازنات الجديدة تمر من بوابة العراق، لا من بوابة الولاء.
أما في دمشق، فإن قيام الحكومة المؤقتة باعتقال قياديين من الجهاد الإسلامي، ومطالبة الفصائل الفلسطينية بمغادرة سوريا، فهو ليس فقط انقلابًا على مرحلة طويلة من التحالفات الرمادية، بل هو إعلان ناعم عن رغبة دمشق الجديدة في التخلص من رواسب النفوذ الإيراني.
وفي الوقت الذي تنظر فيه بعض القوى العربية إلى هذه التحركات على أنها نوع من إعادة التموضع التكتيكي، تراها واشنطن – على الأرجح – جزءًا من إعادة صياغة المسرح الإقليمي بما يُناسب استراتيجية ترامب في تقليص الأذرع الإيرانية دون التورط في صراعات مباشرة.
اللافت في الحراك الفرنسي أنه يُعيد إنتاج العلاقة بين أوروبا والشرق الأوسط، لكن من بوابة المصالح لا المبادئ. فالحديث عن حقوق الإنسان والحريات لم يعد مدخلًا كافيًا للنفوذ، بل صار الاقتصاد والأمن والدور الوسيط هو العملة الرائجة. وما فعلته فرنسا في مصر سابقًا حين اصطف ماكرون إلى جانب السيسي، يُعيد نفسه الآن في العراق وسوريا، لكن بوجه مختلف، أهدأ، وأعمق.
هذا الحضور الفرنسي لا يعني أن باريس تحل محل واشنطن، لكنها صارت أقرب ما تكون إلى مندوب سامٍ للغرب في مناطق النفوذ المتحركة. وهي تلعب هذا الدور بشيء من الحذر، وشيء من الكبرياء، وتاريخ طويل يجعلها تتقن فن الحركة بين القوى الكبرى دون أن تحترق.
الرسالة الأمريكية لفرنسا واضحة: أن تنقل إشارات واشنطن، وأن تُمهّد لما قد يُعلنه البيت الأبيض لاحقًا. أما الرسالة الإيرانية المقابلة، فهي في حالة ترقّب. طهران تدرك أن كل ما يجري ليس عابرًا، وأن الخيوط تُسحب من بين يديها ببطء، لا على يد الأعداء، بل على يد من كانوا بالأمس يطلبون ودّها.
أما العراق، فقد وجد في هذه اللحظة فرصة نادرة ليُقدّم نفسه كفاعل إقليمي لا كمتلقٍ دائم. العراق الذي عاش لعقود في وسط العاصفة، بات اليوم قادرًا – إن أحسن إدارة اللحظة – على أن يكون بوابة الاستقرار لا مجرد ساحة للمناورة.
وفي سوريا، فإن ما يحدث ليس مجرد قرار أمني، بل خطاب سياسي جديد. خطاب يقول إن دمشق لم تعد مستعدة لدفع أثمان التحالفات الماضية، وأن الدولة الجديدة تسعى لأن تُعامل ككيان مستقل، لا كجزء من جبهة إقليمية موسمية.
إننا أمام مشهد جديد لا يُمكن اختزاله بعنوان واحد. إنه تحوّل في هندسة النفوذ، تُعيد فيه واشنطن رسم الخطوط عبر الحضور الفرنسي، وتُشارك فيه العواصم العربية من موقع التفاعل لا التبعية.
فرنسا هنا ليست مجرد ضيف… إنها شريك في الإخراج.
والشرق الأوسط – كما يبدو – يشهد إعادة مونتاج واسعة للعبة النفوذ، والمشهد التالي لن يكون إلا لمن يُتقن قراءة صمت الحلفاء… قبل صخب الخصوم.
دمشق الجديدة تتخلص من عباءة المحور الإيراني وتعيد تموضعها
07:09:42 – الخميس 24 أبريل 2025
قرارات الحكومة السورية المؤقتة تجاه الفصائل الفلسطينية تعكس تحولًا سياسيًا داخليًا نحو الاستقلال عن المحور الإيراني.
في تطور لافت للمشهد السياسي السوري، أصدرت الحكومة المؤقتة في دمشق أوامر مباشرة بمغادرة قيادات فصائل فلسطينية الأراضي السورية، وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي، وقامت باعتقال عدد من أبرز كوادرها في العاصمة دمشق. هذه الخطوة تأتي كجزء من سلسلة قرارات تهدف إلى إعادة تشكيل العلاقة مع الحلفاء الإقليميين، وإنهاء الوجود المسلح غير الرسمي الذي طالما ربط سوريا بمحور طهران.
شهادات متعددة أكدت تنفيذ عمليات أمنية دقيقة في عدة أحياء من دمشق وريفها، أفضت إلى توقيف شخصيات إعلامية ومالية مقربة من قيادة الجهاد الإسلامي، وسط تعتيم إعلامي داخلي رسمي، وسيل من التحليلات الدولية التي اعتبرت القرار خطوة جريئة تعكس نوايا انفصالية واضحة عن المسار السابق الذي كان يربط دمشق بمحور المقاومة بقيادة إيران.
مصادر من داخل الحكومة السورية المؤقتة أشارت إلى أن هذه الإجراءات جزء من “سياسة إصلاح العلاقات الدولية” التي تتبعها دمشق الجديدة، وتهدف إلى إظهار حسن النية تجاه الدول الغربية والعربية الراغبة في عودة سوريا إلى المحيط الإقليمي كدولة مسؤولة، وليس كساحة نفوذ بديل.
ويبدو أن هذه السياسة بدأت تُؤتي ثمارها، إذ أفادت مصادر دبلوماسية أوروبية بأن عدة دول تنظر بجدية إلى تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، إذا استمر النهج الحالي الذي يبتعد عن دعم التنظيمات المسلحة، ويقترب من معايير الحكم الرشيد.
في السياق نفسه، تُظهر بعض المؤشرات أن الحكومة تسعى إلى إعادة هيكلة علاقاتها الأمنية مع الحلفاء التقليديين، لتتحول من علاقة تبعية إلى علاقة توازن مصالح، مما يتطلب بالضرورة التخلص من البنى غير الرسمية التي تشكلت على مدى العقدين الماضيين.
وتأتي هذه الإجراءات بالتوازي مع مساعٍ حثيثة لتعزيز شرعية الحكومة المؤقتة على المستوى الدولي، حيث تلقت دمشق منذ بداية 2025 اعترافًا متدرجًا من عدة دول، وبدأت الوفود الدبلوماسية تتوافد إليها، في محاولة لفهم التغيرات الجذرية في بنيتها السياسية والأمنية.
رؤية خاصة:
سوريا الجديدة تحاول أن تتخلّص من رواسب عقود من التبعية، وتبني دولة بوجه خارجي أكثر مرونة واستقلالًا. القرار بطرد الفصائل المسلحة لا يُقرأ فقط كإجراء أمني، بل كبيان سياسي يرسم مستقبلًا تسعى فيه دمشق لأن تُعامل كدولة، لا كساحة، وأن يُحترم قرارها، لا أن يُدار من الخارج. إنه اختبار للسيادة… واستفتاء غير مباشر على المستقبل.
إسطنبول تحت الاختبار: متى نُحصّن المدن لا فقط نفزع عند الاهتزاز؟
04:53:40 – الأربعاء 23 أبريل 2025
المدن العظيمة لا تُقاس فقط بارتفاع أبنيتها ولا ازدحام شوارعها، بل بقدرتها على الصمود حين تهتز الأرض تحتها.
وإسطنبول، المدينة التي تقع على مفترق القارات والتاريخ، اجتازت اليوم اختبارًا زلزاليًا دقيقًا… خرجت منه سالمة، والحمد لله، رغم شدة الهزة التي بلغت 6.2 درجة على مقياس ريختر.
ورغم الخوف اللحظي الذي اجتاح السكان، إلا أن غياب الخسائر البشرية والمادية الجسيمة يُعد إنجازًا بحد ذاته، ويعكس مستوى التحسّن التدريجي في إدارة المخاطر، وهو أمر لا يمكن إنكاره.
فمنذ الزلزال المدمر في فبراير عام 2023، الذي ضرب جنوبي تركيا، شهدنا تحوّلًا واضحًا في طريقة تعامل الدولة مع الكوارث، بدءًا من الاستجابة الطارئة، مرورًا بإعادة الإعمار السريعة، وصولًا إلى ترسيخ مفاهيم الوعي الشعبي والبنية القانونية للوقاية.
وقد أثبتت إدارة الكوارث والطوارئ التركية (AFAD) في السنوات الأخيرة أنها باتت أكثر تنظيمًا، واحترافًا، في الاستجابة العاجلة والتقييم السريع للمخاطر. وهذا ما ظهر جليًا اليوم، حين خرجت فرق الرصد والتدخل منذ اللحظة الأولى، وبثّت الطمأنينة بلا تهويل، والجاهزية بلا ارتباك.
لكن، ورغم هذه النجاحات المستحقة، لا يزال الطموح الوطني يتجاوز النجاة من اللحظة، إلى صُنع أمان دائم.
فالتحصين البنيوي للمدن لا يجب أن يبقى مجرد خطة مؤجلة، بل أولوية يومية تُترجم إلى قرارات ملموسة.
إسطنبول – بثقلها الجيوسياسي والديموغرافي – تستحق أكثر من النجاة، تستحق الاطمئنان.
الزلزال الأخير ليس تحذيرًا… بل تذكير.
بأننا قطعنا شوطًا مهمًا، لكن الدرب إلى الأفضل لا يزال مفتوحًا.
والسؤال النبيل الذي نطرحه اليوم ليس: "هل نحن بخير؟"
بل: "كيف نكون أفضل؟"
وهذا وحده… هو سؤال الأوطان المتقدمة.
الخليج بين واشنطن وبكين… هل هي لحظة السيادة أم لعبة الخراج؟
04:42:38 – 22 أبريل 2025
في مشهد عالمي تتسارع فيه ملامح الانقسام التجاري بين الولايات المتحدة والصين، يطفو على السطح دورٌ جديد لدول الخليج، وخاصة قطر والإمارات، في صياغة ملامح المعادلة الطاقوية القادمة. التحوّلات ليست عابرة، بل مؤشّر على نشوء توازنات دقيقة، تُطرح فيها أسئلة كبرى عن معنى "الحياد الإيجابي" و"التعددية في الشراكة" في زمن الاحتدام بين القوى الكبرى.
في إحدى التصريحات التي مرّت على كثيرين بلا تدقيق، قال مسؤول في وزارة الطاقة القطرية:
"الدوحة على استعداد لتوسيع صادراتها شرقًا، واعتبار آسيا محورًا رئيسيًا في استراتيجيتها الجديدة للطاقة."
وتُضاف إلى ذلك مصادر من أبو ظبي أكدت على "اتفاقات طارئة" مع الصين تشمل حتى البتروكيماويات، وليس فقط الغاز.
فهل نحن أمام تحوّل استراتيجي فعلي في التموضع الخليجي؟ وهل تمتلك الدوحة وأبو ظبي وكل من على شاكلتهما من دول متوسطة الحجم الجغرافي، لكن الضخمة في موقعها ومواردها، مساحة فعلية للحركة خارج مدار واشنطن؟ أم أن كل ما نراه مجرد تموضع ضمن هوامش المسموح به أميركيًا، وفقًا لمقولة "اذهبي حيث شئت فإن خراجك عائد إليّ"؟
في واقع الجغرافيا السياسية، تمتلك بعض الدول – رغم صغر حجمها – أوراقًا ذات ثقل يفوق ما يتيحه الجغرافيا بمقاييسها الكلاسيكية. فقطر، على سبيل المثال، ليست قوة عسكرية، لكنها عقدة مركزية في سوق الغاز المسال العالمي. والإمارات ليست ذات تأثير ديموغرافي أو أيديولوجي كبير، لكنها تُدير موانئ استراتيجية وتملك ذراعًا لوجستيًا واقتصاديًا يتشابك مع مصالح شرق آسيا.
لكن هذا الثقل لا يُمنح فقط بالإمكانات، بل يُكتسب من خلال قراءة الفراغات بين القوى الكبرى، والتقاط اللحظة التي تكون فيها الحاجة الدولية أكبر من قدرة واشنطن على ضبط الإيقاع. الولايات المتحدة، المنهمكة اليوم في معاركها مع الداخل الأميركي، وصعود ترامب مجددًا، وتوازنات أوكرانيا، والردع في تايوان، لم تعد تملك نفس القبضة الكاملة التي كانت تفرضها على حلفائها. هنا يظهر الفراغ، وهنا تتحرك دول مثل قطر والإمارات.
ومع ذلك، فإن هذا التحرّك ليس خلوًا من التفاهمات. فواشنطن، ومنذ إدارة أوباما، بدأت بإعادة تعريف مفهوم الحلفاء؛ لم تعد تطلب الطاعة، بل تُريد النتائج. فطالما أن الخليج يحافظ على استقرار الأسواق، ويمنع تقاربًا خطيرًا بين بكين وطهران، ويُبقي الصراع العربي الإسرائيلي تحت السيطرة، فإن هامش الحركة يصبح قابلًا للتوسعة، بل ويُشجَّع ضمنيًا.
من هنا، نفهم لماذا لا تُمانع واشنطن كثيرًا حين ترى عقودًا خليجية ضخمة مع الصين، أو ترى خطوط الغاز تتجه شرقًا. فالعبرة ليست في الاتجاه، بل في البوصلة النهائية للمصالح. إن شركات الطاقة الأميركية نفسها تنشط ضمن شركات خليجية، وتستفيد من انتعاش الأسواق، ويهمّها – أحيانًا – أن ترى الخليج في موقع اللاعب الوسيط بين القوى الكبرى.
المثير في المشهد، أن الصين لا تفرض أجندة أيديولوجية. فهي تسأل عن الصفقة، لا عن الخطاب السياسي. وهذا ما يُريح دولًا مثل قطر والإمارات، التي ترى في العلاقات مع بكين بابًا لتوسيع النفوذ من دون ابتزاز سياسي أو شرط ديمقراطي. لكنّ هذا لا يعني الغياب الأميركي، بل حضور بمقاييس مختلفة، أقرب إلى المراقبة والتحكم عبر أدوات غير تقليدية.
ولذلك، فإن السؤال عن "السيادة" الخليجية لا يجب أن يُفهم كمواجهة مع واشنطن، بل كحركة داخل شبكة مصالح أكبر. قد تكون هناك مساحة فعلية للحركة، لكنها مساحة محسوبة، وضمن سقف تدركه العواصم الخليجية جيدًا. إن لعبة التوازن ليست خيانة لأحد، بل فن إدارة تعددية المصالح في عالم متشابك.
فهل هذه السيادة الخليجية وليدة لحظة نُضج سياسي واقتصادي؟ أم أنها مجرد دور جديد كُتب بإدارة أميركية غير مباشرة؟
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
بين قصر الوجبة في الدوحة وميناء خليفة في أبو ظبي، تُرسم معادلات جديدة في الجغرافيا الاقتصادية. الخليج لا يخرج من عباءة أحد، لكنه يُعيد خياطة أكمامه بما يُناسب الطقس العالمي. والسيادة في هذا العصر لا تُقاس بعدد الجيوش، بل بعدد العقود… والمصافي… ومنافذ التصدير. من يفهم ذلك، لا يحتاج إلى الانقلاب على الحلفاء، بل يكفيه أن يُراوغ بذكاء… ويُوقّع بهدوء
الشرق الأوسط يتمنّع... والكبار يغازلون
13:59:12 – 21 أبريل 2025
لم يكن الشرق الأوسط يومًا رقعة هامشية في اللوحة العالمية، لكنه لم يكن يومًا أيضًا بهذه الأهمية الجاذبة كما هو الآن. فبينما تنشغل القوى الكبرى بإعادة ضبط موازينها عبر الاقتصاد والممرات والمعلومات، ينفتح الإقليم من داخله على معادلات جديدة: لم تعد محكومة بالدم فقط، بل بالموقع والموارد والجرأة على إعادة التموضع.
في العراق، لا شيء يُعلن صراحة، لكن كل شيء يتحرك تحت الطاولة. توقيع اتفاق نفطي استراتيجي مع الهند ليس مجرد صفقة تصدير، بل هو تصريح سياسي مكتوم: أن بغداد تبحث عن منافذ بديلة للتحرر من معادلة الضغط الثنائي – الأمريكي والإيراني – عبر التوجه شرقًا نحو دولة تُشاطرها القلق من الاختناق الجيوسياسي. إنه نوع من الهروب النبيل نحو التوازن.
أما سوريا، فقد قالت كلمتها أخيرًا: لا لإيران، ولو بصوت دبلوماسي. تجميد العلاقات الاقتصادية مع طهران كان إعلانًا غير مكتوب عن لحظة سيادية جديدة، لحظةٌ تخرج فيها دمشق من عباءة الحرس الثوري إلى عباءة الدولة الوطنية. إنها لحظة دقيقة: لا صخب فيها، لكنّها تحمل كل المعاني التي ينتظرها الشارع السوري منذ عشر سنوات وأكثر.
وفي تركيا، لم يكن الاتفاق مع أوكرانيا لتصنيع الدرونات مجرّد تصعيد تقني، بل كان تثبيتًا لدور أنقرة كطرف قادر على إمساك خيوط اللعبة من بحر إيجه إلى حدود القرم. لم تعد تركيا تكتفي بالتصريحات، بل تصنع أدوات التأثير بيديها، وتضع توقيعها على خرائط التوازنات بأحرف إلكترونية محلّقة.
ثم تأتي السعودية، هذه التي تُتقن اليوم فنّ الحياد النشط. مشروع الهيدروجين الأخضر لم يكن فقط نقلة بيئية، بل نقلة جيوسياسية، جمعت فيه الرياض بين واشنطن وبكين في نقطة واحدة. الخليج لم يعد "رمالًا ونفطًا"، بل بات مصنعًا للتوازنات. وكأن المملكة تقول: "نحن المستقبل، فلا تحكمونا بماضيكم".
هذه الأخبار الأربعة، حين تُقرأ معًا، تكشف لنا أن الشرق الأوسط لم يعد في موقع "التلقّي"، بل انتقل إلى مرحلة "الاستدراج الذكي". الكبار يحاولون إغراء دول المنطقة لعقد الصفقات، وبالمقابل، أصبحت هذه الدول تعرف قيمتها جيدًا. ولم تعد العلاقات تُبنى على الولاء الأيديولوجي، بل على فهم المصالح العميقة.
"ناسبنا الحكومة وبقينا قرايب" – كما يقول المصريون – ليست مجرد نكتة اجتماعية، بل فلسفة جديدة في العلاقات الدولية: من يستطيع أن يتموضع في الحياد دون أن يكون هشًا، هو الأقرب إلى عقد قرابة مع المصلحة الدولية.
في مرحلة ما، كان يُنظر إلى الشرق الأوسط كجسر عبور… الآن يُنظر إليه كـ"حافة قرار". الجغرافيا ما تزال حاكمة، لكن من يملك قراره، يملك البوصلة.
أما من يبيع مواقفه بالرخيص، فمصيره أن يُستخدم ولا يُستشار.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
نحن في زمنٍ تتكلم فيه العقود، وتخطب فيه التكنولوجيا، وتتحالف فيه المنافع لا الشعارات. ومن يمتلك الجغرافيا والمعلومة والمورد، بات يمتلك "شروط الخطوبة" في نظام دولي لا يتزوج إلا من الكبار.
ثلاثية الانهيار والصراع: الدينار العراقي ينهار، سوريا تعيد التموضع، وغزة تحت النار
18:30 - 19 أبريل 2025
فريق البحث والتحليل
في الشرق الأوسط، حيث لا تُترك الجغرافيا تستريح، ولا تتوقف الأحداث عن صناعة نفسها بنفسها، تظهر أمامنا هذا الأسبوع ثلاث لحظات متزامنة، لكنها ليست متفرقة في معناها، بل تنتمي إلى سلسلة متصلة من التحولات: انهيار العملة العراقية من الداخل، إعادة التموضع السوري بعد الانسحاب الروسي، واندلاع جولة جديدة من القصف على غزة.
كل واحدة من هذه اللحظات تحمل في طياتها معاني سياسية واقتصادية واستراتيجية، لكن ما يثير القلق هو أن العالم العربي لا يتعامل معها كجبهة موحدة، بل كأحداث معزولة تُساق إلى الرأي العام دون قراءة للربط الخفي بينها. وهنا مكمن الإشكال: أن تعيش الأمة لحظة انهيار متعددة الرؤوس، دون إدراك أنها ضحية مركزية واحدة تُعيد تدوير الضعف من بلد إلى آخر.
ففي العراق، انهيار الدينار ليس مجرد أزمة مالية، بل مؤشر على ضعف المنظومة الاقتصادية التي لا تزال مرتهنة لصراعات السياسة، والارتهان شبه الكامل للعائدات النفطية، وسط غياب بنية إنتاجية مستقلة أو سياسة نقدية فاعلة. فكلما انخفض الدينار، ارتفع سعر الولاء للخارج، وتراجع الأمل بسيادة اقتصادية وطنية. وهو أمر لا يُقرأ فقط في أرقام السوق، بل في قدرة الدولة على فرض إرادتها في التفاوض، والسيطرة على منافذ النقد، وتوجيه التجارة.
وفي سوريا، التموضع الجديد بعد انسحاب الروس، ليس مجرد فراغ تُرك على الأرض، بل هو مساحة مفتوحة للتنافس على النفوذ من جديد. تركيا تتقدم بدعم أمريكي غير معلن، وإيران تحاول تدارك الهزيمة بالتمركز داخل العراق، والسعودية تفتح خطوط تمويل غير تقليدية مع الحكومة الجديدة. وكأن سوريا تُعاد كتابتها من جديد، لا عبر مؤتمرات جنيف، بل عبر حركة المصالح العابرة للحدود.
أما غزة، فإنها ليست فقط تحت النار، بل تحت ضغط منظومة عالمية تُريد إطالة أمد النزيف الفلسطيني لغايات تتجاوز حدود الصراع العربي الإسرائيلي. فالجولة الجديدة من القصف ليست عقابًا على صاروخ، بل تذكير مستمر بأن غزة لا تزال الورقة التي توضع على الطاولة حين تشح أوراق التفاوض الإقليمي والدولي. واللافت أن الدم الفلسطيني يُستخدم كإشارة في المحادثات بين طهران وواشنطن، وبين الرياض وتل أبيب، وحتى في دوائر موسكو وبكين.
هنا، تتقاطع هذه المشاهد الثلاثة: اقتصادٌ ينهار، وجبهة تُعاد صياغتها، ودم يُراق بلا ثمن. والمشهد الأوسع يقول: هناك إعادة ضبط دقيقة لموازين القوة في الشرق الأوسط، لكن على حساب الضعفاء، وبأدوات الإنهاك الناعم لا الغزو الصريح.
فهل ما يحدث هو مصادفة زمنية؟ أم أن هناك من يُحسن استخدام ضعف هذا الطرف، وانشغال ذاك، لإعادة رسم خطوط السيطرة بهدوء؟
العراق يُضغط اقتصاديًا حتى لا يخرج من عباءة القرار الإيراني الأمريكي المشترك، وسوريا تُدار كمنطقة عبور للنفوذ بين الأطراف، وغزة تُبقي المنطقة في حالة غليان يمكن التحكم بدرجة حرارتها سياسيًا. كل هذا لا يمكن أن يكون مجرد تزامن.
ما نحتاج إليه اليوم هو ليس فقط التضامن العربي، بل العقل العربي الذي يفهم كيف تُدار الفوضى حين نُستهلك كملفات دون أن نُعامل كقضايا سيادية. فحين لا نربط بين الملفات، نخسر قدرتنا على التأثير فيها، وحين نقرأ كل حدث على حدة، نمنح الآخر فرصة صياغة الصورة الكاملة وفق مصالحه.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
الضعف لا يتوزع بالتساوي، بل يُمنح لمن لا يدرك موقعه في الصورة.
والأمم لا تسقط بالضربات وحدها، بل بالتكرار المنهجي للفوضى.
الدينار، ودمشق، وغزة… ليست عناوين منفصلة، بل ثلاثة فصول من رواية واحدة تُكتب بأقلام من خارج الجغرافيا، وتُموَّل من الداخل.
والسؤال الآن: من يجرؤ على تغيير الرواية… لا مجرد إعادة سردها؟
من القاهرة إلى دمشق: الفرق بين الثورة وتغيير الإدارات
20:41:12 – 19 أبريل 2025
لم يكن المشهد العربي في العقدين الأخيرين سوى حلبة متقلّبة بين أحلام الشعوب وانقلابات الأنظمة، بين طموح الجماهير في التحرر، وبين قدرة السلطات العميقة على تجديد نفسها حتى بعد سقوط رؤوسها. وربما لا توجد مقارنة أكثر وضوحًا من المفارقة الحادة بين ما جرى في القاهرة عام 2011، وما يحدث اليوم في دمشق عام 2025.
في مصر، نجحت الثورة في إسقاط رأس النظام ممثلًا في حسني مبارك، لكنها لم تنجح في تفكيك منظومة الدولة العميقة التي ظلّت تمسك بمفاصل الإعلام، والقضاء، والأمن، والمال السياسي. فحين تم انتخاب الرئيس محمد مرسي، لم يكن على رأس دولة ثورية، بل على رأس إدارة قديمة ما زالت تعادي مشروع التغيير. وكان من الطبيعي أن تعود الدولة إلى سابق عهدها حين سنحت لها الفرصة، لأن النظام لم يسقط فعليًا، بل تنحّى مؤقتًا.
أما في سوريا، فإن ما نراه بعد سقوط نظام بشار الأسد لا يشبه مجرد إسقاط رأس الحكم، بل يشبه تفكيكًا شاملًا لآلة السيطرة التي حكمت البلاد لعقود. فقد تم بالفعل حل حزب البعث العربي الاشتراكي، ومُنع من العمل السياسي، كما تم تفكيك مجلس الشعب وإعادة هيكلته، وحُلّت الأجهزة الأمنية المرتبطة بالنظام المخلوع، وأُعيد بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية لا طائفية.
هذا ليس مجرد انتقال سياسي، بل لحظة تأسيس ثانية للجمهورية، تُبنى فيها السلطة على أرضية جديدة لا تستند إلى أحقاد الحرب ولا إلى توازنات ما بعد الخراب. إنه نموذج يثبت أن الثورة لا تكون بإزالة الأشخاص، بل بإزاحة البُنى التي تجعل من تغيير الأشخاص لعبة مكشوفة.
الفرق بين مصر وسوريا هنا لا يعني اختلاف الشعوب، بل اختلاف اللحظة السياسية: في مصر لم تُفكك بنية النظام، وفي سوريا اليوم – للمرة الأولى – يُنتزع النظام من جذوره، لا من واجهته. وهذا هو الفارق بين ثورة تنتصر، وثورة تُجهض.
ليس هذا تقليلًا مما أنجزه الربيع العربي في محطاته المختلفة، لكنه دعوة للتفكر: هل نريد فقط أن نزيح الحاكم، أم أن نعيد تعريف الحُكم؟ هل نكتفي بتغيير الرأس، أم نسعى إلى اقتلاع الجذور التي تُنبت الاستبداد مرة بعد أخرى؟
لقد أثبتت التجربة أن الديمقراطية لا تُورّث، بل تُنتزع. وأن السلطة لا تعطي مفاتيحها لمن يريد إصلاحها، بل تحارب حتى تحافظ على نسختها الأصلية. لذلك فإن أي حديث عن التغيير لا يمر عبر تفكيك أدوات السيطرة سيكون كلامًا على ورق.
اليوم، تعيش دمشق بدايات ما كان يُفترض أن تعيشه القاهرة: لا عودة لحزب البعث، ولا أجنحة أمنية طائفية، ولا مشروع لحكم البلد من خلف الستار. إنها فرصة – قد تكون متأخرة – لكنها حقيقية، لإعادة بناء الوطن على مبدأ المواطنة، لا العصبية..
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري : الثورات لا تُقاس بعدد المظاهرات ولا بسقوط الرؤساء، بل بقدرتها على إعادة كتابة العقد الاجتماعي. وبينما تغيّرت الإدارات في أكثر من بلد، تبقى دمشق اليوم نموذجًا نادرًا لتفكيك المنظومة، لا فقط تغيير الواجهة. ومن هنا تبدأ الطريق إلى مستقبل تُصنع فيه الدولة، لا تُرمم فيه السلطة.
ساحات عربية مضطربة ومنظومة دولية لا ترحم.. العرب إلى أين
إعداد: فريق البحث والتحليل
بينما تعصف الأزمات بالمنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها، تتجلى أمامنا ثلاث ساحات مشتعلة تشكل عناوين أزمة مركبة: الانهيار الاقتصادي في العراق، التحولات العسكرية في سوريا، وتفجر الوضع في غزة من جديد. هذه القضايا، على اختلاف جغرافياتها وتفاصيلها، تحمل خيطًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا يربطها ببعضها البعض، ويكشف هشاشة النظام الإقليمي، وانكشاف الشعوب العربية أمام منظومات حاكمة عاجزة أو متواطئة، وفاعلين دوليين لا يرون في المنطقة سوى ساحة صراع للمصالح.
العراق يعيش اليوم لحظة انهيار اقتصادي غير مسبوق بعد التراجع الحاد في قيمة الدينار أمام الدولار. هذا الانهيار ليس مفاجئًا لمن راقب على مدار السنوات الماضية تآكل البنية المالية، واستشراء الفساد، وغياب سياسة نقدية واضحة ومستقلة. في بلد يعتمد بنسبة تفوق 90% على عائدات النفط، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من تنويع مصادر الدخل أو بناء اقتصاد إنتاجي فعلي. الأدهى أن البنك المركزي فقد السيطرة على السوق، وسط هيمنة شبكات مالية مرتبطة بأحزاب وقوى نافذة، تُهرب الدولار وتضارب بالعملة على حساب المواطن البسيط. انهيار العملة في العراق ليس حدثًا اقتصاديًا فقط، بل هو إعلان رسمي عن فشل الدولة، وتهديد مباشر للاستقرار الاجتماعي، خاصة مع الارتفاع الجنوني في الأسعار وتراجع القدرة الشرائية. الفقراء يزدادون فقرًا، والطبقة المتوسطة تتآكل، فيما النخب السياسية لا تزال تتصارع على المناصب دون أي مشروع حقيقي للإنقاذ.
في المقابل، وفي الجبهة السورية، اختارت الولايات المتحدة تقليص عدد قواتها الميدانية إلى أقل من 1000 جندي، في تحول لافت في استراتيجيتها العسكرية. هذه الخطوة تأتي في لحظة دقيقة، إذ لا تزال الساحة السورية مليئة بالفراغات، والتوازنات الهشة بين قوى محلية وإقليمية. الانسحاب الأمريكي يُقرأ من قبل أطراف عديدة كفرصة لإعادة رسم خارطة النفوذ، سواء لصالح النظام السوري المدعوم روسيًا، أو تركيا التي تنظر إلى شمال شرق سوريا كعمق أمني استراتيجي. هذا التقليص، الذي وصفته واشنطن بـ"إعادة تموضع ذكي"، يُفهم أيضًا على أنه تخلٍّ تدريجي عن الحلفاء المحليين، وعلى رأسهم قوات سوريا الديمقراطية، ما قد يعيد خلط الأوراق ويشعل مواجهات جديدة. الأهم من ذلك أن الوجود الأمريكي، ورغم محدوديته، كان يشكل عنصر ردع ضد التوسع الإيراني أو عودة داعش، وبالتالي فإن أي فراغ قد تتركه واشنطن سيفتح الباب أمام احتمالات انفجار جديد في بلد لم يخرج بعد من كوارث العقد الماضي.
أما في غزة، فقد عادت آلة الحرب الإسرائيلية لتقصف بعنف مناطق مأهولة بالسكان، بعد رفض حركة حماس لعرض تهدئة وصفته بالمشروط والمجتزأ. الغارات الإسرائيلية جاءت كرد فعل على موقف حماس، لكنها في جوهرها تعكس إصرار الاحتلال على تكريس معادلة "الهدوء مقابل الخضوع". العرض الإسرائيلي لم يتضمن انسحابًا حقيقيًا، ولا رفعًا للحصار، بل إعادة تدوير للوضع القائم، مقابل وعود بمرونة إنسانية محدودة. حين رفضت حماس هذا العرض، كانت تدرك أن الكلفة ستكون عالية، لكن خياراتها محدودة، والمقاومة في غزة تجد نفسها دائمًا في معركة الدفاع عن الكرامة الوطنية، حتى في أصعب الظروف. الرد الإسرائيلي كان دمويًا، كعادته، واستهدف بنية تحتية منهكة أصلًا بفعل سنوات الحصار والقصف. ما يلفت الانتباه هو صمت المجتمع الدولي، وتكرار السيناريو ذاته دون مساءلة، وكأن حياة الفلسطينيين خارج منظومة الحقوق الإنسانية المعترف بها.
ما يجمع بين هذه القضايا الثلاث هو غياب العدالة، واحتكار القرار من قبل نخب مرتبطة إما بالخارج أو بمصالحها الضيقة. في العراق، تُترك الناس فريسة لجشع السوق وتحالفات السلطة. في سوريا، يجري رسم مصير البلاد فوق الطاولات الدولية دون مشاركة فعلية من الشعب. وفي فلسطين، يُطلب من شعب محاصر أن يقبل الحد الأدنى من الحياة، مقابل توقف القصف فقط، دون أمل بحل عادل أو دولة مستقلة.
لكن هذه الأزمات ليست قدرًا، بل نتيجة مباشرة لفشل الأنظمة السياسية، وضعف المؤسسات، وتخلي المجتمع الدولي عن مسؤولياته. ما نحتاجه ليس فقط تقارير وتحليلات، بل حراك عربي حقيقي يعيد للناس صوتهم وحقهم في تقرير مصيرهم. لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة، ولا الاستقرار عن الكرامة، ولا الأمن عن العدالة. وإذا كانت الأحداث الحالية تعكس انهيارًا في بنية الدولة أو تقهقرًا في النفوذ، فهي أيضًا تحمل في طياتها إمكانية التغيير، إن وُجدت الإرادة.
الأردن بين بغداد ودمشق… كيف تُقاس العلاقة بمعايير المصالح؟
20:13:49 – 18 أبريل 2025
فريق البحث والتحليل
لا يتعامل الأردن مع العلاقات العراقية السورية على أنها مجرد تقارب بين جارين، بل يراها كمعادلة حساسة تؤثر على أمنه، اقتصاده، وحدوده. ثلاثي المشرق (العراق، سوريا، الأردن) هو أكثر من مجرد تقارب جغرافي، إنه هلال أمني واقتصادي وسياسي، إذا اختل توازنه، اهتزت المنطقة.
العراق وسوريا خاضا لعقود صراعًا سياسيًا وأيديولوجيًا حال دون بناء جبهة شرقية موحدة. واليوم، وبينما تتشكل ملامح مرحلة ما بعد الأسد، وتتحرر بغداد تدريجيًا من النفوذ الإيراني، يراقب الأردن هذا التحول بعين متوجسة، وأخرى متفائلة.
يتأثر الأردن بالعلاقة العراقية السورية على أربعة مستويات:
أولًا، من الناحية الأمنية: الحدود الأردنية مع سوريا والعراق ظلت لعقود مصدر قلق استراتيجي. الفوضى في سوريا والتفكك الأمني في غرب العراق جعلا من البادية الشرقية بوابة تهريب وساحة اختراقات محتملة. أي تقارب غير مضبوط بين بغداد ودمشق قد يفتح الباب أمام تمدد ميليشيات أو فصائل خارجة عن السيطرة، ما يجعل عمّان قلقة من نتائج غير محسوبة.
ثانيًا، من زاوية الربط التجاري: يسعى الأردن إلى إحياء طريق بري يربطه بالعراق ثم سوريا ولبنان وتركيا. هذا المسار كان يومًا ما شريانًا اقتصاديًا حيويًا، واليوم يطمح الأردن لإعادة فتحه في إطار تعاون ثلاثي. لكن التوتر أو الغموض في العلاقة العراقية السورية يعرقل أي مشروع جاد لربط خطوط الشحن والطاقة والسكك الحديدية.
ثالثًا، من منظور التوازن الإقليمي: لا يريد الأردن علاقة تُنتج محورًا جديدًا خاضعًا لطهران، كما كان الحال في السنوات الماضية. بل يفضّل تقاربًا سياديًا مستقلًا لا يُترجم إلى اصطفاف يربك حساباته مع الخليج أو الغرب أو تركيا. ولهذا، فإنه يرحّب بأي تقارب بشرط ألا يكون مطية لعودة الهيمنة الإيرانية أو لنفوذ أيديولوجي جديد.
رابعًا، من البعد الإنساني والسكاني: يستضيف الأردن مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والعراقيين، ويأمل أن يؤدي الاستقرار بين بغداد ودمشق إلى إعادة بعضهم طوعًا. كما يرى أن نجاح العلاقة العراقية السورية يمكن أن يفتح أبواب إعادة الإعمار، وهو ما يسمح للأردن بالمشاركة كمقاول إقليمي في مشاريع البناء والاستثمار.
لكن كيف يقيس الأردن هذه العلاقة؟ هناك "ضبط معياري" خاص يُحدد سقف المقبول والمرفوض:
1. أن تكون العلاقة عربيةً غير أيديولوجية.
2. أن لا تفضي إلى فراغات تعبئها إيران أو فصائل خارجة عن القانون.
3. أن تُفضي إلى مشاريع اقتصادية واقعية يمكن البناء عليها.
4. أن لا تدخل في معاداة الغرب أو الجوار الخليجي والتركي.
بهذا المعنى، لا يرفض الأردن التقارب، لكنه يُريده تقاربًا يحترم السيادة، ويُنتج استقرارًا، لا يفتح أبوابًا لارتباك إقليمي جديد. ولهذا، فإن عمّان قد تلعب دور الوسيط الناعم بين العاصمتين إذا وجدت أن لغة المصالح بدأت تطغى على ضجيج المحاور.
في النهاية، الأردن لا يقف على الهامش. هو يراقب، يتأهب، ويستعد لكل احتمال. لأنه يعرف تمامًا أن ما يجري في بغداد ودمشق… لا يبقى في بغداد ودمشق.
مقال رأي – ما الذي تنتظره بغداد ودمشق من العالم؟
13:14:22 – 18 أبريل 2025
فريق البحث والتحليل
في زحمة النار المشتعلة على بوابات غزة، ووهج الغارات فوق رأس عيسى، وهمس الاتفاقات النووية بين روما وعمان، تراقب بغداد ودمشق المشهد من زاوية مختلفة، ليست زاوية المتفرج، بل المراقب الذي يفهم أن كل قذيفة تُطلق في البحر الأحمر، وكل بيان غربي عن طهران، سيجد طريقه عاجلًا أم آجلًا إلى أراضيهما.
العراق وسوريا، وكأنهما يقفان على ضفتي نهر واحد اسمه إيران. هذا النهر كان يومًا سببًا في خضرة التحالف والمصالح، ثم أصبح مجرى قلقٍ دائم يعبر السياسة والاقتصاد وحتى المجتمع. واليوم، ومع تصاعد الضغط على الحوثيين، تتابع بغداد كيف يمكن أن يتحول هذا الضغط إلى فرصة لإعادة رسم التموضع الإقليمي، وتتابع دمشق كيف يُمكن لتخفيف القبضة الإيرانية أن يفتح نافذة لميلاد سياسي جديد.
في العراق، تعرف الحكومة أن أي تصعيد عسكري أمريكي في اليمن أو أي اختناق في الملف النووي الإيراني سيقود إلى ردود فعل غير تقليدية داخل حدودها، سواء على مستوى الجماعات المسلحة الموالية لطهران، أو على مستوى الاستقطاب المجتمعي بين تيارات تطالب بإعادة السيادة الكاملة، وأخرى تخشى من كسر التوازن القائم. ولذلك فإن الموقف العراقي لا يُبنى فقط على الرغبة في "الحياد الإيجابي"، بل أيضًا على ضرورة الاستباق الدبلوماسي لأي موجة اضطراب ناتجة عن تلك المواجهات.
أما سوريا، فهي في مرحلة ما بعد الزلزال، لا تُفكر فقط في إعادة الإعمار، بل أيضًا في إعادة التموضع. لقد فهمت القيادة الجديدة في دمشق، أن التخفف من العباءة الإيرانية قد يكون شرطًا دوليًا للقبول بها، وأن أي تقارب محتمل مع الغرب والخليج سيمر عبر باب انفصال نسبي – أو مرحلي – عن القرار الإيراني. وهنا تتابع دمشق عن كثب ما يجري في اليمن، لأن الحوثيين هم الامتداد التعبوي لنفس الاستراتيجية التي مكّنت إيران من فرض نفسها في سوريا، وحين يتهاوى الامتداد، لا بد أن يتأثر الجذر.
تتقاطع الرؤيتان العراقية والسورية عند قناعة مشتركة: أن صبر المجتمع الدولي على السلوك الإيراني وصل إلى حدوده العليا. فالغارات في اليمن ليست معزولة عن التوجس الأمريكي من القواعد الصاروخية في العراق وسوريا، والمفاوضات النووية ليست سوى غطاء لحرب استخبارية شاملة تُدار خلف الستار.
لكن بغداد ودمشق لا تريان المشهد بعين الغرب فقط، بل تنظران إليه أيضًا من مرآة مصالحهما الداخلية. فالعراق، في سعيه لتثبيت صورته كدولة ذات سيادة وقوة مؤسسية، يُدرك أن استمرار التبعية لمحاور إقليمية يُضعف من قدرته على المناورة. ولذلك فإن تصعيد الضغط على الحوثيين يُمكن أن يُستخدم كورقة عراقية للمناورة مع طهران، بأن زمن الوكالة السياسية والعسكرية بدأ ينفد.
وفي سوريا، تبحث القيادة الجديدة عن اعتراف دولي بديلاً عن الشرعية السابقة التي تهشمت، وتفهم جيدًا أن الشرعية لن تُمنح بالمجان، بل مشروطة بتموضع جديد، وموقف جديد من قضايا الإقليم. وفي هذا السياق، فإن الطريقة التي سيتعامل بها المجتمع الدولي مع الحوثيين ستُحدد ما إذا كانت هناك رغبة حقيقية في كبح النفوذ الإيراني، أو فقط إدارته بذكاء.
إن الموقف المشترك لبغداد ودمشق، حتى وإن لم يُعلن بشكل صريح، هو ترقّب لحظة مفصلية يُعاد فيها توزيع أدوار الإقليم. وهذه اللحظة – كما تُشير كل المؤشرات – ستُحسم في اليمن، وستُدار من واشنطن، وستُراقب من تل أبيب، وستُنسج خيوطها في العواصم الأوروبية والخليجية.
لكن التساؤل الذي يُقلق الطرفين هو: هل سيكونان شريكين في إعادة التوزيع، أم مجرد ميدان آخر يُدار بالوكالة؟
هذا السؤال يُعيد رسم أولويات القيادتين: العراق بحاجة إلى استباق الحدث بسياسة هجومية ناعمة توازن بين كرامته السيادية ومصالحه الأمنية، وسوريا بحاجة إلى بناء ثقة سياسية جديدة مع القوى الدولية بعيدًا عن الحرس الثوري الإيراني.
المعادلة معقدة، والميدان فسيح، لكن الوضوح في فهم اللحظة التاريخية يجعل من الترقب موقفًا لا يقل أهمية عن الفعل. والمفارقة أن الحوثيين الذين يُقصفون اليوم في رأس عيسى، قد يكونون غدًا نقطة التحول في موقع إيران من الخريطة، وبالتالي موقع العراق وسوريا من العالم.
وما دام القصف في مكان، والنظر في مكان آخر، فإن السياسة ستبقى في مرحلة إعادة تعريف… وهي لحظة ثمينة لا تحتمل الغياب.
من العهد العثماني حتى انقلابات البعث… دولة واحدة انشطرت مرتين
19 ابريل 2025 - 00:41:27
فريق البحث والتحليل
لم تكن العلاقة بين العراق وسوريا يومًا علاقة جوار جغرافي فحسب، بل كانت على مدى قرون علاقة شراكة في التكوين، وتداخل في الوجدان، وتراكم في المعنى السياسي الذي لم يكن يومًا مقتصرًا على قوى الداخل، بل كان صنيعة قوى الخارج أيضًا. فعندما كانت الدولة العثمانية تدير الشام والعراق كولايات متقاربة النفَس والمركز، لم تكن ثمة حدود تعزل بين الموصل ودير الزور، ولا بين بغداد ودمشق، بل كان الخيال الجغرافي متصلًا، حتى وإن اختلفت الوظائف الإدارية، لأن الجامع الحضاري كان أقوى من الفاصل السياسي.
لكن هذا الامتداد الطبيعي انكسر مع ولادة سايكس بيكو، تلك الاتفاقية التي لم تكتفِ بتقسيم الأرض، بل ذبحت فكرة “الواحد العربي” من الوريد إلى الوريد. سوريا أصبحت تحت الانتداب الفرنسي، والعراق تحت الانتداب البريطاني، وبدأت النخبة في كل بلد تنمو في ظل مدرسة استعمارية مختلفة. وفجأة، صارت مفردات الإدارة والهوية والخطاب تتمايز، لا لأنها تختلف من حيث الجوهر، بل لأنها خضعت لبيئة سياسية مختلقة، فرضت على العقل العربي في دمشق وبغداد أن يُفكّر على نغمة مختلفة.
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بدا أن حلم الوحدة سيعود من جديد، وأن سوريا والعراق – بعد الاستقلال – سيجدان نقطة التقاء على طريق الأمة الواحدة. وهنا برز حزب البعث العربي الاشتراكي، بوصفه المشروع الجامع للناصريين والبعثيين والاشتراكيين وكل من آمن بالوحدة والحرية والاشتراكية. غير أن هذا الحزب، الذي كان يُفترض به أن يُوحّد، كان أول من انقسم على نفسه، وتحوّل إلى حزبين متضادين في العمق، متفقين في الاسم، متنابذين في المضمون.
في دمشق، هيمن العلويون على مفاصل الحزب تحت عباءة القومية، واستُخدم الأمن بوصفه أداة حكم لا أداة استقرار، حتى صار النظام هناك أقرب إلى العائلة منه إلى الدولة. وفي بغداد، انفجرت القيادة البعثية بالقوة، وتحوّلت إلى نظام صدامي مطلق، يرى العراق مركز الكون، ويتعامل مع العروبة كرسالة تأتيه من فوق، لا من رحم الأمة. ومع هذا الانقسام، بدأت لحظة التشظي الحقيقية، حيث بات البعث في سوريا يلعن البعث في العراق، والعكس صحيح، وكلٌ يرفع راية “القومية”، ليُثبت بها تفوقه على الآخر، لا ليخدم بها مشروعًا جامعًا.
ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية، لتكشف عن الخلل الأخلاقي العميق. حين وقفت سوريا إلى جانب إيران ضد العراق، لم يكن ذلك موقفًا مبدئيًا، بل موقفًا انتقاميًا من بغداد لا أكثر. وبدل أن يُعبّر العرب عن جرحهم المشترك، ويدفعوا بالدم الواحد في اتجاه المقاومة والتوازن، أصبح الدم يُسفك على الجبهات بأيدي عربية تدعم طرفًا خارجيًا ضد طرف داخلي.
وما بين انقلاب صدام في بغداد، وسيطرة الأسد في دمشق، وبين المذابح في حلبجة وتدمر، وبين صعود المشروع الإيراني وتسلل المشروع الأمريكي، ضاعت فرص العودة إلى نقطة البدء. فالخطاب الذي حمل ذات يوم شعارات الوحدة، تحول إلى لغة مؤتمرات حزبية جوفاء، والمقاومة التي كانت عنوان الفداء، أصبحت حجة لقمع الداخل، وتحالفات الخارج.
واليوم، حين ننظر إلى العراق وسوريا، نراهما أشلاء دولة واحدة تمزقت مرتين: مرة عند سايكس بيكو، ومرة عند انقلابات البعث، ثم مزقتها الطائفية، ونسفها الاحتلال، وجمدتها المحاور. لم تعُد بغداد تمثل قلب العروبة النابض، ولا دمشق بوابة الأمة الشرقية، بل أصبح كل منهما يبحث عن عكاز يتكئ عليه: واحد يبحث عن الخليج، والآخر عن موسكو، وكلاهما يعرف أن الطريق إلى الشفاء لا يمر عبر الخارج، بل عبر المصالحة مع النفس أولًا، ومع الجار الشقيق ثانيًا.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
إذا كان التاريخ علّمنا أن الأمة تُقسّم مرارًا، فإن الجغرافيا ما تزال تذكرنا بأن الدماء لا تنقسم بسهولة. العراق وسوريا لم يكونا يومًا خصمين، بل شريكين خُطفا في لحظة من الزمن إلى معسكرين، وحين سقطت الأقنعة، لم يبقَ إلا التراب المشترك، والنهر الواحد، والذاكرة التي تُراوغ لكي لا تنسى
حين تصافح بغداد دمشق… وتبتسم الدوحة
01:27:02 – 19 أبريل 2025
فريق البحث والتحليل
لم يكن المشهد في الدوحة مجرد اجتماع ثلاثي آخر، ولا صورة جماعية لذكرى دبلوماسية. كان مشهدًا تراجيديًا يُغادر فصله الأخير… ليدخل أولى مشاهد الرواية الجديدة.
بغداد… بوجهها المتعب من النزاعات والولاءات،
دمشق… بيدها الممتدة من تحت الركام،
والدوحة… تجلس بينهما، لا كمُحكّم… بل كمن يعرف جيدًا كيف يُنصت حين يتكلم الآخرون.
عندما جلس محمد شياع السوداني إلى جانب أحمد الشرع، لم يكن لقاء رؤساء فحسب، بل لقاء ذاكرة مشتركة ما تزال تئن من الطعنات. كان العراق يقول لسوريا: نحن لا نحمل ثأرًا… نحمل احتمالا. وكانت سوريا تقول: لم نعُد نُجيد رفع الشعارات، نُجيد فقط رفع الأنقاض.
ومن خلف الطاولة، كانت قطر تُدير كل شيء بلغة الصمت… لا الضغط. فالمعجزة السياسية لا تحدث حين يتكلم اللاعب القوي، بل حين يُقنع الآخرين أن صوتهم ما زال مسموعًا.
في تلك اللحظة، تَقدّمت الدولة العراقية نحو أمتها، ليس لأنها تخلت عن إيران، بل لأنها أدركت أن العمق لا يُقاس بكثافة الزيارات إلى طهران، بل بكثافة الصدق مع الذات.
وفي تلك اللحظة، خرجت دمشق من عزلتها ليس لأنها أصبحت دولة ديموقراطية، بل لأنها باتت تعرف أن بقاءها في عزلة الموت أفظع من صخب القبول بشروط الحياة.
أما قطر، فهي لا تبحث عن التتويج… بل عن التوقيت.
فمن يُمسك بلحظة الغياب العربي، ويعيد رسم اللقاء… لا يُتّهم بالانحياز، بل يُوصَف بالحكمة.
هذا اللقاء الثلاثي ليس نصرًا لأحد، ولا خسارة لأحد.
إنه ببساطة، فصلٌ جديد، يُكتَب لا بالحبر، بل بالزيت الذي تُضاء به خرائط الشرق من جديد.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
في السياسة كما في الشعر… اللقاء ليس مناسبة، بل لحظة تنبئ بما بعدها.
وحين تصافح بغداد دمشق وتبتسم الدوحة،
فنحن لا نحتفل بعودة العلاقات… بل بعودة العقل.
سوريا بين الخروج الروسي والدخول المالي… من يُدير الساحة فعلاً؟
22:11:40 – 17 أبريل 2025
فريق البحث والتحليل
الصمت لا يعني الغياب.
وحين تصمت روسيا في سوريا، فإنّها لا تنسحب… بل تعيد توضيب حقائبها على طريقة المسافرين الدائمين في مطارات المصالح.
فالذي يحدث ليس خفوتًا في الصوت، بل إعادة توزيع في حصص النفوذ، بين من يموّل، ومن يراقب، ومن يُفاوض، ومن يتقدّم بلا ضجيج… كأنقرة.
خرجت موسكو من المشهد كمن يطفئ الضوء في غرفة لا ينوي العودة إليها قريبًا،
لكنها تركت فيها أدواتها مبعثرة، وعقودها متصدّعة، وأسئلتها معلّقة على الجدران:
من سيُكمّل المشوار؟
من سيدفع الفواتير التي لم تسددها الحرب؟
ومن سيكتب شكل دمشق القادم على صفحات المصارف وليس في بلاغات الطوارئ؟
المشهد الجديد في سوريا لا يشبه ما قبله.
الجنرال انسحب إلى الخلف، وتقدّم المموّل الخليجي، يحمل بيده مشروعًا وليس بندقية.
ومن خلفه الأوروبيون، يراقبون بدقة لكن دون اندفاع، يبحثون عن "عودة ناعمة" تضمن لهم موقعًا على الطاولة دون أن يخسروا نظافة الصورة أمام ناخبيهم.
وفي أقصى الزاوية، يجلس الأمريكي… لا يتحرك كثيرًا، لكن عيونه في كل مكان.
يعرف من دخل ومن خرج، من وقّع ومن تردد، من موّل ومن ماطل…
يرى في سوريا ليس ساحة فقط، بل اختبارًا دقيقًا لجدوى البقاء الأمريكي في الشرق الأوسط،
هل يكفيه التمويل غير المباشر؟
أم أن الأرض لا تزال تحتاج لمزيد من بصماته العسكرية القديمة؟
ثم هناك تركيا.
لا ترفع صوتها، لكنها تمسك بالخيوط.
لها معابر، ولها نفوذ في الشمال، ولها قدرة عجيبة على التنقّل بين المشاريع،
فتارةً شريكة في إعادة الإعمار، وتارةً ضامن في ترتيبات الحدود،
وتارةً تُراوغ باسم "العودة الطوعية"، لكنها في كل مرة تُظهر أنها موجودة،
كقوة أمر واقع، لا تحتاج إلى اعتراف، بل إلى مساحة تتحرك فيها.
سوريا لم تُحرر من الهيمنة بعد… بل أعادت ترتيب شكل الهيمنة.
لم تعد الخنادق هي الفاصل، بل المنصات الاقتصادية، وحسابات الإعمار، ومشاريع الربط الطاقوي.
العاصمة التي كانت تُقصف بالصواريخ، باتت تُغزى اليوم بالدفاتر المالية والعروض الاستثمارية.
لكن العقل الذي يُدير اللعبة لم يتغيّر:
إنه عقل المصالح، لا عقل التحرر.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
حين تخرج روسيا دون أن تودّع،
وحين يدخل المال قبل أن يُسأل عن مصدره،
وحين تُشارك تركيا دون أن تُستدعى،
وحين تُراقب أمريكا دون أن تُلزم نفسها…
فأنت لا تعيش نهاية الحرب، بل تعيش بدايات "مرحلة الاستثمار في ما بعد الدمار".
في هذه المرحلة، لا يسأل أحد: "من ربح المعركة؟"
بل يسألون فقط: "من سيملك مفاتيح الإعمار؟"
حين يُمسك العراق بخط التصدير… فمَن يُمسك بخط القرار؟
22:41:26 – 17 أبريل 2025
فريق البحث والتحليل
العراق لا يبيع نفطًا فقط، بل يكتب جغرافيا سياسية جديدة بأنبوب.
وحين يُعلن من بغداد عن اتفاق طويل الأمد لتصدير النفط مباشرة إلى الهند عبر خطوط بحرية مستقلة، فإن الحدث لا يُقاس بعدد البراميل، بل بنوع المسار. فأن تربط البصرة بموندرا دون المرور بمصافٍ وسطى أو وكلاء عبور إقليميين، فهذه رسالة لا تحتاج إلى بيان… بل إلى تحليل عميق.
لأول مرة منذ عقود، يُعيد العراق ترتيب علاقته بموقعه، لا كبلد محصور بين التأثيرات، بل كدولة تختار منفذها، وتُحدّد لمَن تُرسل ثروتها، وبأي شروط، ومن أي بوابة بحرية. إن المعنى الحقيقي لما جرى لا يكمن في توقيع شركة هندية، بل في توقيت الاختيار: لحظة إقليمية رمادية، لا حسم فيها، وكل الأطراف تتلمس موطئ قدم على رمال متحركة.
من الجنوب العربي يمر النفط إلى الهند، متجاوزًا الأنابيب الشمالية التي تتحكم بها تركيا، ومُزيحًا عباءة التأثير الإيراني على المعابر البرية، ومُتحررًا من ضغط التفاهمات الخليجية التقليدية التي كانت تتحكم بممرات التسويق والاشتراطات غير المعلنة.
العراق لا يُناور هنا كدولة مُنتجة تبحث عن مشترٍ، بل كفاعل سيادي يعيد كتابة دوره في الممرات الاقتصادية الآسيوية، وكأنّه يقول: "أنا لست تابعًا في مشروع إمداد، بل صانعًا لمسار جديد." وهذه ليست رغبة تجارية فقط، بل رؤية في عالم يعاد فيه تشكيل النفوذ من خلال من يُصدر ومَن يُسيطر على النقل، لا مَن يملك في الأرض فقط.
وفي الخلفية، تراقب القوى الكبرى هذا التحرك بهدوء: واشنطن ترى فيه إشارات استقلال جزئي، لكنها لا تمانع طالما أنه لا يتقاطع مع حساباتها الأوسع.
طهران تنظر إليه كمؤشر خطر على نطاق تأثيرها الذي طالما اعتمد على حاجة بغداد إلى الممرات الشرقية.
وأنقرة تقرأه كمنافسة لخط جيهان الذي تعثر منذ فترة طويلة، وكسرًا ضمنيًا لرهانها على بقاء العراق تحت خريطة "العبور من الشمال".
الهند من جهتها، تُمسك بالفرصة جيدًا… فالعراق بالنسبة لها ليس مجرد مورد نفط، بل بوابة لإعادة التوازن مع دول الخليج، وتحقيق اختراق في مساحات النفوذ التي تشغلها الصين والولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
أما بغداد، فهي تعلن الآن عن نواياها بلغة الاقتصاد، بعد أن طال صمتها في زحام المشاريع الدولية.
أن يُنشأ أنبوب، لا يعني مجرد خروج النفط… بل خروج القرار أيضًا من قيود الجغرافيا السياسية القديمة.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
حين يمتلك العراق القدرة على أن يُصدّر من حيث يشاء…
فإن السؤال لم يعد: "إلى أين يذهب نفطه؟"
بل: "إلى أين سيذهب وزنه السياسي بعد اليوم؟"
في هذه اللحظة، لا أحد يُمسك بخط القرار سوى من يُمسك بأنبوبه.
أنقرة لا تبيع طائرات… بل تكتب سياسة بصوت المسيّرات
23:47:42 – 17 أبريل 2025
فريق البحث والتحليل
لم تكن أنقرة بحاجة إلى أن ترفع صوتها أو تُعلن نفسها، حين قررت أن تُحلّق فوق أوروبا الشرقية من داخل مصنع لا يشبه مصانع السلاح القديمة، بل يُشبه نَفَسها الجديد، نَفَس الدولة التي لم تعد تطرق أبواب السياسة بالقوة، بل تفتحها بالصناعة. فالمسيّرة التي تخرج من كييف اليوم لا تشبه الطائرة، ولا تُشبّه بالسلاح، بل تُشبّه بالحضور التركي نفسه، حين يختار أن يكون دقيقًا، ثابتًا، بلا دويّ… وبلا استئذان.
لا تُعلن تركيا انحيازها، لكنها لا تخفي طريقتها. تمشي بين الحلفاء كما تمشي بين الخصوم، لا تفصح كثيرًا، لكنها تُرسل ما يكفي لتُفهم. وليس في هذا المصنع مجرد طاقة إنتاج، بل طاقة معنوية تزرعها أنقرة في خاصرة القارة التي تحاول منذ سنين أن تُنسّق قوتها تحت مظلة واحدة، بينما تترك الساحة مفتوحة لكل من يُتقن الحسابات دون أن يُعلن نفسه لاعبًا أول.
كان بإمكان أنقرة أن تُرسل وفدًا أو توقع مذكرة أو تلوّح بعلاقة دبلوماسية جديدة، لكنها فعلت ما هو أبلغ: وقّعت بالألمنيوم المركّب، ودوّنت موقفها بلوحة تحكم إلكترونية تُقلع من كييف، وتصل إلى العمق الروسي دون أن تُرفَع يد ولا يُطلق تهديد.
لا تريد تركيا أن تُغيّر شكل الحرب، بل أن تُغيّر أدوات الحضور في زمن الحرب. أن تُصبح موجودًا دون أن تملأ الشاشات، وأن تُحدِث الأثر دون أن تطلب التصفيق. والمسيّرات ليست بضاعة في هذه المعادلة، بل وسيلة لرسم موقعٍ جديد في خريطة النفوذ، ليس لأن تركيا تصدّرها، بل لأنها تضعها في المكان الذي تريد أن تكون فيه، دون أن يُسألها أحد عن حدودها الجغرافية.
أوكرانيا لم تكن ساحة للاختبار فقط، بل حاضنة لرسالة تقول إن أنقرة قادرة على أن تكون حيث لم يُتوقع لها أن تكون، ليس بحامية ولا بقواعد، بل بمشروع يدخل صامتًا ويُحدث تغييرات في البُنية نفسها: بُنية التوازن، وبُنية القرار، وبُنية الإدراك.
لم تكن تركيا تسعى إلى مواجهة، ولم تكن تحاول استعادة أمجاد الماضي كما يتوهم البعض، بل كانت تختبر نفسها أمام تحدٍّ جديد: أن تُصبح مؤثرة دون أن تُستفز، وأن تصوغ النفوذ دون أن تُدعى إلى الطاولة. وقد نجحت.
والمسيّرة ليست النهاية، بل البداية. فحين تتحول الطائرات إلى أدوات تفاهم، والمصانع إلى أدوات نفوذ، تُصبح الدولة التي تصنعها ليست مجرد مُصدّرة… بل مَن يُعيد ترتيب الجغرافيا دون أن يُمسك بالخريطة، فقط لأنه يُمسك بالمصنع.
الختمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
لا أحد يسمع صوت تركيا حين تبني…
لكن الجميع يسمعه حين تُحلّق بصمت فوق حدودهم.
توازنات بلا دم… حين يصوغ البيروقراطيون ملامح الأمن العالمي
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
16 أبريل 2025
لم يعد الجنرال هو من يحدد ملامح الأمن في هذا العالم المتحول. سُلِبَت من يد الميدان راية القرار، وانتقلت إلى عقل اقتصادي، أو مدير بنك، أو مستشار طاقة، أو رئيس وحدة سيبرانية يعمل خلف شاشة باردة، لا على خطوط النار. إننا نشهد تحوّلًا حقيقيًا، لا في موازين القوى فقط، بل في هندسة الفعل الأمني نفسه. لقد تراجعت الفوهة وصعدت الوثيقة، وتحوّلت الجبهة من الخنادق إلى الجداول الإلكترونية، ومن قواعد القتال إلى قاعات الاجتماعات.
ما كان يُعرف يومًا بالتوازن العسكري، لم يعد يُقاس بحجم الذخيرة، بل بحجم البيانات، وبسرعة نقل المعلومة، وبمن يملك حقّ القرار في شبكة الطاقة أو التمويل أو البنية التحتية. لقد دخلنا طورًا جديدًا من التفكير في “الأمن”، حيث لا يُطلق الرصاص، بل تُبرم الاتفاقات. حيث لا تستعرض الجيوش عضلاتها، بل تعرض الدول تقاريرها الربع سنوية لمؤسسات التصنيف الائتماني.
في بغداد، حين تقرر وزارة النفط إطلاق مشروع الأنبوب البحري الثالث، لم يكن ذلك فقط توسعة للبنية، بل لحظة قرار سيادي عميق اتُخذ من قلب بيروقراطية الدولة، لا من مجالس الأمن القومي. القرار لم يصدر عن قائد عسكري، بل عن موظف هادئ في لجنة تخطيط استراتيجي. لم يلوّح أحد بالسلاح، بل رُسم مسار جديد للنفط… والهيبة. من يفكر في الأنبوب على أنه مسألة هندسية فقط، يُقصي جوهر ما يجري؛ لأنه في الحقيقة قرار يُرسّخ أمن العراق الطاقوي، وبالتالي مكانته في سوق القرار الدولي.
وفي الرياض، حين تقرر المملكة تسديد ديون سوريا لصالح البنك الدولي، لم تُرسل مبعوثًا عسكريًا، بل فتحت قناة دبلوماسية مالية، وكتبت من خلالها مستقبل علاقة جديدة بين دولة تعيد هندسة نفوذها، ودولة تحاول أن تنهض من ركامها. الشرعية لم تُصغ في غرفة عمليات، بل في تقرير هيكلة مالية، أعده خبير في بيروقراطية التنمية. لم يكن هناك بيان من جامعة الدول العربية، بل كان هناك حساب مصرفي يُغذّى، وشروط تُكتب.
وفي أنقرة، حين اجتمعت تركيا والعراق لمواجهة تهديدات حزب العمال الكردستاني، لم تتبادل الصحف صور الجنرالات ولا تصريحات النشوة الحربية، بل خرج الاجتماع هادئًا، بيروقراطيًا، تقنيًا. أُنشئت غرفة عمليات، لا لتبدأ الحرب، بل لتُدار عبر اتفاق ناضج بين وزراء داخلية وخارجية ودفاع، بلا طبول، ولا رايات. كأن المعركة تحوّلت من حدود قنديل إلى طاولة أنقرة.
حتى في واشنطن، لم يعد الأمن في عهد ترامب يُدار من البنتاغون وحده. بات وزير التجارة رجلًا أمنياً بامتياز، يفرض تعريفات جمركية كما لو أنها جدران دفاعية، ويُجري تحقيقات في واردات الرقائق كما لو أنه يُفكك خلايا تهديد. أصبحت الجمارك اليوم أداة لتثبيت التوازن الدولي، وصار الأمن الأمريكي يبدأ من داخل المصانع، لا من خارج الحدود. بهذا المنطق، تتحول الشرائح الإلكترونية إلى معايير سيادة، وسلاسل التوريد إلى ساحات اشتباك غير مرئية.
لقد تغيّر كل شيء. أصبح المستشار المالي يُكافئ القائد الميداني. مسؤول الأمن السيبراني لا يقل أهمية عن رئيس الأركان. بل إن مدير مشروع استثماري، يملك اليوم القدرة على إعادة رسم خارطة تحالفات سياسية واقتصادية عابرة للحدود.
وحين نصل إلى هذه المرحلة، ندرك أن الأمن لم يعد شأنًا عسكريًا فقط، بل بات مسألة إدارية، ومفردة لغوية جديدة داخل خطاب الدولة العصرية. الدولة القوية ليست تلك التي تنشر جنودها في الخارج، بل تلك التي تُدير الداخل بوعي مركّب، وتُفكر بالزمن بوصفه سلسلة قرارات، لا معارك.
وهنا تحديدًا تبدأ التحليلات الاستراتيجية، لا حين نرصد تحركات الفرق، بل حين نفكك أنماط التفكير، ونكتشف أن المهندس الجديد للعالم لم يرتدِ بدلته العسكرية… بل ارتدى بدلته الرمادية، وجلس في صمت، يصوغ توازنات بلا دم.
عقود التمويل كبديل للدبابة: كيف يُكتب النفوذ في القرن الحادي والعشرين؟
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
16 أبريل 2025
حين تتأمل التاريخ، تجد أن الإمبراطوريات القديمة كانت ترسل جيوشها قبل رسائلها، وتسير الحملات قبل أن ترسل الدبلوماسيين. أما اليوم، فإن النفوذ يُكتب على ورق أملس، يُوقع في فندق أنيق، لا في خنادق الوحل. أصبح التمويل هو الحصان الأبيض الذي تدخل به الدول ساحة الصراع، دون أن ترفع راية حرب.
لقد تغيّرت أدوات القوة، ولم تعد الدبابة مدخل الهيبة، بل العقد المالي.
الدولة التي تملك "خطة تمويل" محكمة لمشروع استراتيجي في بلد آخر، صارت تملك قرارًا لا يقل عن قرار مَن يُسيطر على السلاح.
وهذا هو الوجه الأعمق للسلطة الحديثة: سلطة السيولة… لا سلطة الرصاصة.
السعودية وسوريا: الميزانية التي تُعيد الشرعية
التحرك السعودي لتسديد ديون سوريا لدى البنك الدولي، لم يكن عملاً خيريًا ولا مجرد دعم اقتصادي… بل أداة لإعادة تشكيل الشرعية في النظام الدولي.
إنها محاولة ذكية لاختراق المشهد السوري، لا عبر سلاح المعارضة أو الحليف، بل عبر ملف يُعد من أكثر الملفات حساسية في النظام المالي العالمي: الديْن العام.
هكذا وبهدوء، دخلت الرياض من بوابة الأرقام لتُعيد إنتاج ما لم تستطع عشر سنوات من الصراع تغييره.
المعنى الاستراتيجي لهذا السلوك السعودي لا يقتصر على سوريا، بل يمتد ليشمل رؤية جديدة للسياسة الخليجية تقوم على تمويل الاستقرار بدل دعم الفوضى، وتدوير الاقتصادات بدل إغراقها بالسلاح.
روسيا وأوروبا: الذرة بدل الغاز… والعقد أقوى من القاذفة
حين لوّحت موسكو بوقف صادرات الوقود النووي إلى أوروبا، لم تُطلق تهديدًا عسكريًا، بل فتحت صفحة من الحرب المالية عبر أدوات الطاقة.
فالمفاعلات الأوروبية التي تعتمد على وقود روسي مُخصب ليست مجرد منشآت طاقة… بل هي نقاط خنق استراتيجية.
عقد توريد واحد من شركة "روساتوم" يُساوي في أثره كتيبة مدرعة،
وعندما تُجمّد روسيا التوريد، فهي تُعاقب أوروبا من داخل قلبها الصناعي وليس من حدودها الشرقية.
هنا تصبح العبارة دقيقة:
في القرن 21… البنك أصبح هو المدرعة. والمصرف هو الغرفة الحربية.
أمريكا: الجمارك كأداة ضغط استراتيجي
في إدارة ترامب الثانية، لا أحد يتحدث عن زيادة القواعد العسكرية، بل عن رفع الجمارك على الرقائق والأدوية.
وهذا يعكس فلسفة أمريكية جديدة:
لا نريد أن نحكم العالم بالسلاح، بل نُجبره أن يطلب منتجاتنا، أو يدفع ثمن اعتماده علينا.
الصفقات التي تُبرمها وزارة التجارة مع الشركات الكبرى أصبحت جزءًا من مشهد الأمن القومي.
وإذا كانت الجيوش تُدافع عن الحدود، فإن التمويل يُدافع عن "السوق"… والسوق هو الأرض المقدسة الجديدة.
العراق ومشروع الأنبوب: الهيمنة الهادئة
العراق لم يعد فقط بلدًا يُسعّره النفط، بل بلدٌ بدأ يُسعّر خيارات الدول حوله.
مشروع الأنبوب البحري الثالث، بتمويل مشترك بين العراق وتركيا وشركات أوروبية، هو تحالف مالي قبل أن يكون تحالفًا لوجستيًا.
العراق هنا لا يُصدّر فقط النفط، بل يُدخل نفسه في لعبة التمويل الدولي، ويمنح نفسه مكانًا في مفاوضات لا تُعقد بالسلاح بل بالإيرادات المتوقعة.
الخاتمة الفكرية – منصة التحليل الإخباري:
القرن الحادي والعشرون لا يكره الحروب… لكنه يحب الصفقات أكثر.
والدولة الذكية ليست تلك التي تمتلك جيشًا قويًا، بل تلك التي تكتب عقدًا يُلزم الآخرين دون أن تطلق طلقة.
من يمسك بدفاتر التمويل اليوم، يُحرك الجغرافيا من دون غزو،
ويُسقط أنظمة دون انقلابات،
ويُعيد كتابة الشرعيات من خلف مكاتب صندوق النقد والبنك الدولي.
في الزمن الذي نعيشه، الدبابة قد تحميك… لكن التمويل هو مَن يُعيدك إلى الخريطة.
ومن لا يُدرك هذه القاعدة، لن يُهزم في المعركة… لأنه ببساطة لن يكون حاضرًا فيها.
حين يصبح الأمن مشهدًا بلا حرب… الدول تكتب قوتها بأدوات ناعمة
منصة التحليل الإخباري – رؤية خاصة
15 أبريل 2025
في العالم القديم، كانت القوة تُقاس بعدد فوهات المدافع، واتساع المدى الناري، ومقدار التدمير المحتمل. أما في العالم الذي نعيش فيه اليوم، فإن الأمن لم يعد يُصنع على خطوط النار فقط، بل يُعاد تشكيله بهدوء خلف طاولات التخطيط، وفي غرف البيانات، وعبر عقود التجارة، ومنصات الذكاء الاصطناعي، وسلاسل التوريد العابرة للقارات.
لم تعد الجيوش وحدها من يحمي الأوطان، بل أصبحت وزارات المالية، ومراكز السياسات السيبرانية، وشركات التقنية الحيوية، فاعلين أساسيين في أمن الدولة. إننا نشهد أمام أعيننا ولادة مفهوم جديد للأمن… أمن بلا حرب، لكنه لا يقلّ شراسة في نتائجه ومفاعيله.
الأمن في عباءة النفط: العراق يُعلن عن نفسه بهدوء
حين أطلق العراق مشروع الأنبوب البحري الثالث، لم يكن الخبر نفطيًا فقط، بل كان تحوّلاً جيوسياسيًا بهيئة بنية تحتية.
أن يرفع العراق قدرته التصديرية إلى 2.4 مليون برميل يوميًا من موانئه الجنوبية، فذلك ليس تحديثًا تقنيًا فحسب، بل إعادة تثبيت لدوره في معادلة الطاقة العالمية.
هذه هي اللغة الجديدة للأمن: ليس كم دبابة تحمي البصرة، بل كم برميل يمر عبرها بأمان.
الشرعية عبر الميزانية: السعودية تُعيد سوريا من بوابة البنك الدولي
السعودية لم تُرسل قوات إلى سوريا، بل أرسلت إشارة: سنسدد ديونكم، إن أعدتم بناء مؤسساتكم.
إنه شكل نادر من الدبلوماسية الاقتصادية، يُستخدم فيه المال كأداة لتدوير الشرعية، وإعادة دمج الدول في النظام الدولي بشروط فكرية لا عسكرية.
هكذا تُكتب القوة اليوم… بعقود تمويل، لا ببيانات تعبئة عامة.
أمريكا تبني القلعة من الداخل: الرسوم الجمركية بوصفها جيشًا اقتصاديًا
إدارة ترامب الثانية لا تُخفي نواياها: كل وارد خارجي هو تهديد محتمل للأمن القومي.
من الرقائق إلى الأدوية، تخوض أمريكا الآن معركة هادئة لكنها استراتيجية، عنوانها: أمن الدولة يبدأ من المصنع، لا من القاعدة العسكرية.
فإذا كانت الحروب تُدار بالمدى، فإن واشنطن اليوم تُدير أمنها بموقع خط الإنتاج.
روسيا تلوّح بورقة الذرة: الرد المتأخر لكن النووي
الكرملين الذي فقد الكثير من مواقعه التقليدية، قرر أن يُشعل مفاعلاته الدبلوماسية.
ورقة الوقود النووي ليست مجرد تحذير لأوروبا، بل هي تذكير بأن موسكو، وإن تراجعت في الأرض، لا تزال تملك ما يُخيف في العُمق…
إنه الردّ الهادئ القادم من قلب المفاعل، لا من فوهة البندقية.
الخاتمة الفكرية – تمهيدًا للتحليل الاستراتيجي:
ما بين أنبوب في البصرة، وميزانية في دمشق، ورسوم في واشنطن، وذرة في موسكو…
يُعاد تعريف الأمن في عصرٍ فقد جاذبية الحروب الكبرى، واكتشف فاعلية الأدوات الصامتة.
الدول القوية لم تعُد تُطلق النار… بل تُطلق سياسة، تَفرض اتفاقًا، تُعاقب بجمارك، وتُساوم بعقود.
لقد غادرت القوة ثكناتها، ودخلت مراكز القرار المالي والمعلوماتي والتقني.
وهنا تمامًا، تبدأ فروع التحليل الاستراتيجي:
من سيملك خطوط الطاقة سيملك القرار؟
من سيتحكم في سلاسل التوريد سيصوغ الأمن؟
ومن سيكتب المعايير، سيحكم اللعبة؟
هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عنه… قبل أن تُجيب الجغرافيا وحدها.
دور المجتمع المدني في الحكم الديمقراطي من منظور نظريات العلاقات الدولية
مارية أيمن - باحثة في العلاقات الدولية
يُعدّ المجتمع المدني أحد الأعمدة الجوهرية في الحكم الديمقراطي، إذ يربط بين المواطن والدولة من خلال تشجيع المشاركة العامة، وتوفير قنوات للتعبير، ومساءلة السلطة، مما يعزز من الشفافية والاستقرار السياسي. تختلف تأثيرات المجتمع المدني باختلاف السياقات السياسية، إلا أن دوره المحوري في دعم الديمقراطية أصبح محل اتفاق بين الباحثين وصناع القرار، كما أنه يُفسَّر من خلال عدة نظريات في العلاقات الدولية، كالنظرية الليبرالية، والبنائية، والتعددية، ونظرية السلام الديمقراطي.
أولًا: المجتمع المدني كمفهوم في الديمقراطية
يُعرف “لاري دايموند” (1994) المجتمع المدني بأنه “مجال الحياة الاجتماعية المنظم، الطوعي، الذاتي التكوين، والمستقل عن الدولة إلى حدّ كبير، ويقوم على مجموعة من القواعد القانونية أو المشتركة”، مؤكدًا على أن هذا المجال يسمح للمواطنين بالتعبير الجماعي عن مصالحهم وأفكارهم، وتبادل المعلومات، وتحقيق الأهداف المشتركة، ومحاسبة المسؤولين. ومن هذا المنطلق، يُسهم المجتمع المدني في خلق فضاء عام للنقاش الحر، ما يمنع تركّز السلطة في أيدي النخب السياسية أو الاقتصادية.
يُضيف “روبرت بوتنام” (1993) أن أداء الحكومات وجودة الحياة العامة يرتبطان بشدة بوجود “رأس المال الاجتماعي”، وهو عبارة عن شبكة من العلاقات والثقة والمعايير التي تسهل من العمل الجماعي المنظم. وبالتالي، فإن وجود مجتمع مدني نشط يُعزز من جودة الديمقراطية، ويُمكّن المواطنين من مراقبة السلطة ومحاسبتها.
ثانيًا: الليبرالية والمجتمع المدني
تُركز النظرية الليبرالية في العلاقات الدولية على أهمية التعاون، المؤسسات، والجهات غير الحكومية في تحقيق السلام والاستقرار. وفي هذا السياق، يُعد المجتمع المدني فاعلًا أساسيًا في الحد من النزاعات، من خلال كشف انتهاكات الحقوق، وتقديم بدائل سياسية، والدفع باتجاه الشفافية
يشير “كيوهان وناي” (1977) إلى أن التفاعل بين البيروقراطيات الحكومية والمؤسسات غير الحكومية يُعيد تعريف مفهوم “المصلحة الوطنية”، إذ لم تعد الدول تتصرف كوحدات عقلانية منعزلة، بل تتأثر بشبكات متعددة من المصالح العابرة للحدود. هذا ما يفتح المجال أمام المجتمع المدني لأن يكون شريكًا فعّالًا في صياغة السياسات الدولية.
ثالثًا: البنائية ودور المعايير في السياسة الدولية
على عكس الليبرالية، ترى النظرية البنائية أن السياسة الدولية تُبنى من خلال الأفكار والمعايير الاجتماعية التي تُشكّل سلوك الدول. وتُبرز البنائية دور المجتمع المدني في إنتاج ونشر هذه المعايير، من خلال الحملات الدولية والمناصرة الأخلاقية.
يُبرز “فينيمور وسيكينك” (1998) مفهوم “روّاد المعايير”، وهم الأفراد أو الجماعات الذين يعملون على إقناع الدول باعتماد معايير جديدة، مثل حقوق الإنسان أو حظر الأسلحة المحظورة. وقد مثّل “تقرير رصد الألغام” الصادر عن الحملة الدولية لحظر الألغام مثالًا بارزًا على هذا الدور، حيث تمكنت منظمات المجتمع المدني من مراقبة تنفيذ اتفاقية حظر الألغام بطريقة ممنهجة ومؤثرة.
رابعًا: التعددية والديمقراطية التشاركية
تقوم النظرية التعددية على أن الديمقراطية تتطلب وجود تنافس وتوازن بين مجموعات مختلفة في المجتمع. وهنا يظهر المجتمع المدني كآلية لتمثيل المصالح المتنوعة، وضمان عدم هيمنة مجموعة واحدة على القرار السياسي.
يؤكد “روبرت دال” (1971) أن الديمقراطية التعددية تتطلب مؤسسات تتيح للمواطنين التعبير الحر والتنظيم السياسي. فيما يرى “جون دريزيك” (2000) أن الديمقراطية التداولية تُشرعن القرارات السياسية من خلال الحوار والنقاش العام بين المواطنين، وهي وظيفة يقوم بها المجتمع المدني بامتياز.
خامسًا: المجتمع المدني ونظرية السلام الديمقراطي
تشير هذه النظرية إلى أن الدول الديمقراطية نادرًا ما تدخل في صراعات مع بعضها البعض بسبب تقاربها في القيم والمؤسسات. في هذا السياق، يُعزز المجتمع المدني ثقافة السلام من خلال التعليم المدني، والمصالحة، والتعاون عبر الحدود.
بحسب “توماس ريس” (2000)، لعبت منظمات المجتمع المدني دورًا رئيسيًا في إعادة بناء الثقة بعد الصراعات في منطقة البلقان، من خلال تعزيز الحوار، ونشر الثقافة الديمقراطية. كما يرى “بوتنام” (1993) أن شبكات العلاقات الاجتماعية تُسهم في تحسين التنسيق والعمل الجماعي، وهو عنصر مهم لتحقيق الاستقرار.
سادسًا: التحديات التي تواجه المجتمع المدني
رغم دوره الحيوي، يواجه المجتمع المدني العديد من التحديات، خاصة في الأنظمة السلطوية التي تُضيّق الخناق على المنظمات غير الحكومية، من خلال القوانين القمعية، ووصمها بـ”العملاء الأجانب”، أو التضييق على التمويل. وتشير “كاروثرز وبريشنماخر” (2014) إلى أن عددًا متزايدًا من الحكومات بات يُهاجم المجتمع المدني علنًا، ويُقيّده قانونيًا.
حتى في الأنظمة الديمقراطية، قد تهيمن النخب الاقتصادية أو السياسية على منظمات المجتمع المدني، ما يُضعف من قدرتها على تمثيل القواعد الشعبية. كما أن بعض المنظمات قد تتبنى أجندات مناقضة للقيم الديمقراطية.
سابعًا: دراسات حالة
مثال واضح على دور المجتمع المدني نجده في تونس، حيث لعب “الرباعي الراعي للحوار الوطني” دورًا حاسمًا في تأمين الانتقال السلمي بعد الثورة، وهو ما نال عليه جائزة نوبل للسلام عام 2015.
واختتم إن المجتمع المدني ليس فقط أداة للتعبير والمشاركة، بل هو جزء لا يتجزأ من البنية الديمقراطية الحديثة. من خلال دعم الشفافية، وتعزيز المساءلة، وترويج المعايير الأخلاقية، يُسهم في تشكيل السياسات على المستويين المحلي والدولي. ولكن فعاليته مرهونة بتوفر بيئة قانونية حرة، وثقافة سياسية تعددية، ومجتمع نشط. لذلك، فإن دعم المجتمع المدني يجب أن يُعدّ أولوية لأي مشروع ديمقراطي حقيقي
تركيا لا تشتري سلاحًا… بل تشتري خيارات استراتيجية
د. أيمن خالد
خبير إسترتيجي وقانوني
ما من دولة تفاوض على بندقية إلا وهي تفكر في الخريطة، وما من قائد يوقع صفقة تسليح إلا وهو يضرب في حسابه متى يفتح بابًا ومتى يغلق نافذة. وتركيا لا تشتري السلاح لتملكه، بل تشتريه لتضيفه إلى مفردات حضورها، لا إلى ذخائر ترسانتها. إنها تفاوض على القواعد لا على الرصاص، وتشتري النفوذ لا المشهد.
منذ سقط نظام الأسد، بدا أن تركيا لا تتعامل مع سوريا كملف أمن قومي فقط، بل كمساحة لبناء نظرية جديدة في التموضع الإقليمي، لا تقوم على السيطرة بل على الفهم العميق للحظة التاريخية.
وفي أنطاليا، حيث تلتقي الابتسامات الدبلوماسية مع النيات الصلبة، تتنفس تركيا بأكثر من رئة. واحدة تغازل بها أمريكا، والأخرى ترقب بها اتجاه الرياح الروسية، وثالثة تدسها في قلب دمشق الجديدة كمن يزرع غرسًا في أرض حارقة.
ترامب لا يخفي إعجابه بالهوى التركي، وتركيا بدورها لا تلتفت كثيرًا إلى الكلام، بل تلتقط ما وراءه من فرص. في كل مرة تشتري فيها طائرة أو تفاوض على صفقة، لا تسأل عمّا تملك الآن، بل كيف ستستخدم هذه الورقة حين تُعاد كتابة القواعد.
سقوط الأسد فتح نافذة كبرى لأنقرة، ومن ورائها فتحت النوافذ الأخرى: من البادية السورية حتى المتوسط، ومن خيوط المعارضة حتى خرائط التفاهم الدولي. وها هي أمريكا تُجدد جلد النظام الدولي، لا لتسقطه، بل لتُحييه بصورة أخرى... صورة تُعيدها إلى سدة القرار بصيغة المنقذ لا المتسلط، وتعيد توزيع الأدوار بإخراج جديد، لكن الكواليس ذاتها. وتركيا، ببراعتها، لا تسأل من كتب السيناريو، بل تختار أين تقف في المشهد.
إن القوة ليست أن تُطلق صاروخًا، بل أن يُحسب لك حساب قبل أن تتحدث، والسيادة ليست في عدد الغارات، بل في عدد الملفات التي تمر بين يديك دون أن تُكسر. تركيا لا تشتري سلاحًا… إنها تشتري خيارًا جديدًا في كل مرة، تشتري صمتًا ذكيًا، وخريطة مُعدلة، واحتمالًا إضافيًا للبقاء في قلب المشهد دون أن تُصاب.
هي تفعل كما يفعل الاستراتيجيون الكبار، تُمدد المعركة دون إطلاق النار، وتُربك الخصم قبل أن تُعلن القتال، وتستدرج الزمن لصالحها قبل أن تدخل الميدان. في لعبة الشطرنج الكبرى، لا تربح تركيا بالضربات، بل بالمربعات، لا بالتهديد، بل بالسكوت الذي يسبق الخطوة الحاسمة. ولهذا، حين نرى صفقة سلاحٍ جديدة، لا نسأل ماذا ستفعل به؟ بل نسأل: ماذا ستفعل به الآن… وماذا ستفعله به لاحقًا… وماذا ستمنع به أن يحدث. لأنها لا تشتري سلاحًا… بل تشتري حق القرار، ورفاهية الانتظار، ومناعة الرؤية. وذاك هو ما لا يُشترى في أسواق السلاح… بل في عقول الاستراتيجيا.
د. أيمن خالد
حرية الرأي والديمقراطية… صمام نهضة الشعوب أو انكسارها
د. أيمن خالد
خبير إسترتيجي وقانوني
منذ أن وُلدت فكرة الديمقراطية في رحم الفكر الإنساني، ظلت حرية الرأي هي جوهرها النابض، لا مجرد بند في الدساتير، بل دليل عافية الأمم ومؤشر وعيها. فالديمقراطية ليست مجرد انتخابات تُجرى أو برلمانات تُعقد، بل هي منظومة قيم تقوم على احترام الإنسان كذات مفكرة حرة، لها الحق في أن تقول، وتعترض، وتناقش، وتؤثر في مجريات الأمور دون أن تكون ضحية للقمع أو للتهميش.
لقد أثبتت التجربة التاريخية أن الشعوب التي منحت أفرادها حرية التعبير، هي الشعوب التي انطلقت نحو الإبداع والاكتشاف، وأرست قواعد نهضتها على أكتاف المفكرين والكتاب والصحفيين والحقوقيين، ممن لم يُقصَ صوتهم في الزوايا المعتمة. بينما تراجعت حضارات كانت عظيمة حينما استبدلت الحوار بالقمع، والنقاش بالتخوين، والنقد بالعقاب، فانغلقت على نفسها، وسقطت في مستنقع الجمود والخوف.
حرية الرأي ليست ترفًا، بل هي حق إنساني أصيل كفلته المواثيق الدولية، مثل المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكنها في الواقع ليست مجرد نص قانوني، بل ثقافة تتجلى في قدرة المجتمع على تقبل النقد، وفي شجاعة السياسي على الإصغاء، وفي حكمة القانون على حماية المختلف، لا محاصرته.
وللديمقراطية الحقيقية وجهان لا يفترقان: حرية التعبير، وعدالة التداول. فلا ديمقراطية مع صوت واحد، ولا حرية رأي حقيقية في غياب التعددية السياسية والفكرية. من هنا نفهم أن قمع الكلمة الحرة هو أول الطريق نحو الاستبداد، وأن أول ما تفعله الأنظمة الشمولية حين تستولي على الحكم هو إسكات الكُتاب، وكمّ أفواه الصحفيين، وتكميم الحقيقة.
وفي عصرنا الرقمي، دخلت حرية الرأي منعطفًا خطيرًا. إذ لم تعد المعركة فقط بين السلطة والمعارضة، بل أصبحت ساحة مفتوحة بين الحقيقة والتضليل، بين الحريات الفردية وخوارزميات المنصات التي تتحكم بما نراه ونقرأه. ومع ذلك، تبقى الكلمة الحرة الصادقة، حين تحمل ضميرًا ووعيًا ومسؤولية، قادرة على إحداث أثر عظيم، قد لا يُرى فورًا، لكنه يترك بصمة في وعي الشعوب.
إن أثر حرية الرأي في مسيرة الشعوب لا يمكن اختزاله في الحاضر وحده، بل هو رافعة المستقبل. فحيث تتسع مساحة الكلمة الحرة، تتسع معها آفاق الإصلاح، وتتراجع فيها سلطات الفساد، ويجد الشباب طريقًا للمشاركة بدل طريق للهجرة أو التطرف أو الانكفاء.
لهذا، فإن الدفاع عن حرية الرأي ليس مهمة المثقف فقط، بل هو واجب وطني وإنساني لكل من يريد لشعبه الكرامة، ولأمته النهوض، وللعالم الاستقرار. الديمقراطية تبدأ بسؤال، وتنمو بالحوار، وتنهض حين لا تُقصى الإجابات المخالفة، بل تُستوعب وتُناقش وتُختبر.
ختامًا، نقول: إن الكلمة الحرة قد تُسجن، وقد تُهاجم، لكنها لا تموت. بل تظل تعبر الأزمنة حتى تجد من يصغي إليها ويؤمن بها. فهي ليست فقط صوتًا في وجه السلطة، بل هي روح الشعوب حين تحلم وتفكر وتقرر.